ولعلَّ المرء يلحظ أن الحديث يشير إلى غربةٍ أولى للإسلام، تلحق بها غربةٌ ثانية.
وهنا، إذا
كان النبي الكريم قد مدح الغربة الأولى الظاهرة (التي يغيب فيها الشكل ويحضر الجوهر)،
فإن
اعتبار الغربة الثانية (سواء كانت ستأتي في نهاية الزمان، أو ستأتي قبلها) ممدوحةً أيضًا،
لا
بد من أن يجعل منها غربةً ظاهرة بالمِثل؛ بما يعنيه ذلك من أنها ستكون غربةً للشكل أيضًا.
وبطبيعة الحال، يرتبط ذلك باستحالة أن يكون النبي مادحًا لغربة روح الإسلام وجوهره؛ لأن
غربتهما تمثِّل إهدارًا للإسلام بالكلِّية. ويعني ذلك أن «الطوبى» ستكون من نصيب أولئك
الغرباء
الذين يتمسكون بجوهر الإسلام وروحه الحية، ولا يقفون به عند حدود شكله ورسمه؛ سواء كان
ذلك
في ابتداء الإسلام أو حتى في نهاية الزمان. ولعلَّ ذلك هو الأصل في اتفاق كل المصلحين
المسلمين، في القرن التاسع عشر، على إدانة ما عدُّوه غربةً لجوهر الإسلام وروحه الدافعة
للترقي.
(١) الإسلام بين الغربة والتجديد
يترابط حديثا الغربة والتجديد؛ على النحو الذي يكون فيه أحدهما (وهو حديث الغربة)
مؤسِّسًا للآخر (وهو حديث التجديد). وينشأ ذلك عن افتراض أنه لا إمكان للحديث عن التجديد
إلا لأن هناك غربةً تسبقه وتقتضيه. فإذا الغربة تُحيل إلى شيء قد انفصل عن الوضع الذي
كان
عليه أولًا، ثم حصل أن تعرَّض هذا الوضع للغياب مع تقادُم الزمن، فإن التجديد، في جوهره،
سعيٌ إلى استرجاع هذا الوضع الأول الذي طاله الغياب. وضِمن حدود الاختلاف حول نوع الغربة
التي تعرَّض لها الإسلام، يمكن التمييز بين تصوُّرٍ تقليدي للغربة ساد على مدى القرون
حتى
مجيء القرن التاسع عشر الذي شهد ابتداء تبلوُر تصورٍ آخر مغايِر للأول.
فإذ تحقَّقَت السيادة للتصور التقليدي للغربة، بوصفها «إماتة السُّنة وإحلال البدعة
محلها»، منذ القرن الهجري الأول، مع عمر بن عبد العزيز، واستمرَّت قائمة حتى أظهر الشيخ
محمد بن عبد الوهاب دعوته إلى أهل نجد في القرن الثامن عشر، فإن مجدِّدي القرن التاسع
عشر
هم الذين سوف يبلورون مفهومها بما هي غربة لجوهر يقوم خلف أشكال الدين ورسومه الظاهرة.
وبطبيعة الحال، كل واحد من هذين التصورَين للغربة قد استلزم تصورًا للتجديد يتجاوب
معه.
فقد اتخذ التجديد، في حال التصور الأول للغربة، شكل السعي إلى استرجاع الدين على
ما
كان عليه عند سلف الأمَّة في القرون الفاضلة التي هي «القرن الذين بُعِث فيهم رسول الله
ﷺ، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يَلُونهم؛ [والتي هي العصر الأكمل الذي]
من المحال أن يكون أهله غير عالمين أو قائلين في هذا الباب [باب التوحيد والدين عمومًا]
بغير الحق المبين؛ لأن ضد ذلك إمَّا عدم العلم والقول، وإمَّا اعتقاد نقيض الحق، وقول
خلاف
الصدق، وكلاهما ممتنع.»
٩ بما يعنيه ذلك من أن تصور كونهم غير عالمين، أو قائلين بخلاف الحق، هو،
بحسب ابن تيمية، من المستحيل عقلًا. والمهم، ما يبدو من أن العصر الفاضل لا يقتصر على
القرن الذي بعث فيه النبي، بل إنه يتسع ليستوعب بعضًا من أهل القرون اللاحقة، الذين
أكملوا ما عساه يكون قد فات على النبي بيانه. فإنه إذا جاز أن يتوهم أحدهم «ألا يكون
بيان هذا الباب [يعني الدين والتوحيد] قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان
قد
وقع ذلك [أي عدم البيان] منه فعلًا، فمن المحال أن خير أمَّة وأفضل قرونها قصَّروا في
هذا
الباب زائدين فيه، أو ناقصين عنه.»
١٠
ويؤسس ابن تيمية هذه الاستحالة على أنه «إذا كانت النفوس الصحيحة ليست إلى شيء أشوق
منها إلى معرفة هذا الأمر [الدين عمومًا]، وهذا أمرٌ معروف بالفطرة الوجدية، فكيف يُتصور
مع هذا المقتضي، الذي هو من أقوى المقتضيات، أن يتخلف عنه مقتضاه في هؤلاء السادة في
مجموع عصورهم. هذا يكاد لا يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا
على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله؛ فكيف يقع في أولئك السادة؟»
١١ وهكذا يؤسس ابن تيمية سلطة السلف (التي سيوظفها ابن عبد الوهاب في بناء صرح
دعوته) ليس، فحسب، على استحالة أن يكونوا «غير عالمين أو قائلين في أمر التوحيد والدين
بغير الحق المبين»، بل (وهو الأهم) على دورهم في بيان ما يمكن أن يكون قد فات على النبي
بيانه من أمر الدين؛ وبما يُحيل إليه ذلك من التعالي بهم إلى المقام الذي يكونون فيه
أصحاب دَور في بناء الدين، موازٍ لدَور النبي. وبطبيعة الحال، إن القداسة المحيطة بالنبي
سوف تلحق، على نحوٍ آلي، بهؤلاء الذين جرى اعتبارهم أصحاب دور في الدين يوازي دوره. وعلى
أي الأحوال، إن هذه القرون الفاضلة سوف تتحول إلى نموذجٍ معياري؛ حيث ستجري إدانة كل
ما
يأتي بعده باعتباره انحرافًا عنه. وهنا، يَلزم تأكيد أن تصور الأصل، الذي يؤسس لما يتصف
به العصر الأكمل من الفضل، قد ترك تأثيرًا ملحوظًا على الطبيعة الغالبة على تصور
الشريعة؛ بما يؤدِّي إليه ذلك من أن دلالة مفهوم الشريعة مجرَّد فرع عن تصوراتٍ كُبرى،
منها ما
يتعلق بكيفية تصوُّر الإسلام والدين على العموم من جهةٍ، ومنها ما يختص بالأصل المؤسس
لأفضلية العصر الأكمل من جهةٍ أخرى.
الملاحَظ أن ابن تيمية سوف يربط أفضلية العصر الأكمل بالصورة التي رسمها لسلوك أهله،
أو ما هم عليه من «الخير والفضل والنفوس الصحيحة» بصرف النظر عن أن هذه الصورة أقرب ما
تكون إلى الصورة المؤوَّلة التي تنبني على إسكات ونفي كل ما يخلخل مثاليتها، فإنه يبقى
أنها لم ترجع بأصل الفضل إلى شروطٍ موضوعية تتعلق بقدرة أهل العصر على إنتاج فهمٍ للإسلام
جعله قادرًا على التجاوب الفعال مع ظروف العمران السائد على تبايُن أحواله، بقدر ما تعود
به إلى الفضائل الخلقية الذاتية للأفراد؛ وبما يعنيه ذلك من ارتكانه في تعيين الفضل إلى
ما هو ذاتي، حيث لا يرى إلى أي أُسسٍ موضوعية يتقوَّم بها هذا الفضل. وبطبيعة الحال،
إن
ذلك يعني أن علامة الخروج من هذه العصور الفاضلة هي ما سيحصل من الانحراف في أخلاقيات
أهل العصور اللاحقة، الذين لا بد من أنهم قد أصبحوا (على قوله) من «أهل الشر والسوء
والنفوس الخبيثة.» وليس من شكٍّ في أن تصوُّر الفساد، حاصلًا عن انحراف أخلاق الناس،
سوف
يجعل الصلاح مربوطًا بوجوب الضبط الأخلاقي للناس؛ وبما ينعكس على تصوُّر طبيعة الشريعة.
حيث الشريعة لا بد من أن تتحول؛ ليكون ممكنًا أن تحقق غاية الضبط، إلى جملة قواعد آمرة
لها سِمَتا الإلزام والزجر.
وعلى العكس من ذلك، إنَّ جعْل الفضل في أخلاق الناس هو الذي يرتبط بأفضلية العصر الأول،
التي نشأَت أصلًا عن عوامل موضوعية تتعلق بما كان عليه الإسلام من قدرة على التجاوب مع
مصالح الناس وضروراتهم الحياتية؛ على النحو الذي لا يضعهم في الحرج الذي يكونون معه
مضطرين إلى ارتكاب ما يبعدهم عن مقتضيات الدين. سوف يئول إلى تبلور تصوُّرٍ مغايِر لطبيعة
الشريعة. فإن كون الغاية جعْل الدين متجاوبًا مع مصالح الناس وضروراتهم سوف يئول إلى
تصوُّر الشريعة على النحو الذي تكون معه إطارًا جامعًا للمبادئ والقيَم الكُبرى التي
توجِّه
القواعد الحاكمة للظروف المتغيرة لاجتماع الناس.
وتبعًا لهذا التصوُّر، إن التجديد، هنا، كان يمثِّل رفضًا لكل ما جرى من التطورات
اللاحقة
خلال هذه القرون الفاضلة، التي أعقبَت خروج الإسلام والمسلمين من جزيرة العرب بالذات،
ومحاولة استرجاع ما كان قائمًا في هذه القرون الفاضلة بما هو أصلٌ قائم مكتمِل وثابت
في
الماضي/المثالي؛ بما ينطوي عليه ذلك من عدم التعامل مع هذا الأصل على أنه مجرَّد وضعٍ
مشروط بطبائع العمران القائمة في هذه القرون. وبطبيعة الحال، إن ذلك يؤشِّر إلى أن جوهر
التجديد هو أقرب ما يكون إلى الإقصاء لما يُعَد من قبِيل الدخيل، وليس الاحتواء لما
يفرضه منطق التغيير؛ حيث الاحتواء يستلزم تصوُّرًا للأصل لا يكون فيه وضعًا تحقق واكتمل
في الماضي، بل يكون ابتداءً من انفتاحه على العقل والواقع (وإلى حد دخولهما معًا في
تركيبه) بناءً ديناميكيًّا يتسع لكل ما ينشأ من تطوراتٍ مستجدة. ولعلَّ هذا التصوُّر
المنفتح
للأصل هو ما غلب، نسبيًّا، على تجديد جُل مفكِّري القرن التاسع عشر بالذات.
من هنا — لا محالة — إمكان التمييز ضِمن فعل التجديد بين ما يمكن القول إنه التجديد
«استرجاعًا»، والتجديد «إبداعًا». وقد ارتبط كل واحد من هذين النوعَين من التجديد بنمط
العمران الذي تبلور في إطاره؛ وبمعنى أنه إذا كان التجديد «استرجاعًا» قد تبلور في إطار
نمط العمران البدوي، الذي غلب على جزيرة العرب، فإن التجديد «إبداعًا» قد تبلور في إطار
نمط العمران الحَضَري، الذي عرفَته مراكز الحضارة في مصر، وتونس، والشام بالذات. وإذ
يُحيل ذلك إلى دخول نمط العمران السائد في تركيب فعل «التجديد» الديني؛ وإلى الحد الذي
يكون فيه الواحد منهما محددًا للآخر، فإن ذلك يعني استحالة إحلال الواحد من نوعَي
التجديد محل الآخر. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن أوضاع الناس، ضِمن العمران البدوي، لا تتغير،
بل تبقى ثابتةً تقريبًا؛ ومن ثَم إنها لا تكون في حاجة إلى تقليب النظر في الدين ليتناسب
مع أي مستجداتٍ تلحق بها؛ بل إن ثباتها يجعل الموقف من الدين لا يجاوز مجرَّد العمل على
استرجاعه بالهيئة نفسها، التي كان عليها عند بعثته الأولى داخل ذات الإطار العمراني
تقريبًا. وعلى العكس من ذلك تمامًا، إن أوضاع الناس تكون خاضعة للتحول في إطار العمران
الحضري؛ وعلى النحو الذي يقتضي وجوب التفكير في الدين من أجْل أن يتجاوب مع المستجدات،
التي تطرأ في الواقع. ومن هنا، ما يحصل من أن التجديد، ضِمن هذا العمران، يكون
«إبداعًا»، وليس «استرجاعًا». وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني استحالة أن يحل تجديد محمد
بن
عبد الوهاب، الذي تبلور في إطار العمران البدوي السائد في نجدٍ وما حولها في القرن
الثامن عشر، محل تجديد محمد عبده، الذي يرتبط بسياق العمران الحضري المصري.
ولعلَّ ذلك، لا سواه، هو ما يقف وراء ما مضى إليه السيد رشيد رضا من التمييز بين
ضربَين
من التجديد؛ يتميز أحدهما بما لاحظه من أنه «إنما كان المجدِّدون يُبعَثون بحسب الحاجة
لما
أبلى الناس من لباس الدين.»
١٢ وأما ثانيهما فإنه قد ارتبط باشتداد «الحاجة إلى تجديد الحياة في البلدان
المتخلفة عن المتقدمة، مما لا ينهض بمثله المجدِّدون القدماء بوسائلهم القديمة.»
١٣ وبخصوص الأول، إذا كان اللباس يدل، بطبيعته، على ما يكون قائمًا في الخارج،
وأن ما يقوم في الخارج من الدين ينحصر في جانبه التعبُّدي الطقسي، فإنه يمكن التمثيل،
على
هذا النوع من التجديد الخارجي، بنموذج الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ مجدِّد الجزيرة العربية
في القرن الثامن عشر؛ لأن جوهر دعوته التجديدية لم يجاوز حدود هذا البُعد التعبُّدي
والطقسي في الإسلام. ولقد كان ذلك إلى الحد الذي يجوز معه القول: إن جوهر الدعوة
الوهابية يقوم على ما يمكن القول إنه «توحيد العبادة»؛ فإن «التوحيد هو إفراد الله
بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده. فأولهم نوح عليه السلام، أرسله
الله إلى قومه لما غَلوْا في الصالحين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وآخر الرسل محمد
ﷺ؛ وهو الذي كسَّر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناسٍ يتعبدون،
ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين
الله، ويقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى
ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله إليهم محمدًا
ﷺ يجدد لهم
دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح
منه شيء لا لمَلَكٍ مُقرَّب، ولا لنبيٍّ مُرسَل، فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون
مُقرِّون يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا
يُحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن،
والأَرَضين ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.»
١٤ وإذَن، إن ما يتميز به المسلم عن غيره هو «توحيد الألوهية» أو العبادة،
وليس «توحيد الربوبية»، الذي يقر به المشركون أنفسهم، على قول ابن عبد الوهاب. وقد
استفاد ابن عبد الوهاب هذا التمييز بين ضربَين من التوحيد من ابن تيمية بالتحديد؛ أحدهما
توحيد الربوبية، وهو الاعتقاد بأن الله هو وحده الرب، والخالق، والمحيي، والمميت،
والرازق، والمُدبِّر، وهذا التوحيد لا ثواب ولا عقاب عليه، وهو مما لم تأتِ به الرسل؛
لأنه قد أقر به الناس كافة بالفطرة، مؤمنهم وكافرهم؛ وثانيهما توحيد الألوهية وهو
المُعوَّل عليه، والذي جاءت به الرسل، وهو اعتقاد أنه لا إله إلا الله، ويعني ذلك صرف
جميع العبادات من الدعاء، والسجود، والنذر، والطواف، والحلف، ونحو ذلك، إلى الله دون
سواه من صنم أو قبر. ومن هنا، إن تجديد عبد الوهاب، أو إحيائيته، لا تُجاوز حدود تنقية
العبادة مما لابَسها من الشوائب التي داخلَتها، وأدخلَتها في دائرة الشرك. وليس من شكٍّ
فيما
يعنيه ذلك من أن أمر التجديد لا يتجاوز، عند ابن عبد الوهاب، حدود اللباس الخارجي
للدين.
والحق أن ذلك يرتبط بأن تصوُّر ابن عبد الوهاب للإسلام (والدين عمومًا) يختزله في
مجرَّد
جانبه «التعبُّدي» فحسب؛ وبما يئول إليه ذلك من اعتبار العبادة غاية الدين. وليس من شكٍّ
فيما يعنيه ذلك من وجوب استرجاعها على الهيئة التي كانت عليها، وقت نزول الدين في أول
عهده. وفي المقابل، إن تصوُّر الإسلام، والدين عمومًا، على أن له، زيادةً على جوانبه
التعبُّدية، رسالةً حضارية تتمثل في الارتقاء بالناس من حالٍ أدنى في الوجود (الاجتماعي،
والتاريخي، والروحي) إلى حالٍ أرقى، سوف يجعل من هذا الارتقاء غايةً بذاتها لا بد من
السعي وراءها؛ بما يعنيه ذلك من ضرورة أن يكون الإسلام موضوعًا لتفكيرٍ خَلَّاق لكي
يتجاوب مع ضرورات الترقي الدائم في المدنية. إن التبايُن بين هذين التصوُّرَين (التعبُّدي
والحضاري) للإسلام هو ما يحدد التبايُن بين مسارَين؛ يكون التجديد في أحدهما (وهو
التعبُّدي) إبعادًا لما هو زائد على ما كانت عليه العبادة في هيئتها الأولى. وأما في
الثاني (وهو الحضاري)، فإنه يكون إدراكًا لما هو كامن في الدين من ممكنات يقدر بها على
الاستجابة للمستجدات الحاصلة في سيرورة الترقي.
وإذ يبدو — والحال كذلك — الأمر، عند ابن عبد الوهاب، لا يتعلق بترقية العمران، بل
بتنقية العبادة، فإنه يترتب على ذلك أن يكون الإقصاء والنبذ الآلية الأكثر اشتغالًا
عنده؛ حيث يتعلق الأمر ببدعٍ شركية قد داخلَت الطقس العبادي، ولا بد من إعلان البراءة
والتطهر منها. ولعلَّه يجوز هنا تأكيد أن طبيعة العمران الغالب على نجد، التي نشأ فيها
الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هي التي فرضَت عليه أن يبلور تجديده على النحو الذي جاء عليه
فعلًا. فإذ يكاد تجديد ابن عبد الوهاب يدور، بأسْره، حول ما يمكن القول إنه البراءة من
عبادة الآباء وتقديسهم، فإن هذه العبادة تُعَد تقريبًا من لوازم العمران البدوي، الذي
كان
يغلب على شبه جزيرة العرب وقت ظهور ابن عبد الوهاب. وينشأ ذلك عن حقيقة أن غلبة الرابطة
الطبيعية (أو رابطة الدم) على هذا العمران لا بد من أن تؤدِّي إلى المركزية المطلَقة
للأبوية ابتداء من أن الأب هو المركز الرئيس لهذه الرابطة؛ وعلى النحو الذي يفتح الباب
أمام عبادة الآباء وتقديسهم. وقد تفيد الإشارة، هنا، إلى أن مركزية الأبوية، ضِمن هذا
العمران، تبلغ حد أن العرب قد وضعوا لها علمًا قائمًا بنفسه هو علم الأنساب، الذي يبدو
أن النبي نفسه قد أوصى به؛ وذلك بما يُنسب إليه قوله: «تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون
به
أرحامكم»؛ حيث إن النسب إنما فائدته هذا الالتحام «الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع
المناصرة والنعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن يصيبهم ضيم أو هلكة.»
١٥ والحق أن المناصرة والنعرة، التي هي ثمرة الانتساب إلى الآباء، هي مما لا
يُستغنى عنه للحياة في البادية؛ إمَّا من أجْل المدافعة صدًّا لغارات المتلصصين، حيث
«لا
يصدُق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسبٍ واحد؛ لأنهم، بذلك، يُخشَى جانبهم
وتشتد شوكتهم.»
١٦ وإمَّا من أجْل الإغارة والقنص، حيث «إن رزقهم في ظلال رماحهم.»
١٧ ويعني ذلك، من دون أدنى شك، أن الأبوية هي من أهم لوازم العمران البدوي؛
وعلى النحو الذي يقدر على تفسير تحولها داخله إلى عبادة.
ولقد بدا أن العزلة القاسية لشبه جزيرة العرب قد ساعدَت على استمرار قيام العمران
البدوي على الحال نفسه الذي كان عليه وقت ابتعاث النبي محمد بالإسلام لأول مرة. ومن
هنا، ما لاحظه أحد معاصري ابن عبد الوهاب، وكاتب تاريخه، من أن «أكثر المسلمين، في مطلع
القرن الثاني عشر الهجري، قد ارتكسوا في الشرك، وارتدُّوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم
نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال، فنبذوا كتاب الله تعالى
وراء ظهورهم، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة، وقد ظنوا أن آباءهم أدرى بالحق،
وأعلم بطريق الصواب، فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، أمواتِهم وأحيائهم، يستغيثون
بهم في النوازل، ويستعينونهم على قضاء الحاجات وتفريج الشدائد.»
١٨
وحين يدرك المرء أن ابن عبد الوهاب يرد الضلالة، التي وُجِد عليها «أكثر المسلمين في
مطلع القرن الثاني عشر»، إلى اتباعهم ما عليه الآباء، فإن ذلك ما يكشف عن كونه يدير
تفكيره بمنطق التكرار والمماثلة؛ وبمعنى أنه يراهم على الحال نفسه الذي كان عليه
السابقون ممن وصفهم القرآن بأنهم كانوا يردُّون على خطاب الأنبياء لهم بطاعة وحي السماء
بالقول: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ (الزخرف: ٢٢). ولعلَّ ابن عبد الوهاب كان يسعى، عبْر الارتداد بأهل نجد إلى
ما كان عليه عرب الجاهلية قبل الإسلام، إلى بناء سلطته الخاصة؛ لأنه إذ يرتد بمن
يخاطبهم إلى مقام المشركين الذين خاطبهم النبي بالوحي، لم يكن يفعل إلا أن يحل نفسه في
مقام من يستأنف مهمة صاحب الوحي مع أهل نجد في عصره. ولسوء الحظ أنه كان، بذلك، يدشن
تقليدًا سوف يسرف في توظيفه منظِّرو جماعات الإسلام السياسي، الذين سيؤسِّسون سرديتهم
على
تأكيد ارتكاس المسلمين إلى حال الجاهلية الأولى، لينتزعوا لأنفسهم سلطة صاحب الوحي.
والحق أن القراءة المدققة لخطاب ابن عبد الوهاب تكشف عن استمرار اشتغال ثوابت ومقولات
خطابه، وبترتيب علائقها نفسه ضِمن خطاب الإسلام السياسي. فإن مقولات الجاهلية والتكفير،
في مقابل التوحيد وحاكمية الشريعة، وغيرها مما صكه ابن عبد الوهاب، سوف تكون هي الأصول
المؤسِّسة لسردية الإسلام السياسي اللاحقة.
وفضلًا عن الأبوية، إن هذا العمران قد ارتبط بطرائق في التفكير والسلوك والتعبد تنشأ
عن حقيقة أنه يفرض على كل شيء فيه أن يأخذ طابعًا خارجيًّا محضًا؛ حيث إن حياة الناس
تكون في قبضة قوى خارجيةٍ عاتية، لا سيطرة لأحدٍ عليها. ولقد كان ذلك هو ما أدركه ابن
خلدون، حين مضى يؤكِّد أن ما «اختص به «البدو» من نكد العيش، وشظف الأحوال، وسوء المواطن،
حملَتهم عليها الضرورة، التي عيَّنَت لهم تلك القسمة.»
١٩ وبما تحمله دلالة مفردتَي «الضرورة» و«القسمة» من معنًى يقترب من «القدَر»
الخارجي، الذي لا سيطرة لأحدٍ عليه. وبطبيعة الحال، إن ذلك هو ما يقف وراء حقيقة أن كل
شيء في العمران البدوي، بما فيه الدين، إنما يجري اعتباره من جهة بُعده الخارجي فقط؛
وبما يعنيه ذلك من أنه إذا كان فساد الدين لا يتجاوزه رسومه الخارجية، فإن صلاحه لن
يتعدى تلك الرسوم أيضًا. وإذ يتعلق الأمر — والحال كذلك — بما يقبل الأداء الخارجي من
رسوم الدين وطقوسه، فإن ذلك سوف يؤدِّي إلى بروز متلازمتَين؛ تتعلق أُولاهما بحضور الشريعة
كمحض نظامٍ قانوني، لا قيَمي، أما الثانية، فإنها تتعلق بالمركزية المطلَقة للسلطة في
هذا
النظام؛ لأنها هي التي سيكون منوطًا بها، ليس، فحسب، أن تفرض ما جرى الاصطلاح على أنه
الشريعة الظاهرة، التي تعني حضورها كمجرَّد نظامٍ قانوني محدد، على المجتمع، بل أن تراقب
خضوعه الصارم لأحكامها أيضًا.
وهنا يَلزم تأكيد أن طغيان متلازمتَي «السلطة والشريعة كنظامٍ قانوني» على أي تفكير
في
الإسلام، سوف يكون مؤشرًا على اختزال الإسلام، ضِمن هذا التفكير، في مجرَّد أبعاده
الخارجية ورسومه الظاهرة. ولسوف يكون هذا الاختزال، الذي سيُلقي بالإسلام في هاوية
الإفقار والعنف، هو المصير البائس، الذي سينتهي إليه الإسلام مع الفصائل الحركية
والجهادية، التي راح يتعاظم تأثيرها على ساحته، على مدى النصف الثاني من القرن العشرين
حتى الآن. والحق أن ترابُط هاتَين المتلازمتَين يبلغ حد استحالة انفكاك الواحدة منهما
عن
الأخرى. وهنا، إن الطابع الخارجي (البرَّاني) للتفكير في الإسلام هو ما يؤسس لهذا التلازم
غير القابل للانفكاك؛ حيث إن خارجية السلطة (بمعنى عدم قيامها على مبدأ الرضا والقبول
الطوعي) يجعلها في حاجة إلى ما تسند عليه مبرِّر وجودها، الذي لن يكون شيئًا إلا قيامها
على تطبيق الشريعة التي لن يكون مطلوبًا منها، بدَورها، إلا أن تحضر كمجرَّد إطارٍ خارجي
ملموس تؤسس عليه هذه السلطة مشروعيتها. وغنيٌّ عن البيان أن الدولة السعودية الراهنة
تكاد
تكون هي النموذج المحقق لهذا التلازم بين السلطة والشريعة. ولسوء الحظ، ليس بالإمكان
إنكار برانية كلٍّ من السلطة والشريعة في هذا النموذج. فسلطة العائلة، ضِمن هذا النموذج،
ليست قائمة على الرضا الطوعي؛ بل على مجرَّد الفرض القسري لنفسها بالغلبة على الجمهور،
وبدَورها، إن الشريعة ليست إلا مجرَّد الإطار الخارجي الذي تتكئ عليه هذه السلطة في تبرير
حضورها المطلَق.
ولعلَّ مركزية ما هو خارجي، ضِمن سياق العمران البدوي، تتبدَّى في حقيقة أنه يبقى
على
حاله، من دون أن يطاله أي تغيير، ما لم يدخل عليه طارئ من خارجه. ولقد كان ذلك هو ما
جعل الأمر يبدو للشيخ ابن عبد الوهاب وكأن كل أهل نجد تقريبًا قد عادوا إلى ما كان عليه
الأعراب في الجاهلية الأولى. لكنه يَلزم التأكيد، هنا، على أن ما بدا لابن عبد الوهاب،
وكأنها عودتهم للجاهلية، لم يكن اختيارًا لهم، بقدر ما كان من تداعيات استمرار قيام
العمران البدوي، الذي لا بد من أن يفرض على أصحابه تلك الحال من السلوك والتعبد. فإذ
يتمحور العمران البدوي، بحسب ما يكشف عنه ابن خلدون، حول مفهوم العصبية القبلية، التي
تُحيل إلى السطوة الغالبة لقيَم القوة، والتقليد، والاتباع، والتأسِّي بالكبراء، والتوسل
بهم كوسطاء، فإن ذلك بعينه هو ما أدرك الشيخ ابن عبد الوهاب غلبته على ممارسات أهل نجد
في عصره. ومن هنا، ما تبيَّنه هذا الشيخ عند أهل نجد، «من مسائل الجاهلية» المائة، يكاد
بأسْره يتوزع على منظومة القيَم الغالبة على العمران البدوي من قبِيل القوة، والتقليد،
والاتباع، والتوسل بالكبراء، وغيرها. فهم يتوسلون بالوسائط في الدعاء والعبادة، ويقلدون
في الدين والاجتماع، ويحتجون بما كان عليه الآباء بلا دليل، ويعدون عدم الانقياد لولي
الأمر فضيلة؛
٢٠ وهي الأمور التي تكاد (فضلًا عن الطابع الخارجي المحض لها) تكون جميعًا من
لوازم عمران البداوة.
وإذا كان ابن خلدون قد كشف، فيما سلف، عن أن ما يؤسس لهذه المنظومة البدوية هو
«اعتياد أهلها الشظف وخشونة العيش … الذي يتولد عنه خُلق التوحش، الذي يجعلهم أصعب
الأمم انقيادًا بعضهم إلى بعض؛ للغلظة، والأنفة، وبُعد الهمة، والمنافسة في الرياسة؛
فقلَّما تجتمع أهواؤهم.» فإنه قد ترتب على ذلك «أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغةٍ
دينية من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة.»
٢١ بما يعنيه ذلك من جوهرية الدين في الخروج بالعرب من خُلق التوحش/الطبيعي
إلى التهذب بالمُلك/المدني؛ إذ الحق أن مفهوم «المُلك» يحمل، عند ابن خلدون، دلالةً
حضارية تتجاوز به مجرَّد دلالته السياسية الضيِّقة إلى دلالةٍ أوسع تشير إلى انتقاله
بالبشر
من حال الاجتماع الحيواني/الهمجي إلى الاجتماع التأنُّسي/المدني. وإنما «يصيرون
إليها (أي حال المدنية) بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغةٍ دينية تمحو منهم (حال
الاجتماع الجاهلي/الوحشي)، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم
عن بعض، واعتبر ذلك بدولتهم في الملة، لما شيد لهم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها
المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا، وتتابع فيها الخلفاء، عَظُم حينئذٍ ملكهم وقوي
سلطانهم.»
٢٢
وابتداء من أن الدين — والحال كذلك — هو الذي شيَّد للعرب السياسة بالشريعة وأحكامها،
فإن ذلك قد يكون ما حدا بابن عبد الوهاب إلى إدراك أنه لا سبيل إلى إخراج أهل الجزيرة
العربية في عصره مما هم عليه من حال الاجتماع شبه الجاهلي، الذي تفرضه طبائع العمران
البدوي، إلا بإسلام العصور الأولى المفضلة، الذي يَلزم فرضه عليهم ولو على نحوٍ قسري؛
بما
يُحيل إليه ذلك من المركزية المطلَقة للشريعة والسياسة. وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن
الوهابية من قبِيل التجديد، الذي فرضَته طبائع العمران البدوي، ومن دون أن تكون قابلة
للفهم، أو الاشتغال، خارج شروط هذا العمران أبدًا. وترتيبًا على ذلك يمكن القطع بأن
دعوة ابن عبد الوهاب إنما تُحيل إلى نوع من التجديد، الذي يختلف بالكلِّية عن ذلك الذي
ستعرفه لاحقًا مراكز العمران الحضري في مصر، وتونس، والشام، التي كانت تعيش تجربة
الانفتاح على حضارة أوروبا التي حالت العزلة دون أن تتعرض جزيرة العرب لرياحها
العاتية.
ولعلَّه يمكن القول: إن ابن خلدون سوف يواصل إضاءة خطاب ابن عبد الوهاب من خلال فكرته
القاضية بأن «الدعوة الدينية من غير عصبيةٍ لا تتم»، والتي يجوز ادِّعاء أنها قد وجدَت
أحد
أظهر تحقُّقاتها عند الشيخ ابن عبد الوهاب. وإذا كان ابن خلدون يبرر احتياج الدين إلى
العصبية بحقيقة «أن كل أمر تُحمل عليه الكافة لا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح،
كما مر:
«ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه»؛
وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم أن تُخرق له
العادة في الغُلب بغير عصبية.»
٢٣ فإن ابن عبد الوهاب قد سعى وراء هذه العصبية، ووجدها في شوكة آل سعود،
الذين لا بد من أنهم كانوا، بدَورهم، يفكرون فيما قطع به ابن خلدون من أن «العرب لا
يحصل لهم الملك إلا بصبغةٍ دينية من نبوة، أو ولاية، أو أثرٍ عظيم من الدين على الجملة.»
وهكذا، إن الرجل قد أدرك أن ما يبتغي من رد أعراب نجد إلى الدين لن يكون ممكنًا إلا من
خلال عصبيةٍ ذات شوكة تسنده وتؤازر دعوته. ومن هنا، أنه قد راح، في استعادة لما فعل
النبي من عرْض نفسه على كبراء القبائل وسادتهم، يعرض نفسه ودعوته على أهل العصبيات
المتغلبة في نجد، حتى انتهى به الأمر إلى التحالف مع آل سعود، الذين بدا أنهم قد أدركوا
أن توسيع ملكهم ليس ممكنًا إلا من خلال دعوة ابن عبد الوهاب الدينية. وبطبيعة الحال،
ذلك هو ما سيؤسس لمركزية حضور السلطة في بناء الدعوة الوهابية، على أن يكون معلومًا أن
السلطة أو المُلك، عند ابن عبد الوهاب، ليس مقصودًا بدلالته الحضارية، كما كان عند ابن
خلدون، بل بمحض دلالته السياسية. فإن دلالة الملك عنده ليست المساعدة على الارتقاء
بالاجتماع، بل إنجاز مجرَّد الإخضاع بالمعنى الديني؛ مع الوعي الحاد بأن تحقيق الإخضاع
الديني لن يكون ممكنًا من دون أن يكون مصحوبًا بالإخضاع السياسي.
وهنا يَلزم التنويه بأن الاستدعاء اللاحق لمركزية السلطة أو المُلك من جانب حركات
الإسلام السياسي سيكون مؤشرًا على أنها لا تفكر فيما تبتغي من التغيير خارج شروط
العمران البدوي، التي كان ابن عبد الوهاب يفكر داخلها. وإذ يبدو — والحال كذلك — تفكير
هذه الحركات في الإسلام مشروطًا بظروف نمطٍ بعينه من العمران، فإن المأزق، الذي تقع فيه،
يأتي من سعيها العنيف لفرض هذا النوع من التفكير المشروط على نوعٍ آخر من العمران الحضري
المغايِر. المهم أن ما يقف وراء هذا التفكير كله هو اختزال الإسلام في مجرَّد جانبه
التعبُّدي؛ وبما جعل الأمر يقتصر على تجديد ما أبلى الناس من لباس الدين، الذي يُعَد
المسئول عن الحضور المركزي للسلطة ضِمن هذا النوع من التجديد؛ إذ لا شيء بقادر على إعادة
إلباس الناس ما أبلوه من لباس الدين إلا قبضة السياسة وسلطتها الباطشة.
أما في القرن التاسع عشر، فإن الأمر قد راح يتعلق بما بلي من جوهر الدين على النحو
الذي جعله غير قادر على التجاوب مع معطيات المدنية الحديثة، وليس ما بلي من لباسه
الخارجي فحسب. وقد ارتبط ذلك بما حصل من تطوراتٍ مهمة تتمثل، بالذات، في بروز أوروبا
الحديثة قوةً مهيمنة؛ حيث «اتسعَت، بذلك، مسافة الخلف بين الشعوب في العلم، والعمل،
ووسائلهما، واشتدَّت الحاجة إلى تجديد الحياة في «البلدان» المتخلفة منها عن المتقدمة،
ولا ينهض بمثله أمثال أولئك المجدِّدين القدماء بالوسائل القديمة وحدها.»
٢٤ وإذَن، إنه الانتقال من تجديد ما بلي من لباس الدين إلى ضرورة تجديد الحياة
في البلدان المتخلفة، التي أصبحَت المجتمعات الإسلامية جزءًا منها. وإذ كان تجديد الدين
ينصرف عند الأقدمين إلى تطهيره من كل ما جرى النظر إليه على أنه دخيلٌ عليه، فإن تجديد
الحياة في المجتمعات المتخلفة، عند مجدِّدي القرن التاسع عشر، قد فرض ضرورة الإمساك
بالجوهر الحي للدين على النحو الذي يجعله قادرًا على استيعاب كل تطورات المدنية
الحديثة، وليس مجرَّد تجديد لباسه الخارجي. وهكذا، إن الوعي بتخلف ظروف الحياة في
المجتمعات الإسلامية، بالنسبة إلى المجتمعات الأوروبية المتقدمة في المدنية، قد فرض
الانتقال من تصوُّر الغربة بما هي غربة اللباس الخارجي للدين إلى تصوُّرها غربةً لجوهره.
وبطبيعة الحال، ذلك يعني أن مفهوم الغربة، والتجديد من ثَم، يتحول، بحسب تحولات الواقع
الذي يعيش فيه المسلمون. فإذا ما تعلق الأمر بواقعٍ لم يدرك فيه المسلمون التفوق في
المدنية، الذي حققه غيرهم عليهم، فإن تجديد ما بلي من لباس الدين (الخارجي) كان هو جوهر
الانشغال. أما حين أدركوا التفوق الحضاري لخصوم الأمس (من الأوروبيين) عليهم في القرن
التاسع عشر، فإنه قد بدا لهم أن ما يحتاج إلى التجديد في الدين هو جوهره الراقد تحت
لباسه؛ وذلك لكي يتجاوب مع التحدي الذي يفرضه واقع تخلفهم بالقياس لغيرهم. وتبعًا لذلك،
يجوز القول، بعبارةٍ أخرى، إذا كان معنى الإصلاح قد انصرف، في مراكز العمران الحضري،
إلى
تجديد التفكير في الإسلام، فإن الإصلاح، الذي تبلور في مركز العمران البدوي، قد انشغل،
في المقابل، باسترجاع إسلامٍ تعبُّدي لا مجال فيه لأي تفكيرٍ أصلًا.
والحق أن نوع العمران لا يعيِّن، فحسب، نمط التجديد المطلوب، بل إنه يحدد، أيضًا،
نوع
الغربة التي تصيب الإسلام. في سياق العمران البدوي يبلى الدين، ويغترب، لابتعاد الناس
عنه؛ لما يفرضه عليهم هذا العمران من أنماط سلوك وتعبُّد تبعدهم عن الممارسة المعيارية
للدين، ومن دون أن يكون الأمر متعلقًا بوجود فجوةٍ بين ما يعتقد به الناس، وبين واقعهم،
بسبب ما يلحق به من تطوراتٍ تحتاج إلى تجديد ما يعتقدون به. أما ضِمن العمران الحضري،
فإن
الدين يبلى، لا لابتعاد الناس عنه، بل للفجوة التي تنشأ بين ما يفرضه تطوُّر الواقع وبين
ما يعتقد به الناس على النحو الذي يستلزم ضرورة تجديده لكي يصبح قادرًا على التجاوب مع
تحولات الواقع المتغير. وهكذا، إن غربة الدين تكون في العمران البدوي نكوصًا إلى
الجاهلية على النحو الذي يجعلها نوعًا من «الكفر».
٢٥ أمَّا في العمران الحضري، فإنها ترتبط بغلبة «الجمود والتقليد» على التعامل
مع الدين. وفيما يكون القضاء على هذه الغربة مرتبطًا، في العمران البدوي، بضبط الناس
وردِّهم إلى الممارسة المعيارية للدين طوعًا أو كرهًا، فإنه يكون في العمران الحضري
مرتبطًا بتجديد التفكير فيه.
وغنيٌّ عن البيان أنه فيما يكون ضبط الناس وردُّهم إلى الممارسة المعيارية للدين عملًا
سلطويًّا يحتاج إلى عصبيةٍ وشوكة، فإن تجديد التفكير في الدين هو عملٌ عقلي يحتاج إلى
وعيٍّ
وفهم. وإذ يبدو — والحال كذلك — التجديد، في إطار العمران البدوي، عملًا «سلطويًّا» في
جوهره، بينما يكون، في إطار العمران الحضري، عملًا «عقليًّا»، فإن ذلك هو ما يقف وراء
التبايُن بين مسارَين للتجديد بدَت الشريعة في أحدهما نظامًا «قانونيًّا» معياريًّا يَلزم
أن تكون هناك سلطةٌ تقوم على تطبيقه، بينما تبدو في الآخر «نظامًا قيَميًّا» يَلزم أن
يكون
هو المحدِّد لأحكامها وإجراءاتها؛ بما يعنيه ذلك من وجوب أن تكون موضوعًا لتفكيرٍ
مفتوح.
وكمثالٍ على وجوب تجديد التفكير في الدين في إطار العمران الحضري، يمكن التنويه إلى
ما
صار إليه الكواكبي (وهو من رواد الإصلاح الحضري): «إنا كنا أرقى من الغرب علمًا،
فنظامًا، فقوة، فكنا له أسيادًا! ثم جاء حينٌ من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة
الحياة بيننا سجالًا: إن فُقناه ثروةً فاقنا باجتماع كلمته. ثم جاء الزمن الأخير ترقى
فيه
الغرب علمًا، فنظامًا، فقوة، وانضم إلى ذلك، أولًا: قوة اجتماعه شعوبًا كثيرة. ثانيًا:
قوة البارود حيث أبطل الشجاعة. ثالثًا: قوة كشْفه أسرار الكيمياء والميكانيك. رابعًا:
قوة الفحم الذي أهدته له الطبيعة. خامسًا: قوة النشاط بكسر قيود الاستبداد. سادسًا: قوة
الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعَت هذه القوات فيه وليس عند الشرق ما
يقابلها غير الافتخار بالأسلاف، وذلك حجةٌ عليه، والغرور بالدين خلافًا للدين، فالمسلمون
يقابلون تلك القوات بما يقال عند اليأس، وهو «حسبنا الله ونعم الوكيل»، ويخالفون أمر
القرآن لهم بأن يُعدوا ما استطاعوا من قوة، لا ما استطاعوا من صلاة وصوم.»
٢٦ وإذَن، إنه يربط تدهور وضع المجتمعات الإسلامية في القرن التاسع عشر
بالإهدار الكامل لجوهر الإسلام؛ إلى حد «مخالفة أمر القرآن»، لحساب مجرَّد «الافتخار
بالأسلاف» وتبجيلهم إلى حد التقديس، مع الإغراق في الرسوم والشكليات التي لم تعُد فاعلة
في حياة المسلم؛ لأنها لا تردُّ عنه عدوانًا، أو تدفع به إلى الترقي في مضمار
المدنية.
وتبعًا لذلك، إنَّ فعل تجديد الدين، عند مجدِّدي القرن التاسع عشر، كان يعني أن الدين
في
احتياجٍ دائم إلى ما به يكون قادرًا على التفاعل الخلَّاق مع الأسئلة التي يفرضها واقعٌ
متغير؛ وإلا فإنَّ مآله سيكون الجمود والاضمحلال اللذين يكرِّسان لغربة جوهره وروحه.
وهكذا، إن الإصلاح قد انصرف إلى تجديد التفكير في الإسلام على النحو الذي يحُول دون أن
تحضر فيه مجرَّد رسومه مع غربة روحه. فالغربة لا تعني شيئًا إلا تلك الحالة، التي لا
يكون
فيها الدين قادرًا على التجاوب مع أسئلة الواقع؛ بما يستوجبه ذلك من ضرورة إذكاء جوهره
الراقد تحت قشوره السطحية. فإن «كلمة الشهادة، والصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، كلها
لا تُغني شيئًا مع فقْد الإيمان؛ إنما يكون القيام، حينئذٍ، بهذه الشعائر قيامًا بعادات،
وتقليدات، وهوسات، تضيع بها الأموال والأوقات.»
٢٧ وهكذا، يمايز الكواكبي، على نحوٍ حاسم، بين قشور الدين ولبابه.
ولعلَّ ما يؤكِّد أن تجديد الدين، على العموم، لا بد من أن يكون محيلًا إلى غربة جوهره،
إنما يتأتى من حقيقة أن رسوم الدين وأشكاله لا يمكن أن تكون موضوعًا لأي تجديد. فإنه
لا
مجال لأي تجديد فيما يتعلق بأشكال تأدية الطقوس والعبادات، أو كمِّياتها؛ ولهذا إن الأمر
إنما يتعلق بما يقوم وراءها. وهكذا، إن تجديد الدين (الثابت بالحديث النبوي) يفترض
منطقيًّا أن تنشأ حالات يعاني فيها من الغربة، التي باتت تظهر في القرون المتأخرة على
أنها غربةٌ لجوهره بالذات.
وبحسب تعيين الواحد من مجدِّدي القرن التاسع عشر لأزمة مجتمعه، فإنه كان يرى هذه
الأزمة
بوصفها انعكاسًا لغربة الإسلام، وضياع جوهره؛ الأمر الذي يستلزم وجوب استعادة هذا
الجوهر وإحيائه. فإذ تعينَت الأزمة، بحسب الأستاذ الإمام محمد عبده، في ركود المجتمعات
الإسلامية وعطالتها التاريخية، فإنه قد رأى غربة الإسلام تتجلى فيما أصابه من الجمود؛
وعلى النحو جعل التجديد عنده يقوم في استعادة ما يرى أنه الجوهر الحركي والحي للدين
ابتداء من ربطه بحركة الواقع خارجه. ولقد مضى عبدُه إلى الربط الصريح بين الجمود، الذي
أصاب الإسلام وبين الغربة، التي تنبَّأ بها النبي؛ إلى الحد الذي بدا معه هذا الجمود
البابَ الذي تدخل منه الغربة إلى الإسلام. ومن هنا، ما صار إليه من أنه «إذا قيل لهم
[أي
للعلماء الجامدين]: اختلفَت الشئون، وفسدَت الملكات والظنون، وساءت أعمال الناس، وضلَّت
عقائدهم، وهوَت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال
الفقر، فتضَعضَعَت القوة، واخْتُرِق السياج، وضاعت البَيضة، وانقلبَت العزة ذلة، والهداية
ضلة، وساكنَتكم الحاجة، وألِفَتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهل
نبَّهكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم في عِلل ما صِرتُم وصار الناس
إليه؟
قالوا: ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكَّام ينظرون فيه، ويبحثون عن
وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا — ولن يفعلوا — فذلك لأنه آخر الزمان، وقد ورد في الأخبار
ما يدل على أنه كائنٌ لا محالة، وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض، ولا تقوم القيامة
إلا على لكع بن لكع. واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات، وأحاديث، وآثار تقطع الأمل، ولا
تدَع في نفسٍ حركةً إلى عمل؟!»
٢٨ ولعلَّه يمكن تصوُّر أن حديث «
بدأ الإسلام غريبًا وسيعود
غريبًا.» قد كان من بين تلك الأحاديث التي يحتجُّ هؤلاء الجامدون بها، لأنه
يجعل الغربة الواقعة بشارةً نبوية لا بد من تحقُّقها، وإلا فإنه يكون التكذيب
للنبي.
والجدير بالاعتبار ما يلاحظه الأستاذ الإمام من أن جمود الإسلام، وغربته من ثَم،
إنما
يرجع، في جوهره، إلى الانحياز للفقهي على حساب القرآني؛ حيث «جعل الفقهاء كتبهم هذه،
على علاتها، أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل بما فيها، وإن عارَض الكتاب
والسُّنة، فانصرفَت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرَت أنظارهم في كتب الفقهاء، على
ما
فيها من الاختلاف في الآراء والركاكة.»
٢٩ وهو يردُّ ركاكة هذا الإنتاج الفقهي إلى ما لا يمكن — على قوله — أن ينكره
أحد من «جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنِّفين، على تبايُنها واختلافها واضطراب
الآراء في فهمها. وإذا عرضَت حادثة من الحوادث، ولم يكن لمصنِّفٍ معروف رأي فيها، أحجموا
عن
إبداء الرأي، واجتهدوا في تحويلها عن حقيقتها إلى أن تتفق مع قولٍ معروف في كتاب من الكتب.»
٣٠ وهكذا، يتأتى الجمود من إكراه الوقائع المستحدثة على الدخول تحت آراء
الأقدمين؛ ولو كان ذلك بتحويل تلك الوقائع عن حقيقتها.
ولقد أدَّى هذا الجمود إلى إحداث «فصلٍ بين العامة ومَن يُرجى فيهم تقويم ما اعوج منها،
ووُكلَت [العامة] إلى أناسٍ منها لا عِلم لهم بالدين ولا بالأدب، وقد غرسوا في أذهان
الدهماء شر الغرس، ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر. فلو قام العالم بالدين، وأراد
أن
يبين حكم الله المصرَّح به في كتابه، وسنة نبيه
ﷺ، المجمع عليه عند
السلف قاطبة؛ لانتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (المؤمنون: ٢٤)، ويريد من آبائه الأولين: من رآهم بعد
ولادته، أو ذُكرَت له أسماؤهم بلسان مُضلِّيه، حتى صار إرشاد العامة اليوم أصعب الأمور
وأشقها على طالبه.»
٣١ فإنهم يرَون أن الخير كله يكون في «اتباع مَن سلف» بحسب ما قيل قبلًا.
وإذ يرى في الجمود أنه «جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة، وقصْر نظره عليه دون
التطلع إلى ما وراءه. أو هي السياسة تُحل ما تشاء وتحرم ما تشاء، وتصحح ما تشاء، وتعطل
ما تشاء، والناس منقادون إليها بأزمَّة القوة أو الأهواء.»
٣٢ فإن ذلك يكشف عن اقتراب الأستاذ الإمام من النظر إلى الجمود باعتباره أحد
تداعيات هيمنة النزعة الأبوية، التي حاربها القرآن بقوة وحسم؛ وبما يكشف عن وعي الأستاذ
بالمسافة الفاصلة بين «القرآن» وبين «السائد» في عصره. ولكي لا يحتجَّ أحدهم بأن الأبوية
عند هؤلاء الفقهاء الجامدين تُرادف تقليد السلف، فإن عبدُه يشير إلى أنها لا تُجاوز عندهم
حدود الآباء المباشرين والأقربين من الذين اتصلوا بهم، أو سمعوا عنهم؛ وعلى النحو الذي
يجعلها أقرب ما تكون إلى «الأبوية السياسية»، ولعلَّ ذلك يعني أن الأمر يتعلق بتكريس
الخضوع لسلطة ما هو «سائد»، ولو كان مما يتعارض — على قوله — مع الحكم المصرَّح به في
القرآن، والسُّنة، وإجماع السلف.
من المنطقي — والحال كذلك — أن يمضي الأستاذ الإمام إلى القطع بأن «ما وصفتُ من الجمود
لا يصح أن يُنسَب إلى الإسلام، وقد رأيتُ صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها، ليس فيها
ما يصح أن يكون أصلًا يرجع إليه شيءٌ مما ذكرتُ، ولا مما تنبَّأ بسوء عاقبته رينان وغيره.
إنما هي علةٌ عرضَت للمسلمين. عندما دخلَت على قلوبهم عقائد أخرى ساكنَت عقيدة الإسلام
في
أفئدتهم. وكان السبب في تمكُّنها من نفوسهم، وإطفائها نور الإسلام من عقولهم، السياسة،
كذلك تلك الشجرة الملعونة في القرآن: عبادة الهوى واتباع خطوات الشياطين، هو السياسة.»
٣٣ وإذَن، إن السياسة هي الأصل في جمود الإسلام وغربته؛ بما يجعل الأستاذ
الإمام يقترب في تحليله لعلة الجمود من معاصره الكبير عبد الرحمن الكواكبي. ولعلَّ كون
السياسة هي الأصل في هذا الجمود هو ما يفسر ما صار إليه الأستاذ من أنه قد «طال أمد هذا
الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثَت
عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول فيها.»
٣٤ وهكذا، إن السياسة ليست مسئولة فحسب عن صنع الجمود، بل إنها هي ما يقف وراء
أمد بقائه أيضًا.
وعلى الرغم مما يُحيل إليه ذلك من مركزية المسألة السياسية عند مفكِّري الإصلاح والنهضة
في القرن التاسع عشر، فإنه يَلزم التنويه إلى أن طول أمد الجمود قد جعله يستقل بمجالٍ
خاص
يعمل فيه بمعزلٍ عن أي شروط، وضد مرادات السياسة أحيانًا. ومن هنا، ما ورد في «تاريخ
الأستاذ الإمام» من أن جمود الفقهاء قد منعهم من التجاوب مع طلب الخديوي إسماعيل منهم
أن يغيِّروا في طريقتهم المتوارَثة للكتابة في الشريعة لتكون صالحة للاشتغال في ظروفٍ
متغيرة عن تلك التي عاش فيها القدماء. وعلى الرغم من أن الخديوي قد هدَّدهم بأنه سيكون
مضطرًّا، في حال تقاعسهم، إلى استبدال قوانين أوروبا وشريعة نابليون بشريعة الإسلام،
فإنهم لم يتزحزحوا عن موقفهم الرافض لأي خروج عن طريقة القدماء في الكتابة والتفكير.
٣٥ وبطبيعة الحال، ذلك يعني أن الجمود يشتغل، هنا، لا بفضل السياسة، بل على
الرغم منها بالأحرى. ولسوء الحظ، إن ذلك يؤشِّر على تحوُّل الجمود إلى بنيةٍ مستقلة متعالية
تعمل في انفصالٍ عن أي شروطٍ عينية قابلة للتحديد.
وقد سعى الإمام إلى بيان ما جناه الجمود على الإسلام (عقيدة وشريعة). ومن ذلك ما
مضى
إليه من أن «الجمود في أحكام الشريعة [قد] جرَّ إلى عُسر حمل الناس على إهمالها: كانت
الشريعة الإسلامية، أيام كان الإسلام إسلامًا سمحًا، تسع العالم بأسْره، وهي، اليوم،
تضيق على أهلها، حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا
يرتقي إليها، وأصبح الأتقياء من حَمَلتِها يتخاصمون إلى سواها. صعب تناوُل الشريعة على
الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى علمها، فلا ترى العارف بها من الناس إلا
قليلًا لا يُعَد شيئًا إذا نُسِب إلى مَن لا يعرفها. وهل يُتصوَّر من جاهلٍ بشريعة أن
يعمل
بأحكامها؟! فوقع أغلب العامة في مخالفة شريعتهم، بل سقط احترامها من أنفسهم. لأنهم لا
يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم بمقتضى نصوصها، وأول مانعٍ لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة
العبارات وكثرة الاختلاف.»
٣٦ وهكذا، إن الجمود قد آل إلى تضييق مجال الشريعة على النحو الذي لم تعُد تتسع
لما يقع في عالم الناس، ما اضطرهم إلى مخالفتها، وعدم احترامها، بعد أن تعذَّر عليهم
العمل بمقتضى نصوصها.
وفيما يخص العقيدة، إن جمود المتأخرين على ما يصل إليهم من المتقدمين من دون فحص،
أو
بحث في دليل، قد أدخل العديد من المعتقدات، التي أفسدَت الدين. فإن الناس، تحت تأثير
المنقول عن السابقين، قد «نسوا ما جاء في الكتاب وأيَّدَته السُّنة من أن الإيمان يعتمد
اليقين، ولا يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله، وعلمه،
وقدرته، والتصديق بالرسالة، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال
الآخرة، وفروض العبادات، وهيئاتها، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه
من النقل، فهو مستقل — لا محالة — في الاعتقاد بوجود الله، وبأنه يجوز أن يرسل الرسل
فتأتينا عنه بالمنقول … وقد انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه
لنا السلف، رضي الله عنهم، فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه، ويمتحنون قوله، حتى
يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة. ولكن جمود المتأخر على ما يصل إليه من
المتقدم صيَّر النقل فوضى، فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه، وظن أنه أهل للأخذ عنه، دون بحث
ولا تنقيب، حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية
منه من حين إلى حين. وكل ما تراه من البدع المتجددة فمنشؤه سوء الاعتقاد الذي نشأ من
رداءة التقليد، والجمود عند حد ما قال الأول دون بحث في دليله، ولا تحقيق في معرفة
حاله، وإهمال العقل في العقائد على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسُّنة الطاهرة.
دخلَت على الناس لذلك عقائد يحتاج صاحب الغيرة على الدين، في اقتلاعها من أنفسهم، إلى
عناءٍ طويل، وجهادٍ شديد، وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض مَن تقدَّم ممن يعرف،
وممن
لا يعرف. وما أكثر من ينصر أعداءه اليوم، وما أقلهم غدًا إن شاء الله.»
٣٧ وإذَن، إنه التقابل، مرةً أخرى، بين العقيدة «في القرآن»، وبين العقيدة
«بحسب أقوال الموثوق بهم ممن تقدَّم»، تمامًا كالتقابل بين شريعة القرآن وشريعة
الفقهاء.
وقد تجاوزَت آثار الجمود حدود العقيدة والشريعة إلى ما سواهما من مجالات اللغة
والاجتماع وغيرهما. فإذ لا مدخل إلى الشريعة إلا من باب اللغة، فإنه كان من المنطقي أن
يُنظَر إلى جمود اللغة من زاوية الأثر، الذي يتركه على الشريعة والشأن الديني على
العموم. ومن هنا، مضى إلى أن «أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية،
وأساليبها، وآدابها، فإن القوم كانوا يُعنَونَ بها لحاجة دينهم إليها، أريد حاجتهم في
فهْم كتابهم إلى معرفة دقائق أساليبها، وما تشير إليه هيئة تراكيبها، وكانوا يجدون أنهم
لن يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم، يساوُون من كانوا عربًا بسلائقهم، فلما لم
يبقَ
للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم، قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام من قبلهم،
واكتفوا بأخذ حكم الله منه دون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل ووجدوه غير
دالٍّ له، بل دالًّا لخصمه، بأن كان قد عرض له في فهمه ما يعرض للبشر الذين لم يقرر الدين
عصمتهم، لَخطَّئوا نظرهم، وأعمَوا أبصارهم، وقالوا: نعوذ بالله أن تذهب عقولنا إلى غير
ما ذهب إليه متقدِّمنا، وأرغموا عقلهم على الوقفة.»
٣٨ وهكذا، يبلغ الأمر حد إرغام العقل على التوقف، لاستحالة أن يكون له رأي
يخالف رأي المتقدِّم الذي يقلدونه. ولهذا، لا ينظرون في أدلة الحكم الشرعي؛ بل يأخذونه
من
مجرَّد الكلام بحسب فهم مرجعهم المتقدم له. وفي هذا الأخذ من الكلام «لا ينظرون إلا إلى
اللفظ وما يعطيه، ولا يُبالون بما يحف بالقول من أحوال الزمان.»
٣٩ بما يعنيه ذلك من التعامل مع اللغة خارج سياق المجتمع والتاريخ اللذين
يؤدِّيان دورًا حاكمًا في إنتاج دلالتها.
أما جناية الجمود على النظام والاجتماع، فتمثَّلَت في «جناية التفريق، وتمزيق نظام
الأمَّة، وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف، وتفرق المذاهب والشيع في الدين.
كان اختلاف السلف في الفُتيا يرجع إلى الاختلاف في أفهام الأفراد، وكلٌّ يرجع إلى أصلٍ
واحد لا يختلفون فيه، وهو كتاب الله، وما صح من السُّنة، فلا مذهب، ولا شيعة، ولا عصبية
تقاوم عصبية. ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما صرح به جميعهم.
ثم
جاء أنصار الجمود فقالوا: يولد مولود في بيت رجل من مذهب إمام، فلا يجوز له أن ينتقل
من
مذهب أبيه إلى مذهبٍ آخر، وإذا سألتَهم قالوا: «وكلهم من رسول الله ملتمس!» لكنه قول
باللسان لا أصل له في الجنان.»
٤٠ ويعني ذلك أن الجمود قد أحال الاختلاف بين أصحاب المذاهب الفقهية من عنصر
«تعدُّد وإثراء» إلى عامل «تفرُّق وإفقار».
الجدير بالملاحَظة ما ينحو إليه الأستاذ الإمام من الربط بين هذا الجمود (المرادف
لغربة الإسلام) وبين الانحراف عن التعامل المنفتح مع أصول الإسلام الكُبرى (قرآنًا
وسنة)، والسقوط في ضرب من الاتباع الصارم لما قام السابقون من تكريسه من القواعد
والتقاليد، التي راح يجري التعامل معها على أنها هي الدين. وبطبيعة الحال، كان لا بد
من
أن يمضي إلى تأكيد أن هذا الدين المعاصر دينٌ مغايِر بالكلِّية للدين الحقيقي. ومن هنا
أنه
راح يتحسر على ما آل إليه وضع الإسلام، قائلًا: «وا أسفا! لم يبقَ للمسلم من الدين إلا
هذه الثقة فيه. أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه،
وتبدلَت في فهمه حقيقته، وانطمسَت في نظره طريقته، وحُق فيه قول علي كرم الله وجهه: إن
هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا!»
٤١ وعلى الرغم من تأكيد الأستاذ الإمام أنه لن يبحث في الأسباب التي وصلَت
بالدين، في نفس المسلم، إلى الوضع الذي انقلب فيه عن حقيقته بالكلِّية، لم يتردد في القطع
بأنه «قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه، وتسرَّب في عقائده، من حيث لا يشعر، ما
لا
يتصل بأصلها، بل يهدم قواعدها، ويأتي على أُسسها. عرضَت البدع في العقائد والأعمال، وحلَّت
محل الاعتقاد الصحيح، وأخذَت مكان الشرع القويم، وظهرَت آثارها في أعماله، وعمَّ شؤمها
جميع أحواله.»
٤٢
ولعلَّه يمكن القول — والحال كذلك — إن الأستاذ الإمام يمايز بين «إسلام القرآن»
والسُّنة
والسلف الأول، وبين «إسلام البدعة»،
٤٣ وتقليد الخلف المتأخر. وبطبيعة الحال، إسلام البدعة هو إسلام الغربة، الذي
يسعى الأستاذ إلى رفعه ليحل محله إسلام القرآن الأصيل. وهو يفعل ذلك لما يراه من
مسئولية إسلام البدعة/الغربة عن كل «ما أصاب المسلمين في عقولهم، وعزائمهم، وأعمالهم،
بسبب ابتداعهم في دينهم، وخطئهم في أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله. ولهذا سلط الله
عليهم من يسلبهم نعمةً لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قِبَل لهم
بدفعه، إلا إذا تداركهم بلطفه. وقد ابتلاهم بمن يُلصِق بدينهم كل عيب، ويقرنه — إذا
ذكره — بما يتبرأ منه، يَعُدُّه حجابًا بين الأمم والمدنية؛ بل يعده نبع شقائهم وسبب
فنائهم.»
٤٤ ومن هنا ما لاحظه الإمام من أن «هؤلاء الإفرنج يأخذون مطاعنهم في الإسلام
من سوء حال المسلمين، مع جهلهم بحقيقة الإسلام. إن القرآن نظيف، والإسلام نظيف، وإنما
لوَّثه المسلمون بإعراضهم عن كل ما في القرآن، واشتغالهم بسفاسف الأمور.»
٤٥ وإذ يبدو، هكذا، أن إسلام البدعة، أو الغربة، هو المسئول عما يجابهه
المسلمون من التأزم، ومن سوء الفهم مع الإفرنج، فإن إسلام الأصول الأُولى (وعلى رأسها
القرآن) سيكون هو الباب لإخراج المسلمين مما يجابهون من التأزم الذاتي، ومن سوء الفهم
(الذي لا يزال قائمًا) مع الإفرنج.
وإذا كان اشتغال الأستاذ الإمام بالمجال الديني قد جعله يتداول المفردات اللصيقة
بمحال اشتغاله كمفردة البدعة، فإن ربط قاسم أمين تفكيره بالمجال الاجتماعي (وما يخص،
بالذات، الوضعية المتدنية للمرأة)، قد جعله ينحاز إلى المفردات اللصيقة بمجال اهتمامه.
وهكذا، إن كون مصطلح «العادة» الأكثرَ تداولًا في المجال الاجتماعي قد جعل «إسلام
البدعة» يتحول عنده إلى «إسلام العادة»؛ فقد انطلق أمين إلى عمله الإصلاحي من بيان
الكيفية، التي تسيطر بها العادات الاجتماعية على الدين، وتحيله إلى محض قناعٍ تشتغل من
تحته؛ وإلى الحد الذي تكتسب معه قداسته؛ بل تصبح هي نفسها دينًا. فإن العادات لا تكون
على درجةٍ واحدة من الرسوخ؛ بل إن منها ما يكون أقل رسوخًا؛ حيث يقبل الزوال، ومنها ما
يضرب بجذوره غائرًا في عمق البناء الاجتماعي؛ على النحو الذي يتعذر معه اقتلاعها. وتظهر
المشكلة حين يكون الدين حاملًا ما يستلزم التحرر من سلطان تلك العوائد الراسخة. فإنه
يحدث، آنئذٍ، أن تسعى هذه العوائد للتخفي تحت قشريات هذا الدين، على الرغم من تناقضها
شبه الكامل مع جوهره. ومن هنا، تحديدًا، يبدأ «دين العادة» في التبلور، بل
والرسوخ.
وهنا، يَلزم التنويه إلى أن الفقه كان الباب الذي تسللَت منه العادات والأعراف إلى
الدين؛ إلى الحد الذي أصبحَت معه جزءًا منه. فقد جعل الفقهاء من العرف أحد الأدلة، التي
يثبت بها الحكم الشرعي شأنه تمامًا شأن النص؛ حتى لقد قيل إن «الثابت بالعرف ثابت بدليلٍ
شرعي، وفي «المبسوط»: الثابت بالعرف كالثابت بالنص.»
٤٦ وقد ألحَّ الفقهاء، في سعيهم إلى ترتيب العلاقة بين النص (قرآنًا وسنة)
والعرف، على أن «ما لم يخالِف منه [أي العرف] نصًّا صريحًا فهو جائز»؛ بل إنهم جعلوه
واجبًا بتقريرهم أنه «حيث لا مُحرَّم، فلا بد من الأخذ به؛ لأن الناس خاضعون له [أي العرف]
بحكم الإلْف والاعتياد، وليس لأحد أن يمنعهم من الأخذ به إلا بنصٍّ مُحرِّم.»
٤٧ وعلى الرغم من ذلك، قد أجازوا أعرافًا وعاداتٍ بدا أنها تخالِف نصوصًا؛ وذلك
من خلال ما قالوا إنه تخصيص العرف للعام، وتقييده للمطلَق من النصوص. «ومن أمثلة ذلك
إجازة بعضهم بيع ثمار البستان إذا كان بعضها قد خرج، وبعضها لم يخرج؛ لأن العرف جرى
بذلك. وقال شمس الأئمة: أستحسِن ذلك لِتعامل الناس به، فإنهم تعاملوا ببيع ثمار الكرم
بهذه الصفة، ولهم في ذلك عادةٌ ظاهرة، وفي نزع الناس من عاداتهم حرج. ومع أن هذا، أيضًا،
ينطبق عليه أنه بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو ما نُهِي عنه [بالنص]؛ لأن الثمار التي
تتلاحق ليست موجودة كلها، فخصصوا النص بالعرف.» وهكذا، إن ما يقول به النص على العموم
يتخلَّف، من خلال تخصيصه بما جرى به العرف. وإذا كان ذلك هو الباب الذي تسللَت منه
الأعراف والعادات إلى الفقه، فإنه لا مشكلة في ذلك من حيث المبدأ؛ وذلك انطلاقًا مما
قرره الفقهاء من أن تبدل العادات لا بد من أن يؤدِّي إلى تبدل الأحكام الشرعية التي تنبني
عليها. فإن من العادات ما يكون ثابتًا، ومنها ما يكون متبدِّلًا؛ «والمتبدلة منها ما
يكون
متبدِّلًا في العادة من حُسنٍ إلى قُبح، وبالعكس، مثل كشْف الرأس؛ فإنه يختلف بحسب البقاع
في الواقع، فهو لذَوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية،
فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة، وعند أهل
المغرب غير قادح.»
٤٨ يتعلق الأمر، إذَن، بعادةٍ واحدة يتباين الموقف منها في مكانَين مختلفَين في
زمانٍ واحد؛ وبما أدَّى إلى تبايُن الحكم الشرعي على ذات العادة بين الفقهاء في المشرق
والمغرب.
ولكن المشكلة تأتي من تبايُن عادةٍ واحدة في مكانٍ واحد في زمانَين مختلفَين. ولقد
ترتب
على ذلك أن ثار السؤال: «ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي، ومالك،
وغيرهما، المُرتَّبة على العوائد والعرف، اللذين كانا حاصلَين حال جزم العلماء بهذه
الأحكام، فهل إذا تغيرَت تلك العوائد، وصارت العوائد لا تدل على ما كانت تدل عليه أولًا،
فهل تبطُل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويُفتَى بما تقتضيه العوائد المتجددة،
أو يقال نحن مقلدون، وما لنا إحداث شرعٍ لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب
المنقولة عن المجتهدين؟»
٤٩ وعلى الرغم مما أجاب به القرافي من «أن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد
مع تغيُّر تلك العوائد [هو] خلاف الإجماع وجهالة في الدين؛ بل كل ما هو في الشريعة يتبع
العوائد؛ يتغير الحكم فيه إلى ما تقتضيه العادة المتجددة.»
٥٠ فإنه يبدو أن سيادة التقليد في فقه عصر الجمود قد رسَّخَت قاعدة «الإفتاء بما
في كتب المجتهدين [المتقدمين]» بحسب ما أفاض محمد عبده في بيانه والتأكيد عليه. ويعني
ذلك أن كون العوائد قد تغيرَت لم يمنع المقلدين من الاستمرار في الإفتاء فيها بالحكم
الذي كان لها في حالها الأول؛ على النحو الذي آل إلى تكريس ما سيقول عنه قاسم أمين،
لاحقًا، إنه «إسلام العوائد». ولسوء الحظ، يبدو أن العوائد تكاد تكون هي الأصل الذي
تقوم عليه الأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء؛ وبما يكشف عن التبايُن ملحوظًا بين حضور
المرأة الأرقى في الفضاء القرآني، مقارنًا بحضورها الأدنى في الفضاء الفقهي. وللغرابة،
يجري النظر إلى أي محاولة للانتقال بأحكام النساء من فضاء الفقه إلى فضاء القرآن، على
أنها نقض للدين، وخروج من الملة.
إن مأزق «إسلام العادة»، إنما يتأتى، في الجوهر، من أن اكتساب العادة قداسة الدين
يُضفي عليها سمة الثبات التي تكون للمُقدَّس؛ بينما العادات لا تتطور بطبيعتها فحسب مع
تطور الحالة العقلية للجماعة البشرية، بل إنها تتباين من جماعة إلى أخرى بحسب التبايُن
بينهما في درجة التطور الاجتماعي. وهكذا، سيجري التعامل مع عادات جماعة بعينها في مكانٍ
ما، أو في زمانٍ ما، على أنها دين (أو شرع) واجب الاتباع. وعندئذٍ، سيجري النظر إلى أي
خروج على تلك العادات، على أنه خروج على الدين والشرع؛ بينما الأمر، في حقيقته، لا
يجاوز أنه مجرَّد خروج على العادة التي تراوغ فتجعل من نفسها دينًا وشريعة. وتبعًا لذلك،
يرد قاسم أمين على من يَصِمونه بإتيان البدعة «نعم. أتيتُ ببدعة، ولكنها ليست في
الإسلام؛ بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمَد طلب الكمال فيها.»
٥١ ويعني أنه يقبل أن يكون ما يقوم به من «البدعة»؛ على شرط أن يكون معلومًا
أنها بدعة في إسلام العادة، وليس إسلام القرآن. وبطبيعة الحال، يرتب ذلك على ما يقطع
به
من «أن الدين الإسلامي الصحيح [إسلام القرآن والسُّنة الثابتة] قد تحول، اليوم، عن أصوله،
واستتر تحت حجُب من البدع [التي مصدرها العوائد]، ووقف نموُّه، وانقطع ارتقاؤه من عدة
قرون، وظهر لهذا الانحطاط الديني أثرٌ عظيم في أحوال المسلمين.»
٥٢ المؤكَّد أن انقطاع ارتقاء الدين لا يعني، عند أمين، إلا توقُّف التفكير فيه
على نحوٍ يكون معه قادرًا على التجاوب مع ارتقاء المدنية. وهو ينقطع عن الارتقاء بسبب
استتار جوهره واغترابه تحت حجُب البدع، التي ترجع بأصلها إلى العوائد والتقاليد
الاجتماعية، التي تكون نتاج لحظةٍ بعينها في مسار التطور الاجتماعي للأمَّة.
وهو يقوم بتفصيل ذلك منطلقًا من أن «لكل أمَّة، في كل مدةٍ من الزمن، عوائد وآدابًا
خاصة
بها، موافِقة لحالتها العقلية. وأن تلك العوائد والآداب تتغير، دائمًا، تغيُّرًا غير
ملموس
تحت سلطان الإقليم، والوراثة، والمخالطات والاختراعات العلمية، والمذاهب الأدبية،
والعقائد، والنظامات السياسية، وغير ذلك؛ وأن كل حركة من حركات العقل نحو التقدم
يتبعها، حتمًا، أثرٌ يناسبها في العادات والآداب. وعلى ذلك يَلزم أن يكون بين عوائد
السوداني والتركي، مثلًا، من الاختلافات بقدر ما يوجد بين مرتبتَيها في العقل.»
٥٣ وترتيبًا على ذلك، «لا يمكن أن يتصوَّر أحد أن العادات، التي هي عبارة عن
سلوك الإنسان في نفسه، ومع عائلته، ومواطنيه، وأبناء جنسه، تكون في أمَّةٍ جاهلة، أو
متوحشة مثل ما تكون في أمَّةٍ متمدنة؛ لأن سلوك كل فردٍ منهما إنما يكون على ما يناسب
مداركه ودرجة تربيته.»
٥٤ وإذَن، يشير إلى التبايُن في عادات الأمَّة الواحدة بين لحظةٍ وأخرى من جهةٍ،
وبين أمَّةٍ وأخرى، على أساس التبايُن بينهما في مدارج الترقي العقلي والمدني من جهةٍ
أخرى.
وإذ ترتبط العادات — والحال كذلك — «بمنزلة الأمَّة من المعارف والمدنية، فإن [ذلك
قد
جعل] سلطان العادة أنفذ حكمًا من كل سلطان؛ [إلى الحد الذي راحت معه] تتغلب، دائمًا،
على غيرها من العوامل والمؤثِّرات، حتى على الشرائع.»
٥٥ وليس من شكٍّ في أنه يمكن للمرء أن يرتب على ذلك أن كوْن العرب، في أول عهدهم
بالإسلام، كانوا (على قول ابن خلدون) أمَّةً وحشية غير متمدنة، إنما يَلزم عنه أن عاداتهم،
التي كانت تناسب حالتهم غير المتمدنة، قد راحت تفرض سلطانها على الدين. وبطبيعة الحال،
إن ترقي الأمَّة، في الحالة العقلية والمدنية، سوف يَلزم عنه اختلاف العادات وترقيها
بدَورها. ولكن المأزق يأتي من أن عادات الأمَّة الأولى، التي ترتبط بحالتها العقلية
والأدبية الأقل رقيًّا، تكون قد تحولَت — كما سبق القول — إلى دين وشريعة، وتظل، لهذا
السبب، تفرض سلطانها على الأمَّة في طَورها المدني الأرقى. وبحسب ذلك، سيجري النظر إلى
كل
محاولة للتحول عن الأحكام التي فرضَتها العادات على الشريعة على أنها «بدعة» وخروج عن
الشريعة، وليس عما فرضته العادة عليها. وهكذا، يبلور أمين المقدمات الضرورية، التي
سيؤسس عليها دعواه القاضية بأن التدني بمكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية هو نتاج
«إسلام العادة»، وليس الإسلام الأول، أو «إسلام القرآن والسُّنة الثابتة».
وهنا، إذا كانت غربة الإسلام قد بدأَت — والحال كذلك — من خضوعه لتسلل العوائد
المناقضة لجوهره بالذات، ودوام اشتغالها تحت قشوره، فإن تخليصه من غربته يرتبط بتحريره
من السطوة الطاغية لتلك العوائد؛ وذلك على النحو الذي يسمح باشتغال جوهره. ولعلَّه يَلزم
التنويه بأن وجه الإشكال لا يتأتى من اشتغال العوائد مع الدين، بقدر ما يأتي من «أن
العادات قد تتغلب على الدين نفسه، فتفسده، وتمسخه، حيث ينكره كل من عرفه.»
٥٦ ينبثق المأزق، إذَن، حين تكون العادة مفسدة للدين، وماسخة له.
ومن جهةٍ أخرى، إذا كانت العوائد والتقاليد هي ما تركَنا عليه الآباء، فإنه يُلحُّ على
أن «التزامنا بما وجدْنا عليه آباءنا، وعدم الخروج عن الدائرة التي رسموها لأنفسهم [إنما
يعني] القضاء على الأمَّة الإسلامية بجمود القرائح، وتقييد الأرجل، وغل الأيدي عن كل
عمل
تحفظ به كونها، وتدافع به عن وجودها، وتتقدم به في سبيل سعادتها؛ بل قد يكون قضاء عليها
بالمحو والاضمحلال.»
٥٧ وإذ يبدو أنَّ أمينًا يجعل «إسلام العوائد» هو الإسلام، الذي لا حجة عليه
إلا أنه «ما كان عليه الآباء»، فإنه يقترب بأصحاب هذا الإسلام من وضع أولئك الذين علقوا
— حسب القرآن — رفضهم لرسل السماء على احتجاجهم:
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (الزخرف: ٢٣). ولعلَّ ذلك يعني أنه يجعل
منهم، لا أصحاب دين، بل أصحاب تقليد وتقديس للآباء (إلى الحد الذي يَئول بهم إلى إنكار
وحي السماء)، وبما يدنو به مما صار إليه الإمام محمد عبده بخصوص الجمود
والأبوية.
وبطبيعة الحال، كان قاسم أمين يرى أن كل أشكال التأخر والانحطاط بالمرأة وغيرها إنما
ترجع إلى هذا الإسلام الغريب عن الإسلام الأصل؛ ويعني إسلام العوائد، وتقديس الآباء،
وليس إسلام القرآن، والسلف الأول. ومن هنا ما صار إليه من أنه «لما لم يكن هناك أمر
يشمل المسلمين جميعًا إلا الدين، ذهب جمهور الأوروبَّاويين، وتبِعهم قسمٌ عظيم من نخبة
المسلمين، إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم حتى الذين
يشاركونهم في إقليم ويساكنونهم في البلد الواحد، ولم يقصد أحدٌ منهم، ولا سيما أفاضل
المسلمين المشتغلين بأحوال الأمم الإسلامية، أن يتهم الدين الإسلامي الحقيقي بأنه السبب
في انحطاط المسلمين.»
٥٨ وهكذا، إن تفكير رجل الإصلاح يتجلى في إرجاع الأزمة، التي يجابهها مجتمعه،
إلى إسلام الغربة؛ ولا بد من أن يترتب على ذلك أنَّ تَجاوز تلك الأزمة يكون مرتبطًا
باستعادة جوهر الإسلام الأصل.
وهنا يَلزم التنويه بأن إسلام الأصل لا يمثِّل، عند رجُل الإصلاح، حالةً جاهزة قائمة
في
الماضي؛ بل إنه يتبدَّى بما هو تجربةٌ انفتح فيها الإسلام على العقل. ولعلَّه يمكن القول:
إن
قصْد رجل الإصلاح من التمييز بين «إسلام الأصل الأول» وبين «إسلام العادة»، قد يكون هو
السعي إلى تفكيك المطابقة التي يقيمها أصحاب إسلام العوائد المتأخر مع إسلام الأصل
الأول. ومن هنا ما يمضي إليه أمين من استنكار نسبة تأخُّر المسلمين في المدنية إلى إسلام
الأصل الأول؛ إذ «مَن ذا الذي يقول: إن الدين الإسلامي، الذي يخاطب العقل، ويحث على
العمل والسعي، يكون هو المانع من ترقِّي المسلمين؟ وقد برهن المسلمون (الأوائل بطبيعة
الحال) أن دينهم عامل من أقوى العوامل للترقي في المدنية، ولا يجوز، بعد سطوع هذا
البرهان التاريخي، أن يرتاب أحد في هذه المسألة.»
٥٩ وهكذا، لا يرى في إسلام الأصل الأول حالةً جاهزة في الماضي لا بد من
استعادتها في الحاضر، بقدر ما يراه الإسلام المنفتح على العقل، والسعي، والعمل. وغنيٌّ
عن
البيان أن هذا الإسلام، الذي لا يكون تحقُّقًا نهائيًّا؛ بل إنه في حالة تحقُّقٍ دائم،
لا
يمكن أن يكون مانعًا من ترقِّي المسلمين، بل إنه يكون عاملًا من عوامل تقدمهم في
المدنية.
وعلى الرغم من أن رجل الإصلاح التونسي الطاهر الحداد كان يفكر ضِمن المجال نفسه،
الذي
انشغل قاسم أمين بالتفكير فيه؛ وهو المكانة المتدنية للمرأة في المجتمع، فإنه كان
الأكثر صراحة (بحسب ما يبدو من عنوان كتابه «
امرأتنا في الشريعة
والمجتمع») في تأكيد أن هذه المكانة المتدنية هي نتاج إرادة المجتمع،
وليس فروض الشريعة. ومن هنا ما يكاد يقرره من أن غربة الإسلام قد نتجَت عن هجر شريعة
القرآن لحساب انحيازات الفقهاء، التي تضرب بجذورها في التقليد الاجتماعي؛ وبما يترتب
على ذلك من أن باب التجديد ينفتح عنده بالعودة إلى شريعة القرآن. ومن هنا تعجبه: «ولكن
أين نحن من القرآن، فقد نسخْنا نوره بأقوال الجامدين من فقهائنا على أقوال من تقدمهم.»
٦٠
وإذ يؤكِّد أن تيار «الجامدين من الفقهاء» هو الذي غلب على تاريخ المسلمين، فإنه
يستفيض
في بيان الآليات، التي آلت إلى تثبيت هذا الجمود. فإن «عامة فقهاء الإسلام من سائر
القرون، إلا ما شذ، يجنحون إلى العمل بأقوال من تقدمهم في العصر، ولو بمئات السنين.
ويحكمون بأحكامهم مهما تباينَت أحوال المجتمعات الإسلامية باختلاف العصور. وهم يميلون،
في أخذ الأحكام، إلى تفهُّم ألفاظ النصوص، وما تحتمل من معنًى أكثر بكثير مما يميلون
إلى
معرفة أوجه انطباق تلك النصوص على حاجات العصر، وما تقتضيه مصلحة المجتمع الحاضر الذي
يعيشون فيه.» وهو يردُّ تفكيرهم على هذا النحو إلى «بُعد الصلة بينهم وبين دراسة الأحوال
الاجتماعية، التي يجتازها المسلمون لمعرفة أوجُه الأحكام الصالحة لحياتهم. وهذا الجهل
الواضح هو الذي منعهم من الشعور بحاجة المسلمين في تطور الحكم، في تطور الحياة، فيلجئون
إلى تفهُّم روح الشريعة ومراميها المملوءة بكنوز الحياة والنجدة لمن يطلبها.» وعلى الرغم
من أنه «لا ينكر اليوم وجود بعض من شيوخ العلم يدركون ما يَلزم لحياتنا من تطوُّرٍ تحميه
الشريعة ولا تأباه علينا، «فإنه يقرر» أن هيبة الماضي الماثلة في ذهنية أوساطهم قد
جعلَتهم يميلون عن الصراحة في الحق، مفضِّلين الانكماش كعامة رفقائهم من الشيوخ تحقيقًا
لعيشٍ هادئ يختارونه من هذا النحو. ولم يشذ عن هؤلاء، في تاريخ الإسلام أو حاضره، إلا
أفذاذٌ كان للحق صولة على قلوبهم، فزلزل منها روح المداراة السائدة في أوساطهم، وهُم
على
اختلاف مراتبهم في القرب من الحق، والصراحة فيه، لا يمثِّلون العالم الإسلامي التائه
المغرور إلا أصواتًا ضائعة كما تضيع أصوات التائهين في أعماق الصحراء.» ومن هنا، كان
الجمود السمة الغالبة على تفكير الفقهاء؛ حيث يمكن القول إن «مجموع هذه الأحوال الآتية
من تاريخنا مصدرٌ هائل لجمود الفقه والقضاء في الإسلام، والقول بانتهاء أمد الاجتهاد
فيهما. وبذلك حكَمنا على مواهبنا بالعقم، وأنفسنا بالموت، وعلى من يحاول منا علاج هذه
الحالة بأنه مُفسِد يحاول حرب الإسلام، ونقض الشريعة. وبذلك، مكَّنَّا أعداء الإسلام
من
الطعن فيه، وأبناءه المحبين للحياة من الخروج عليه. وهو حالنا اليوم. فيا لنا من أمَّة
هلكَت بجهلها، وجمود علمائها، وخداع أشرارها، ويا لله للإسلام الغريب المجهول بين
المسلمين!»
٦١
وإذا كان هذا الإسلام الغريب المجهول هو «إسلام الأصل/الأول»، الذي أضاعه الجامدون
من الفقهاء، الذين تحكَّموا في مسار التطور في العالم الإسلامي، فإن هذا الإسلام «بريء
من
تهمة تعطيل الإصلاح؛ بل هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب. [ولهذا فإنه] ما كان
انهيار صرحنا إلا من أوهام اعتقدناها، وعادات مهلكة وفظيعة حكَّمناها في رقابنا.» وإذَن،
إنه التقابل — حسب الحداد — بين الإسلام البريء من تعطيل الإصلاح وبين الإسلام الذي
ترقد تحته العادات؛ بل الأوهام. وإذ ترتبط «الأزمة» بإسلام العادة والوهم، فإن «التجديد
والإصلاح» يرتبطان بإسلام الأصل/الأول.
ومن جهته، انطلق عبد الرحمن الكواكبي من الإقرار بأن «أصل الداء هو الاستبداد
السياسي، ودواؤه [يكمن في] دفعه بالشورى الدستورية.»
٦٢ بما يعنيه ذلك من تصوُّر أن غربة الإسلام تقوم عنده في تحويله من دين للشورى،
إلى دين للاستبداد؛ وعلى النحو الذي جعله يلخص فعل التجديد في استعادة «النظام الشوروي
المأمور به.»
٦٣ بما هو جوهر الإسلام. ومن هنا، يضع عبء غربة الإسلام بالكامل على كاهل
«المستبدين وشركائهم، الذين جعلوا الدين غير الدين الذي أنزله الله.»
٦٤ ويردف ذلك بالقول إنه «لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم
رسولًا من أنفسهم أسس لهم أفضل حكومةٍ أُسسَت في الناس، جعل قاعدتها قوله: «
كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيَّته.» أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام
ومسئول عن الأمَّة. وهذه الجملة، التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّعٌ سياسي من الأولين
والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّفَ المعنَى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راعٍ
على عائلته، ومسئول عنها فحسب. كما حرَّفوا معنى الآية:
وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (التوبة: ٧١) إلى ولاية الشهادة دون
الولاية العامة. وهكذا، غيَّروا مفهوم اللغة، وبدلوا الدين. وطمسوا على العقول حتى جعلوا
الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمَّة نفسها دون
سلطانٍ قاهر.»
٦٥ وإذ يؤسس الاستبداد نفسه — والحال كذلك — على ما يقوم به العلماء المنافقون
أو المدلسون من تحريف المعنى، فإنه يضع عبء إضاعة الدين؛ لا على كاهل المُستبدِّين
وحدهم، بل يضيف إليهم داعميهم ممن يسميهم «فقهاء الاستبداد». ومن هنا، ما صار إليه من
أن «الطامة [جاءت] من تشويش الدين والدنيا على العامة بسبب العلماء المدلسين، وغلاة
المتصوفين، الذين استولوا على الدين فضيَّعوه وضيَّعوا أهله.»
٦٦
فإن «الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، والظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه
… قد سطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة، وتقسيم
الأمَّة شيعًا، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية، فضيعوا مزاياه، وحيروا أهله بالتفريع،
والتوسيع، والتشديد، والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان
السائرة، حتى جعلوه دينًا حرجًا يتوهم الناس فيه أن كل ما دوَّنه المتفننون بين دفتَي
كتاب
ينسب إلى اسم إسلامي هو من الدين.»
٦٧ ولقد تمثلَت آلية العلماء الرئيسة في تضييع الدين فيما أشار إليه الكواكبي
من أنهم قد «تجاسَروا على وضع أحاديث مكذوبة أشاعوها في مؤلَّفاتهم حتى التبس أمرها على
كثير من العلماء المخلصين من المتقدمين والمتأخرين، مع أنها لا أصل لها في كتب الحديث
المعتبَرة. وجلبوا الناس بالترهيب والترغيب ترغيبًا بالاستفادة من الدخول في الرابطات،
والعصبيات المنعقدة بين أشياعهم، وترهيبًا بتهديدهم معاكسيهم، أو مسيئي الظن بهم، أو
بإضرارهم في أنفسهم، وأولادهم، وأموالهم، ضررًا بتعجلهم في دنياهم قبل آخرتهم … حتى
صارت هذه الأوهام السحرية والخزعبلات كأنها هي دين معظم أهلها، لا الإسلام … فهؤلاء
المدلسون قد نالوا، بسحرهم، نفوذًا عظيمًا به أفسدوا كثيرًا في الدين.»
٦٨ وهم لم يقفوا عند حد وضع الأحاديث المكذوبة، بل إنهم قد انتزعوا «بعض تلك
المزايدات [التي زادوها في الدين] من مشكلات الأحاديث والآثار، وما جاء عن النبي
ﷺ على سبيل الحكاية، أو على سبيل العادة؛ أي لم يكن ذلك منه
ﷺ على سبيل التشريع، أو من الأحاديث التي وضعها أساطينهم إغرابًا في الدين لأجل جذب القلوب.»
٦٩ وهكذا «بالتمادي [في تلك التزيدات] عظم التشديد في الدين حتى صار إصرًا
وأغلالًا، فكأننا لم نقبل ما منَّ الله به علينا من التخفيف، فوضع عنا ما كان على غيرنا
من ثقيل التكاليف. قال تعالى شأنه، وجلَّت حكمته:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ (الحج: ٧٨)، وقال، مبشرًا جلَّت منَّته:
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: ١٥٧)؛ أي يخفف عنهم التكاليف الثقيلة.»
٧٠ وهكذا، فيما ينزع إسلام القرآن نحو التخفيف، ينزع إسلام الفقهاء، في
المقابل، نحو الإثقال والتشديد.
وإذ يردُّ الكواكبي هذا الإثقال والتشديد إلى كل التزيُّدات، التي جرى إلحاقها بالأصل
النقي الأول، فإنه يرجع ببعضٍ من هذه التزيدات إلى ما انتقل إلى الإسلام من أصحاب
الديانات الأخرى؛ وبما يدنيه من التفكير بمفهوم الإسرائيليات الذي ساد على مدى القرون.
وضِمن هذا السياق، يبدو وكأن الكواكبي يتقبل افتراض أن الصوفية هم الأصل في الكثير مما
يعده دخيلًا على الإسلام من هذه الإسرائيليات. فإن ملاحَظةً لمعظم ما رصده «مما اقتبسه
وأخذه المسلمون عن غيرهم، وليس هو من دينهم بالنظر إلى القرآن، والمتواترات من الحديث،
وإجماع السلف الأول.»
٧١ تكشف عن التلميح إلى دخوله من خلال الصوفية بالذات. وبطبيعة الحال، يتعلق
الأمر بالصوفية المتأخرين الذين اختلط عندهم التصوف بالدروشة، وسادوا على مدى العصر
العثماني/المملوكي. ولكن ذلك لا يعني أنه يضع عبء الانحطاط على كاهل الصوفية وحدهم؛
بل إنه يضيفهم إلى الفقهاء الجامدين في المسئولية عن الانحطاط السائد. وإذَن، يمكن
التمييز بين تزيُّد الفقهاء، الذي يرجع إلى ما وضعوه من المرويات المكذوبة والموضوعة،
وبين تزيد الصوفية، الذي يرجع إلى ما أدخلوه من معتقدات وتصوُّرات أصحاب الأديان
الأخرى.
وفيما يخص الصوفية، «اقتبسوا من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية، و[ضاهَوا]
في
الأوصاف والأعداد، أوصاف وأعداد البطارقة، والكردينالية، والشهداء، والأساقفة، و[حاكَوا]
مظاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها، وحالة الأديرة
وبادريتها، والرهبنات ورسومها، والحميَّة وتوقيتها، و[قلَّدوا] الوثنيين الرومانيين في
الرقص على أنغام الناي، والتغالي في تطييب الموتى، والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح
الذبائح معها، وتكليلها وتكليل القبور بالزهور. و[شاكلوا] مراسم الكنائس وزينتها،
والبيع واحتفالاتها، والترنحات ووزنها، والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور،
وشد الرحال لزيارتها، والإسراج عليها، والخضوع لديها، وتعليق الآمال بسكانها. و[أخذوا]
التبرُّك بالآثار: كالقدح، والحربة، والدستار، من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك
إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين، من إمرارها على الصدر لإشارة الصليب.
و[انتزعوا] الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من
تناوُل القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان،
وتعليق ألواح الأسماء المصدَّرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل،
والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناء أمام الأصنام. و[مَنعوا] الاستهداء من
نصوص الكتاب والسُّنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة
الدليل من التوراة في الأحكام. و[جاءوا] من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية
أوضاع الكواكب، وباتخاذ أشكالها شعارًا للملك، وباحترام النار ومواقدها. و[قلَّدوا]
البوذيين حرفًا بحرف في الطريق، والرياضة، وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب
بالحيَّات، والعقارب، وشرب السموم، ودَق الطبول والصنوج، وجعل رواتب من الأدعية،
والأناشيد، والأحزاب، واعتقاد تأثير العزائم، ونداء الأسماء، وحمل التمائم، إلى غير ذلك
مما هو مشاهَد في بوذيِّي الهند، ومجوس فارس والسند، إلى يومنا هذا. وقد قيل: إنه نقله
إلى
الإسلامية جون وست، وسلطان علي منلا، والبغدادي، وحاشية فلان الشيخ، وفلان الفارسي، على
أن إسناد ذلك إلى أشخاص معيَّنين يحتاج إلى تثبيت. و[لفَّقوا] من الأساطير والإسرائيليات
أنواعًا من القربات، وعلومًا سمَّوها لدُنيَّات.»
٧٢ وهكذا، إن ما جرى الإثقال به على إسلام «القرآن والمتواترات [القليلة] من
الحديث، وإجماع السلف الأول»، يتسع ليتضمن الأحاديث المكذوبة، والمقتبَس من اليهودية،
والمسيحية، والمجوسية، والبوذية، وغيرها. والملاحَظ على كل تلك التزيدات أنها لا تخرج
أبدًا عن منطق الإثقال والتشديد على الناس.
على العموم، يبقى أن هذا الإثقال والتشديد كان هو الباب إلى تثبيت الاستبداد، وذلك
من
حيث إن «هذا التشدد، الذي أدخله على الدين منافسو المجوس؛ قد فتح على الأمَّة باب التلوم
على النفس، واعتقاد التقصير المطلَق، وأن لا نجاة، لا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس،
فضلًا عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام.»
٧٣ وفيما يخص «[الشريعة] الإسلامية السمحاء الخالصة من شوائب الزوائد
والتشديد، فإن صاحبها يزداد إيمانًا كلما ازداد علمًا، ودَق نظرًا؛ لأنه باعتبار كون
الإسلامية هي أحكام القرآن الكريم، وما ثبت من السُّنة، وما اجتمعَت عليه الأمَّة في
الصدر
الأول، لا يوجد فيها ما يأباه عقل، أو يناقضه تحقيقٌ علمي.»
٧٤ وعلى النحو الذي يصبح معه الإسلام الأول رديفًا للعقل.
وهنا، يَلزم التنويه إلى أن الكواكبي يضيف «التقليد» إلى «التزيد» في المسئولية عن
الانحطاط القائم. ومن هنا، تأكيده وجوب «أن نترك جانبًا اختلاف المذاهب، التي نحن
متبعوها تقليدًا، فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها، وأن نعتمد على ما نعلم من صريح
الكتاب، وصحيح السُّنة، وثابت الإجماع، وذلك لكيلا نتفرق في الآراء، وليكون ما نقرره
مقبولًا عند جميع أهل القبلة؛ إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يُرَد، ولا تستنكف
الأمَّة أن ترجع إليه، وتجتمع عليه، في بعض أمهات المسائل؛ لأن في ذلك التساوي بين
المذاهب، فلا يثقل على أحد نبذ تقليد أحد الأئمة في مسألةٍ تخالف المتبادر من نص الكتاب
العزيز، أو تُباين صريح السُّنة الثابتة، في مدوَّنات الصدر الأول … ولا يعظمنَّ على
بعضٍ
منكم، أيضًا، كيف يسوغ لأحدنا أن يثق بفهمه وتحقيقه مع بُعد العهد، ويترك تقليد من يعرف
أنه أفضل منه، وأجمع علمًا، وأكثر إحاطةً واحتياطًا.»
٧٥ وهو يربط سيادة التقليد بأنه «حين اتسعَت دائرة الأحكام في الشرع، صار الخلَف
عاجزين عن التقاط الفروع، فضلًا عن الرجوع إلى الأصول، فاطمأنَّت الأمَّة إلى التقليد،
وأقبل العلماء على التعمقات في الدين، يعرب المفسِّر، ويتفنن، ولو بحكايات قاضي الجن؛
لأنه غير مطالَبٍ بدليل، ويتفحص المحدِّث عن نوادر الأخبار، والآثار، ولو موضوعة؛ لأنه
غير
مسئول عن سنده، ويستنبط الفقيه الحكم، ولو بالشبه من وجهٍ للازم اللازم للعلة؛ لأن مجال
التحكم واسع، وهذه الفتنة لم تزل مستمرة إلى أن أوقفها قصور الهمم عند الأكثرين. على
أن
هؤلاء المتأخرين أخلدوا إلى التقليد الصِّرف حتى في مسألة التوحيد، التي هي أساس الدين
ومبدأ الإيمان واليقين والفارق بين الكفر والإسلام، وجعلوا أنفسهم كالعميان لا يميزون
الظلمة من النور، ولا الحق من الزور، وصاروا يحسنون الظن في كل ما يجدونه بين دفتَي
كتاب؛ لأنهم رأوا التسليم أهون من التبصُّر، والتقليد ستر للجهل. وصار أهل كل إقليم أو
بلد يتعصبون لمؤلفات شيوخهم الأقدمين، ويتخذون الخلافيات مدارًا لتطبيق الأحكام على
الهوى لا يُبالون بحمل أثقال الناس في الدين على عواتقهم، يزعمون أن التسليم أسلم، وأنهم
أُسَراء النقل، وإن خالف ظاهر النص ويتوهمون أن اختلاف الأئمة رحمة للأمَّة.»
٧٦ لكن هذا الاختلاف يبدو، لسوء الحظ، سببًا للتفرقة الدينية والتباغض،
انطلاقًا من أن «هذه الفرق الكُبرى يعتقد كلٌّ منهم أنهم وحدهم أهل السُّنة والجماعة،
وأن
سواهم مبتدعون، أو زائغون، فهل — والحالة هذه — يتوهم عاقل أن هذا التفرق والانشقاق
رحمة لا نقمة، وسببه، وهو التوسع في الأحكام، سبب خير لا سبب شر.»
٧٧
بطبيعة الحال، لا مخرج من هذا الانحطاط إلا بالتخلص من هذه الزوائد، التي أثقلَت
على
الإسلام الأول. ومن هنا ما يراه الكواكبي من أنه «لا مانع من أن نترك النقود المتخالفة
خصوصًا منها المتعلق بالبعض القليل من الأصول، ونجتمع على الرجوع إلى ما نفهمه من
النصوص، أو ما يتحقق عندنا حسب طاقتنا أنه جرى عليه السلف. وبذلك تتَّحِد وجهتنا، ويتسنَّى
لنا الاتفاق على تقرير ما نقرره، ويقوَى الأمل في قَبول الأمَّة منا ما ندعوها إليه.»
٧٨ وفي كلمةٍ واحدة، المخرج عند الكواكبي هو في ترك النقول المتخالفة، وإنتاج
فهم يحظى بالتوافق والقبول.
ومن المنطقي أن يفتح هذا التقابل الباب أمام التمييز بين الإسلام، باعتباره دين
الفطرة (وهو إسلام القرآن)، وبين الإسلام، الذي ينسب المسلمون أنفسهم إليه الآن؛ وهو
إسلام التزيُّدات والتشديدات، التي يتم الرجوع بها إلى الأخبار والآثار. ومن هنا إلحاح
الكواكبي على تأكيد أن ما يعنيه بالإسلام أنه «الإسلام الموصوف بدين الفطرة [الذي هو
أحد] الأديان المبنية على العقل المحض، ولا أعني بالإسلام ما يدين به أكثر المسلمين
الآن، إنما أريد بالإسلام؛ دين القرآن؛ أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كل إنسان
غير مقيد الفكر بتفصُّح زيد، أو تحكُّم عمرو.»
٧٩ ومن هنا ما يرتِّبه الكواكبي على ذلك من أن «جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن
كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنَّا
جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البدع والتشديد، دين الاجتهاد. وقد
دَب فينا هذا المرض منذ ألف عام، فتمكن فينا، وأثَّر في كل شئوننا، حتى بلغ فينا استحكامُ
الخلل في الفكر والعمل أننا لا نرى في الخالق — جل شأنه — نظامًا فيما اتصف، نظامًا
فيما قضى، نظامًا فيما أمر، ولا نطالِب أنفسنا، فضلًا عن آمرنا أو مأمورنا، بنظام،
وترتيب، واطراد، ومثابرة. وهكذا، أصبحنا واعتقادنا مشوش، وفكرنا مشوش، وسياستنا مشوشة،
ومعيشتنا مشوشة. فأين منا — والحال هذه — الحياة الفكرية، الحياة العملية، الحياة
العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟»
٨٠
وهكذا، ينتهي الكواكبي إلى «أن الدين موجود الآن، بالنظر إلى ما ندين به، لا بالنظر
إلى ما نقرره، وباعتبار ما نفعله، لا باعتبار ما نقوله، ليس هو الدين الذي تميز به
أسلافنا منذ مئات السنين على العالمين، كلا؛ بل طرأَت على الدين طوارئ تغييرٍ غيرَت نظامه.
وذلك أن الأخلاف تركوا أشياء من أحكامه، كإعداد القوة، بالعلم، والمال، والجهاد في
الدين، والأمر بالمعروف، وإزالة المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك مما
أوضحه الإخوان الكرام. وزاد فيه المتأخرون بدعًا، وتقليدات، وخرافات ليست منه، كشيوع
عبادة القبور، والتسليم لمدِّعي علم الغيب، والتصرف في المقدور. وهذه الطوارئ من تغييرات،
أو متروكات، أو مزايدات، أكثرها يتعلق بأصول الدين، وبعضٌ منها بأصول الأصول أعني
التوحيد، وكفى بأن يكون سببًا للفتور. وقد قال الله تعالى:
إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: ١١). ثم إذا دققنا حالة
الإسلامية في القرون الخالية نجدها، عند أكثر أهل القبلة، قد أصابها بعض ما أصاب قبلها
غيرها من الأديان، كما أخبرنا الله — تعالى — بقصصها في كتابه المبين، ووعدنا بوقوعنا
فيه سيدُ المرسلين، وأرشدنا إلى طرائق منه إن كنا راشدين. أعني بذلك ما طرأ على الإسلام
من التأويل والتحريف في بعض أصولها، وكثير من فروعها، حتى استولى عليها التشديد،
والتشويش، وتطرق إليها الشرك الخفي والجلي من يمينها وشمالها، فأمسَت محتاجة إلى التجديد
بتفريق الغيِّ من الرشد.»
٨١ وهكذا، يشير صراحة إلى أن جوهر التجديد إنما يتمثل في تخليص الإسلام من كل
المزايدات عليه، ورده إلى أصله الأول البسيط؛ الذي يكون فيه دين الفطرة القائم على
العقل.
ومن ذلك كله، ينتهي إلى ما يكاد يكون قانونًا حاكمًا لمسار التطور في كل الأديان.
فإنه «عند تدقيق حالة جميع الأديان والنِّحل تدقيقًا تاريخيًّا تجدها كلها ناشئة عن أصلٍ
صحيح بسيط سماوي لا ترى فيه عِوجًا ولا زَيفًا، تجد أن كل دينٍ كان، في أوليته، باثًّا
في أهله النظام والنشاط، وراقيًا بهم إلى أوج السعادة في الحياة، إلى أن يطرأ عليه
التأويل، والتحريف، والتفنن، والزيادات، رجوعًا إلى أصلَين اثنَين [الإشراك بالله
والتشديد في الدين] فيأخذ في الانحطاط بالأمَّة، ولم يزل نازلًا بها إلى أن تبلغ حالةً
أقبح من الحالة الأصلية الهمجية، فتنتهي بالانقراض، أو الاندماج في أمَّةٍ أخرى.»
٨٢ وكمثالٍ على ما جرى للأديان السابقة على الإسلام، يشير الكواكبي إلى أن
«أكثر ما اعتبره متأخرو النصارى من الشعائر الدينية، حتى مشكلة التثليث، لا أصل له فيما
ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مَزيدات وترتيبات قليلها مُبتدَع، وكثيرها
مُتَّبع … وكذلك وجد العلماء لمزيدات التلمود، وبدع الأحبار، أصولًا في الأساطير
والآثار والألواح الآشورية.»
٨٣ وهكذا، يتعلق الأمر بقاعدةٍ خضعَت لها الأديان جميعًا؛ ويكون الدين، تبعًا
لها، باعثًا على النهوض والرقي في ابتدائه، ثم تدخل عليه الزيادات والتحريفات، وتفرض
سلطانها عليه العادات، فيأخذ في الانحطاط بالأمَّة إلى حيث يصبح وجودها نفسه
مهدَدًا.
وهكذا، يبدو الاتفاق قائمًا بين رجال الإصلاح؛ محمد عبده وقاسم أمين (مصر)، وعبد
الرحمن الكواكبي (الشام)، والطاهر الحداد (تونس)، على أن الأزمة، التي تواجه مجتمعاتهم
الإسلامية في القرن التاسع عشر، إنما ترتبط بتغريب الإسلام عن جوهره؛ على النحو الذي
جعله سببًا للانحطاط، لا باعثًا على الترقي. وتبعًا لذلك، أكدوا أن الخروج من تلك
الأزمة يرتبط بردِّ الإسلام إلى جوهره، الذي كان فيه دينًا للفطرة والعقل. ولقد اتفقوا
على أن لا سبيل إلى ذلك إلا عبْر تحرير الإسلام من كل ما تعرض له من الزيادات
والتحريفات، ومن خضوعه لسلطان العادات؛ وهو ما رأوا أنه تجديد الدين. وهنا، يَلزم
التنويه إلى إمكان التمييز بين مصادر ثلاثة لتلك الزيادات والتحريفات؛ (أولها) الأحاديث
المكذوبة والموضوعة، و(ثانيها) المقتبَسات من الأديان الأخرى، و(ثالثها) العادات. وضِمن
هذا السياق، إذا كانت المقتبَسات من الأديان الأخرى قد دخلَت إلى الإسلام من خلال
المتصوفة، فإن الفقهاء كانوا، بالذات، هم الباب الذي تسللَت منه الأحاديث الموضوعة
والعادات. وإذ يبدو أن المقتبَسات من الأديان الأخرى تتعلق أساسًا بالمعتقد، بينما تتعلق
الأحاديث المدخولة والعادات بالمجال الفقهي، فإن سياق التحليل، هنا، يقتضي التركيز على
بيان السياقات التي تبلورَت فيها الزيادات الحديثية النصِّية من جهةٍ، وذلك فضلًا عن
الوعي
بالكيفية، التي تسربَت بها العادة لترقد، في رسوخ، تحت قشرة الدين من جهةٍ أخرى. ومن
هنا
كان لا بد من أن تحظى الآليات، التي حدثَت بها الزيادات الحديثية النصِّية، واستقرَّت
بها
العادات تحت غطاء الأحكام الشرعية، بضرب من الاهتمام في إطار هذه القراءة.
وإذ يُحيل ذلك إلى أن غربة الجوهر الكامن، التي لا تكون ظاهرة، هي الغربة الأشد وطأة
على الإسلام (ولو كان ذلك عند مفكِّري القرن التاسع عشر على الأقل)، فإنه يمكن القول،
تبعًا لذلك، إن الغرباء، الذين لهم الطوبى، حسب بشارة النبي الكريم، هم كل أولئك الذين
يلحُّون على ضرورة عدم الاكتفاء بالشكل، والتأكيد على وجوب استحضار الإسلام بما هو معنًى
وجوهر، على أن يكون مفهومًا أن ذلك لا يعني ما هو أكثر من إمساك العقل بالمعنى المتحرك،
والجوهر المنفتح الحي، الذي يجعل الإسلام قادرًا على الاستجابة للتحديات، التي تفرض
نفسها على المجتمعات الإسلامية في عوالم متغيرة.
٨٤ ومن حُسن الحظ أن ذلك هو ما يبدو وكأن الله قد أراده للإسلام فعلًا، وأعني
من حيث جعل خطاب وحْيه أقرب إلى البناء المنفتح الذي ينطوي على ما يشير إلى تحرُّك نص
التنزيل مع اتجاه حركة الواقع ومساره. فإنه ليس من شكٍّ، أبدًا، في أنه كان يمكن لله
أن
يتنزل بوحيه للعباد دفعةً واحدة، ولكنه أراد له — فيما هو معلوم للكافَّة — أن يتشكل
على
مدًى يقترب من رُبع القرن، في صيرورةٍ راح يتحرك فيها خطاب التنزيل في تجاوُبٍ منقطع
النظير
مع حركة الواقع الإنساني الحي. وغنيٌّ عن البيان أنه إذا كانت حركية الواقع قد تركَت
أثرها
العميق على بناء خطاب التنزيل؛ الأمر الذي راح يستوعبه علماء القرآن من خلال فرضية
الناسخ والمنسوخ، فإن ذلك يفتح الباب أمام ضرورة تحرُّك فعل الفهم والتفسير، وعلى النحو
الذي يتأكد معه مفهوم المعنى المتحرك والروح المنفتحة للإسلام؛ حيث إنه من المستحيل،
عقلًا، أن ينفتح فعل التنزيل على حركة السياق الواقعي، فيما ينغلق فعل التفسير أمام هذه
الحركة ذاتها.
وعلى الرغم مما يبدو، هكذا، من أنه لا معنى لانفتاح فعل التنزيل وتحرُّكه مع الواقع،
إلا بما يُحيل إليه ذلك من ضرورة أن ينفتح فعل الفهم، والتفسير، ويتحرك مع الواقع،
أيضًا، فإن الكسل العقلي الذي يعيش تحت وطأته دُعاة الإسلام السياسي، الذين يصخبون على
سطح المشهد الراهن في العالم الإسلامي بأسْره تقريبًا، قد جعلهم يستبدلون بفعل الفهم
المنفتح مجرَّد استعارة منظومات تفكيرٍ جاهزة من السلف. وعلى الرغم مما يبدو من أن تلك
المنظومات هي، في حقيقتها، نتاج فعْل فهمٍ منفتح، في حينه، على سياق الواقع الذي نشأَت
فيه، فإن ما يجري من عزلها عن هذا السياق، وما يتبع ذلك من نقْلها جاهزة، وفرضها على
سياقٍ مغايِر، لا يئول إلى تشويهها فحسب، بل يجعلها عنوانًا على فهمٍ منغلق. ولسوء الحظ،
إن هذا التفكير بالجاهز (عوضًا عن الإبداع الفاعل) هو آخِر ما يحتاج إليه الظرف (العربي/الإسلامي)
الراهن، الذي لا يمكن فهْم أزمته بعيدًا عن أزمة المشروع السائد في التحديث
المشوَّه الذي قام على الفرض الإكراهي للحداثة كنموذج «معطى» جاهز على مجتمعات كانت تقع
خارج سياق تبلوُرها التاريخي والمعرفي. ويعني ذلك أن الإسلام، الذي يجري استدعاؤه
كمنظومةٍ جاهزة لا يمكن أن يئول إلا إلى نوعٍ من التأسلُم المشوَّه الذي لن يختلف عن
التحديث المشوَّه الراهن. وإذَن إنه التشوُّه ذاته؛ وهو يُعاد إنتاجه تحت يافطة الإسلام،
بعد
أن جرى إنتاجه، على مدى القرنَين الأخيرَين، تحت يافطة الحداثة.
ولسوء الحظ، إن الطريقة الراهنة في استدعاء الإسلام (كبديلٍ لمشروع التحديث المشوَّه)
لا
تتجاوز حدود السعي إلى فرضه كمنظومةٍ جاهزة على الواقع. وإذ يبدو، هكذا، أن الآلية، التي
أنتجَت الحداثة المشوَّهة تكاد تكون هي تلك التي يجري بها التعاطي مع الإسلام في التجربة
الراهنة، فإنه يمكن القطع بأن هذه التجربة لن تتمخض — لسوء الحظ — إلا عن أسلمةٍ
مشوَّهة، تمامًا، كالتحديث المشوَّه الذي سبقها. وبطبيعة الحال، لا يمكن القول إن غربة
الحداثة عن واقع العرب هو ما أدَّى إلى ضرورة فرضها على مجتمعاتهم قسريًّا، وذلك ما لا
يمكن أن ينطبق على الإسلام الذي لا يمكن أن يكون غريبًا عن الواقع؛ لأنه دين غالبية
الناس؛ حيث الأمر لا يتعلق بالإسلام أو الحداثة في ذاتهما، بقدر ما يتعلق بطريقة ما في
استدعائهما. ولعلَّ ذلك يعني أن الأمر يقتضي استدعاءً للإسلام يغاير، بالكلِّية، ذلك
الذي
يقوم به أولئك الصاخبون من دُعاة الإسلام السياسي على سطح المشهد الراهن؛ وأعني
الاستدعاء له كجوهر وروح، وليس كمجرَّد شكل وحرف كما يفعلون.
والحق أن هذا التحول، فيما يخص الإسلام بأسْره، من غربة مجرَّد «الشكل والحرف» في
الزمن
الأول، إلى غربة «الجوهر والروح»، في الأزمنة اللاحقة، يكاد يصبح القاعدة الحاكمة لتطوُّر
معظم أركانه ومفاهيمه؛ ومن بينها الشريعة بطبيعة الحال. فإنه إذا كانت غربة الجوهر
والروح تعني حضور المفهوم بمجرَّد شكله ورسمه، فإن ذلك النوع من الحضور الشكلي كان هو
المآل، الذي انتهت إليه الشريعة أيضًا. فإذ تكشف ممارسة الصحابة عن الانشغال، فيما يخص
الشريعة والإسلام على العموم، بالمعنى الذي يقف وراء النصوص الظاهرة، فإن ذلك ما راح
يتلاشى تدريجيًّا إلى حد الاختفاء شبه الكامل. ولقد كان هذا المآل الشكلي الذي انتهى
إليه كلٌّ من الإسلام والشريعة معًا، هو أحد تداعيات ممارسة سياسية ذات طبيعةٍ استبدادية
أساسًا.
وهنا، يَلزم التنويه بأنه إذا كانت العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام تحتاج
إلى
استقصاءٍ أعمق يتجاوز حدود هذا الحيز، فإنه يمكن القول، على العموم، إنه إذا كان الدين
قد ظل يقدِّم للسياسة لُغتها وقاموس مفرداتها، فإن موجهاتها ومحدداتها الرئيسة كافة قد
ظلَّت
تنتمي إلى مجالٍ آخر غير الدين. وبعبارةٍ أخرى، إذا كان الدين قد منح السياسة لغتها،
وشكل
ممارستها، فإن مضمون تلك الممارسة ومحتواها قد ظل شيئًا يقع خارج حدوده في الأغلب. ولعلَّ
استقراءً للمصنَّفات التاريخية الكُبرى يئول إلى أن صراعات القوة قد كانت هي المحدِّد
الرئيس
لممارسة السياسة في الإسلام. فلا يكاد ابن خلدون (الذي يستمد قيمته الكُبرى من كونه صاحب
خطابٍ عن التاريخ، وليس من كونه مجرَّد مؤرِّخ، أو ناقلٍ للأخبار، مثل غيره) يرى في تاريخ
المسلمين، إلى عصره، إلا نوعًا من الفاعلية شبه المطلَقة لقانون العصبية القبلية،
٨٥ التي كانت (ولعلَّها تبقى إلى الآن) الشكل السائد لاشتغال القوة. والغريب أن
المحاولات لا تتوقف لإخفاء هذا التاريخ الطويل، الذي كتبَته القوة لكي يتوارى من الذاكرة
بالكلِّية، لحساب تاريخٍ مثالي ومتخيَّل يستخدمه دُعاة الإسلام السياسي في الترويج لأجنداتهم
السياسية النازعة للهيمنة. وعلى الرغم من هذا السعي الدائب إلى طمس هذا التاريخ الرذيل،
الذي يجرح الوعي ويُشقيه، فإن ما يشهده العالم العربي، في اللحظة الراهنة، من انفجار
المكبوت القبَلي، والعشائري، والطائفي، والمذهبي، الذي طالما جرى كبته وراء أقنعة الدين
(ثم الحداثة بعد ذلك) لمما يؤكِّد أنه من قبِيل التاريخ الذي يأبى الغياب والسكوت.
إن ذلك يعني أن الدين كان (ولا يزال) جزءًا من لعبة القوة السياسية، وإحدى أدوات
احتيازها، والإمساك بمفاتيحها في العالم العربي والإسلامي. وضِمن هذا السياق، ثمة علاقةٌ
طردية بين تصوُّرٍ بعينه للدين، وبين حجم القوة التي يوفرها للقائمين على توظيفه سياسيًّا؛
وأعني أنه كلما كان الدين حرفيًّا وقطعيًّا كان مقدار القوة، التي يقدمها لهؤلاء
الساعين إلى التخفي وراءه أكبر (بما لا يُقاس) من تلك التي يوفرها لهم حين يكون موضوعًا
لتفكيرٍ مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن «قطعية الدين وحرفيَّته» تكون هي الأكثر مثالية
في
إخضاع الجمهور وقهره؛ وأعني من حيث لا يكون متاحًا له، في إطارها، إلا محض التسليم
والامتثال من دون جدل أو سؤال. وإذ يقوم دُعاة الإسلام السياسي بتثبيت هذا التصوُّر القطعي
للدين، فإنه يَلزم التنويه بأن هذا التصوُّر لا يقوم في الفراغ؛ بل إنه يجري إنتاجه
وتثبيته من خلال ما يبدو أنها مفاهيم موضوعية ومحايدة؛ وهي المفاهيم التي كان لا بد من
أن تترسخ في وعي الجمهور، بفضل ما يجري من الإلحاح المستمر عليها، وعلى النحو الذي
تتحول معه إلى ما يشبه المُسلَّمات التي يتقبلها الجمهور من دون إعمال أي نظر؛ بل يصل
الأمر إلى اعتبارها من قبِيل الدين، الذي يتعبَّد الناس به الله. وهكذا، إن روح القطع
والجزم، التي يستثمرها دُعاة الإسلام السياسي في إسكات الجمهور، والسيطرة عليه، إنما
تتغذى على مفاهيم شائعة من قبِيل: «قطعي الثبوت، قطعي الدلالة»، و«لا اجتهاد مع نص» أو
«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وغيرها من المفاهيم التي يجري النظر إليها على
أنها من المصادرات الأولية، التي جرى إدخالها ضِمن نطاق «غير القابل للتفكير». فمَن الذي
يتصوَّر أن هذه مجرَّد أفكارٍ قصد بها من صكُّوها خدمة أهدافٍ بعينها، وليست من العقائد
التي لا
تُردُّ؟!
ومن حُسن الحظ أن تحليلًا لتلك المفاهيم يكاد يكشف عن أنها لا تقدم معرفةً حقيقية،
بقدر
ما تعمل كأقنعةٍ تتخفى وراءها رؤًى وتصوُّرات يُراد تحصينها خلف ما يتم خلعه عليها من
قداسة
تعلو بها إلى مقام «ما لا يمكن التفكير فيه». وبحسب ذلك، إنها تبقى من قبِيل المفاهيم
التي تكون مطلوبة، لا لما تكشف عنه وتُجلِّيه، بل لما تخفيه وتغطِّي عليه. والملاحَظ
أنه،
لكي تكون مثلُ تلك المفاهيم قادرة على أداء وظيفتها في التمويه والإخفاء، فإنه يغلب
عليها بساطة الصياغة اللغوية على نحوٍ يسهل معه ترديدها، بما يئول إلى ترسيخها وتثبيتها.
وهكذا، إن البساطة اللغوية للمفهوم المستقر والشائع في التداول بين الجمهور عمَّا هو
«قطعي الثبوت، قطعي الدلالة» لا تعكس الإحكام والدقة، بقدر ما تعكس مراوغة «تيسير
ترديد» المفهوم، بما يتضمنه من ربطٍ بين الثبوت التاريخي للقرآن، وبين الدلالة أو المعنى
الذي يحمله، على نحوٍ يبعد الوعي عن التفكير فيه. حيث إن كثرة «الترديد» للمفهوم تعمل
على القبول الواسع له من دون إعمال «التفكير». إن المراوغة، هنا، تتأتى من الانتقال من
الثبوت التاريخي للقرآن المقطوع به، إلى الدلالة التي لا يمكن أن تكون مقطوعًا بها؛ لأن
القطع بها يستلزم ضرورة أن تكون ثابتة، ولا تقبل التعدُّد؛ وذلك ما لا يمكن قبوله بخصوص
القرآن؛ لأنه يكون حكمًا عليه بالجمود، وعدم تجدد عمليات فهمه. ويعني ذلك أنه إذا وجب
تثبيت القطعية للثبوت، فإنه لا يجوز تثبيتها للدلالة لاختلاف المجال الذي يحضر، أو
يشتغل، فيه الواحد من المفهومَين، عن الآخر. فإذا كان «الثبوت» ينتمي إلى مجال «التاريخ»
القابل للإثبات، فإن الدلالة تنتمي إلى مجال «المعنى» غير القابل للتثبيت، لكن المفهوم
يستهدف تسريب القطعية من ثبوت الوقوع (التاريخي) الذي لا يمكن لأحد أن يتجرأ على
المُماراة فيه، إلى تثبيت الدلالة (المعنوية) التي لا يُراد لأحد أن يماري، أو يجادل،
فيها.
ومن جهةٍ أخرى، إذا كان القرآن معجزة الإسلام، فإن ذلك قد جعل البعض يمضي إلى وجوب
أن
تكون دلالة آيات القرآن قطعية، لأن عدم قطعية آياته يعني ظنيتها؛ بما يئول إلى أن يكون
إعجاز القرآن، بدَوره، ظنيًّا وغير قطعي. وهنا، أيضًا، لا يمكن الربط بين قطعية الإعجاز
وقطعية الدلالة؛ لأنه إذا كانت قطعية الإعجاز تعني «عدم ظنيته»، فإن قطعية الدلالة لا
تعني «ظنيتها»؛ بل تعني «ثباتها وعدم تجددها»؛ وهو ما يشكك في إعجاز القرآن، الذي يقوم،
في جزءٍ منه، على إنتاج الدلالة المتجددة، التي تناسب الأزمان المتغيرة. وهكذا، إنما
يتعلق الأمر (فحسب) بالدفاع عن انفتاح الدلالة في مقابل السعي إلى إغلاقها وتثبيتها،
وليس، أبدًا، بما يقال إنه السعي إلى الطعن في إعجاز القرآن عبْر القول بظنية دلالته؛
إذ
ليس من شكٍّ في أن إعجاز القرآن يكون أكثر رسوخًا في حال الدلالة المفتوحة منه في حال
الدلالة المغلقة الجامدة، وأعني من حيث يتيح له انفتاح الدلالة وديناميكيتها أن يكون
قادرًا على الاستجابة لاحتياجات الناس على مدى الأحقاب، وبما يدعم القول بإعجازه، على
نحوٍ فعلي.
وهنا يَلزم تأكيدُ أنه إذا كانت سهولة ترديد مفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة قد أتاحت
له تداولًا واسعًا نسبيًّا بين الجمهور، فإن الغريب حقًّا أن هذا القطعي الدلالة هو،
بحسب تعريف الأصوليين له، مما يندر حصوله في القرآن. فإذا كان القطعي الدلالة هو ما دل
على معنًى متعيِّن فهمه منه، ولا يحتمل تأويلًا، ولا مجال لفهم معنًى غيره منه، أو أنه،
على قولٍ آخر، ما يفيد المعنى على القطع مع عدم إمكان التأويل والاحتمال، فإن ذلك مما
يندر وجوده في القرآن، إلى حد أن السيوطي لم يجد إلا مثالًا واحدًا له، في قوله تعالى:
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (البقرة: ١٩٦)؛ بما يعنيه ذلك من أنه لم يجد في
القرآن ما ينطبق عليه معنى القطع إلا في شطْر آية هو عبارة (في الحقيقة) عن مسألةٍ
حسابية. أما إذا جرى تعريف القطعي الدلالة بأنه «كل نصٍّ دلَّ على فرْض في الإرث مُقدَّر،
أو
حدٍّ في العقوبة مقرَّر، أو نِصَابٍ محدَّد»، فإن ثمة من فروض الإرث المقدَّرة تصريحًا
في
القرآن ما كان موضوعًا لاختلاف الصحابة أنفسهم، وما يعنيه ذلك من استحالة أن تكون محلًّا
لدلالةٍ قاطعة. كمثالٍ؛ يمكن الإشارة إلى ما أورده ابن العربي، في كتابه «
أحكام القرآن»، بخصوص قوله تعالى:
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ (النساء: ١١). فعلى الرغم من أنه
فرْض في الإرث مقدَّر؛ وما يعنيه ذلك من وجوب أن يكون من قبِيل القطعي الدلالة، بحسب
التعريف الآنف، فإن أبا بكر ابن العربي (وهو السُّني المتشدد) قد عدَّه «معضلةً عظيمة،
فإنه — تعالى — لو قال: فإن كن اثنتَين فما فوقهما فلهن ثلثا ما ترك، لانقطع النزاع.
فلما جاء القول هكذا مشكلًا وبيَّن [القرآن] حكم [البنت] الواحدة بالنصف، وحكم ما زاد
على
الاثنتَين بالثلثَين، وسكت عن حكم البنتَين فأشكل الحال. ولو كان الله — تعالى — مبينًا
حالَ البنتَين بيانه حال الواحدة وما فوق البنتَين، لكان ذلك قاطعًا، ولكنه ساق الأمر
مساق
الإشكال، لتتبين درجة العالمين، وترتفع منزلة المجتهدين.»
٨٦ وهكذا، إن وجوب أن تكون دلالة هذه الآية «قاطعة»؛ باعتبار أنها «نصٌّ يدل على
فرْض في الإرث مقدَّر»، لم يكن مقنعًا لابن العربي، الذي مضى يؤكِّد، بوضوحٍ كامل، أن
البيان
فيها ليس قاطعًا، وأن القول فيها قد جاء مشكلًا (لأنه سكت عن بيان حكم البنتَين). ولأن
النص قد سكت، وجاء القول في الآية مشكلًا، فعدَّ ابن العربي ذلك من قبِيل المناسبات،
التي
ترتفع فيها منزلة المجتهدين، لأن الأمر يكون موقوفًا على اجتهادهم؛ بما يعنيه ذلك من
عدم قطعية الآية أو النص.
وحين يُضاف إلى ذلك الاختلاف الحاصل في الآية نفسها، بخصوص قوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (النساء: ١١)، الذي لم
يكن قاطعًا، على الرغم من أنه فرضٌ مقدَّر؛ حيث أورد القرطبي أن ابن عباس قال في امرأة
تركَت زوجها وأبوَيها: للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، في حين أورد
عن
زيد بن ثابتٍ قوله: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي (وليس ثلث جميع المال).
٨٧ المهم أنه حين سأل ابنُ عباس زيدًا: أتجد ما تقوله في كتاب الله، أم تقوله
برأي؟ فإن ما رد به زيد من أنه يقوله برأيه لا يعني إلا أن دلالة الآية ليست قطعية
أبدًا، على الرغم من أنه فرضٌ مقدَّر. والحق أنه، على فرض بيان القول ووضوحه، يبقى، مع
ذلك، عدم جواز القول بقطعية الدلالة مطلَقًا. فإنه لو صح ذلك لما كان لعمر بن الخطاب
أن
يوقف دفع سهم المؤلَّفة قلوبهم مع بيان القرآن له صراحة؛ وإلى حد ما قال به بعضٌ من أن
«الآية محكَمة [يعني قاطعة] لا نعلم لها ناسخًا من كتاب ولا سنة.»
٨٨ ما يعني أن أمر الدلالة لا يتوقف فحسب على بيان المقال، بل على سياق الحال
كذلك. وليس من معنًى لذلك إلا أنه يستحيل أن تكون الدلالة قطعية على أي نحو.
على العكس من هذا التصوُّر القطعي للدين، إن تصوُّره موضوعًا لتفكيرٍ مفتوح إنما تجعل
منه
إحدى الساحات التي تنفتح أمام الفرد لتأكيد قدرته على التفكير الفاعل المستقل. وبحسب
ذلك، فيما يمهد التصوُّر القطعي للدين الطريق أمام السلطة لكي تهيمن على المجال العام،
وتتحكم فيه بالكلِّية، فإن الأثر الذي يؤدِّي إليه التصوُّر المفتوح للدين، في المقابل،
لا
يقف عند حد حرمانها من هذا الامتياز فحسب؛ بل يئول إلى جعلها موضوعًا للتحكم والضبط من
جانب الأفراد. ولعلَّه يَلزم الوعي، في هذا السياق، بجدلية العلاقة بين تصوُّر الدين
«حرفيًّا وقطعيًّا» من جهةٍ، وبين الطبيعة الاستبدادية التسلطية للسلطة من جهةٍ أخرى؛
بمعنى أن العلاقة بينهما لا تمضي في اتجاهٍ واحد، بل إن الواحد منها يحدد الآخر، ويتحدد
به في الآن نفسه.
وإذ يعني ذلك أن «قطعية الدين وحرْفيته» إنما تؤسِّس للاستبداد، بالقدْر ذاته الذي
يؤسس
به، هو أيضًا، لها، فإن ذلك ما انشغل به، وأفاض في بيانه، رجلُ الإصلاح وداعيته الكبير
عبد الرحمن الكواكبي. فقد مضى الرجل يفضح الطريقة، التي يسطو، من خلالها المستبد على
الدين، ويُحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده؛ سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه «صفةً
قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل
الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله.»
٨٩ وبطبيعة الحال، إن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما كان لا بد
من أن يجعل منه مجرَّد زخارف ورسومٍ شكلية خارجية؛ حيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ،
الذي تتعاطاه جماهير يائسةٌ محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد
دوره الجوهري في تنوير الإنسان وتحريره أساسًا؛ وما يعنيه ذلك من تأكيد دور المستبد في
تفريغ الدين من مضمونه، وتحويله إلى مجرَّد شكلٍ فارغ. ولقد كان الكواكبي هو من كشف،
ببراعة، عن الكيفية التي ينتج بها الاستبداد «التنطع» في الدين الذي هو علامة خوائه
وصوريته. فقد مضى إلى أن «المستبدين قد سطَوا على الدين واتخَذوه وسيلة لتفريق الكلمة،
وتقسيم الأمَّة شيعًا، وجعلوه آلة لأهوائهم، فضيَّعوه وضيَّعوا أهله بالتفريع، والتوسيع،
والتشديد، والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه، كما فعل أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه
دينًا لا يقوى أحدٌ ممن يتوهم أن كل ما دوَّنوه هو منه على القيام بواجباته، وآدابه،
ومزايداته، التي صارت تشتبه مراتبها على العام والخاص. وبذلك، انفتح باب التلوم على
النفس، واعتقاد التقصير المطلَق، وأن لا نجاة، ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس. وهذه
الحال تصغر النفس، وتخفت الصوت، وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المنوط بها قيام الدين، وقيام النظام، والعدل. وهذا الإهمال للمراقبة، والسيطرة،
والمؤاخذة، والسؤال، أوسعَ لأمراء الإسلام مجال الاستبداد، وتجاوُز الحدود. وبهذا وذاك،
ظهر حديث «هلك المتنطعون»؛ أي: المتشددون في الدين.»
٩٠ وهكذا، يكشف رجل الإصلاح عن متانة العلاقة بين الاستبداد وبين اختزال الدين
في قشرته الخارجية؛ حيث يقوم المستبد بالسطو على الدين، فيبدد جوهره الحي من خلال
«التفريع، والتوسيع، والتشديد، والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه فينفتح «على الأمَّة
باب
التلوم على النفس، واعتقاد التقصير المطلَق»؛ وهي حال «تصغِّر النفس، وتخفت الصوت، وتمنع
الجسارة»؛ بما يترتب على ذلك من «إهمال المراقبة، والسيطرة، والمؤاخذة، والسؤال»، الذي
«أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد».
وإذ الاستبداد — والحال كذلك — هو الذي يأخذ الإسلام بأسْره (ومعه الشريعة لا محالة)
إلى الغربة، التي يحضر فيها محض شكلٍ فارغ يخلو من الفاعلية والتأثير، فإن ذلك يرتبط
بما
يفرضه الاستبداد من حجابٍ على العقل؛ الذي هو شرط كل فاعلية أو تأثير. ويترتب ذلك على
حقيقة إدراك السياسة، (ولا سيما حين تكون قامعةً مستبدة)، أن العقل المنفتح غير المقيد
هو أخطر ما يهدد وجودها؛ وذلك من حيث يؤشِّر إلى أن نقيضها من الحكم الرشيد هو المؤدِّي،
وليس سواه، إلى تحقيق صالح المجموع. ومن هنا، ما تسعى إليه، وعلى الدوام، من إزاحة
العقل وإبعاده.
وإذ تدرك استحالة إنجاز هذه الإزاحة، بما تمتلك من وسائل الترويع، والبطش، فإنها
تتوسل بالشريعة والدين لتضعهما في المواجهة، التي تقوم بها مع العقل. وللغرابة، إن ذلك
لا ينتهي إلى إسكات صوت العقل فحسب، بل يئول إلى تهديد منظومتَي الدين والتشريع على نحوٍ
كامل. ولسوء الحظ، يفيض تراث الإسلام (السني والشيعي) بما يؤكِّد التاريخ الطويل لهذه
الممارسة، التي تسعى فيها السياسة لإزاحة العقل باستخدام سلاح الشريعة. ولعلَّ من قبِيل
المفارقة أن ثورات العرب الأخيرة تكاد تنعش هذه الممارسة، التي كان الظن أن تهافتها لم
يعد موضع شك، بعد أن فضح الإمام محمد عبده (ومعه الكواكبي) عوارها وفسادها قبل أكثر من
قرن.
وبطبيعة الحال، إن السياسة لا تكف عن الإيهام بأن هذا الإقصاء للعقل لا يكون مقصودًا
به تحصين ذاتها، بقدر ما هو أحد مطالِب ومقتضيات الشرع. وهكذا، إنها تراوغ بالمبالغة
في
الإخفاء التام لنفسها من المشهد؛ وحيث تحقق هذا الإقصاء للعقل فوق ساحاتٍ بعيدة عن
ساحتها. لكنه، على الرغم من حقيقة أن الساحات، التي يجري فوقها تأسيس خطاب إقصاء العقل
في تراث الإسلام، لا تتصل، على نحوٍ فعلي، اتصالًا مباشرًا بالسياسة؛ بل تتصل بالعلوم
الشرعية والدينية؛ فإن ما يظهر من أن هذا الإقصاء للعقل يؤدِّي إلى اختلال نظامَي الدين
والشرع ذاتهما، إنما يقطع بأن المقصود به هو تحصين «السياسة»، وليس «الدين والشرع»،
بحسب ما يجري الإيهام؛ لأن الدين والشرع يتعرضان ذاتهما للتهديد. وهكذا إن الأمر لا
يتجاوز حدود أن السياسة تتخفى وتترك للآخرين أن يحسموا معاركها فوق ساحات الاشتغال
بالمقدَّس؛ لكي تغطي على بؤس قصدها المدنس.
ومن هنا، إذا كان خطاب الإقصاء للعقل، باسم الشرع، قد راح يؤسِّس نفسه داخل علم أصول
الفقه، فإنه يبقى إمكان بيان عوار هذا الخطاب من داخل هذا العلم نفسه. فقد مضى حُجة
الإسلام الغزالي إلى تأكيد قصور العقل، من خلال القول: إن دَوره الرئيس يتمثل في إثبات
الشرع، ثم يقوم، بعد ذلك، بعزل نفسه، والاكتفاء بالتلقي عنه؛ لأن الشرع، بعد إثباته،
هو
ما يحدد للإنسان ما يقصر عقله عن إثباته من حُسن الأفعال وقبحها.
٩١ وإذ يؤسس الغزالي حجته، في عزل العقل، على أنه يضع قيَمًا متباينة ومتغيرة
للأفعال، فإن ذلك يعني أنه يتصوَّر أن دلالة الحُسن والقبح، التي يُسبغها الشرع على الأفعال
تكون نهائيةً ومطلَقة؛ بمعنى أن ما قضى الشرع بحُسنه مثلًا، يظل حسنًا على الدوام، ومن
دون
أي تعلُّق له بالوقت، والبيئة، والحال.
ومن حُسن الحظ، يستحيل، من داخل علم الأصول نفسه، قبول ما يقرره الغزالي من دوام
دلالة
الأحكام الشرعية وثباتها؛ وأعني من حيث يدخل «الوقت» في جوهر تركيبها. ومن هنا، ما احتج
به الرازي في مواجهة مُنكري «النسخ» (الذي لا يكون إلا في الأحكام دون سواها من الأخبار
وغيرها) من أنه «إن قيل: لو كان الثاني [الحكم الناسخ] أصلح من الأول [الحكم المنسوخ]،
لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى
الوقت الأول، والثاني بالعكس.»
٩٢ وإذ يربط الرازي صلاح الحكم الشرعي بوقته، فإنه يقرر، بذلك، استحالة أن
تكون دلالته نهائيةً ومطلَقة؛ بل إنه يدور ويتحول مع الوقت. والملاحَظ أن الرازي لم يربط
هذا الدوران للحكم، وتحوله مع الوقت، بما يترتب على ذلك من مصلحةٍ للعباد، بل بما يئول
إليه من رفع شبهة أن يحكم الله بما هو ناقص؛ وبما يعنيه ذلك من أن رفع الشبهة عن «الله»
يرتبط بتقرير ما فيه صلاح «الناس». بطبيعة الحال، لا بد من النظر إلى هذا الربط لصلاح
الحكم الشرعي بوقته على أنه من القواعد الكلِّية، التي لا يمكن القول بانطباقها على شريعةٍ
ما دون غيرها؛ بمعنى أنه يتعذر القول إنها تنطبق فقط على شرائع ما قبل الإسلام، وأن
شريعة الإسلام تخرج عنها.
وفضلًا عن ذلك، يبدو أن نسبة الثبات والدوام إلى الأحكام يتعارض مع ما استقرَّت عليه
التجربة الفقهية، حتى مع الجيل الأول من المسلمين؛ حيث بدا أن ثمة أحكامًا ثابتة
بالشرع، ما يترتب على ذلك من وجوب تقرير «حُسنها»، ومع ذلك، جرى تعطيل العمل بها بعد
بعض
الوقت، وعلى النحو الذي يُحيل إلى أنها قد توقفَت عن أن تكون «حسنة». وكمثالٍ على ذلك،
قرر
الشرع نصيبًا للمؤلَّفة قلوبهم في الصدقات. وقد أورد القرطبي عن أبي جعفر النحاس قوله
إن
«هذا الحكم فيهم ثابت.»
٩٣ ولذلك إن «الأمر [الحكم] ماضٍ أبدًا، لأن الآية محكَمة، لا نعلم لها ناسخًا
من كتابٍ ولا سُنة.»
٩٤ وعلى الرغم من هذا الثبات، الذي يقرره البعض للحكم، فإن القاضي ابن العربي
قد مضى إلى أن «الذي عندي أنه إن قويَ الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطُوا سهمهم،
كما
كان رسول الله يعطيهم.»
٩٥ ما يعنيه ذلك من أن الحكم ليس ثابتًا على نحوٍ مطلَق، بل إنه موقوف على شرطٍ
بعينه، وعلى النحو الذي يجعله قابلًا للتحول. ومن حُسن الحظ، أن هذا التحول قد حدث
بالفعل؛ حين أَوقف عمر بن الخطاب دفْع هذا السهم (المقرَّر بالقرآن) إلى اثنَين ممن تقطع
المصادر بأنهما من «المؤلَّفة قلوبهم» هما عُيَينة بن حِصن، والأقرع بن حابِس، وخاطبهما
قائلًا: «إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام،
فاذهبا واجهدا جهدكما.»
٩٦ وهكذا، تغيُّر حال الإسلام من «الذل» إلى «العزة» (بحسب ما تصوَّر عمر) قد قضى
برفع ما هو ثابتٌ بشرعٍ محكَم؛ على النحو الذي يقدح في تصوُّر أن يكون الشرع مقررًا لقيمةٍ
ثابتة، كقيَم السواد والبياض، التي لا تختلف في حق زيد أو عمرو، على قول الغزالي، بقدر
ما يبدو أن القيمة التي يقررها تختلف، بدَورها، تبعًا لاختلاف الوقت والحال. ولعلَّ المرء،
حين يدرك أن «العقل» هو ما يقف وراء ما يحدث من التحول في دلالة الحكم الشرعي ذاته (من
الإيجاب إلى المنع)، يصل إلى استحالة قبول ما يقرره الغزالي من وجوب أن يقوم العقل
بإثبات الشرع، ثم يعزل نفسه، ويكتفي بمجرَّد التلقي؛ وأعني من حيث يبقى الشرع بعد
«الإثبات» في احتياجٍ دائم إلى اشتغال العقل عليه. فإنَّ كوْن دلالة الحكم الشرعي ليست
نهائيةً ومطلَقة؛ بل مفتوحة ومتحركة، يؤكِّد على هذا الاحتياج للعقل الذي يقوم بالدور
الحاسم في هذا التحريك للدلالة. فإن الحكم لا يكتسب جدارته في البقاء من كونه منصوصًا
عليه في القرآن فحسب؛ بل من السياق الذي يتحقق داخله الفعل الذي يكون موضوعًا لهذا
الحكم؛ بما يعنيه ذلك من أن كلًّا من العقل والسياق يدخلان في تقرير إيجاب الحكم أو
منعه.
وإذ يكون الشرع — والحال كذلك — في احتياجٍ إلى العقل، الذي يملك وحده القدرة على
تحريك الدلالة بحسب السياق، لكي يظل قادرًا على التجاوب مع مقتضيات الحال والوقت التي
لا تقبل الثبات أبدًا، فإن ذلك يعني أن في عزل العقل وإبعاده ما سيؤدِّي إلى تقويض نظام
الشرع بالكلِّية. ولأنه لا يمكن تصوُّر أن يقصد الشرع إلى تقويض نفسه، عبْر عزل العقل،
فإنه
لا يبقى إلا أن «السياسة» هي ما يقف وراء هذا العزل. لكنه يَلزم تأكيد أن السياسة، حين
تقوم بعزل العقل، على هذا النحو، لا تفعل إلا أن تقوم، في الآن نفسه، بتقويض نظام الشرع
ذاته. ولعلَّ القيمة القصوى هنا تتجلى في أن عزل العقل يتطابق مع تقويض الشرع.
وإذا كان تقويض نظام الشرع يُحيل إلى الدخول به في دائرة الركود، التي يصبح فيها مجرَّد
منظومةٍ مغلقة، فإن ذلك يعني أن «السياسة»، عبْر عزلها للعقل، هي ما يقف وراء التحول
من
«الشريعة/الجوهر والروح» إلى «الشريعة/الشكل والرسم». وللغرابة، إن ذلك كان تحوُّلًا
بالشريعة من المعنى الذي أعطاه لها «القرآن»؛ وكانت فيه أدنى إلى جملة المبادئ
التأسيسية الكُبرى التي تحظى بتوافُق بني البشر جميعًا عليها، إلى المعنى الذي جعلها
فيه
«التاريخ» مجرَّد منظومةٍ مغلقة من الأحكام والحدود العقابية ذات الطابع الإجرائي. وهنا،
يَلزم تأكيد أن الجيل الأول من متلقِّي الشريعة (الصحابة) قد تعاملوا معها بحسب الدلالة
التي أعطاها القرآن لها؛ والتي تُحيل إلى الانشغال الجوهري بالمبتدأ التأسيسي أو القيَمي
الكلِّي، ولو كان ذلك على حساب الحكم الإجرائي الجزئي. وعلى وجه التحديد، يمكن الإشارة
إلى موقف عمر بن الخطاب من سهم «المؤلَّفة قلوبهم»؛ الذي قدَّم فيه عمر بن الخطاب «القيمة
التأسيسية» في الشريعة على «الحدود الإجرائية» فيها، ولو كان هذا الإجرائي مما يقرره
القرآن بنصه.
ولعلَّ ذلك يكشف عن أن إمكانية قولٍ جديد في الشريعة لا بد من أن تؤسس نفسها على استعادة
الفهم القرآني (المُنفتح) لها، وذلك في مواجهة ما يبدو أنه تاريخٌ من الفهم (المُنغلق)
الضيِّق، الذي تتحكم فيه مفاهيم صنعَتها عصور الجمود والركود الطويل، التي عاشتها
المجتمعات الإسلامية. ولسوء الحظ، إن الأمر لا يقف عند مجرَّد ركود المفاهيم وجمودها،
بل
يتجاوز إلى الانحراف شبه الكامل بها عن المجال التداولي لها في القرآن. وعلى الرغم من
ذلك، لا يكف منتجو هذا الفهم وحُرَّاسه عن ادِّعاء أن القرآن هو مصدر تلك المفاهيم، لكي
يهبوها حصانته وقداسته؛ وذلك بمثل ما هو حاصل مع مفهوم الشريعة. وبحسب هذا الادِّعاء،
لا
يقدر المفهوم على الانكشاف عن حمولته المعرفية، التي يثريه بها القرآن، بقدر ما ينتصب
كأداةٍ يتلاعب بها الخصوم في حروب الهيمنة والإقصاء.