أين جميع القتلة «بالنوايا»؟!
أدَّى بي تأملي في الفترة الأخيرة لكافة نواحينا السياسية والاجتماعية والحزبية والحكومية والشعبية إلى أن أقف متعجبًا أمام ظاهرتَين غريبتَين، الظاهرة الأولى التي لا شك فيها هي ارتفاع نبرة الدعوة الدينية بشكل لم يحدث له مثيل — على الأقل طوال الخمسين عامًا الماضية — كأنما الدين يسري في حياتنا سريانًا طبيعيًّا هادئًا جميلًا واصلًا إلى الأعماق بسهولة وحب ويسر، حتى الدعوة إلى تمسك أكثر بالدين تلك التي قام بها المرحوم الإمام حسن البنا كانت تجري باللين والحسنى وجميل القول والفعل، وكان الرجل يملك جاذبية كبيرة تجذب حوله الشباب والشيوخ وحتى الصبية من أمثالي في ذلك الوقت، وأذكر أني كنت أصلي الجمعة في المسجد الرئيسي بقريتنا في الشرقية، حين قام — بعد الصلاة — رجل في متوسط العمر ذو لحية سوداء جميلة ويرتدي الطربوش وظل يخطب فينا قرابة الساعة داعيًا إلى تكوين شعبة للإخوان المسلمين في قريتنا، وما كاد ينتهي ويخرج المصلون من المسجد حتى كان عدد كبير من الناس يتقاطرون حوله، منهم من تبرع بالمقر ومنهم من تبرع بأن يكون مسئولًا عن الدعوة، وحين حاولت أنا الانضمام طالبًا منه ذلك، ربت على كتفي وقال: انتظر قليلًا حتى تكبر وتكون إن شاء الله من المنضمين، وبعد هذا الحين دخلت مدرسة دمياط الثانوية ثم الزقازيق الثانوية، كان بين كل حين وحين يحضر، وتزدحم القاعات الكبيرة بجمهور يريد الإصغاء إلى الإمام لا يقرأ لهم عن الإسلام من كتب صفراء بالية ككتب أئمة المساجد وخطباء الجمعة، وإنما يحدثهم عن الإسلام بلغة معاصرة آسرة تبسِّط الإسلام إلى حد تقريبه من نفس كل مسلم مهما كانت درجة ثقافته أو أميته، وفي نفس الوقت تعمِّقه إلى حد يصبح من مكونات تفكيره الأساسية أو بالأصح المكون الرئيسي لتفكيره وحساباته مع الناس ومع الخالق، ومن صباي إلى شبابي إلى عام ٤٨ وشعبنا يؤدي واجباته الدينية النابعة من قلوب عامرة بالإيمان، الناس يصلون ويصومون ويُخرجون الزكاة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويحجون البيت إن استطاعوا سبيلًا، ولكن هذا لم يكن كل شيء، لم يكونوا يفعلون هذا بطريقة أدائية ميكانيكية، وإنما كانت هذه الأركان ليست سوى الجزء الظاهر من إيمان عميق بالأخلاق الإسلامية النبيلة، والتصرفات المبنية على تقوى الله والإيمان بثوابه وعقابه، كنا في الحقيقة نحيا في نعيم من الإيمان الحق والطبع الإسلامي السمح، وهكذا انتشرت فكرة الإخوان المسلمين على طول البلاد وعرضها وحتى في الدول العربية والإسلامية الأخرى، إلى أن بدأت تلك الكثرة العددية المهولة تُغري قيادات الإخوان بأن تلعب دورًا وطنيًّا مجيدًا، كنت في ذلك الوقت في كلية الطب وكان كثير من شباب الحركة الوطنية، بعد فشل حرب ٤٨ يفكر جديًّا في مقاومة مسلحة في القتال ضد الإنجليز، وبادر «الإخوان المسلمين» بالدخول في المعركة واستُشهد منهم الكثيرون من أصدقائي في كلية الطب والجامعة بجوار عدد آخر من ضباط الجيش والشرطة، ثم كان ما كان من قيام الثورة واصطدامها بالإخوان المسلمين، أو اصطدام الإخوان بها والمعتقلات التي فُتحت لآلاف من أفرادها، وكان من حسن حظي أني اعتُقلت أنا الآخر، قبل حادث المنشية بقليل، وبعد جولة على سجون القلعة وأبو زعبل اتُّهمت أنا وزميلي حمزة البسيوني «الطبيب» بإثارة المعتقلين في «أبو زعبل» ونقلونا إلى سجن مصر حيث كان يكتظ عنبر «ج» بثمانمائة معتقل من الإخوان في عنبر مبني ليسع مائتي مسجون فقط. وكان أن تفشَّى وباء السل بين الإخوان، ناهيك عما تعرض له شبان صغار وكبار على مرأًى منا من ضرب وتنكيل، وتعذيب، بل وإعدام كان أبرزها إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب وواحد من أعظم من قابلتهم من الرجال هو المرحوم عبد القادر عودة مع آخرين.
ويومًا ما سأكتب تلك التجربة الغنية التي دامت أكثر من عام في سجن واحد مع قيادات الإخوان المسلمين.
وليس هذا الآن مجالها.
ولكن المجال هو للحديث عما صارت إليه الأمور الآن، ففي فترة السبعينيات نمت حركة، بل حركات أخرى، من بقايا الجهاز السري وبقايا التكفير والهجرة، مع نقود توافرت من الإخوان المسلمين الذين هربوا إلى البلاد العربية وربحوا وأصبحوا قوة اقتصادية ضخمة، وكان هدف تلك الحركات جميعها ليس الدعوة والموعظة الحسنة ولكنهم وصلوا إلى اقتناع لا يتزعزع أنه لا إصلاح لمصر إلا بأن يستولوا على الحكم، ولم تأخذ تلك الدعوة شكلًا مباشرًا صريحًا ولا وُجِّهت لها الاتهامات، وإنما اتخذت شعارًا لها هو تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو شعار يحمل في طياته بطبيعة الحال أن يحكموا هم؛ لأنه إذا أخذنا بتطبيق الشريعة فالأجدر والأولى بتطبيقها والحكم بها هم هؤلاء المنادون بها، ثم تكشَّف هذا الشعار أكثر وأكثر حين دخلت تلك الجماعات في «الحِلف الإسلامي» وأصبح ذلك الشعار الجذاب الغامض «الإسلام هو الحل» يحمل معنًى واحدًا ليس هناك من معنًى سواه وهو الحكم لهذه الجماعات المنادية بالحل.
وأن تطلب أي جماعة من الناس الحُكم، وأن يطلبه أي حزب، شيء لا غبار عليه بالمرة، بل إني لأطالب أن يحدث هذا بصفة علنية، وببرنامج إسلامي محدد ممكن مناقشته فهذا حق كفله دستورنا، ولكن المشكلة الحقيقية هي أن يحتكر حزب ما أو جماعة ما الإسلام بكل عظمته واتساعه وشموله، بحيث إن من لا يوافقهم يصبح كافرًا وخارجًا عن الدين والرسالة المحمدية.
ومما زاد الطين بلَّة أن الدولة المصرية في الستينيات حين اصطدمت بالإخوان المسلمين أرادت أن تبدو هي — الدولة — في ثوب إسلامي قشيب فأكثرت من الأحاديث الدينية في الإذاعة والتليفزيون، وأقامت محطة دينية تذيع طوال الأربع والعشرين ساعة على أمل أن ينتهي الناس بهذه الدعوة الإسلامية «العامة» التي لا تتجسد في تنظيمات ممكن أن تثب إلى الحكم أو تقلب نظام الدولة، وهكذا حين وصلنا إلى الثمانينيات كان ثمة جسد كبير قد تشكَّل واغتال جزء منه رئيس الدولة بينما جزء آخر قد تحرك متأخرًا بعض الشيء واستولى على محافظة أسيوط، وأودى بحياة عددٍ كبيرٍ من الضباط والجنود، ولا يزال هذا الجسد يتمدد ويحتشد، وما أحداث حسن أبو باشا ومكرم محمد أحمد إلا بداية تُظهر الحكومة بمظهر غير القادر على حفظ الأمن أو الأمان سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الأمنية، وترسل الرعب في قلوب من يفكرون في الدفاع عن النظام أو التصدي لما يحدثونه من إرهاب.
وفي نفس الوقت بدأ الاستيلاء الزاحف المستمر على المساجد وعلى الأزياء وعلى المؤسسات الحكومية، وأمكنة العمل حتى إن دواوين الحكومة والمؤسسات في عز ساعات العمل تُجبر على التوقف تمامًا لمدة لا تقل عن الساعة لأداء صلاة الظهر في حين أن كل القطاع العام ومصالح الحكومة ينتهي العمل فيها قبل أذان العصر بساعة على الأقل، ولا يوجد في ديانتنا الإسلامية السمحة قول واحد ينص على ترك مصالح المسلمين، وحاجاتهم بزعم أداء الصلاة جماعة، ولقد ذهبت مرة إلى أحد أماكن العمل في القطاع العام لإصلاح السيارات فإذا بالعمال في رمضان جالسون منذ الساعة الحادية عشرة يقرءون القرآن، وما داموا يفعلون ذلك فإن أحدًا لا يستطيع أن يقول لهم كلمة واحدة، وظلوا يقرءون القرآن الكريم حتى أذان الظهر واستغرقت شعائر إقامة الصلاة جماعة ما يقرب من الساعة، بعدها وقف أحدهم يلقي عليهم حديث الظهر (أفي الإسلام ما يسمى حديث الظهر؟!) إلى أن بلغت الساعة الواحدة وبدءوا يغتسلون لأن يوم العمل كان قد قارب على الانتهاء، وهكذا فليس من المستغرب أبدًا أن يكون متوسط أوقات العمل للموظف وللعامل المصري هو ٢٧ دقيقة في اليوم في بلادنا التي تحتاج إلى عمل لا يقل عن عشر ساعات لنستطيع فقط أن نأكل ونلبس.
وهكذا انتشرت الميكروفونات واستولى البوابون على الأرصفة يمنعون المارة بزعم أداء الصلاة جماعة، ولا أحد يستطيع أن يقول يا ناس اتقوا الله في ضمائركم فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَقُلِ اعْمَلُوا والحادثة المشهورة عن النبي ﷺ حين وجد مسلمًا لا يغادر المسجد بزعم عبادة الله فسأل: من ينفق عليه؟ قالوا: أخوه. فقال الرسول ما معناه أن أخاه خير منه.
انتشر ما يمكن أن نسميه إسلام الميكروفونات.
وكان مفروضًا أن يتبع هذا عمار للقلوب وإحياء للضمائر والكف عن كل ما يغضب الله، ولكن العجيب والغريب أنه مع هذا الضجيج الميكروفوني فسدت الضمائر إلى أبعد حدود الفساد، وانتشرت السرقة والرشوة والتهريب والتجارة بزعم العمرة، واغتصاب الخلوات والإهمال التام لمساعدة الغير أو الجار، والفسق قد تخفَّى وساد النفاق الجماعي.
ومن لا يصدقني فليذهب إلى الحسينية حيث قامت عملية أكبر غش جماعي اشترك فيها الطلبة وأولياء الأمور وبعض المراقبين وعجزت قوات البوليس عن إيقافه، في الحسينية عدة مساجد كلها ذات ميكروفونات تؤذن — معًا — للظهر والعصر والمغرب والفجر وتحفل بالأحاديث والمواعظ والخُطب، وفي نفس الوقت الذي يبدو فيه هكذا علنًا وعلى الملأ فإن القلوب عامرة بالإيمان والصفاء، إذا بها تمتلئ بالغش مع أن الرسول يقول: «من غش أمتي فليس منا.» والتبجح في اقتراف الإثم، وإذا كان الغش هو الظاهرة العلنية الجماعية فما أدرانا بما أصبحت تحفل به النفوس الفردية من آثام ودواهٍ.
ونأتي للفصل الأخير من المأساة وبالذات الاعتداء على كاتب صحفي ذي رأي بالمدافع الرشاشة ورصاص دمدم الذي يتفجر في الجسد، أي شجاعة في هذا العمل بربكم؟ أي شجاعة أن أطلق النار المدمدمة على إنسان أعزل يقود سيارته، هل هذه هي شجاعة المسلمين؟ إن المسلمين الشجعان هم الذين واجهوا إمبراطوريتين أقوى إمبراطوريتين في العالم مدججتَين بالسلاح، بسيوف بدائية وانتصروا عليهما، أما طوال العصر الإسلامي وطوال أربعة عشر قرنًا من الإسلام فلم تحدث عمليات الاغتيال هذه إلا من فِرق من الحشاشين اشتقت منها كلمة أساسان اللاتينية؛ إذ كان قائدهم يخدرهم بالحشيش ويصنع لهم جنة فيها الحور العين على الأرض ليغريهم بقتل الناس، وإلا بضع جماعات منشقة على الدين والملة مثل القرامطة والزنج وغيرهما، أما نهر الإسلام العظيم الدافق فلم يعرف أبدًا أمثال هذا النوع من «الشجاعة» متأسف من «الجبن.» إن الإسلام دين حق والحق يُكسب الإنسان الشجاعة والمواجهة حتى لو لم يكن صاحبه من الأصل شجاعًا، الإسلام دين تضحية وجهاد ضد الكفار وضد الخارجين عن الملة، وليس أبدًا ضد أصحاب الكتاب فما بالك بالمسلمين الذين قد يختلفون في الرأي.
نم ملء جفونك أيها «البطل» الذي حاولت قتل العُزُّل وارضَ عن نفسك تمامًا؛ فقد صورت لنفسك أنك أديت ما يمليه عليك إيمانك، في حين أنك في الحقيقة أديت ما يمليه عليك جُبنك.
أما أولئك الشجعان حقًّا جماعات الإخوان المسلمين والتحالف الإسلامي والمنار واللواء الإسلامي وكبار الدعاة الذين تجلجل أصواتهم صباحًا ومساءً وهيئات كبار العلماء، وفضيلة شيخ الأزهر والمفتي ونقابة الأطباء التي تحفل بالاتجاهات التي تسمي نفسها إسلامية وكذلك نقابة المهندسين، أما خطباء المساجد والوعاظ أما أولئك الذين يسلطون الميكروفونات على آذاننا المرهقة التي تريد أن تأخذ قسطًا من النوم لتعاود الكفاح من أجل أولادها وأمتها في اليوم التالي، أما كل هؤلاء فهم صامتون صامتون وكأن الأمر لا يعنيهم أو كأنهم شركاء بالصمت في هذا الفعل الجبان الذي لم ينزل به قرآن ولم يحتوه حديث.
أليس للإنسان عذر أن يقول لقد أصبح الإسلام الحقيقي غريبًا على أيدي من يسمون أنفسهم الآن دعاة الإسلام والحل الإسلامي والتحالف الإسلامي؟
أين جميع القتلة «بالنوايا» إزاء القتل برصاص دمدم؟