كل سنة وأنتم واعون
هذه أول كلمة أخطها في العام الجديد، وأنا سعيد أني قادر هذه المرة على الكتابة في نفس أسبوع بداية العام؛ فقد درجت خلال أكثر من عشرة أعوام سابقة، على وجه الدقة منذ أواسط السبعينيات على أن يبدأ مزاجي العام في الانخفاض ابتداءً من منتصف الشهر الثاني عشر في العام، وليس انخفاضًا متدرجًا معقولًا، إنما، من قمة الصحة والطبيعة أجد نفسي فجأة بدأت أكتئب، وفي اليوم التالي مباشرة يزداد اكتئابي إلى درجة تغلق نفسي عن أي رغبة سواء في العمل أو الحركة أو حتى الطعام، وهكذا يتسلسل الانخفاض منحدرًا انحدارًا حادًّا كأنه السقوط من أعلى حائط إلى أن ينتابني مرض جسدي حقيقي ما، يأخذ كل عام شكلًا، مرة آلام لا تُطاق في المفاصل أو صداع لا قِبل لي به، حُمَّى، أنفلونزا غير معروفة لجنس البشر، كسر، أو حتى حادث سيارة أو مرور.
وقد كنت آخذ هذه الظواهر على محمل عادي تمامًا، كأن لا علاقة لأي مرض بالآخر، وكأن لا علاقة لما يحدث في نهاية ذلك العام بالعام الذي قبله أو العام الذي سيجيء بعده. إلى أن بدأ التكرار ينبِّهني إلى أن المسألة ليست عشوائية بالمرة، وأنني نفسيًّا، ومن ثم، جسديًّا، أمرض في نفس الموعد تقريبًا من اقتراب نهاية العام أو اقتراب بداية العام القادم، وقد حدث هذا حين اكتشفت أنني لثلاث سنوات على التوالي أقضي ليلة رأس السنة الميلادية في أحد المستشفيات، أو على الأقل راقدًا في فراشي، ويأتي الأطباء، ويشخِّصون، ويحتارون في التشخيص، بل ويصل تشخيصهم في أحيان إلى أمراض خطيرة جدًّا، ثم … ثم لدهشتي ودهشتهم ما يكاد ينقضي الأسبوع الأول من العام الجديد، حتى أكون سليمًا معافًى وكأني ما مرضت قط، وكأن ثمة ساعة كونية مركبة داخلي، تحسب، بالثانية والدقيقة، الأيام والليالي على مدار العام، ويدق لها منبه خفي ما خلال النصف الثاني من كانون الأول (ديسمبر) وتبدأ العمليات الاكتئابية والنفسية تتداعى، على تلك الصورة الدرامية التي وصفتها.
والغريب أنني شفيت أو بالأدق، كدت أشفى من تلك الحالة، حتى بدأت أدركها وأعي بها، وما إن يبدأ الشهر الأخير من كل عام حتى أبدأ أحذر نفسي ذاتيًّا وأقول: لقد حل موعد الاكتئاب والمرض، فاحترس. وما إن تبدأ بعض الأعراض تتبدَّى، حتى أقول لنفسي: اكتشف وتذكر، ما حدث في العام الماضي، وحذِّر جسدك من منبه عادة الاكتئاب والمرض، وقل لأي عَرَض قادم تحسه: أنا متنبه تمامًا لك، ولن أجعلك تمرضني هذه المرة. واستمر هذا الانتباه والكشف بضع سنوات، حتى أصبحت عادة عندي أن أنتبه إلى حلول انتهاء العام وأتخذ العدة له، وألبس وأرتدي ما كنت أسمِّيه «بدلة الفضاء» الدفاعية التي يرتديها رواد الفضاء، اتقاء لانعدام الأكسجين، وكل مخاطر الرحلة.
وشيئًا فشيئًا بدأت الأعراض تخف، بل السنتين الأخيرتين بدأت لا أكتئب أبدًا، وبالتالي لا أمرض.
وكان هذا خطأ.
إذ كنت، بمضي العامين اللذين لم تزرني فيهما الأعراض، قد نسيت عادة «مرض آخر العام وأول العام»، ولم أذكر هذا كله مروعًا، إلا هذا العام فقط، حين وجدت فجأة أعراضًا غريبة شديدة الألم تهاجمني، وبعد أن تهت كثيرًا تبينت أننا في الأسبوع الأخير من ديسمبر، وإذا كنت أنا قد نسيت، فإن ساعة العادة الكونية المركَّبة داخل كل إنسان، لم تنسَ، وإنها باستمرار تدق وتمضي وتعمل، وفي الموعد تمامًا تحرك آلة المرض الرهيبة.
وأذكر أني ذات عام، وكنت في الولايات المتحدة أحضر مؤتمرًا مشتركًا لعلماء النفس والاجتماع والكُتاب، قد ذكرت هذا الذي يحدث لي لأحد الكُتاب الأطباء الكبار، فإذا به، لدهشتي، لم يدهش، وإذا به يخبرني أن جهاز المقاومة في الجسم خاضع للمراكز النفسية في المخ، وبالتالي خاضع لكل ما يؤثر في الحالة النفسية للإنسان، وهذا الخضوع يبلغ من الدقة حد أن يرتبط هذا التأثير بالتوقيت الكوني، وبعدد السنين والأيام وربما الساعات، وأن الوسيلة الوحيدة للشفاء من هذا الاكتئاب النفسي الجسدي العضوي هو الوعي به قبل حدوثه واتخاذ الإجراءات الإرادية التنويرية لتنبيه العقل الواعي لقرب حدوثه، وأنه بالتكرار، سيغير هذا التنبيه من عادة العقل الباطن، ويخففها كثيرًا، بل إنه في أحيان يمنعها، ولقد هاجمتني نوبة الآلام النقرسية الحادة في ركبتي هذه المرة، لأني، بعقلي الواعي، نسيت أو غفلت عن هذا التنبيه، وهكذا قضيت ليلة رأس السنة في آلام لا تطاق، أذنِّب نفسي على غفلتي وعلى عدم انتباهي لقرب نهاية العام.
ولا أعتقد أنني وحدي الذي حدث ويحدث له هذا، فكثير جدًّا من الناس الذين أعرفهم يحدث لهم هذا النوع من الاكتئاب السنوي الرهيب، ويؤدي في أحيان كثيرة إلى أعراض مرضية عضوية، يشفون منها إذا لم يحدث لا قدر الله وكانت الأعراض والأمراض من الخطورة بحيث تؤدي إلى الوفاة، يشفون منها بمجرد مرور الفترة الزمنية المحددة لنهاية وبداية العام.
أما السبب ففي اعتقادي أنها عادة نفسية مرضية تتربَّى لدى الإنسان، كلما حلَّ أو اقترب حلول عام جديد، من الخوف من ذلك القادم الجديد وما قد يحدث فيه، الخوف من المستقبل؛ ذلك المرض العضال الذي أصبح مرض البشرية كلها الآن، فليس الخوف من الحاضر هو فقط الذي يقلقنا، ولكن الأخطر، هو الخوف من وعلى المستقبل وما قد يحدث فيه، ذلك الذي يسبب القلق والتوتر والاكتئاب، ومن ثَم يؤدي إلى الأعراض الجسدية والأمراض التي نسميها أمراضًا، وهي ليست في الحقيقة كذلك، وفي نفس الوقت ليست نفسية أو كاذبة أو عصبية ولكنها أمراض حقيقية؛ إذ قد ثبت أن كل الأمراض أو على الأقل ٪۹۹ منها سببه نفسي وسببه القلق على الذات أو النفس أو الأولاد أو المال أو حتى الخوف من المرض أو الموت.
ذهب العام إذن وجاء العام، وهذه المرة أقولها علميًّا، كل عام وأنتم طيبون، أو على وجه أصح كل عام وقد وعيتم بالاكتئابات التي تصيبكم في نهاية وبداية كل عام.
إذ تلك هي الطريقة الوحيدة لكي نستبعد الحزن والقلق، ونستبدلهما بالفرحة والتفاؤل والسعادة.