من وحي دمشق
حين ذهبت إلى دمشق في العام الماضي لحضور مهرجان المسرح أحسست بمدى الكارثة السياسية التي حلت بنا نحن كُتاب ومثقفي وفناني العالم العربي المجيد؛ فدون أن يكون لنا في الأمر يد أو رأي أو استشارة أو استخارة وجدنا العالم العربي الجميل، الذي كنا نحياه في الخمسينيات، قد تحوصل وتحوَّل إلى دول ودويلات ذات حدود وجوازات وقوائم سوداء وحمراء، وسلسلة من الممنوعات الغريبة التي ما أنزل الله بها من سلطان، أنا لا أطعن في أحد، ولا أقول إن هذا الحاكم أو هذا الشخص أو تلك السياسة بعينها مسئولة أو غير مسئولة، أنا فقط أقرر أمرًا واقعًا وهو أننا ككُتاب وفنانين نعاني من تلك الأوضاع الإجرامية في بعض الأحيان.
كان من عادتي أن أزور دمشق كل عام أو عامين واكتشفت في العام الماضي أن عشر سنوات قد مرت لم أرَ فيها أصدقائي الشعراء والكُتاب، ولم أسهر في ليلة دمشقية أو سحبت روحي نظرة من عيون دمشقية، ما ذنبي أنا إذا كان السادات قد وقَّع كامب ديفيد؟ وما ذنبي أنا أننا كحكومات لا نكتفي بقطع العلاقات السياسية ولكن نبتر معها كل صلة ثقافية أو مهنية أو جماعية أو فنية؟ المشكلة أنه لا يوجد مصري ممنوع من دخول أي بلد عربي لأنه مصري، ولا يوجد عربي ممنوع من دخول القاهرة لأنه عربي؛ فالحدود ترحب بنا وتقول: أنا مفتوحة، مرحبًا بكم، ولكن الويل لمن يتخطى الحدود. ويل له أحيانًا من «الدولة» التي دخلها، وأحيانًا الويل الأكبر له من دولته هو.
المهم أني سعدت تمامًا لكوني أصبحت أخيرًا في دمشق، وأنني قابلت كل من أردت لقاءه من الأصدقاء والأحباب، أما مؤتمر المسرح فقد شاهدت فيه بعض مسرحيات أعجبني بعضها إلى حد مذهل، وبالذات مسرحية «كاليجولا» التي أخرجها ومثَّلها شاب سوري خطير الموهبة، حين علمت أنه من خريجي المعهد العالي المسرحي في القاهرة تعجَّبت؛ فالمسرح التجاري الذي ساد من منتصف السبعينيات إلى الآن في القاهرة قد حطَّم وضرب كثيرًا من المواهب المصرية الشابة وابتلعها، أما دمشق فقد تلقفت تلك الموهبة ومنحتها فرصة وفرقة ومسرحًا ومالًا، وكانت «كاليجولا» وكان غيرها من التحف المسرحية الحقيقية، أنا آسف لكوني نسيت اسم الشاب الرائع، وليغفر لي ذلك مع أنه ذنب لا يُغتفر.
أما المناقشات والندوات والمداخلات وكل هذا الكلام، فقد استمعت إليها قليلًا جدًّا ثم مللت، ذلك أنها كلام «مخرجين» ودارسي مسرح دراسة نظرية محضة، في مهرجان أدنبرة المسرحي مثلًا، وقد حضرته هذا العام، لم تنعقد ندوة سخيفة واحدة عن المسرح، وإنما شاهدنا عددًا كبيرًا جدًّا من المسرحيات والعروض المسرحية، لماذا نحن هواة كلام على الفاضي والمليان، نفتح الإذاعة فنجد الممثلة تتحدث عن كيفية لعبها الدور، ونجد المخرج أو الكاتب يتحدث عن «مقومات العمل الفني» من وجهة نظره؟ لماذا لا نكف عن التقعر والتقعير؟! الفن يعني أن نُري الآخرين عملًا فنيًّا، وليس ضروريًّا أبدًا أن «نُعلِّم» الجمهور ما نقدمه، إن الله سبحانه خلق الجمهور متعلِّمًا جاهزًا لتلقِّي كل ما هو نبيل وعظيم وجميل في المسرح وفي الحياة.
إني أرجو من مؤتمرات الأدباء العرب، والشعراء العرب، والمسرحيين العرب والخطباء العرب أن يقللوا إلى حد العدم من كلامهم عن «الأدب والشعر والمسرح والخطابة والقصة والرواية» وأن يجعلوا من تلك المؤتمرات والندوات والمهرجانات مكانًا للعرض فقط، معرضًا ومباراة بين الأعمال الفنية، ومن هنا تتحقق كل «المقررات» و«التوصيات» التي تتبارى في صياغتها وإصدارها عقب كل مؤتمر، إذ هناك توصية واحدة في مجال الفن والأدب: أن نقدم فنًّا وأدبًا.
أوحشتني دمشق!