يبدو، على العموم، أن الاستخدام الراهن للعديد من المفاهيم (التي يقال إنها إسلامية)
يرتبط بذلك التاريخ الطويل، الذي يطوي في جوفه ضُروبًا من الفهم والنظر التي خضعَت لتوجيه
حاجات وإكراهات الواقع الاجتماعي والسياسي، الذي عاشه المسلمون. وهكذا، إن ما يكون للتاريخ
من دور في بناء هذه المفاهيم يفوق بكثير ما يكون للقرآن؛ وذلك على الرغم من غلبة الظن
بأن
القرآن هو صاحب الدور الأبرز في صَوغ المفاهيم الإسلامية؛ بل إنه يبدو — لسوء الحظ —
أن
التاريخ قد اتجه بالمفاهيم إلى آفاق أكثر ضِيقًا من تلك التي أراد لها القرآن أن تمضي
نحوها.
وكمثالٍ، إذا كان ما يغلب على الاستخدام الراهن لمفهوم الشريعة هو ربطه بالأحكام والحدود
الإجرائية، فإن هذا الربط يجد ما يؤسِّسه في التاريخ، وليس في القرآن، الذي يربط الشريعة
بما
يقوم فوق الأحكام والحدود من المبادئ والقيَم التأسيسية الكُبرى (كالعدل، والصلاح، والإخاء،
والمساواة، والرحمة، وعدم التمييز، وغيرها). وإذا كان من المتصوَّر أن ربْط المفهوم (أي
مفهوم)
بالتاريخ يجعله أكثر اتساعًا لكي يكون قادرًا على أن يستوعب ما يجري فيه من تحوُّلاتٍ
مستمرة؛
فإن الأمر يبدو على العكس تمامًا من ذلك، فيما يخص مفهوم الشريعة، الذي يبدو أن التاريخ
قد
مارس عليه ضروبًا متلاحقة من التضييق والتشديد، على عكس القرآن، الذي يمنحه دلالةً أكثر
اتساعًا ومرونة. وبطبيعة الحال، حين يراوغ البعض فيخفي هذا المفهوم الضيِّق (الذي أنتجه
التاريخ) للشريعة (والذي يختزلها في الحدود والأحكام) وراء القرآن، فإنه لا سبيل إلى
فضْح
تلك المراوغة إلا عبْر استعادة مقاربته القرآنية الأكثر اتساعًا ورحابة.
وحين يبدو الأمر لا يقف عند مجرَّد تأكيد القرآن على التمييز بين «الكلِّي الثابت»
وبين
«الجزئي المتغير» في الشريعة؛ بل يتجاوز إلى ما أدركه البعض (وأعني الرازي) من «أن سعي
الشرع في تقرير النوع الأول [الكلِّي الثابت] أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني [الجزئي
المتغير]» فإن ذلك يؤدِّي إلى وجوب التنبيه على أولئك الساعين إلى حسْم معاركهم السياسية
بسلاح الشريعة بأن ينصتوا إلى صوت القرآن، الذي يلحُّ على تصوُّر الشريعة بما هي «الكلِّي
المشترك» بين البشر، بدلًا من استدعاء ما رسَّخه التاريخ لها من تصوُّرٍ يختزلها، في
المقابل،
على «الأحكام والتكاليف»، التي تكون من مسائل «الاجتهاد والاختلاف». وللمفارقة، إن الإنصات
إلى ما أعطاه القرآن للشريعة من دلالةٍ منفتحة سوف يجعلها أكثر تجاوُبًا مع دولة المواطنة
الحديثة، التي لا تعرف إلا التسوية بين الناس، وعدم التمييز بينهم؛ على النحو الذي تصبح
معه
(بما هي على قول القرطبي «دينًا واحدًا وملةً متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن
اختلفَت أعدادهم.») إطارًا جامعًا لأبناء الوطن كافة من دون التمييز بينهم لاختلاف مذاهبهم،
ومِللهم، وأديانهم.
وإذا كانت الشريعة تُحيل — والحال كذلك — إلى «التأسيسي المشترك بين البشر»، فإن الفقه
يُحيل، في المقابل، إلى «الإجرائي الجزئي»، الذي يتحقق من خلاله هذا «المبدأ التأسيسي
الكلِّي»، بحسب تحديدات الزمان والمكان. وإذ يُدرك دُعاة الإسلام السياسي أن لفظة «الفقه»
تخلو
من هالة القداسة، التي تحيط بلفظ «الشريعة»، فإنه كان لا بد من السعي إلى إخفاء الفقه
(بدلالته الإنسانية) وراء الشريعة (بدلالتها الإلهية). وغنيٌّ عن البيان أن هذا السعي
إلى
إخفاء الفقه (غير المقدَّس)، وراء الشريعة (المُسيَّجة بالقداسة)، إنما يستهدف إضفاء
تلك
القداسة على رؤى هؤلاء الدعاة (التي هي نِتاج اجتهادات، وميول، وانحيازات تكون إنسانية
بطبيعتها). وإذَن إن السعي إلى إضفاء القداسة على ما هو إنساني، وغير مقدَّس بطبيعته،
هو
القصد من وراء استراتيجية إخفاء «الفقه» وراء «الشريعة»؛ على النحو الذي تتحول فيه اختياراتٌ
سياسية وقانونية بعينها إلى مقدَّسات لا يمكن مساءلتها، أو حتى الحوار معها. وغنيٌّ عن
البيان
أن هذا التحويل للرؤى السياسية إلى مقدَّساتٍ دينية لا يقبل المساءلة، إنما يهدف إلى
حشد
الجمهور (الذي لا يصدر في اختياراته عن العقل وإنما عن الانفعال الخاضع لتوجيه المتلاعبين
به) على نحوٍ كامل، وراء تلك الرؤى. إنه الجمهور، الذي لا تدرك فيه خطابات الاستبداد
إلا
قطعانًا يجري حشدها من أجْل السيطرة على المجال العام من خلال لغة الغريزة والانفعال؛
التي
تؤكِّد التجربةُ أنها تكون دومًا ضد نظامَي الدين والعقل.
وعلى الرغم من أن الانشغال بمبادئ الشريعة التأسيسية الكلِّية — ولو كان ذلك على حساب
ما
يقرره القرآن من إجراءاتٍ وحدود كما فعل عمر — قد راح يخفت، على نحوٍ متلاحق، فإن ثمة
من
الفقهاء من ظل يستعيد هذه المبادئ باعتبارها القلب الأعمق للشريعة. ولعلَّه يجوز القول
بإمكان
التمييز في حركة التفكير الفقهي بين مسارَين؛ عكس أحدهما التصوُّر الرحب للشريعة كإطارٍ
قيَمي ذي
طبيعة كلِّية يحكم ما يندرج تحته من قواعد تشريعية محققة له، بينما أحال الآخر إلى تصوُّرها
على
نحوٍ إجرائي ضيِّق؛ وبما آل إلى اختزالها في منظومة القواعد التشريعية، مع إهمال الإطار
القيَمي
الحاكم لها.
(١) النزوع القيَمي اللانصِّي في التفكير في الشريعة
يمكن الإشارة، ضِمن سياق التفكير في الشريعة من خلال إطارٍ قيَمي كُلي، إلى الجهود
الفقهية عند الصحابة، وحتى مدارس التشريع الأولى السابقة على الإمام الشافعي. ويكاد عمر
بن الخطاب يكون الأبرز بين الصحابة في بناء الأحكام الشرعية عبْر تغليب المبادئ الكُبرى
والأصول على الأخبار والنصوص. وتبلغ هذه الغلبة حد إمكان قراءة فقهه كله من خلال جملة
القيَم الكُبرى، التي أسند إليها تقريراته الفقهية. فإنه لا معنى لنهيه عن القطع في عام
المجاعة مع أن النص (على قطع يد السارق والسارقة) شاملٌ لجميع الأوقات، إلا أنه يجعل
«قيمة الحياة» مقدَّمة على «حق الملكية». وبطبيعة الحال، «لو كانت الأحكام، ومنها الحدود،
يُتبع فيها النص المجرَّد لَما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله
أن
يخالف قول الله
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة: ٣٨).»
٣٢ من جهةٍ أخرى، كان في رفضه تقسيم الأرض المفتوحة في العراق على فاتحيها يقدِّم
مصلحة عموم المسلمين (في حاضرهم ومستقبلهم) على الحق الخاص الثابت للبعض منهم بنص القرآن،
٣٣ وكان يؤكِّد، برفض دفع سهم المؤلَّفة قلوبهم، وجوب إسقاط التمييز بين الناس
على أساس المكانة والامتياز الاجتماعي؛ حيث كان المؤلَّفة قلوبهم «من أشراف الناس».
٣٤ وقد سلك عمر على هذا النحو المجاوِز للنص إلى ما يقوم وراءه مع السُّنة أيضًا؛
حيث «يروي مسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله
ﷺ، وأبي بكر، وسنتَين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد
استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. ولم تتفق الصحابة
على ذلك؛ بل روي خلافه عن علي، وأبي موسى. ولكن عمر — رضي الله عنه — أمضاه عليهم كأنه
عقوبة، ومن خالفه اتبع ظواهر النصوص.»
٣٥ وهكذا، خرج عمر على المستقِر بمقتضى النص (عن النبي) من اعتبار طلاق الثلاث
واحدة. وقد كان دافعه في ذلك أن يتريَّث الناس في إيقاع الطلاق لما يترتب عليه من مَضارَّ
تفسد ما يقوم عليه الزواج من قيَم المودة، والرحمة، والسكن، التي يقرِّرها القرآن ذاته.
وإذَن، إنه الانحياز الدائم للقيمة الكلِّية (الحياة، المصلحة العامة، التسوية وعدم
التمييز، الرحمة والمودة والسكن)، على حساب الحق الخاص؛ ولو كان هذا الحق الخاص ثابتًا
بالنص (قرآنًا أو سنة). فإن عمر لم يتردد في تعليق «النص»، الذي يثبت به هذا الحق
الخاص، حين بدا له أن هذا الحق يتعارض مع القيمة الكلِّية المجاوزة له. وليس من شكٍّ
في
استحالة تفسير هذا الانحياز من جانبه للقيمة الكلِّية على حساب الحق الخاص، ولو كان
ثابتًا بالنص، إلا ابتداء من تعامُله مع الشريعة من زاوية دلالتها على جملة القيَم
والمبادئ الإنسانية الكُبرى، التي تندرج تحتها القواعد والأحكام التشريعية الإجرائية
كافة، التي تنطق بها النصوص؛ فالحكم يتقرر بالنص من أجْل كونه محققًا لحكمة أو قيمة؛
بما
يعنيه ذلك من أنه يكون مقصودًا من أجْل الحكمة التي تقوم وراءه، وليس من أجْل
ذاته.
والجدير بالملاحَظة أن السيدة عائشة قد سلكَت، بدَورها، نحو ما سلك عمر من مجاوزة
النصوص
إلى ما يقوم وراءها، ولكن في حكمٍ ثابت بنص نطقَت به السُّنة. فإذ «يروي أبو داود بسندٍ
عن
أبي هريرة أن رسول الله
ﷺ قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن
ليَخرُجن تَفِلاتٍ [أي غير متطيِّبات]. فإنه يروي هو نفسه عن عائشة رضي الله عنها
قولها: لو أدرك رسول الله
ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن كما مُنعَت نساء بني إسرائيل.»
٣٦ وهكذا، إنها ترى أن ما كان من المصلحة في خروج النساء إلى المساجد، وجعل
الرسول يبيح لهن ذلك، قد انتفى، ولم يعُد قائمًا على النحو الذي كان لا بد من أن يؤدِّي
بالرسول — لو كان لم يزل حيًّا — إلى تغيير حُكمه الأول. فإنه إذا كانت المصلحة، أو
القيمة المبتغاة من الحكم هي تهذيب النساء، وترقية وعْيهن، وإحضارهن في فضاءٍ واحد
يجمعهن مع الرجال على النحو الذي يفتح الباب لتغيير وضعيتهن في البناء الاجتماعي، فإن
استمرار حُكم خروجهن إلى المساجد يبقى مرهونًا بتحقيقه لهذه المصلحة. وأما في حال توقفه
عن تحقيقها، فإنه لا يجوز استمرار العمل به بحجة أن النص عليه قائم أبدًا. ويظهر من قول
السيدة عائشة أن نزاعًا قد نشب بين الصحابة حول هذه المسألة بين من يرى إباحة خروج
النساء إلى المساجد، استنادًا إلى قيام نص الحديث، بصرف النظر عن تحقُّق المصلحة
المُبتغاة منه، أو عدم تحقُّقها، وبين من يذهب إلى تعليق الحكم الذي ينطق به النص
استنادًا إلى ما استجد، ما أدَّى إلى عدم تحقُّق المصلحة التي يتغيَّاها حكم خروج النساء.
وللغرابة، إن نزاعًا قد نشب حول هذا الأمر بين «عبد الله بن عمر وابنٍ له، بحسب ما يروي
أبو داود. قال ابن عمر: قال رسول الله
ﷺ: ائذنوا للنساء إلى المساجد
بالليل، فقال ابنٌ له: والله لا نأذن لهن فيتخذْنه دغلًا، والله لا نأذن لهن. فسبَّه
وغضب،
وقال: أقول: قال رسول الله: ائذنوا لهن، وتقول: لا نأذن لهن.»
٣٧ وهكذا، إن ما هو معروف عن عبد الله بن عمر، من نزوعٍ نصي يختلف به عن منزع
والده اللانصِّي، قد جعله يتشبَّث، في مواجهة ابنه، بضرورة إعمال النص المرْوي عن النبي،
بصرف النظر عن آثاره، وذلك فيما يتشبَّث ابنه، في المقابل، بضرورة عدم إعمال النص بسبب
تغيُّر الظروف التي جعلَته يتوقف عن إنتاج مقصوده. وبطبيعة الحال، يكشف ذلك عن الوعي
بأن
النص ليس مقصودًا لذاته؛ بل لِما يقوم وراءه من قيمةٍ أو معنًى كلِّي. ولعلَّ ذلك يعني
حضور
الوعي — ولو من دون التصريح — بأن دلالة الشريعة عند هؤلاء المتقدِّمين إنما تتجاوز
النصوص إلى تلك القيَم أو المعاني الكلِّية التي تقوم وراءها. فإن الشريعة عندهم «ليست
جامدة على المنصوص حتى تُوقع الناس في إصرٍ أخبر الله أنه قد وضعه عنهم، أو تُلجئهم إلى
حرجٍ نفاه الله عنهم.»
٣٨ وهنا يَلزم التنويه بأن عدم الجمود على المنصوص لا يعني إلغاءه، أو رفضه،
بقدر ما يعني أنه يكون خاضعًا لتوجيه المعاني أو القيَم الكلِّية التي تقوم وراءه.
ولعلَّ النزوع اللانصي للصحابة يتمثل جليًّا فيما تواتر عن موقفهم بخصوص السُّنة
القولية
من أنه «كان هناك عملٌ سلبي للتقليل من روايتها.»
٣٩ والغريب هو ما يبدو من أنهم قد ربطوا هذا الإقلال من رواية السُّنة بما ظهر
لهم من مخاطر التنازع والاختلاف، التي تترتب على روايتها. ومن هنا ما أورده الذهبي في
«تذكرة الحفاظ»من «أن الصدِّيق جمع الناس بعد
وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدِّثون عن رسول الله
ﷺ أحاديث تختلفون فيها،
والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا
وبينكم كتاب الله.»
٤٠ وهكذا، إنَّ أبا بكر قد بلغ حد إصدار الأمر إلى الناس بألا يحدِّثوا الناس
بشيء عن رسول الله؛ بما سيتعارض بالكلِّية مع ما سيتطور إليه الأمر لاحقًا من الإكثار
من
الرواية عن الرسول؛ وبما فتح الباب أمام ما بدا وكأنه الانفجار النصِّي الذي تفاقم في
القرن الثالث الهجري.
وفضلًا عن ذلك، إن الصحابة لم يرتفعوا بما استحسنوه، أو أقروه من الرأي، إلى مقام
الأصل المتعالي، الذي يُلزمون به غيرهم على نحو ما جرى لاحقًا من اعتباره أصلًا من أصول
الشريعة. ومن هنا ما قيل من «أنهم كانوا يرَون ما يبدو لهم من الرأي منسوبًا إليهم لا
إلى الشريعة، فلا يجعلون العمل به ملزِمًا لغيرهم، ودليل ذلك أن أبا بكر كان يقول إذا
اجتهد برأيه: هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله. وكتب
كاتبٌ لعمر: هذا ما رأى الله ورأى عمر، فقال له عمر: بئسما قلتَ. هذا ما رأى عمر فإن
يك
صوابًا فمن الله، وإن يك خطأً فمن عمر. وقال: السُّنة ما سنَّه الله ورسوله، لا تجعلوا
خطأ
الرأي سُنةً للأمَّة.»
٤١ وإذَن، إنه الاعتبار من جانب الصحابة أنفسهم لِما أقروه وأخذوا به على أنه
من قبِيل الرأي الخاص، الذي لا يجوز الارتقاء به إلى مقام السُّنة الملزِمة. وبالمثل،
إن
ذلك سيتعارض بالكلِّية مع ما جرى لاحقًا من التعالي بما أقروه، وأخذوا به من الرأي إلى
مقام الأصل الملزِم. ولعلَّ ذلك يكشف عن أن الكيفية، التي تطور فيها مسار التطور في
الشريعة لاحقًا؛ سواء من حيث التوسع في المرويات المنسوبة إلى النبي، أم من حيث
الارتفاع بما أقره الصحابة، وأخذوا به إلى مقام الأصل المتعالي، والسُّنة الملزِمة، تعاكِس،
على نحوٍ شبه كامل، ما جرَت عليه طريقة الصحابة، التي انبنت على الإقلال من المرويات
المرفوعة إلى النبي من جهةٍ، وعلى عدم التعالي بما أقروه، وأخذوا به من الرأي إلى مقام
الأصل المتعالي الملزِم.
وقد راح البعض يرى أن السر في النزوع اللانصي للصحابة يكمُن في أنهم قد «نظروا إلى
الشريعة في مجموعها، مُلاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آنٍ واحد، فلم
يجمدوا. وأما هؤلاء المانعون [للتعليل بالحكمة] فنظروا إلى النصوص الجزئية مفكَّكةً،
كأن
كل واحدٍ منها جاء بشرعٍ أبدي لا يتغير.»
٤٢ وهكذا، إن «كلِّية» النظرة إلى الشريعة وشمولها هي ما يقف وراء تعالي الصحابة
بها من جملة «نصوصٍ مفكَّكة» إلى ما يقف وراء هذه النصوص من «مبادئ عامة وقواعد شاملة».
وإذ جعلوا من هذه المبادئ والقواعد عِللًا يعللون بها الأحكام، فإنه بدا أنهم لا يقفون
عند مجرَّد العِلل المنصوص عليها؛ بل إنهم قد تجاوَزوها إلى العِلل المستنبَطة بالعقل.
ويبقى
تأكيد أن «عمادهم في العِلل كان المصلحة أو الحكمة.»
٤٣ وإذَن، يمكن تعيين الملامح الجوهرية لتفكير الصحابة في الشريعة في عناصر
ثلاثةٍ تتمثل في: الإقلال من رواية الأخبار المنسوبة إلى النبي (أولًا)، وهو ما يترابط
(ثانيًا) مع بناء الأحكام على المبادئ والأصول، وليس على الاتِّباع الجامد للأخبار
والنصوص، والتعامل (ثالثًا) مع الأحكام التي يقرِّرونها (ويأخذون بها) على أنها مجرَّد
آراءٍ تَقبَل الصواب والخطأ؛ بما يعنيه ذلك من عدم التعالي بها إلى مقام الأصل
الملزِم.
وعلى نحوٍ ما، إن هذه الطريقة في النظر إلى الشريعة قد استمرَّت في عصر التابعين،
الذين
قيل إنهم (أو حتى بعضهم) «لم يخرجوا عن طريقة صحابة رسول الله
ﷺ،
فعلَّلوا أحكام الله رغم أنف المنكرين، وحكَّموا المصلحة في التشريع، فلم يجمدوا على
النصوص تعبُّدًا بألفاظها، ووَزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد، فأباحوا
الأول، ومنعوا من الثاني، وجعلوا عمادهم في التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف
في كل شيء كما فعل الفقهاء المتأخرون.»
٤٤ وإذا كانت هذه الطريقة في التفكير في الشريعة قد وجدَت ما يتحداها مع
التبلور التدريجي لطريقةٍ مغايِرة في التفكير فيها تعوِّل على الأخبار والنصوص، فإنها
(أو
حتى بعض عناصرها) قد ظلَّت حاضرة في الجهود الفقهية اللاحقة على عصر الصحابة. فإن المدارس
الفقهية، التي ظهرَت، في القرن الثاني الهجري، قبل الشافعي، قد اتسعَت لعناصر من هذه
الطريقة؛ كالإقلال من بناء الأحكام على المرويات المنسوبة إلى النبي، كما فعل أبو حنيفة
الذي أقل من الاستدلال بالأخبار في فقهه ابتداء من تقديم الرأي على خبر الواحد. لكنه
يبقى وجوب التأكيد على أن تعليل الأحكام بالمصالح (وهو جوهر طريقة الصحابة الذي جعلهم
يُخضعون النصوص لتوجيهها) سوف يبلغ ذروته القصوى في القرنَين السابع والثامن الهجريَّين
مع
العز بن عبد السلام ونجم الدين الطوفي.
ينطلق العز بن عبد السلام، في بناء تفكيره في الشريعة بالمصالح، من أن «الشريعة كلها
نصائح إما بدرء مفاسد أو بجلب مصالح. فإذا سمعتَ الله يقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا (البقرة: ١٠٤)، فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو
شرًّا يزجرك عنه.»
٤٥ وإذ المصالح تخص الدارَين (الدنيا والآخرة)، فإنه قد مضى إلى أن «مصالح
الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وكذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل [قبل ورود
الشرع] أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره، محمودٌ
حسَن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسَن، وأن درء المفاسد فأفسدها محمودٌ حسن،
وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمودٌ حسَن، وأن درء المفاسد الراجحة
على المصالح محمودٌ حسَن، واتفق الحكماء على ذلك.»
٤٦ وهكذا، إن اعتبار الشريعة من جهة المصالح قد أدَّى به (وعلى نحوٍ مباشر) إلى
جعل الشريعة معروفة من جهة العقل، وقبل ورود الوحي؛ وما يعنيه ذلك من أنه لا يجمد بها
عند مجرَّد النصوص. والملاحَظ على العقل، الذي يجعله مصدرًا للشريعة، أنه ليس العقل
النظري، بقدر ما هو العقل العملي؛ حيث إن «مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها وأسبابها،
معروفةٌ بالضرورات، والتجارب، والعادات، والظنون، المعتبَرات، فإن خفي شيء من ذلك طُلِب
من
أدلته، ومن أراد أن يعرف المناسبات، والمصالح، والمفاسد، راجحهما ومرجوحهما، فليَعرض
ذلك
على عقله بتقدير أن الشرع لم يَرِد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكمٌ منها يخرج
عن ذلك.»
٤٧ وإذ لا يكاد يخرج حُكم من الأحكام عن مقتضى العقل «إلا ما تعبَّد الله به
عبادة، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته»، وهو قليلٌ حيث إن «معظم الشرائع معروفةٌ
بالعقل»، فإن ذلك قد جعله يرى القرآن من جهة مقاصده، لا نصوصه. ومن هنا ما صار إليه من
أن «معظم مقاصد القرآن هي الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد
وأسبابها.»
٤٨ وهكذا، إن اعتبار الشريعة من جهة المصالح لا يبلغ بصاحبه فقط إلى جعلها
معروفة من جهة العقل المفتوح على التجارب، والعادات، والتقديرات؛ بل يؤدِّي به إلى اعتبار
القرآن لا من جهة نصوصه، بل من جهة مقاصده، التي ليست شيئًا إلا اكتساب المصالح.
والجدير بالملاحَظة، هنا، ما يبدو من أن التفكير بالقيَم، والأصول، والمصالح، يترابط
مع
النزوع اللانصي في التفكير في الشريعة.
وقد استمر هذا النزوع اللانصي في التفكير في الشريعة مع فقيه القرن الثامن الهجري نجم
الدين الطوفي الحنبلي، الذي يبدو أنه قد وصل بهذا المسار إلى ذروته القصوى. فقد أدار
الرجل تفكيره حول مركزية «المصلحة» في بناء ما يتعلق، بالذات، بفقه المعاملات الإنسانية
(في مجالاتها السياسية، والاجتماعية، والإدارية، والقضائية، وغيرها)؛ إلى الحد الذي
يقوم فيه، ليس، فحسب، بإخراج كل ما يتعلق بهذه المعاملات من مجال النصوص؛ بل كذا تقديم
المصلحة على النص في حال تعارُضهما. وهكذا، إنه ينطلق من التمييز بين ما يسميه «العبادات
والمُقدرات»، التي يكون التعويل فيها على «النصوص والإجماع» وبين «المعاملات والعادات»،
التي تقوم على مبدأ «رعاية المصلحة» أساسًا. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل، الذي تقوم
عليه تلك المعاملات، فإنه يقطع بوجوب تقديم «رعاية المصلحة» على «النص والإجماع» في حال
تعلُّقهما بالمعاملات. وهو يقيم حجته على أنه «إن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة
الشرع، فلا كلام، وإن خالفها دليلٌ شرعي وُفِّق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه [أي
النص
والإجماع]، وتقديمها [أي المصلحة] بطريق البيان.»
٤٩ ويؤسِّس الرجل هذا التقديم للمصلحة على النص على الأولوية شبه المطلَقة
للمصلحة، التي تجعلها تعلو على النص والإجماع. فإنه «مما يدل على تقديم رعاية المصلحة
على النصوص، والإجماع على الوجه الذي ذكرناه، وجوهٌ: [أحدها] أن مُنكري الإجماع قالوا
برعاية المصالح، فهي، إذَن، محل وفاق. والإجماع محل الخلاف، والتمسك بما اتفقوا عليه
أولى من التمسك بما اختلفوا فيه، و[الوجه الثاني] أن النصوص مختلفةٌ متعارضة، فهي سبب
الخلاف في الأحكام المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمرٌ مُتَّفق [عليه] في نفسه، لا يُختلَف
فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا، فكان اتباعه أَولى. وقد قال الله عز وجل:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران: ١٠٣).»
٥٠ وهكذا يبلغ الأمر بالطوفي إلى حد قراءة «المصلحة» على أنها «حبل الله» الذي
يَلزم الاعتصام به.
وإذ يدرك الطوفي أن ثمة من قد يعترض على طريقته في التفكير؛ فإنه يورِد الحجة التي
يمكن الاعتراض بها عليه، ليرُد عليها. وتتلخص حجة الخصم في أن «هذه الطريقة، التي سلكها
الطوفي في رعاية المصلحة، إما أن تكون خطأ، فلا يلتفت أحد إليها، أو تكون صوابًا. وفي
حال كونها صوابًا، فإما أن ينحصر الصواب أو الحق فيها، أو لا ينحصر. فإن انحصر الصواب
فيها لزم أن الأمَّة، من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ؛ إذ لم يقل بها
أحدٌ منهم [قبل الطوفي]. وإن لم ينحصر، فهي [مجرَّد] طريقةٍ جائزة من الطرق. وفي هذه
الحالة، إن طريق الأئمة، التي اتفقَت الأمَّة على اتباعها، يكون أَولى بالمتابعة، لقوله
عليه السلام: اتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار.»
٥١ ويلخص الطوفي ردَّه على هذه الدعوى في القول بأن طريقته في رعاية المصلحة
«ليست خطأً لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصِر فيها قطعًا، بل ظنًّا
واجتهادًا. وذلك يوجِب المصير إليها، والأخذ بها؛ حيث الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها.
وإذا قيل إن صحة طريقة رعاية المصلحة تُحيل إلى فساد طرق الأئمة السابقة عليها، فإن
الطوفي يردُّ بأن ذلك يعني ألا يقول أي أحد بقول أو طريقةٍ جديدة لكي لا يكون الخطأ من
نصيب كل ما قيل قبله. ويصل، أخيرًا، إلى القول بأن السواد الأعظم الواجب اتباعه هو
الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماءُ العامَّة إذا خالفوهم؛ لأن العامة
أكثر، وهو السواد الأعظم.»
٥٢ وما يعنيه ذلك من تقديم حُجَّة «العقل» على حجة «الجمهور» والإجماع، التي
تمثِّل مركز الثقل في الثقافة السائدة في الإسلام.
ولعلَّ ذلك يتفق مع ما يؤكِّده الطوفي من أن العقل هو الوجه، الذي تتقرر منه المصالح
في
معاملات الناس. ومن هنا، ما يقرره من «أننا اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون
العبادات وشبهها، لأن العبادات حقٌّ للشارع [الله] خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا
وكيفًا، وزمانًا ومكانًا، إلا إذا امتثل [العبد] ما رسم له الله [بالنص]، وفعل ما يعلم
أنه يرضيه. ولهذا لما تعبَّدَت الفلاسفة [الله] بعقولهم، ورفضوا الشرائع أسخطوا الله
عز
وجل، وضلوا وأضلوا. وهذا بخلاف حقوق المكلَّفين [التي هي المعاملات]، فإن أحكامها سياسية
وشرعية، وُضعَت لمصالحهم، وكانت هي المعتبَرة، وعلى تحصيلها المعوَّل، ولا يقال: إن الشرع
أعلم بمصالحهم، فلتؤخذ من أدلته، [لأن] هذا إنما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها
عن
مجاري العقول والعادات. أما مصلحة سياسة المكلَّفين في حقوقهم ومعاملاتهم، فهي معلومةٌ
لهم
بحُكم العادة والعقل.»
٥٣ بطبيعة الحال، يعني ذلك أن كل ما يتعلق بمعاملات الناس، من قواعد الضبط
السياسي والاجتماعي، هي مما يتقرر بالعقل بحسب دواعي المصلحة؛ وليس مما يتقرر بالنص —
أو حتى الإجماع — أبدًا. بل إنه، حتى على فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك القواعد،
فإن العقل يظل حاضرًا من خلال ما يؤدِّيه من دورٍ جوهري في توجيه دلالة النص؛ أو حتى
تعطيله.
والحق أن الدور المركزي، الذي يجعله الطوفي للعقل في تقرير الأحكام، إنما يستلزم
إعادة النظر في كنية «الحنبلي»، التي ألصقها التاريخ باسمه؛ ولا سيما أن الطوفي نفسه
يقر، صراحة، بأن بناء تفكيره الفقهي يقوم على قواعد المعتزلة وأصولهم. وبطبيعة الحال،
إن ذلك يُحيل إلى أن التفكير في الفقه إنما ينبني — كما قرر الغزالي سلفًا — على قواعد
التفكير في أصول الدين. وهكذا إن الطوفي، بعد أن أورد الدليل من القرآن والسُّنة على
أن
رعاية الشرع للمصلحة هي أصلٌ مطلَق قد مضى يؤسِّس هذا الأصل على ما ذهبَت إليه طوائف
المعتزلة من أن الباري لا يخلو فعله من غرضٍ وصلاحٍ للخلق؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن
الأغراض، وعن الضرر والانتفاع، فرعاية الصلاح في فعله واجبة نفيًا للعبث في الحكم عن
حكمته، وإبطالًا للسفَه عنه في إبداعه، وصنعَتِه. أما الأصلح فهم فيه مختلفون: طائفةٌ
ألحقَته بالصلاح في وجوب الرعاية، وطائفةٌ أحالت القول بوجوبه بناءً على أن ما من صالح
إلا
وفوقه ما هو أصلح منه إلى غير نهاية. ثم بنَوا على وجوب رعاية الصلاح والأصلح، باتفاقٍ
منهم، وجوب الثواب على الطاعات والآلام غير المستحقة كما في حق البهائم والصِّبيان، ووجوب
العقاب، وإحباط العمل على العِصيان، ووجوب قبول التوبة والإرشاد، بعد الخلق، وإيصال
العقل إلى وجوه المصالح بالإقدار عليها، وإقامته الآيات والحجج الداعية إليها.»
٥٤ وإذ يبدو أن المعتزلة قد صاروا إلى أن أفعال الله وأحكامه معلَّلة بالغاية
والغرض، وأن هذه الغاية هي رعاية الصلاح والأصلح للبشر؛ التي هي — والحال كذلك — واجبة
على الله، فإن ذلك بعينه هو سيقيم عليه الطوفي صراحةً دليله على أن رعاية المصلحة هي
أصل
الشرع. فقد مضى إلى تقرير «أن أفعال الله — عز وجل — معلَّلة بحِكَمٍ غائيَّة تعود بنفع
المكلَّفين وكمالهم، لا بنفع الله عز وجل لاستغنائه بذاته عما سواه.»
٥٥ وهو قول المعتزلة نفسه. ومن جهةٍ أخرى، إذا كان المعتزلة قد صاروا إلى «أن
رعاية المصالح واجبة على الله»، فإنه يتفق معهم مع تصرُّفٍ بسيط يقول فيه: «والحق أن
رعاية
المصالح واجبة من الله، حيث التزم التفضُّل بها، لا واجبة عليه، كما في آية
إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ (النساء: ١٧)، فإن قبولها واجب منه، لا عليه، وكذلك الرحمة في
قوله عز وجل:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام: ٥٤)، ونحو ذلك.»
٥٦ والحق أن ما فعله الطوفي من إبدال الوجوب «من» الله بالوجوب «على» الله يظل
من قبِيل الإبدال غير المؤثِّر في حقيقة أنه يستحيل تفسير إنجازه الفقهي في حال الإلقاء
به
خارج الفضاء المعتزلي.
وغنيٌّ عن البيان أن تصوُّر الفعل يكون معلَّلًا بالقصد والحكمة هو ما يؤسِّس للدور
المركزي
للعقل (الذي أقرَّ به المعتزلة والطوفي) في تقرير الأحكام؛ إذ يعني ذلك أن القيمة (التي
تتمثل في القصد والغاية) تكون كامنة في الفعل ذاته، وليست مضافة إليه من خارجه. وبطبيعة
الحال، ليس من معنًى لهذا الكُمون للقيمة في الفعل إلا أن العقل يقدر على الوصول إليها،
والحكم عليه من خلالها؛ ومن دون أن يكون في حاجة إلى من يخبره بها خارجه. وإذ يعني ذلك
أن قيَم الأفعال، التي تؤسس للحكم عليها (بالمصلحة أو المفسدة) لا تكون من إنشاء الشرع،
فإنه يئول إلى تأكيد أن القول بأن رعاية المصلحة أصلٌ مطلَق في الشرع إنما ينبني على
مبدأ
«التحسين والتقبيح» من العقل، لا من الشرع. وإذ يكون هذا المبدأ هو أحد الأصول الكُبرى،
التي يفكر فيها المعتزلة، فإن ذلك يقطع باندراج تفكير الطوفي تحت الأصول المعتزلية؛ حتى
وإن ظل التاريخ ينسبه إلى الحنابلة على نحوٍ غير مفهوم.
وإذا كان تفكير الطوفي قد ظل يشع — ولو على نحوٍ خافت — حتى وصل إلى السيد رشيد رضا،
فإن ما جرى من اختلاطه، عند رضا، بما بدا من نزوعه المتزايد إلى تسييس الإسلام تحت
تأثير الأفغاني والوهابية، قد آل إلى خنْق هذا النوع من التفكير المنفتح في الفقه.
وهكذا، إن حضور هذا التفكير قد تلاشى، على نحوٍ شبه كامل، في مواجهة ضربٍ آخر من التفكير
بالنصوص، إلى أن وجد ما يحفزه في النزوع المتزايد إلى تسييس الإسلام. فإنه ليس من شكٍّ
في
أن الطوفي هو ما يقف وراء ما صار إليه رضا من «أن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية
[وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات] مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة [درء
المفاسد، وحفظ المصالح أو جلبها]؛ وهي القاعدة، التي يستشهد عليها بترك سيدنا عمر وغيره
من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل المصلحة. فدلَّ ذلك على أنها تُقدَّم على النص.»
٥٧ وبطبيعة الحال، ذلك هو ما سيجعل رضا يقرر «أن الأحكام المنزَّلة من الله
تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات، وما في معناها، كالنكاح والطلاق، وهي
لا تحِل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا، كالعقوبات، والحدود، والمعاملات
المدنية. والمنزَّل من الله — تعالى — في هذه قليل، وأكثرها موكولٌ إلى الاجتهاد، وأهم
المنزَّل وآكَده الحدود في العقوبات، وسائر العقوبات تعزيرٌ مفوَّض إلى اجتهاد الحاكم،
والربا في الأحكام المدنية»
٥٨ (يعني أنه منزَّلٌ كالحدود). وهكذا، يميز، كالطوفي، بين أحكام العبادات (التي
تتعلق بالدين ولا تحِل مخالفتها بحال) وبين أحكام المعاملات (التي تتعلق بالدنيا
«والنصوص القطعية فيها عن الشارع قليلة جدًّا»).
٥٩ ولكنه لا يملك جرأة الطوفي في تقديم المصالح في المعاملات، التي وردَت بها
نصوص، في الحال التي تتعارض فيها النصوص مع المصالح. وليس من شكٍّ في أن نكوصه عن الطوفي
في تقديم المصلحة على النص إنما يرتبط بالضغوط التي كان يمارسها عليه خطاب تسييس
الإسلام الذي كان ناشطًا بقوةٍ آنذاك.
وإذ يلحظ المرء، على العموم، أن الانشغال بالمبدأ التأسيسي الكلِّي في الشريعة يتحقق،
في حال الصحابي (عمر)، والفقيه (الطوفي)، على حساب الحكم الإجرائي المتقرِّر بنص القرآن،
فإن في ذلك تفسيرًا لما سيبدو من أن الانحياز للحكم، أو التحديد الإجرائي في الشريعة/الفقه،
سيربط نفسه بالنص ارتباطًا وثيقًا. وهكذا إن مراوغة الانحياز للإجرائي في
الشريعة، على حساب المبدأ التأسيسي فيها؛ وعلى النحو الذي أتاح له أن يفرض سطوته
الكاملة على مدى القرون، إنما تأتي من تخفِّي هذا الإجرائي وراء النص. وهنا تحديدًا تكمُن
مفارقة الشريعة التي تأتي من أن دوَرانها حول النص يكون علامةً على انشغالها بالتحديدات
الإجرائية، فيما يؤدِّي بها انشغالها بالمبادئ التأسيسية الكُبرى إلى التفكير في استقلالٍ
عن «النص»؛ وإلى الحد الذي قد يدفع بها، في بعض الأحيان، إلى تعليق حُكمه. وهكذا، بقدر
ما يقيِّد الوعي نفسه بالنص، يختزل الشريعة في جانبها الإجرائي، وعلى العكس، إن انشغاله
بالجانب التأسيسي فيها يئول به إلى التفكير المتحرِّر من قيود النص.
(٢) تبلوُر المسار النصِّي في التفكير في الشريعة
يبدو أن هناك تطوراتٍ قد حصلَت، منذ القرن الأول الهجري، وبدأ معها ينفتح الباب أمام
تبلوُر المسار النصِّي في مقاربة الشريعة. وترتبط هذه التطورات في النظر إلى الشريعة
بالحدث السياسي الأكثر مركزيةً في تاريخ المسلمين؛ وهو حدث الفتنة، الذي لا يزال
المسلمون يشقَون بتداعياته المُرَّة إلى الآن. فقد ترتَّب على الفتنة أن انقسم المسلمون
إلى
فِرَق متصارعة (أمويين، وشيعة، وخوارج … إلخ)، وراحت كل واحدة منها تُكاثِر فضائلها،
وتُعدِّد
مناقب رموزها من خلال أحاديث ترفعها إلى النبي نفسه. فهذا «الاختلاف السياسي، والتعصب
للمذاهب، جعل كثيرًا من الغالين في مذاهبهم يستبيحون لأنفسهم أن يؤيِّدوا ما عندهم
بأحاديث يروُونها كذبًا عن رسول الله
ﷺ.»
٦٠ وإذ انفتح الباب أمام التحارُب بالروايات، فإن ذلك كان لا بد من أن يؤثِّر في
مسار التفكير في الشريعة؛ وبما آل إلى توفير الشروط التي سمحَت بتبلوُر المسار النصِّي
في
التفكير في الشريعة.
وهكذا، إذا كانت الأجيال الأولى من المسلمين قد امتلكَت نوعًا من الوعي غير المقيد
بالمنطوق النصِّي وحده؛ وعلى النحو الذي جعلهم أكثر انحيازًا للتأسيسي على حساب الإجرائي
في الشريعة، من خلال ما قاله عنه الأصوليون لاحقًا إنه تحقيق المناط، فإن مثل هذا الوعي
قد استمر فاعلًا حتى أحدث الشافعي التحول المعروف في مسار التفكير الفقهي؛ الذي راح في
هذا التفكير يتحدد بحدود النص/الخبر
٦١ وحده. فقد انتهى هذا التحول إلى التغطية نسبيًّا على تجربةٍ في التفكير
الفقهي كانت تتحدد بوجوب اعتبار التحولات الحاصلة في الواقع والتاريخ في بناء الحكم
الفقهي؛ سواء تعلق الأمر بتجربة الصحابة أو التابعين، أم أصحاب المدارس الفقهية
السابقة. وضِمن هذا السياق، يَلزم التنويه إلى أن الأمر لا يتعلق بمضمون المذهب الفقهي
الشافعي، بقدر ما يتعلق بجملة القواعد، التي وضعها للتفكير في الفقه. فإذ يُؤوَّل المشهور
عن الشافعي من تغييره لمذهبه في مصر عما كان عليه في العراق إلى حضور كلٍّ من الواقع
والتاريخ في بناء مذهبه؛ فإن القواعد، التي وضعها للتفكير في الفقه، لا تعكس مثل هذا
الانفتاح المذهبي؛ لأنها ظلَّت تحدِّد التفكير في الفقه بالنص/الخبر فحسب.
وإذ يُحيل ذلك إلى أن الشافعي لم يفكِّر في المذهب بالقواعد، التي وضعها في أصوله
على
نحوٍ صارم؛ بل كانت له مرونته التي يعكسها ما سبقَت الإشارة إليه من تبايُن مذهبه في
مصر
عما كان عليه في العراق، فإن معالم الخطر سوف تظهر مع ابن حنبل، الذي سيربط التفكير في
الفقه بالخبر وحده، ولا شيء سواه. ولعلَّه يمكن القول — والحال كذلك — إن ابن حنبل كان
هو
الذي قام بتوجيه القواعد التي صكَّها الشافعي على النحو الذي يخدم سعيه في بناء منظومته،
التي يغيب فيها التمييز بين الفقه والخبر. لكنه يَلزم تأكيد أن المفارقة، هنا، تأتي من
أن الشافعي نفسه لم يستخدم تلك القواعد التي قام بصكِّها في اتجاه توسيع المنظومة
الخبرية؛ بل ظلَّت منظومته مقيَّدة بالقرآن، وبما يغلب على ظنه أنها سُنة النبي الحقَّة؛
وذلك
فضلًا عن أنه لم يعتقد بإمكانية أن تكون السُّنة ناسخةً للقرآن؛ حيث أورد الرازي: «وقال
الشافعي — رضي الله عنه — إنه [أي نسخ الكتاب بالسُّنة المتواترة] لم يقع.»
٦٢ وهكذا، تجنَّب قبول أخطر ما تنبني عليه المنظومة الفقهية/الخبرية إطلاقًا؛
وهو نسخ السُّنة للقرآن، الذي استقر في الفقه السنِّي (بتأثير الحنابلة بالذات) بحسب
ما
يبين عنه قول أحد المعاصرين من أن «النص القرآني يُنسَخ بالقرآن والسُّنة المتواترة أيضًا،
ولا يُنسَخ بغيرهما.»
٦٣
لكنه يبقى (لسوء الحظ) أن الطريقة، التي أدار بها الشافعي تفكيره في النص/الخبر قد
قامت، أساسًا، على عزله الكامل عن مجمَل الشرط المحدد، ليس فقط لعمليات فهمه؛ بل وسيرورة
بنائه أيضًا. ولعلَّ ذلك ما يستفاد من الطريقة التي تعامل بها مع مفهوم السُّنة بالذات؛
وذلك بالمقارنة مع طريقة السابقين عليه في التعامل مع هذا المفهوم بعينه. فقد تميَّزَت
الحقبة، التي تسبق ظهور أصول الشافعي على رأس المائة الثالثة من الهجرة، بسيادة ضروبٍ
من
التعاطي المفتوح مع السُّنة؛ التي بدا أن السُّنة فيها لم تخرج عن كونها مستودعًا لضربٍ
من
التقليد، أو العمل الجاري المستقر «الذي دشَّنه الرسول، وحافظ عليه الخلفاء الأوائل،
ومن
تبعهم من الحكام، وأصَّله العلماء.»
٦٤ والحق أن الأمر قد تجاوز مجرَّد الحفاظ على التقليد المتوارَث مع النبي إلى
الإضافة لهذا التقليد من أعمال اللاحقين عليه أيضًا.
٦٥ وقد بلغ اتساع هذه الإضافة إلى حدِّ أن أصحاب مصنَّفات جمع الحديث الأولى
كانوا، في ابتداء تدوين السُّنة، «يضعون الأحاديث المتناسبة في بابٍ واحد، ثم يضعون جملة
من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنَّفٍ واحد، ويخلطون الأحاديث [المنسوبة إلى
النبي] بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين.»
٦٦ وإذ لا يقف الأمر — والحال كذلك — عند مجرَّد خلط الأحاديث المنسوبة إلى
النبي بأقوال الصحابة؛ بل حتى أقوال التابعين،
٦٧ فإن ذلك يعكس تصوُّرًا ينبني على أن «السُّنة» ليست من الوحي، وإلا ما كان قد
جرى خلطها بمجرَّد أقوال الصحابة، بل حتى بفتاوى التابعين. بطبيعة الحال، إن ذلك مما
يئول
إلى أن أصل الإلزام في السُّنة، في تلك اللحظة الباكرة، إنما يرجع إلى قوة سلطة التقليد
لآباء الماضي، التي كانت تسود في مجتمع الجزيرة العربية البدوي، أو شبه البدوي، ولا
يعود إلى أنها، كالقرآن، من مصدرٍ إلهي مفارق.
ولعلَّه يَلزم التنويه، هنا، إلى أن ثمة ما هو منسوبٌ إلى النبي نفسه مما يضعف مفهوم
الأصل المفارق للسنة؛ فقد تواترت الرواية عن النبي بالنهي عن تدوين السُّنة وكتابتها؛
وذلك من أجْل التفريق بينها وبين القرآن، وتأكيدًا على أنها ليست من الوحي الإلهي الذي
اقتصر عليه التدوين. وذلك فضلًا عما هو معلوم بالتواتر من تضعيفه لإلزامية كل ما يصدر
عنه (بحسب ما جرى في واقعة تأبير نخيل المدينة)، وذلك من دون أن يضع معيارًا يمكن به
التمييز بين الملزِم وغير الملزِم مما يصدر عنه؛ إلى حد ما جرى من رد «الأعلمية» بشئون
الدنيا على العموم إلى البشر (أنتم أعلم بشئون دنياكم). ويبدو أن الالْتباس، بخصوص هذا
الأمر، قد طال بعضًا من الصحابة، إلى حد التوجه مباشرة بالسؤال إلى النبي عما إذا كان
ما يقرره بشأن مسألة ما (كنزول المحاربين في موقعٍ ما بإحدى الغزوات) هو من الوحي، أم
أنه من نتاج فكره وتدبيره، فما كان منه إلا أن أجاب بأنه من فكره وتدبيره، بما يؤكِّد
أن
كل ما يصدر عنه لا يكون من الوحي. وإذا كان ثمة من التبس عليه الأمر كهذا الصحابي، فإن
هناك من كبار الصحابة من كان على وعْي بأن كل ما يصدر عن النبي ليس من الوحي؛ إذ ليس
من
شكٍّ في أن مثل هذا الوعي هو الذي دفع صحابيًّا كعمر إلى الاعتراض على إمداد النبي (في
مرض موته) بقرطاسٍ ودواة ليكتب كتابًا لهم، محتجًّا بقوله: «حسبنا كتاب الله.»
٦٨ ليؤكِّد وعيه بالتمييز بين «كتاب الله» وبين ما يمكن أن يكتبه النبي من الكتب
غيره. ولو أن الرجل يعتقد بأن كل ما يصدر عن النبي هو من الوحي، لما كان قد جاز له
إهماله أبدًا؛ ومن دون أن يجادل أحد بأن «الوجع الذي غلب على النبي» هو الأصل في هذا
الإهمال؛ لأن الأمر يتعلق بشخصٍ ذي وضع استثنائي حتى في حال وجعه. والغريب أن يكون
الشافعي نفسه قد أورد عن أحد كبار الصحابة ما يدعم القول بأنهم لم يتصوَّروا السُّنة
من
الوحي؛ بل تصوُّروها من «الرأي»، الذي يمكن الاختلاف معه. ومن ذلك قوله: «أخبرنا مالك
عن
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقايةً [إناء للشرب] من ذهب
أو
ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعتُ رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال
معاوية: ما أرى بهذا بأسًا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية! أخبره عن رسول الله
ويخبرني عن رأيه؟!»
٦٩ وبطبيعة الحال، عمل معاوية برأيه في مواجهة ما سمَّاه الشافعي «الخبر الثقة
عن النبي»، إنما يعكس تصوُّره للسنة؛ لا بما هي من «الوحي»؛ بل من قبِيل «الرأي» الذي
يمكن
الاختلاف معه.
وإذ تواتر النهي عن تدوين السُّنة عن كبار الصحابة أيضًا، فإن ما يلفت النظر، في
هذا
النهي، تحوُّطهم الظاهر من أن يؤدِّي ذلك إلى أن تكون بديلًا يستغني به الناس عن كتاب
الله.
فمما يُروَى أن «عمر بن الخطاب استشار الصحابة في تدوين الحديث، ثم استخار الله في ذلك
شهرًا، ثم عدل عن ذلك، وقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم
كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيءٍ أبدًا.»
٧٠ وحين يقارن المرء بين موقف عمر الحاسم بخصوص وجوب تدوين القرآن، وبين ما
يبدو من اعتباره تدوين السنن والحديث من قبِيل الشيء، أو «الشائبة»، التي يمكن أن تشوب
كتاب الله، فإنه يستطيع القطع بيقين، بأن الرجل ينظر إليهما على أنهما من طبيعتَين
متباينتَين، وأن السُّنة لها مصدرها المغايِر لذلك الذي صدر عنه كتاب الله. ولعلَّ ذلك
ما
سيقطع به ما تنسبه المصادر إلى الإمام علي من أنه قال: «أعزم على كل من كان عنده كتاب
إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين سمعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم.»
٧١ فإنه لا معنى لهذا الذي يقول به الإمام، إلا القطع الصريح بأنه قد كانت
هناك مدونات غير القرآن عند البعض؛ وهي مدونات للسنن والحديث لم يتردد الإمام في نسبتها
إلى «العلماء»، واعتبار أن سماعها ترك لكتاب الله. وهكذا، إنه الرفض الحاسم، من
الصحابة، لتدوين السنن والأحاديث؛ مخافة أن ترتفع بها الكتابة إلى مقام «كتاب الله»؛
وبما يعنيه ذلك من إقرارهم بانفراد القرآن وحده بمكانة الوحي الصادر عن الله.
وقد استقر أمر التعاطي مع السُّنة على ذات النحو من المرونة والانفتاح، الذي يضعها
خارج
حدود الوحي، مع أصحاب المدارس الفقهية السابقة على الشافعي. وهنا، يمكن الإشارة إلى ما
نقله الشافعي عن أبي يوسف؛ بخصوص الأوزاعي (فقيه الشام الكبير)، من أن قوله: «على هذا
كانت أئمة المسلمين فيما سلف.» إنما يعادل قوله: «بهذا مضَت السُّنة.» وذلك، على الرغم
من
أنه قد يكون «كما وصفت من رأي أهل الحجاز، أو رأي بعض أمراء مشايخ الشام ممن لا يحسن
الوضوء، ولا التشهد.»
٧٢ وبحسب ما سبق التنويه به، إن كتاب «
الموطأ» لمالك قد اتسع لأقوال الصحابة وآثار التابعين، إلى جانب
الأحاديث المنسوبة للنبي ذاته؛ بما انعكس على الطريقة التي استخدم بها مالكٌ مفهوم
السُّنة. حيث الثابت أن مالكًا لم يقصر استخدام لفظة «السُّنة» على ما تواتر عن النبي
وحده؛
٧٣ بل استخدم المفهوم بمعناه الأوسع، الذي اتسع معه ليشتمل على «سنة
المسلمين»، و«سنة أهل الكتاب»، كما استخدم مفهوم «السُّنة عندنا»، قاصدًا به «عمل أهل
المدينة». ولعلَّ هذا الاتساع في استخدام مالك لمفهوم السُّنة هو ما يمكن فهمه مما نقله
الشافعي عن أبي يوسف من أن «أهل الحجاز يقضون بالقضاء، فيقال لهم: عمن هذا؟ فيقولون:
بهذا جرَت السُّنة، وعسى أن يكون قضى به عامل السوق، أو عامل ماء من المياه.»
٧٤ بطبيعة الحال، إن هذا التنزيل بمصدر السُّنة، إلى حد أن يكون عاملًا في
السوق (أو من لا يحسن الوضوء والتشهد)، إنما يؤكِّد أن الاستخدام الأوَّلي للمفهوم لم
يكن
ينطوي على الحمولة الدينية، التي أثقلَت عليه بعد ذلك، بقدر ما يكشف عن حضوره بمحض
دلالته الاجتماعية أساسًا. وهكذا، يمكن القول: إن الأمر، في البدايات المبكرة لظهور
المفهوم، قد وقف عند حدود المضمون الاجتماعي للسنة؛ ومن دون أن يكتسي بالدلالة الدينية
الكثيفة (والأهم المتعالية) التي ستطغى عليه لاحقًا، ومع الشافعي بالذات.
في مواجهة هذا الضرب من التعامل الواقعي العيني مع السُّنة، ابتدأ الشافعي مسار
التعالي؛ لا بالسُّنة وحدها؛ بل بأصول الفقه على العموم؛ وهو التعالي الذي أحاط هذه
الأصول بسياجٍ من القداسة، التي كان لا بد من أن تتسرب، على نحوٍ ما، إلى المنتج الفقهي
النهائي الذي أنشأه. فإن أصولًا ذات سمات متعالية ومقدَّسة، لا بد من أن يكون الناتج
عنها
مسكونًا بهذه السمات المتعالية نفسها. وهكذا، إنه قد تبنَّى ذات التصوُّر المتعالي للقرآن؛
كصفة قديمة قائمة بذات الله؛
٧٥ وعلى طريقة الحنابلة نفسها، التي لا يكون القِدَم فيها للمعنى فحسب، بل
للكلمة المنطوقة ذاتها.
٧٦ ولم يقف الشافعي عند حد التعالي بالقرآن على هذا النحو، بل إنه قد راح
يتعالى بالسُّنة إلى مقام الوحي الإلهي؛ وذلك على عكس ما استقر من تمييزها عن الوحي.
وقد
اعتمد الشافعي، في إنجاز هذا التعالي، على قراءته لبعض نصوص القرآن قراءةً تأويلية تقوم،
أساسًا، على التوجيه الواضح للدلالة؛ وذلك إما بتضييقها أو بتوسيعها على نحوٍ غير منضبط.
فبعد أن أورد الشافعي، ما يفيد أن الله قد «قرن الإيمان برسوله مع الإيمان به»، رتب على
ذلك أنه «فرض على الناس اتباع وحيه وسُنن رسوله»؛ وراح يؤسِّس هذا الفرض على أن السُّنة
بدَورها، تنزيل من الله، استنادًا إلى قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (النساء: ١١٣)، «فذكر الله تعالى الكتاب، وهو القرآن، وذكر
الحكمة. فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة [هي] سُنة رسول الله.»
٧٧ وإذ مضى الشافعي إلى تفسير «الحكمة» (المنزَّلة مع الكتاب) على أنها «السُّنة»،
فإنه لن يكون غريبًا أن يقرأها الإمام مالك على أنها لا تعني إلا «المعرفة بالدين
والفقه فيه» (بدلالتهما الإنسانية)؛ وهو ما يتسق مع قراءته المفتوحة للسنة. إن ذلك يعني
أن تصوُّر مالك المنفتح للسنة قد انعكس على تأكيده الأصل الإنساني للحكمة؛ وذلك فيما
تأدَّى
تصوُّر الشافعي المتعالي للسنة إلى قراءةٍ للحكمة تجعلها من التنزيل الإلهي. وبطبيعة
الحال، ينطوي ذلك على ما يمكن القول إنه توجيه الشافعي للدلالة القرآنية؛ على النحو
الذي تضيق معه إلى مجرَّد الإشارة إلى السُّنة النبوية وحدها. وهنا يَلزم التنويه إلى
أنه
إذا كان الشافعي قد اعتمد، في توجيه دلالة الحكمة، إلى هذا المعنى الضيِّق على ما لاحظ
من
الاقتران بين لفظتَي «الكتاب والحكمة»، فإن ثمة من الآيات القرآنية ما أورد لفظ الحكمة
منفردًا (من دون أن يكون مقرونًا بالكتاب)؛ وبكيفيةٍ تنصرف معها دلالته إلى المجال الإنساني.
٧٨
والحق أن الأمر لم يقِف عند مجرَّد تضييق الشافعي للدلالة، فيما يختص بلفظة الحكمة،
حين
صرفها إلى مجرَّد التنزيل الإلهي، متجاهلًا استخدامها في القرآن بدلالةٍ إنسانية؛ على
نحوٍ
يجعل قصر تداولها القرآني على مجرَّد التنزيل الإلهي تضييقًا للدلالة يأباه القرآن؛ بل
إنه سوف يتجاوز ذلك إلى توسيع الدلالة، فيما يخص مفهوم «طاعة النبي»، على النحو الذي
(للمفارقة) يأباه القرآن أيضًا. فقد راح الشافعي يستدعي كل الآيات التي «أحكم [الله
فيها] فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته.»
٧٩ ولكنه لا يتطرق أبدًا إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الطاعة مُطلَقة، أو أنها
مشروطةٌ بكونه مجرَّد مُبلِّغ (أو حتى مُبيِّن) لحكم الوحي. وأن طاعته، المقرونة بطاعة
الله، لا تكون فيما ينشئه بفهمه وتدبيره؛ وإلا ما كان القرآن قد عاتبه على بعض ما
أحدثه بفهمه، وأمره بالرجوع عنه. وكمثالٍ على ذلك، يمكن الإشارة إلى ما قرره النبي بخصوص
أسْرى بدر، ما راجعه فيه القرآن، بل خوفه عليه بالعذاب العظيم؛ على النحو الذي أبكاه
بحسب ما تقول الرواية التي أوردها المفسرون.
فقد أورد القرطبي، في تفسير قوله تعالى:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (الأنفال: ٦٧)، عن ابن عباسٍ قوله: فلما أَسَروا
الأُسارى قال رسول الله
ﷺ لأبي بكر وعمر: «ما تقولون في هؤلاء
الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية،
فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله
ﷺ: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر،
ولكني أرى أن تُمكنَّا فنضربَ أعناقهم، فتُمكِّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنِّي
من
فلانٍ [نسيب لعمر] فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهويَ رسول الله
ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، فلما كان من الغد جئتُ، فإذا رسول
الله
ﷺ وأبو بكر قاعدَين يبكيان، فقلتُ: يا رسول الله، أخبرني من أي
شيء تبكي أنت وصاحبك، فإذا وجدتُ بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد تباكَيتُ لبكائكما؟ فقال رسول
الله
ﷺ: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض عليَّ عذابهم
أدنى من هذه الشجرة [شجرة قريبة كانت من نبي الله
ﷺ] وأنزل الله عز
وجل
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
(الأنفال: ٦٧).»
٨٠ وبصرف النظر عما أورده الرازي في تفسيره من قول البعض: «إن النبي
ﷺ وأبا بكر بكيا، وصرَّح الرسول
ﷺ أنه بكى لأجل أنه حكم بأخذ
الفداء، وذلك يدل على أنه مذنب، [بدليل قوله: إن العذاب قرب نزوله، ولو نزل لما نجا
منه غير عمر]، وذلك يدل على الذنب.»
٨١ فإنه يبقى أن النبي قد أخذ بحكمٍ من نفسه في مسألة الأسْرى، لم يقبل به وحي
السماء، بل وخوَّفه بالعذاب بسببه. وبطبيعة الحال، يعني ذلك أن طاعة الرسول محدودة بكونه
مُبلِّغًا (أو حتى مُبيِّنًا) لحكم السماء، وليست طاعةً مطلَقة لا تمييز فيها بين ما
يصدر
عن تفكيره ورأيه، وبين ما يتلقَّاه من السماء. وغنيٌّ عن البيان أن ما يعتمده الشافعي
من
توسيع دلالة «طاعة الرسول»، على النحو الذي تكون معه طاعةً مطلَقة، إنما يقوم على السكوت
عن هذا التمييز الضروري بين ما يصدر عن رأي النبي، وبين ما يكون فيه مبلِّغًا عن السماء.
وإذا كان هذا السكوت هو ما سمح للشافعي بالتعالي بالسُّنة إلى مقام الوحي، فإنه يبقى
أنه
يقوم على إخفاء العديد من وجوه مراجعة القرآن (وحتى رده) لرأي أو حُكم قال به النبي من
نفسه. وبطبيعة الحال، يعني ذلك أن القرآن نفسه ينطوي على ما يخلخل تصوُّر الشافعي لطاعة
الرسول، على أنها طاعةٌ مطلَقة، أو أنها في المقام نفسه المفروض لطاعة الله.
ولسوء الحظ، إن فرض هذه الطاعة المطلَقة للنبي لم يقترن بالتدقيق فيما يُروى عن النبي؛
على النحو الذي يؤدِّي إلى تخليص ما يُروى عنه مما لا يتفق مع (أو يكون فيه تزيُّد على)
كتاب الله؛ بل إن الشافعي قد انفرد بتثبيت خبر الواحد؛ استنادًا إلى ما أورده من أخبارٍ
تدل على تصديق الصحابة لخبر الواحد عن النبي.
٨٢ وبهذا التثبيت لخبر الواحد، مع فرض الطاعة المطلَقة للنبي، فتح الشافعي
الباب أمام ما يمكن القول إنه الفقه النصِّي أو الآثاري؛ الذي انفجر في صورة الفقه السلفي
اللاحق، الذي لا يزال يثقل للآن — باتساعه وضخامته — على واقع المجتمعات الإسلامية، على
الرغم مما يبدو من تزيُّده (أو حتى تحيُّفه) على كتاب الله في كثيرٍ من الأحيان. والغريب
حقًّا أن الصحابة الكبار أنفسهم (وأبا بكر وعمر بالذات) قد بلغ بهم التحوُّط، بخصوص ما
يُروى عن النبي، حدَّ عدم قبول خبر الواحد أبدًا، واشتراطهم ضرورة أن يأتي راوي الخبر
بشاهدٍ أو بيِّنة لقبول روايته.
٨٣ ولعلَّ ما يثير هنا أن الصحابة ما كانوا يقبلون بخبر الواحد على الرغم من
قربهم الشديد من عهد النبي، في حين أن الشافعي يقبل به، على الرغم من بُعده عن هذا
العهد. وغنيٌّ عن البيان أن هذا الفاصل الزمني بين الشافعي وبين الحقبة النبوية؛ الذي
يدنو من القرنَين تقريبًا، قد فاض بما هو معروف من الوضع على النبي، وعلى النحو الذي
تضخَّمَت معه مدوَّنة الأخبار المروية عن النبي على نحوٍ هائل.
٨٤ ولعلَّ المرء حين يقارِن بين ما تنسبه المصادر إلى الصحابة من محدودية الأخبار
عن النبي،
٨٥ وبين ما جرى من التضخم اللاحق في حجم هذه الأخبار، لا بد من أن يدهش من
إصرار الشافعي على تثبيت حجية خبر الواحد. ولربما جاز القول إنه لا سبيل إلى تفسير هذا
الإصرار خارج سعي الشافعي إلى التعالي بالخبر الذي هو الأصل المؤسِّس في منظومته الفقهية
بأسْرها. وبطبيعة الحال، سيكون ذلك هو الأصل فيما سيمضي إليه من اعتبار الإجماع، بدَوره،
نوعًا من الخبر الذي سيتعالى به، أيضًا، إلى حيث يصبح من السُّنة؛ التي هي، تبعًا لما
سبق، وحي من السماء. فإنه إذا كان الشافعي قد ميَّز في الوحي بين «الوحي المتلُو»
المُنزَّل بوساطة الملَك (وهو القرآن)، وبين «الوحي غير المتلُو» المُلقَى في روع النبي
(وهو السُّنة)،
٨٦ فإنه قد راح يميِّز، في هذا الوحي غير المتلُو (أو السُّنة) بين السُّنة
«المحكيَّة» (وهي السنة بالمعنى المعروف)، وبين ما أسماه بالسنة «غير المحكيَّة» (التي
هي الإجماع). فإن «ما اجتمع المسلمون عليه، وحكَوا عمن قبلهم الاجتماع
عليه لا يختلفون فيه، وإن لم يقولوا هذا بكتاب ولا سنة، فقد يقوم عندي مقام السُّنة
المجتمع عليها، وذلك لأن إجماعهم لا يكون عن رأي؛ لأن الرأي إذا كان تُفُرِّق [أي اختُلِف]
فيه.»
٨٧ وإذ يقرر الشافعي، على نحوٍ صريح، أن الإجماع لا يكون على رأي (لأن الرأي
قرين الاختلاف والتفرق)، فإن ذلك يعني، بمنطق المخالفة، أنه يكون إجماعًا على خبرٍ فقط،
فإن هذا الخبر لا يُروَى حكاية عن النبي.
وعلى الرغم من هذا التأسيس الإبستمولوجي لسلطة الخبر، فإنه يبدو أن ذلك لم يؤثِّر
في
محدودية المدونة الحديثية النصِّية عند الشافعي نفسه؛ بمعنى أنها لم تتسع عنده لما
سيدخلها مع اللاحقين عليه مثل ابن حنبل، وغيره. وهكذا يتعلق الأمر بدَورٍ تأسيسي للشافعي
استغلَّه اللاحقون عليه في إلحاق ما قال عنه الكواكبي إنها «الأحاديث الموضوعة والمدخولة»
بالسُّنة. إن ذلك يعني أنه إذا كان الشافعي قد وضع بعضًا من الشروط المعرفية، التي جعلَت
التزيُّد النصِّي ممكنًا، فإنه لم يكن هو نفسه الصانع لهذا التزيد الذي يشبه «الانفجار
النصِّي». ولعلَّ ذلك يأتي من حقيقة أن تحقُّق هذا الانفجار في الواقع على مدى النصف
الأول من
القرن الثالث الهجري إنما يرتبط بشروطٍ وتحولاتٍ تاريخية لم تكن قائمة في عصر الشافعي.
فإن قيام بعض الشروط المعرفية لظاهرةٍ ما لا يكون كافيًا وحده لتحقُّقها؛ بل يَلزم أن
تتبلور الشروط التاريخية (بالمعنى السياسي والاجتماعي) لكي يصبح هذا الظهور قائمًا
فعليًّا في الواقع.
ولقد تمثَّلَت تلك الشروط التاريخية في البروز المتزايد للعوام على مسرح السياسة
في
الدولة العباسية؛ وإلى الحد الذي نصح معه الخليفة المأمون ولي عهده قائلًا: «لا تغفل
أمر الرعية والعوام فإن المُلك بهم.»
٨٨ وبطبيعة الحال إن تقدير الخليفة أن «المُلك يكون بالعوام» إنما يعني
إدراكًا لحقيقة ما بات لهم من دَورٍ مؤثِّر في تحديد مصائر الخلافة. ولعلَّ في ذلك تفسيرًا
لما أورده السيوطي في روايةٍ كان بطلها الخليفة المتوكل الذي «كان قد بايع بولاية العهد
لابنه المنتصر، ثم المعتز، ثم المؤيد، ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه، فسأل
المنتصر أن ينزل عن العهد، فأبى، فكان [المتوكل] يُحضره مجلس العامة، ويحط منزلته،
ويهدده، ويشتمه، ويتوعده، واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور، فاتفق الأتراك مع
المنتصر على قتل أبيه، فدخل عليه خمسة في جوف الليل، وهو في مجلس لهْوه، فقتلوه هو
ووزيره الفتح بن خاقان، وذلك في خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتَين.»
٨٩ تكشف الرواية عن القوَّتَين الفاعلتَين في سياسة الخلافة آنذاك؛ وهما «العامة»،
الذين جعل لهم الخليفة مجلسًا يحضره بنفسه، و«الأتراك»، الذين حضروا كقوةٍ عسكرية كانت
قد بدأَت، منذ حين، تتحكم في تحديد مصائر الخلفاء. وإذ أراد الخليفة أن يزحزح ابنه
الأكبر عن ولاية العهد، فإن خطته كانت أن يضعف مركزه أمام العوام؛ بما يعنيه ذلك من
الإقرار بدَورٍ حاكمٍ لهم في دولاب السلطة. وفي المقابل، فإن ابنه قد بادر إلى التآمر
على
قتله مع الأتراك الذين كانوا على خصومةٍ معه. وهكذا، ترسم الرواية صورة خليفةٍ قد اختار
أن يستعين بقوة العوام على أمرٍ قرره، ولكن القوة الأخرى كانت له ولِما قرره
بالمرصاد.
وبطبيعة الحال، لم يكن بمقدور المتوكل أن يتقوَّى بالعامة، إلا لأنه قد ابتدأ بالتقرب
إليهم أولًا. وهكذا، اختار أن يلين لهم، على عكس أسلافه من خلفاء بني العباس. ومن هنا،
ما أورده المؤرخون على لسانه من القول: «كانت الخلفاء قبلي تتعصب على الرعية لتطيعها،
وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني.»
٩٠ وغنيٌّ عن البيان أن هذا الانقلاب في استراتيجية الخلافة في التعامل مع
العوام، إنما يرتبط بالإحساس المتزايد بالاحتياج إلى دَورهم في مواجهة النفوذ المتعاظم
للأتراك. فقد كانت سياسة استخدام الأتراك في الدولة العباسية، التي بدأها الخليفة
المعتصم في الربع الأول من القرن الثالث الهجري
٩١ ليوازن بها نفوذ الفرس، قد انتهت إلى تعظيم نفوذهم؛ على النحو الذي «صاروا
معه مصدر قلقٍ واضطراب.»
٩٢ ولعلَّ المتوكل قد أدرك أنه لن يكون بمقدوره أن يجابه هذا النفوذ المتعاظِم
للأتراك (الذي كان يُقدِّر خطره) إلا بالتعويل على العوام، الذين كانوا قد برزوا كقوةٍ
لها وزنها، في صراعات القوة، بعد أن استعان بهم الخليفة «الأمين» في الدفاع عن بغداد
في
مواجهة جيش أخيه «المأمون». وعلى العموم، يبدو أن خلفاء بني العباس لم يجدوا، بعد أن
زالت عصبية العرب، وتآكلَت قوة الفرس، من يعتمدون عليه في مواجهة نفوذ الأتراك، إلا
العوام. ومن هنا إنهم كانوا بمثابة القوة الوحيدة، التي بدا للمتوكل إمكانُ المناورة
بها
في خطَّته لخلع ابنه المنتصر من ولاية العهد. ولعلَّه كان على ثقةٍ من دعم العوام لخطته
بسبب
ما مارسه نحوهم من اللين وعدم التعصب. ويبدو بالفعل أن العوام قد أحبُّوا الخليفة الذي
أظهر لهم اللين، فأوجعهم مقتله، وانفجرَت على أيديهم «موجة من النقمة ضد تسلُّط الجند،
فحدثَت في سامراء، سنة ٢٤٨ﻫ، حركةٌ شعبية عبَّرَت عن استنكار العامة لعبث الأتراك بالخلافة،
شارك في هذه الانتفاضة الغلمان الشاكرية، ونحو ألف رجل من الغوغاء والسوقة. وبعد مدةٍ
قصيرة، شغب الجند والشاكرية ببغداد ناقمين على الأتراك قتْلهم المتوكل، واستيلاءهم على
أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله، من غير الرجوع إلى ديانة ولا احترامٍ لرأي المسلمين.»
٩٣
ولكنه يَلزم التنويه إلى أن الأمر لا يتعلق بخليفةٍ طيب القلب اختار أن يلين لرعيته،
بقدر ما يتعلق بسياسةٍ مقصودة لاسترضاء العامة؛ لكي يتسنَّى له استخدامهم والاستقواء
بهم
في مواجهة خصومه. وإذ يشير مؤرخٌ كالمسعودي إلى أن «أيام المتوكل، في حسنها ونضارتها،
ورفاهية العيش بها، وحمد العام والخاص لها، ورضاهم عنها، كانت أيام سرَّاء لا ضرَّاء.»
٩٤ فإنه يبدو وكأن الاسترضاء لم يقف عند حدود ما وفَّره لهم من «رفاهية العيش»
فحسب، بل بما أضافه إلى ذلك من «خطابٍ» يتجاوب مع حالتهم العقلية؛ وبما كان لا بد أن
ينعكس على نوعية المسائل المطروحة للنقاش في عصره. وضِمن هذا السياق، إن الخطاب الذي
رعاه المتوكل للتأثير في العوام إنما ينكشف، على نحوٍ صريح، ليس فقط من خلال المسائل،
التي صدر الأمر بتحريم إثارتها، كمسألة خلق القرآن، بل من خلال ما جرى العمل على
مراكمته من منظوماتٍ نصية وإخبارية.
ولعلَّ قراءةً مدقِّقة لما أحدثه المتوكل تكشف عن حصول ما سيتكرر مع الأشعري، بعد
نحو نصف
القرن تقريبًا. فإنه إذا جاز النظر إلى «خلق القرآن» على أنها من أهم المسائل التي
اشتهر المعتزلة بإثارتها آنذاك (حيث يكون الانقلاب عليها انقلابًا على المعتزلة أنفسهم؛
لا كمجرَّد مذهبٍ فحسب، بل كطريقةٍ في التفكير أيضًا)؛ فإن هذا الانقلاب عينه هو ما سيتكرر
مع الأشعري بعد نصف قرن؛ وبالكيفية التي يمكن قراءة أحد الانقلابَين بالآخر. وما فعله
(السياسي) من قمْع المعتزلة، وإسكاتهم في الواقع، على مدى سني خلافته، سوف يقوم
(المتكلِّم) بالتنظير له، على مستوى الخطاب، بعد بضعة عقودٍ قليلة. وإذ يحضر المعتزلة،
في
اللحظتَين، في وضع الخصم الذي انشغل «السياسي» ثم «المتكلم» بإسكاته ودحض خطابه، إنه
يمكن القول بوحدة ما كان كلٌّ من السياسي والمتكلم يستهدفان تثبيته؛ وذلك على أساس أن
اتفاق الناس على ما يرفضون كثيرًا ما يكون مقرونًا باتفاقهم على ما يقبلون. ولقد كان
«الخبر» محل الاتفاق في الحالَين؛ ولكن بينما وقف الأمر عند المتوكل إلى فتح الباب أمام
بناء «المنظومة الخبرية» ذاتها؛ فإن الأمر عند الأشعري قد انصرف إلى التأسيس المعرفي
لسلطة هذه المنظومة.
تُورد المصادر عن المأمون أنه «كان فيه تشيُّعٌ واعتزال وجهل بالسُّنة الصحيحة.»
٩٥ ويبدو أن أمر هذا الموصوف بالجهل بالسُّنة الصحيحة لم يقف عند مجرَّد تبنِّيه
مذهب الاعتزال، بل إنه «دعا إليه وحمل الناس قهرًا عليه.»
٩٦ ولسوف يبلغ الأمر مداه مع «المعتصم»، الذي تلاه في الخلافة؛ حين جعل من
المسألة المعتزلية الخاصة بخلق القرآن مما يُمتحَن به الناس إبَّان خلافته، «وقاسى الناس
منه مشقَّة في ذلك، وقتَل عليه خلقًا من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل.»
٩٧ وغنيٌّ عن البيان أنَّ حملَ الناس قهرًا على الاعتزال إنما يعني أنهم كانوا
سينفرون منه فيما لو تُرِكوا أحرارًا في مواجهته. ويرتبط ذلك — لا محالة — بما يستلزمه
الاعتزال من إعمالٍ للعقل لا يقدر عليه العوام (فيما يبدو) لأسبابٍ ترجع إلى طبيعة ظروف
النشأة والتربية. ومن هنا ما سيستقر في الثقافة لاحقًا من أن العوام لا يُصدِّقون إلا
بالأقاويل الخطابية التي تقصد إلى التأثير في النفس بالتمثيلات والصور، وليس بالأقاويل
البرهانية، التي تقصد إلى إقناع العقل بالأدلة. إن ذلك يعني أن الخطاب معهم لا يمكن أن
يكون إلا بالخبر أو النص، وليس أبدًا بالعقل. ومن هنا إن رواد الأخبار الكبار سوف
يكونون هم ورثة جُلساء المأمون من المعتزلة.
وهكذا، إن المتوكل سيكون، في المصادر القديمة، موضوعًا لخطابٍ مختلف بالكامل عن خطابها
حول المأمون؛ إذ فيما تروج بخصوص المأمون أنه كان به «تشيُّع، واعتزال، وجهل بالسُّنة
الصحيحة»، فإنها ستورد عن المتوكل أنه «أظهر الميل إلى السُّنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة
وكتب بذلك إلى الآفاق، واستقدم المحدِّثين في سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم أن
يحدِّثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرُّصافة، فاجتمع
إليه نحوٌ من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه، أيضًا،
نحوٌ
من ثلاثين ألف نفس.»
٩٨ وإذَن، إنه الانقلاب الكامل على تراث المأمون، وعلى كل ما يمثِّله فكرًا
وسياسة. وضِمن هذا السياق، إن «السُّنة» تكاد تكون مركز هذا الانقلاب ومحوره. فإذ هو
الجهل بها؛ وبما يعنيه ذلك من إهمالها عند المأمون، فإنه الإحياء لها، والانتصار لأهلها
عند المتوكل. ولم يكن يعني إحياء السُّنة، والانتصار لأهلها، إلا التوسع الهائل (إلى
حد
الانفجار) في منظومة الأخبار؛ باعتبار ما بدا من أن الخبر هو السبيل الأوحد لإقناع
العوام.
ولعلَّ التوسع في منظومة الأخبار يرتبط بحقيقة أنه كان من الضروري أن تغطي الأخبار
كل
ما يمكن الاحتياج إليه في توجيه، وضبط سلوك العوام الذين كانوا لا يصدقون بغير الأقوال
الخبرية، المرفوعة إلى السلطة صاحبة السيادة في الإسلام. ومن هنا ما قيل من أن «من أهم
أسباب الوضع [للأحاديث] هو مغالاة الناس إذ ذاك [النصف الأول للقرن الثالث الهجري
بالذات]، في أنهم لا يقبلون من العلم إلا ما اتصل بالكتاب والسُّنة [كمصدرَين نصِّيَّين
أو
خبريَّين] اتصالًا وثيقًا، وما عدا ذلك، ليس له قيمةٌ كبيرة، فأحكام الحلال والحرام إذا
كانت مؤسَّسة على مجرَّد الاجتهاد لم يكن لها قيمة ما أُسِّس على الحديث، ولا ما يقرب
منه.
بل كثير من العلماء في ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أية قيمة؛ بل بعضهم كان يشنِّع
على من ينحو هذا النحو [الاجتهادي].»
٩٩ وإذَن، إن تبخيس الناس الحكم حال قيامه على الاجتهاد بالرأي، قد دفع إلى
الْتماس الأحاديث لتقوم عليها الأحكام. وضِمن هذا السياق قد نشأ وضْعٌ غريب يتمثل في
أن
الحكم لم يعد نتاجًا لحديثٍ قائم بالفعل؛ بل بات الحكم المراد يوجد، أولًا، ثم يجري
اصطناع الحديث الذي يؤسِّس له.
١٠٠ ومن هنا ما ورد عن البعض «انظروا هذا الحديث ممن تأخذونه، فإنا كنا إذا
رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا … [بل يبلغ الأمر حد تجاوُز الرأي إلى الهوى عند آخرين؛
وحيث قال آخر] إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا
أمرًا صيرناه حديثًا … [وكذا قال بعضهم] كنا إذا اجتمعنا استحسنَّا شيئًا جعلناه حديثًا.»
١٠١ وقد ترتب على ذلك أن المرء «لا يكاد يجد فرعًا فقهيًّا مختلفًا فيه إلا
وحديثٌ يؤيد هذا، وحديثٌ يؤيد ذاك.»
١٠٢ بما يئول إلى تعرية المأزق الذي ينتهي إليه التفكير في الفقه بمجرَّد الحديث،
حيث تتعارض الأحكام تبعًا لتعارُض الأقوال التي يرجع تعارضها إلى صدورها عن المَيل أو
الهوى. وإذ يمكن قبول تبايُن الآراء، فإنه يصعب قبول قولَين متعارضَين يصدران عن النبي
في
المسألة الواحدة. والأخطر من ذلك أن يصبح هذان القولان المتعارضان من الدين.
وإذا كانت الأحكام تقصد ضبط السلوك الخارجي للجمهور بالتشريع، فإن الأمر قد تجاوز
إلى
محاولة التحكم في قلوب الجمهور أيضًا؛ حيث «أنبأنا أبو أحمد بن عدي، قال: سمعتُ أبا عبد
الله النهاوندي قال: قلتُ لغلام خليل: هذه الأحاديث التي تحدِّث بها من الرقائق، فقال:
وضعناها لنرقِّق بها قلوب العامة.»
١٠٣ وإذا لم تكن قلوب العامة قابلة للترقيق، فإنه يمكن وضع ما يروضهم، أو
يزجرهم؛ ومن هنا ما قيل من أن «قومًا وضعوا الأحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس
على الخير، ويزجروهم عن الشر، وهذا تعاطٍ على الشريعة، ومضمون فِعلهم أن الشريعة تحتاج
إلى تتمَّةٍ فقد أتممناها.»
١٠٤ بطبيعة الحال، إن تصوُّر الشريعة ناقصة وفي حاجة إلى تتمَّة، والأحاديث
الموضوعة هي السبيل إلى تحقيق تلك التتمَّة، إنما يعني عدم الثقة في قدرة العقل على
تحقيقها؛ وبما يتجاوب مع ما جرى تاريخيًّا من تدهور تيار القول بالرأي في الفقه لحساب
تيار أهل الحديث.
وهنا، سلامة النية المتمثِّلة في حث الناس على الخير، وزجرهم عن الشر، قد آلت إلى
أن
يكون هناك من «يتحرون أن يكون الكلام حقًّا في ذاته، فيستجيزون نسبته إلى رسول الله.
قال خالد بن سعيد: سمعتُ محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلامٌ حَسن لم أرَ بأسًا
أن
أجعل له إسنادًا، وكان أبو جعفر الهاشمي المديني يضع أحاديث كلام حق، وقوم جوَّزوا وضع
الحديث في الترغيب والترهيب.»
١٠٥ ولعلَّه يُفهَم من ذلك أن الكلام الحسن، أو الحق، لم يكن قادرًا بذاته على
النفاذ إلى الجمهور، والتأثير فيه؛ بل كان لا بد من إسناده إلى مركز السيادة العليا في
الإسلام؛ التي هي النبي الكريم طبعًا. ومن الغريب أن البعض سوف يحاول جعل هذا الوضع
للأحاديث من قبِيل الأمور المستحبَّة التي ندبَ إليها النبي بحسب ما يرويه عنه أبو هريرة
من أنه قال: «
مَن حدَّث عني حديثًا هو لله رضا فأنا قلتُه، وبه
أُرسِلتُ.»
١٠٦ وحيث بدا كأن النبي لا يطلب من وُضَّاع الأحاديث إلا أن يكون كلامهم مُرضيًا
لله، وإذ يبدو غريبًا أن يستحسن النبي الوضع عليه؛ وهو القائل: «
من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبَّوأ مقعده في النار.» فإن الوضَّاعين قد وضعوا
تخريجةً عجيبة قالوا فيها: «إنما هذا الوعيد لمن كذب عليه، ونحن نكذب له ونقوِّي شرعه،
ولا
نقول ما يخالف الحق، فإذا جئنا بما يوافق الحق فكأن الرسول عليه السلام قاله.»
١٠٧
لكنه، بصرف النظر عن أن الأمر يتعلق بالكذب للنبي، وليس عليه، فإنه يبدو أن الوضَّاعين
لم يضعوا فقط ما يرضي الله؛ بل إنهم قد تجاوزوه إلى غيره مما لا يرضيه؛ ولا سيما فيما
يتعلق بالشأن السياسي. وهنا، يَلزم التنويه بأن السياسة كانت أحد أوسع الأبواب، التي
دخل
منها الوضع في الحديث. وللأسف، كان الوضع للحديث في اتجاه تثبيت الاستبداد، ولو كان ذلك
على عكس ما يقرره القرآن. ومن هنا، ما مضى إليه الكواكبي متسائلًا: «ما عذر الفقهاء في
تحويل معنى الآية
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (آل عمران: ١٠٤) إلى أن
هذا الفرض هو فرض كفاية، لا فرض عين؟ و[جعلوا] المراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم
على بعض، لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم، كما اهتدَت إلى ذلك الأمم الموافقة للخير،
فخصصت منها جماعاتٍ باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية:
السياسية، والمالية، والتشريعية، فتخلصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة
وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد
بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا
ظلموا، وعدُّوا كل معارضةٍ لهم بغيًا يبيح دماء المعارضين؟!»
١٠٨ وحين يدرك المرء أن «الحديث» هو المصدر الذي جاء منه هؤلاء الفقهاء بتقديس
الحكام والصبر عليهم إذا ظلموا، فإن له أن يتوقع أن يكون الكواكبي ممن يرون أن أحاديث
كتلك التي أوردها البخاري في كتاب الفتن (في صحيحه) من مثل حديث: «قال لنا رسول الله
ﷺ:
إنكم سترون من بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها.
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:
أدوا إليهم
حقهم، وسلوا الله حقكم.» وحديث: «
من كره من أميره
شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية.»
١٠٩ هي من قبِيل الموضوع — لا محالة — بقصد خدمة الحكام.
والحق أن ثمة من القرائن ما يدل على أن تلك الأحاديث من قبِيل الموضوع فعلًا. ومن
تلك
القرائن ما يتبدَّى في أحاديث أخرى أوردها البخاري نفسه، وما تنطق به وقائع التاريخ
وأحداثه. فقد أورد البخاري في كتاب الإكراه عن «أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله
ﷺ:
انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا،
فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف
أنصره؟ قال:
تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره.»
١١٠ فكأن النبي، هنا، يطلب منع الظالم من ظلمه، وليس السكوت على الظلم والصبر
عليه على نحو ما يؤشِّر حديث الصبر على ظلم الأمير. فكيف يطلب النبي من الناس رد الظالم
ومنع الظلم من دون أن يستثني منه ظلم الأمير أو غيره، ثم يطالبهم، في حديثٍ آخر، بأن
يصبروا على ظلم الأمير ولا يمنعوه.
ومن جهةٍ أخرى، إن ممارسة الخلفاء تكاد تنطق بصعوبة أن يكون النبي قد قال بحديث
«من كره من أميره شيئًا — ولا شيء يُكره منه أكثر من الظلم —
فليصبر.» فإنه إذا كان الخليفتان الأولان (أبو بكر وعمر) لم يطلبا من
الناس أن يعملوا بهذا الحديث، ويصبروا عليهما، إذا ما ظلما وأساءا؛ بل طلبا منهم أن
يقوموا بتقويمهما إذا ما أساءا، ولو بسيوفهم، فإن ذلك يعني أن خليفتَي النبي لم يعرفا
بحديثه هذا. ليس ذلك فحسب، بل إن سلوك الناس مع الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) يكشف
عن
عدم معرفتهم بحديث الصبر على الأمير إذا صدر عنه ما يكرهون. ولو أن حديث الصبر على
الأمير كان متداوَلًا بينهم آنذاك لكان الخليفة نفسه قد وعظ الثائرين عليه بوجوب العمل
به، والصبر عليه، حتى ولو صدر عنه ما يأخذونه عليه. بطبيعة الحال، إن عدم استخدام
الخليفة عثمان لهذا الحديث، على الرغم مما كان يمكن أن يؤدِّي إليه ذلك من إخماد الثورة
عليه، إنما يعني أن الحديث لم يكن معروفًا آنذاك؛ ليس للخليفة فحسب؛ بل للثائرين عليه
أيضًا. ولعلَّ ذلك يُحيل إلى أنه قد جرى وضع هذا الحديث في عصرٍ متأخِّرٍ تحوَّلَت فيه
السياسة من
ممارسةٍ تقوم على «الشُّورى» إلى ما قيل إنه «المُلك العضود».
ولعلَّ ذلك هو ما أدركه الكواكبي حين مضى إلى أن «إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد، وتجاوُز الحدود، وبهذا وذاك ظهر حديث:
لتأمرُنَّ بالمعروفِ ولتنهونَّ عن المنكر أو لَيستعملنَّ الله
عليكم شِراركم فَيسُومونكم سوء العذاب.»
١١١ وإذ هو يرى أن ثمة سياقًا بعينه هو الذي يقف وراء وضْع هذا الحديث، فإنه
يحدده بتوسعة مجال الاستبداد، وتجاوُز الحدود لأمراء الإسلام؛ حيث يفرض على الناس قبول
المستبدين؛ لأن الله هو الذي يستعملهم عليهم.
١١٢ والحق أن الكواكبي قد أشار إلى العديد من المواضع التي يعتمد فيها من
يسميهم فقهاء الاستبداد على الأحاديث المدخولة لتحييد ما يوجِّه إليه القرآن من وجوب
رفع
الاستبداد ودحضه. وعلى العموم، إن جوهر ما ينبغي الكواكبي تثبيته هو وجوب فك الارتباط
بين الإسلام والاستبداد من خلال التعويل على القرآن، في مقابل ما يبدو له من تعويل
فقهاء الاستبداد على الأحاديث؛ وما يَعدُّه المدخول منه بالذات.
وعلى أي الأحوال، يبقى أن التنامي في المنظومة الحديثية الخبرية قد انعكس بقوة على
مسار التفكير في الفقه؛ حيث تقلَّصَت مساحة التفكير فيه بالعقل أو الرأي، في مقابل السيادة
الحاسمة للتفكير فيه بالحديث أو الأثر. وهكذا فإن «تأييد الحكومة العباسية لمذهب أهل
الرأي، وغلبة مذهب الاعتزال نحو خمسين عامًا، خُتمَت ببَدء خلافة المتوكل؛ ومذهب الاعتزال
هو القائل بالتحسين والتقبيح العقليَّين.» لم يؤثِّر في أن تكون «الغلبة في الفقه لمدرسة
الحديث، والسبب في هذا [على ما يظهر] أن قوة المُحدِّثين كانت أكبر، وجمهور المسلمين
لهم أنصَر.»
١١٣ وإذا كان النتاج المباشر لذلك أن «ضاقت دائرة الرأي والقياس، واتسعَت دائرة
الحديث»؛ فإن الأمر قد تجاوز إلى «اضطرار الفقهاء أمام هذه الأحاديث، وأمام قوة
المحدِّثين أن يُخضِعوا أنفسهم للحديث، ولهذا نرى كُتب الفقهاء [حتى كتب الحنفية] تستدل
على أكثر الأحكام بالحديث، وإن كان بعضها ضعيفًا، فقلَّت الفُروق بين المدارس الفقهية
المختلفة، حتى ليظُن الظانُّ لأول وهلة أن منحى التشريع عند الجميع واحد، ولم يكن ذلك
صحيحًا عند تأسيس هذه المدارس، وإنما أظهره بهذا المظهر شيءٌ واحد هو غلبة رجال الحديث.»
١١٤ ولعلَّ ذلك يعني أن الفقه قد عرف ظاهرة الانسراب المعرفي نفسها التي عرفها
علم العقائد؛ والتي تكشف عن اختراق المنظومات الخبرية النصِّية (في الفقه والعقائد) لتلك
المنظومات، التي تأسسَت على العقل في المقابل؛ بمعنى أن اختراق المنظومة الحديثية للفقه
الحنفي مثلًا يوازيه اختراق المنظومة الأشعرية، في العقائد، للمنظومة الاعتزالية
العقلية المتأخِّرة؛ وعلى النحو الذي آل إلى تقليص عقلانيتها.
وغنيٌّ عن البيان أن الانتقال في العقائد من الاعتزال (حيث الحُسن والقُبح عقليَّانِ)
إلى
الأشعرية (حيث الحُسن والقُبح نقليَّانِ)، وما يوازيه من الانتقال في الفقه من أهل الرأي
(حيث العقل يؤسِّس الحُكم) إلى أهل الحديث (حيث يقوم الحُكم على الخبر)، قد ترك تأثيرًا
بالِغ السلبية في مسار التفكير في الفقه بأسْره. فقد لاحظ البعض «أن الأشاعرة يجنون على
العقل حين يحكمون بأن التحسين والتقبيح لا يكونان إلا بالشرع. فالزنى عندهم قبيح، لا
لضرره كما يحكم بذلك العقل؛ بل لأن الشرع حكم بقُبحه، وعلى ذلك لو حكم الشرع بحسن الزنى
لكان حسنًا، ولوجد الأشاعرة من أوجه المغالطة ما يثبتون به أنه حسن. ولهذا الرأي نتيجة
من أسوأ النتائج، وهي الركون إلى ما وقع في الشرائع من الأغلاط، فقد يندر أن تجد شريعة
لم تمتد إليها يد التحريف، فإذا شئتَ أن تتحاكم إلى العقل لتنقِّي الشرائع من أوشاب المسخ
والتشويه، وقف في وجهك الجهَّال باسم الدين وقالوا: ما لنا وللعقل؟
إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (الزخرف: ٢٢).»
١١٥ والحق أن الأمر يتجاوز مجرَّد الجناية على العقل، إلى الجناية على الفقه
نفسه؛ حيث آل الأمر إلى ما لُوحظ من اعتبار التشوهات والانحرافات جزءًا من صميم
بنائه.
وعلى أيِّ الأحوال، يبقى أن السيادة شِبه الكاملة للمنظومة الخبرية في الفقه، لم تقطع
تمامًا مسار التفكير في الفقه بما يقف وراء النصوص/الأخبار من مبادئ تأسيسية كُبرى
تكون بمثابة المقاصد التي تتغيَّاها تلك النصوص. فليس من شكٍّ في أن حالة الطوفي (وغيره
من
السابقين واللاحقين عليه) إنما تؤكِّد عدم الاختفاء الكامل للوعي الذي يلحُّ على جوهرية
هذه
المبادئ التأسيسية في الشريعة، على نحوٍ كامل. وأن الأمر يتعلَّق، فحسب، بما بدا من ضعف
هذا الوعي وهامشيَّته عند شرائح واسعة من المسلمين، وذلك بالمقارنة مع السيادة شِبه
الكاملة للاتجاه الإخباري الذي يختزل الشريعة في جملة القواعد والأحكام الفقهية
الإجرائية.
وهكذا، إن الأمر إنما يتعلق، فقط، بغلبة اتجاهٍ بعينه؛ هو الاتجاه الإجرائي/الإخباري
في التفكير في الشريعة، من دون أن يعني ذلك الغياب الكامل للاتجاه المضاد الذي يدور
التفكير فيه على الانشغال بالمبادئ الكلِّية التأسيسية، التي تقف وراء النصوص، ويقوم
عليها نظام الشريعة. ولعلَّ الأمر لا يتجاوز هنا حدود الدفع في اتجاه التأكيد، لا على
استبعاد النصوص/الأخبار؛ بل على ضرورة التفكير فيها بالمبادئ التأسيسية الكُبرى التي
تقف وراءها؛ بعد أن بدا أن الاتجاه الإخباري/الآثاري في التفكير في الشريعة هو ما
يسود بين جماعات الإسلام السياسي، التي تكاد تجر المجتمعات الإسلامية الحاضرة إلى مصيرٍ
كارثي.
ولقد كانت هذه الجماعات، التي تنشط، الآن، في نشر الخراب والفوضى في مشرق العالم
العربي ومغربه، هي الوريث المباشر لما بدا أنه التحول نحو التفكير في الشريعة بالآثار،
الذي بلغ ذروته مع أواسط القرن العشرين (مع المودودي وسيد قطب بالذات). فإذ بدا أن
التفكير في الشريعة بالمبادئ والأصول الكُبرى قد ساد على مدى القرن التاسع عشر مع آباء
النهضة والإصلاح (محمد عبده، والكواكبي، وقاسم أمين، والطاهر الحداد)، فإنه قد لُوحظ
أن
هذا التفكير قد بدأ ينحسر، على نحوٍ تدريجي، تحت تأثير التطورات السياسية الحاصلة في
العالم الإسلامي منذ إعلان سقوط الخلافة في نهاية الربع الأول من القرن العشرين. فقد
أحيا سقوط الخلافة الفكرة القائلة إن الخطر الأكبر على المسلمين إنما يتمثل في غياب
الرابطة السياسية الجامعة لهم؛ وهي الفكرة التي كان الأفغاني ينافح عنها ابتداء من
تشخيصه للأزمة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية باعتبارها من طبيعةٍ سياسية أساسًا،
وكان ذلك تحت تأثير خبرته بسقوط دولة المسلمين في الهند.
فإذا كان آباء النهضة الأوائل (الطهطاوي وخير الدين التونسي)، والجيل اللاحق عليهم
من
رجال الإصلاح (وبالذات محمد عبده، والكواكبي، وقاسم أمين، والطاهر الحداد) قد انتهوا،
تقريبًا، إلى تعيين الأزمة، التي تمر بها المجتمعات الإسلامية على أنها ذات طبيعةٍ فكرية
واجتماعيةٍ أساسًا، فإن سقوط الخلافة قد جعل الجيل اللاحق عليهم يتجه إلى قراءة الأزمة
القائمة في أن الإسلام لم تعُد له دولة تحكم باسمه، وتحت رايته. وهكذا، إن سُبل الخروج
من تلك الأزمة قد تحدَّدَت في السعي إلى بناء دولة الإسلام؛ بما ترتب على ذلك من التأكيد
على وجوب هدم الدولة القُطرية القائمة (الموسومة بالحديثة). ولقد كان هذا السياق هو
الإطار الذي تبلورَت داخله أفكار سيد قطب، الذي يبقى خطابه بمثابة الحاضنة، التي نشأَت
داخلها جماعات العنف كافَّة تحت راية الإسلام؛ ابتداء من التكفير والهجرة حتى داعش مرورًا
بالجهاد والقاعدة. فإن القضية الرئيسة عند كل هذه الجماعات هي الإمساك بقوة «الدولة»،
وليس تنوير «العقل» أو المجتمع. وفي إدارتها لمعركة الهيمنة على الدولة، فإن تلك
الجماعات لم تجد ما تعوِّل عليه إلا الدعوة إلى تطبيق الشريعة؛ التي كان لا بد من النظر
إليها باعتبارها منظومةً من الأحكام الجزئية القاطعة، التي تستند إلى محض النصوص
والأخبار. وبمثْل ما كانت الهند البؤرة التي انطلقَت منها الموجة الأولى لدولنة الإسلام
(بمعنى اختزال الإسلام تقريبًا في الدولة)، وبما ترتَّب على ذلك من اختزال الشريعة في
مجرَّد الأحكام، فإن الموجة الثانية لهذه الدولنة سوف تهبُّ منها أيضًا؛ وذلك مع أبي
الأعلى
المودودي في منتصف القرن العشرين.
وهنا، يَلزم التنويه بما يبدو من التماثل اللافت بين هؤلاء الذين يربطون حضور الإسلام
بقيادة دولته، وبين ما استقر، عند اليهود، من ربط حضور اليهودية بقيام دولتها. فبمثْل
ما
ألحَّ البعض على أن قيام الدولة هو الشرط الضروري لتفعيل الشعائر اليهودية، فإن المودودي
وقطب قد اقتربا بشدَّةٍ من تصوُّر الدولة كشرط لتحقُّق الإسلام في العالم. بطبيعة الحال،
إن
هذا التحقُّق يكون من قبِيل التحقُّق الخارجي العيني؛ وبالكيفية التي قد يجري معها إهدار
البُعد الباطني الروحاني للدين. وحين يتعلق الأمر بالبُعد الخارجي للدين، فإن ذلك يفتح
الباب أمام توجيه الشريعة، أو — كما يجدُر بنا أن نقول — اختزالها، في الأحكام الجزئية
التي تستند على الآثار والنصوص أساسًا. فإذ يكون قصْد الدولة هو ضبط السلوك الخارجي
للإنسان، فإن الدولة تميل إلى ربط نفسها بالمنظومة النصِّية الجاهزة (ذات الصيغة الآمرة
والمُلزِمة) التي تكون لها بمثابة المرجعية غير القابلة للتحدي بسبب إسنادها إلى مراكز
السيادة العليا في الدين.
ويبقى في كلمةٍ واحدة أنه لا مجال أبدًا للتفكير في الشريعة (عند كل من يختزلون الدين
في الدولة) بما هي المبادئ والأصول التأسيسية الكُبرى، على نحو ما جرى التفكير فيه عند
آباء النهضة ورجال الإصلاح في القرن التاسع عشر. وهكذا، يظهر أن تصوُّر أزمة المسلمين
ينعكس على تصوُّر الشريعة على نحوٍ مباشر؛ حيث انفتح رجال النهضة والإصلاح في القرن التاسع
عشر على تصوُّر الشريعة بما هي أصول ومبادئ كلِّية تأسيسية لكي يتمكنوا من ترقية كل من
المجتمع والعقل (المأزومَين)، وذلك فيما اختزلها الجيل اللاحق على سقوط الخلافة في القرن
العشرين في كونها جملة أحكامٍ جزئية موروثة يسعَون بها للإمساك بالدولة، التي تصوَّروا
أن
أزمة الإسلام تكمُن في غيابها. فحين تكون الدولة هي محور الانشغال، بمثل ما هو الحال،
عند الجهاديين، فإنه يَلزم اختزال الشريعة في مجرَّد الأحكام الجزئية؛ لكي يتسنَّى تبرير
السعْي الدءوب إلى الإمساك بالدولة بأنه السبيل الوحيد لتطبيق تلك الأحكام، وذلك عملًا
بقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أيضًا. وبمعنى أنه إذا كان تطبيق أحكام
الشريعة واجبًا حسب هذا الفهم، فإن الهيمنة على الدولة، التي هي شرط تحقيق هذا الواجب،
تكون واجبًا أيضًا. أما حين تكون ترقية العقل والمجتمع هو محور الانشغال، فإنه يَلزم
تصوُّر الشريعة بما هي مبادئ وأصولٌ كلِّية؛ على النحو الذي يعطي مرونةً يمكن في إطارها
استيعاب الشروط اللازمة لتحقيق هذه الترقية؛ وعلى نحو ما تجلَّى واضحًا عند رجال النهضة
والإصلاح في القرن التاسع عشر.