حكم المعارضة
عشت في المغرب تجربة عربية أسعدتني تمامًا، كنت في زيارة إجازة للمغرب لحضور اللجنة التحضيرية للمؤتمر القومي للثقافة العربية الذي سيُعقد في أكتوبر هذا العام، ودعانا الكاتب العربي الكبير أحمد إبراهيم الفقيه المسئول عن تنظيم المهرجان، وأنا ببلدية مدينة أجادير لزيارة المدينة، والإقامة في نفس الفندق الذي سيُعقد فيه المهرجان، وقابلنا في مطار أجادير مجموعة من الشباب هم أعضاء المجلس البلدي، وتلك أول مرة أزور فيها أجادير، تلك التي كانت في خاطري مدينة أصابتها الزلازل في أوائل الستينيات وتهدمت تمامًا وكتبت عنها صحفنا في ذلك الحين وجمعت التبرعات، ها أنا ذا في مدينة جديدة تمامًا، نظيفة جدًّا، أسسها العاهل المغربي الكبير محمد الخامس عقب الزلزال، وحول مائدة العشاء، عرفت لأول مرة أن ٢٨ عضوًا من ٣١ عضوًا يكوِّنون مجلس المدينة هم في نفس الوقت أعضاء في الحزب الاشتراكي المعارض، وأن رئيس المجلس البلدي وهو في نفس الوقت أيضًا عضو في البرلمان هو عضو كبير في حزب الاتحاد الاشتراكي. وأسعدني هذا الوضع تمامًا.
نحن نتحدث كثيرًا عن الديمقراطية، وعندنا في مصر تعددية حزبية ومع ذلك فقد وجدت في التجربة المغربية شيئًا جديدًا حقًّا، أن تحكم المعارضة بلدًا أو محافظة وأن تصبح المعارضة جزءًا من مؤسسة الدولة. لماذا لا يحدث هذا كثيرًا وقد رأيت بعيني التجربة ورأيتها ناجحة تمامًا؛ فالأعضاء متحمسون لعملهم ومدينتهم، كل ما في الأمر أن أفكارهم معارضة؛ أي ناقدة لبعض سياسات الدولة، ولماذا لا نسمح للمواطن أن يتناقض مع بعض سياسات الدولة، ولا نتهمه حينذاك، ولا نقبض عليه، وإنما نعطيه عملًا وطنيًّا ونرى ماذا سيفعله؟ أكاد أقول إني رأيت أحسن أعضاء لمجلس بلدي في العالم العربي، بل أؤكد أن أحدًا منهم لم يهتم بإظهار خلافاته — إن وُجدت — مع النظام بقدر ما اهتموا جميعًا بالحديث عن مدينتهم بحب وبحماس شديدَين، وبقدر أيضًا ما اهتموا بتزويدي بمعلومات وإحصاءات وأرقام خاصة بمدينتهم وبالمغرب عامة. حقيقة، وجدت أن كلًّا منهم أخلص لمدينته ولبلده من أي موظف موالٍ أو محسوب على الدولة وكل أملي أن أصحو في يوم وأجد أن الانتخابات البلدية في بورسعيد مثلًا قد أسفرت عن أغلبية وفدية تسلَّمت أمور المدينة، قطعًا ستتغير آراء مصطفي شردي رئيس تحرير صحيفة الوفد، وسيجمع مادته من واقع هو مسئول عنه، مسئول عن كل ما فيه من خطأ أو صواب. إن الناس لا تعارض لله في لله وإنما لأن لديها أفكارًا أخرى غير الأفكار المنفَّذة والمطروحة، أفكارًا لو أتحنا لها، ولو على نطاق ضيِّق، أن تُنفَّذ، لاستطعنا أن ندرك صحتها من خطئها. إن الديمقراطية الغربية لم تنشأ عبثًا وإنما في جانب معيَّن منها وسيلة لإعطاء الرأي المخالف فرصة كي يراه ويجربه الناس، وبهذا نتفادى الإحباط الذي يُصيب النفس البشرية حين يُكبت رأيها ويُصاب صاحبها بالغيظ والحقد، ومن ثم، التطرف والانحراف. إنه ذكاء سياسي يرجع معظمه إلى الملك الحسن الثاني، وليس لهذا فقط استحسنت هذا الذكاء؛ فما رأيته في المغرب من تقدُّم يدل على أنه الذكاء المغربي يعمل في مختلف المجالات بطاقة حسنة تمامًا، واسمحوا لي أني لم أعد أصدِّق ما «يقوله» أي نظام عربي عن نفسه؛ فالأقوال كثيرة وللأسف كلها جوفاء، والمغرب تكاد تنطبق أقواله على أفعاله، وهذا هو المحك الحقيقي للحكم على نظام سياسي، وأبدًا ليس بما يُطلق ذلك النظام من شعارات.
لقد جاء وقت على النظام المغربي كان يعامل المعارضة فيه معاملة دموية، فكنا نرى فيه نظامًا دمويًّا، الآن تغيرت المعاملة حتى وصلت إلى حد المشاركة؛ ولهذا يقولها الإنسان بضمير مستريح إن النظام قد أصبح أكثر نضجًا وذكاءً؛ إذ قُل لي كيف تُعامل من يعارضونك، أقول لك من أنت.