نحن نموت والعالم يغني
أصابني الأرق ذات ليلة في الفندق، وفتحت التليفزيون، وفوجئت ببرنامج اسمه «التليفزيون الإسكندنافي» برنامج يتحدث مقدموه بالإنجليزية مرة والسويدية مرات، أغاني جميلة وشباب يعيش فعلًا، ويغني ويضحك وكأن لا همَّ له ولا همَّ وراءه، وأدرت المؤشر فإذا بالإرسال يأتي من روما، وحفل يحضره عدة آلاف من الأشخاص معظمهم من الشباب وهم يحيُّون المغنِّين من كافة بقاع أوروبا وأمريكا. مرح وانطلاق وشباب، عالم يغني، عالم ينشرح يعيش ويلهو ويستمتع بحياته ليلًا إلى الثمالة، وجاء موعد نشرة الأخبار في القناة العربية، فإذا بي أرى انفجار طرابلس في لبنان ذلك الذي قتل أكثر من ستين شخصًا وجرح مائتين، وإذا بي أشاهد جثث القتلى من الشباب في الحرب المجنونة التي يشنُّها الخوميني — باسم الذهاب إلى القدس — ضد العراق. جثث وانفجارات وتدمير وقتل، وطبيعي تمامًا أن تستغل إسرائيل الوضع، تقتل «دولة!» في وضَح النهار قائدًا فلسطينيًّا يسكن بلدًا عربيًّا مستقلًّا. الحقيقة أحسست أننا أكثر شعوب العالم معاناة، وأنها معاناة مفروضة علينا فرضًا. وأن أمريكا وإسرائيل أحالتا حياتنا إلى جحيم نهرب منه وكأنه الجحيم. لنا الخراب والأزمات ولهم المرح والأغاني، هم يرقصون ويجأرون بأصوات السعادة ونحن نجأر عويلًا وصراخًا مظلومين ومقتولين.
يا إلهي!
هذا الكابوس الحي الجاثم على صدرونا يمنعنا أن نفرح أو نستبشر أو حتى نفكر فيما سوف يكون عليه الخلاص، أمَا من آخر له، أمَا من حل؟ إنني شخصيًّا أحيا في ذلك الكابوس منذ عام ٤٦ إلى الآن. بلا لحظة راحة واحدة أو تنفس للصعداء، طفولتنا ضيَّعها الفقر وضيق الرزق، وشبابنا مظاهرات وسجون، ورجولتنا حروب ودفاع متواصل عن النفس والوجود، من يسقط منا يسقط دون أن نملك له حولًا، ومن يتغير ويزهق ويلقي المبادئ في الوحل لا ننظر له حتى بدهشة وإنما نأخذ الأمر وكأنه وضع طبيعي، تشوَّهنا داخليًّا من فرط ما نراه أمامنا من قُبح وموت وقتال، وكأنما جئنا في الزمن الخاطئ، أو كأن جدودنا من زمن سحيق قد ارتكبوا إثمًا وحلَّ علينا نحن الذنب والعذاب والعقاب.
جالت كل هذه الخواطر بذهني وأنا أقارن بيننا وبينهم ولا أحس بالظلم البَشِع فقط وإنما أحس أيضًا أننا من فرط الظلم الواقع علينا أصبحنا نظلم أنفسنا أيضًا، وكل كتاباتنا وأفكارنا أقصى مدى لها في المستقبل هو الغد، أو حتى آخر النهار الذي نحيا فيه. قصروا أبصارنا وأفكارنا أن تجد حلًّا طويل المدى لحياتنا. نعم طويل المدى؛ فالحلول القصيرة لم تعد تُجدي، فلا يمكن للإنسان أن يظل طول عمره يلهث ويجري، والأعداء بأعصاب باردة تمامًا وعيون زرقاء لا ذرة انفعال فيها، يدبرون ويخططون لضربنا في موجع أو مقتل. وبعد أن نملأ الدنيا صراخًا من فرط الألم نعود إلى اللهث والجري.
أمَا من عقل أو تفكير عربي يرسم لنا ماذا يجب علينا أن نفعل لنعيش وتطول أعمارنا بحيث نبلغ مرادنا وندفع عن أنفسنا أذى الأعداء؟!