(٣) عن الشريعة والحداثة ذات الوجه الليبرالي: الطهطاوي وشريعة التسوية في
الحقوق
حيث إنه «لا ينكر منصف أن بلاد الإفرنج، الآن، في غاية البراعة في العلوم الحكمية
[المدنية] … وأن هذه العلوم المعروفة معرفةً تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة، أو مجهولة
بالكلِّية عندنا … فلذلك احتاجت [البلاد الإسلامية] إلى البلاد الغربية [الإفرنجية] في
كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه، [فإنه لا غرابة في] أن مصر أخذَت، الآن، في أسباب
التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا.»
٢٣ ولعلَّه يمكن القول إن هذا الانفتاح الإيجابي على التمدن، الذي صنعَته
الحداثة، قد ارتبط؛ ليس، فحسب، بما أدركه الطهطاوي من عدم وجود ما يحُول دون الانفتاح
على هذا التمدُّن في الشريعة «حيث الرجل يقرِّر أن فيه الكثير مما ينبغي استحسانه، لأنه
لا
يخالف الشريعة المحمدية.»
٢٤ بل (وهو الأهم) بما بلغه (أي الطهطاوي) من إدراك أن الإسلام وشريعته
ينطويان على ما يكاد يكون الأصول التي تمثِّل أساسًا يقوم عليه هذا التمدن أصلًا. ومن
هنا
إنه لا مجال عنده لما كان عليه عوامُّ المسلمين (حسب معاصره خير الدين التونسي) «من
الإعراض عما يحمد من سيرة الغير، الموافقة لشرعنا، بمجرَّد [أي بسبب] ما انتقش في عقولهم
من أن جميع ما عليه غير المسلم من السيَر والتراتيب ينبغي أن تُهجَر، وتآليفهم [كتاباتهم]
في ذلك يجب أن تُنبَذ ولا تُذكَر، حتى إنهم يشدِّدون الإنكار على من يستحسن منها شيئًا.»
٢٥
ولأن هذا الذي عليه هؤلاء العوام يرجع إلى تصوُّرهم أن كل ما عليه غير المسلمين هو
من
قبِيل «البدعة» التي هي مذمومة على الدوام، فإن الطهطاوي قد راح يخلخل مفهوم البدعة على
النحو الذي لا تكون معه موضوعًا للذم مطلَقًا. فهو يربط الذم في الفعل المنظور إليه على
أنه «بدعة» بالباعث الحامل عليه من جهةٍ، وبالأثر الناتج عنه من جهةٍ أخرى. وهكذا، إن
منشأ الذم فيه هو أن «يكون الحامل عليه الشهوة والإرادة»، وأن يكون الأثر الناتج عنه
هو
«دعايته إلى الضلالة».
٢٦ أما أن يكون الفعل/البدعي إحداثًا لما هو على غير خلافٍ مع مقتضى الشرع،
فإن ذلك لا يمنع من إقرار حُسنه، ولو كان غير منطوقٍ به في الشرع؛ لأن الحسن ليس فقط
هو
ما نطق به الشرع. وبطبيعة الحال، يعني ذلك أنه ليس كل إحداثٍ لما لم ينطق به الشرع
مذمومًا، بمثل ما أنه لا يمكن تصوُّر أن يكون «الحسن» هو ما ينطق به الشرع فقط. وهنا
يَلزم
التنويه بما يبدو من وجوب التمييز بين «منطوقات» الشرع و«أصوله»؛ الذي يفتح الباب أمام
إمكان الإحداث لما يتفق مع «أصول» الشرع، على الرغم من أنه ليس من «منطوقاته». فإن
للأصول أولويةً معرفية (وربما حتى وجودية) على المنطوقات؛ بما يعنيه ذلك من أن منطوقات
الشرع (ذات الطابع الإجرائي) موجودة من أجل أصوله الكُبرى (ذات الطابع التأسيسي)، وليس
العكس. وإذا كانت المنطوقات موضوعة، هكذا، من أجْل تحقيق الأصول، فإن ذلك لا يعني أنها
هي الباب فقط إلى تحقيق تلك الأصول؛ بل إن هذه الأصول قد تؤتَى، أيضًا، من خلال ما لم
ينطق به الشرع. ومن هنا، ما ينقله التونسي عن «من لم يزل على نُقوله وأفهامه المعوِّل
[وهو] الشيخ محمد بيرم الأول؛ الذي عرَّف السياسة الشرعية بأنها ما يكون الناس معه أقرب
إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي.»
٢٧ إن ذلك يعني أن السياسة الشرعية هي ما يكون على مقتضى أصول الشرع، وإن لم
تكن من منطوقاته؛ وعلى أن يكون المعيار الضابط لها هو تقريب الناس من «الصلاح» وإبعادهم
عن «الفساد».
وتبعًا لذلك، إن الشيء قد لا يكون منطوقًا به في الشرع، ولكنه لا يخالف أصوله في
الآنِ
نفسه، فيكون من الحَسن المقبول، ولو كان من فِعل غير المسلمين. ومن هنا، ما أورده خير
الدين التونسي عن أحد فقهاء المالكية من «أن ما نُهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان
على خلاف مُقتضى شرعنا، أما ما فعلوه على وفق الندب، أو الإيجاب، أو الإباحة، فإنا لا
نتركه لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لم ينهَ عن التشبُّه بمن يفعل ما أذن الله فيه.»
٢٨ وإذ ينفك الارتباط، هكذا، بين منطوقات الشرع من جهةٍ، وبين أصوله ومقتضياته
من جهةٍ أخرى، فإن التونسي سيواصل إيراد ما يمكنه من تضييق مفهوم البدعة المذمومة،
ناقلًا عن ابن عقيلٍ قوله: «مخاطبًا من قال [لا سياسة إلا ما وافق الشرع]، إن أردتَ
بقولك: إلا ما وافق الشرع، أي يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردتَ لا سياسة إلا
ما
نطق به الشرع، فغلطٌ وتغليط للصحابة.»
٢٩ الذين أحدثوا «محدثات» لم ينطق بها الشرع. وهكذا، إذا كان لا ينبغي أن
تخالف السياسة الشرعية ما نطق به الشرع، فإن ذلك لا يعني أن ما نطق به الشرع هو وحده
السياسة الشرعية؛ بما يفتح الباب أمام إمكان أن تكون السياسة مقبولة بالرغم من أن الشرع
لا ينطق بها.
وإذا كان التونسي قد أدار آليته الرئيسة — والحال كذلك — على فك الارتباط بين
«الأصول» و«المنطوقات»، التي تفتح الباب أمام مجاوَزة المنطوقات إلى ما وراءها من
الأصول، التي يتم إدراج الجديد الحَسن غير المنطوق به تحتها، فإن الطهطاوي قد تبنَّى
ما
يمكن القول إنها آلية تخصيص دلالة البدعة وعدم إطلاقها.
٣٠ ومن هنا، ما يقرره الطهطاوي من أن «قوله
ﷺ: «
إياكم ومحدثات الأمور.» عامٌّ أُريدَ به الخاص؛ إذ سُنة
الخلفاء الراشدين منها [أي من المُحدثات] مع أنَّا أُمِرنا باتباعها لرجوعها إلى أصلٍ
شرعي
[غير منطوقٍ به بالطبع].»
٣١ ولعلَّه يَلزم التنويه إلى أن «المُحدَث» المأمور به — حسب الطهطاوي — ليس فقط
ما له أصل في الشرع، بل ما يوافق «المصلحة والسياسة» أيضًا. فإن «كل حكمٍ أجازه الشارع،
أو منعه، وأمكن رده إلى أحدهما فهو واضح، فإن أجازه مرة ومنعه أخرى فالثاني ناسخ للأول،
فإن لم يَرِد عنه إجازته، ولا منعُه، ولا أمكن ردُّهما إليه بوجه، ففيه خلاف قبل ورود
الشرع.
والأصح أن لا حكم فلا تكليف، وقيل يُرجَع فيه إلى المصلحة والسياسة، فما وافقهما منه
أُخِذ، وما لا يوافقهما تُرِك، كذا قال بعض المتأخرين، ولا شك في حُسنه.»
٣٢ وهكذا، إن ما لا يمكن الرجوع به إلى الشرع على نحوٍ واضح، (حيث لم يَرِد
بإجازته ولا منعه)، هو ما يُرجَع فيه إلى المصلحة والسياسة؛ اللذين يكونان — والحال
كذلك — هما الضابط، الذي ينضبط به تخصيص الحُكم على البدعة؛ وهل هي «حسنة» أو
«مذمومة».
وإذ يصِل الأمر بالطهطاوي إلى حد اعتبار سُنة الخلفاء (وهم من أصحاب السيادة العليا
في
الإسلام) من المُحدَثات المأمور باتباعها؛ فإن ذلك يعني أن كل ما يقال عنه إنه «محدثة»
ليس من المذمومات. فعلى الرغم من أن هذه المحدثات التي أتاها الخلفاء ليست من منطوقات
الشرع، هي من أصوله؛ ما يجعلها من المُستحسَن المقبول. ولهذا، إن الشيء لا يكون «مذمومًا
بمجرَّد [الإشارة إليه] بلفظ مُحدَث أو بدعة، [حيث] إن القرآن، باعتبار لفظه وإنزاله،
وُصِف
بالمُحدَث في [أول] سورة الأنبياء.»
٣٣ ليست سُنة الخلفاء، إذَن، هي وحدها «المُحدَثة»؛ بل القرآن، أيضًا، يصف نفسه
بأنه «محدث»؛ بما يؤكِّد أن هذا اللفظ — أعني «محدث» — ليس بمذمومٍ في ذاته.
وانطلاقًا من ذلك كله، إن الطهطاوي يؤكِّد أنه «ليس كل مبتدَعٍ مذموم، بل أكثره مُستحسَن
على الخصوص والعموم، فإن الله — سبحانه وتعالى — جرت عادته بِطَي الأشياء في خزائن
الأسرار ليتشبَّث النوع البشري بعقله وفكره، ويخرجها من حيز الخفاء إلى حيز الظهور حتى
تبلغ مبلغ الانتشار والاشتهار.»
٣٤ بما يعنيه ذلك من إخراج الطهطاوي للتمدن الأوروبي الحديث من حيز البدعة
المذمومة، التي تقترن بالضلالة؛ بل إنه يكاد يرتقي بهذا التمدن من درَك «البدعة»
المرذولة إلى مقام «النعمة» المطلوبة؛ وذلك من حيث يعدُّه نوعًا من إعمال العقل في إخراج
الأسرار التي طواها الله في الأشياء من الخفاء إلى الظهور ليتسنَّى للبشر التنعم بآثارها
ذات الطابع المادي والروحي. وإذ يستدعي هذا الإخراج للأسرار من الخفاء إلى الظهور
اجتراح طرائق جديدة في التفكير قد لا يكون فيها المرء متِّبعًا لطرائق السابقين، فإن
الطهطاوي يناقش ما استقر عليه السابقون من علماء عصره من أن «كل خير في اتباع من سلف»،
مُقرِّرًا أن هذا الاتباع المندوب إليه «خاص [وفقط] بالأمور الدينية والأحكام الشرعية.»
٣٥ وأما ما يخص «أمر الدنيا والمعاش والترقي في الرفاهية والزينة»، فإن «أكثره
مستحسن على الخصوص والعموم.»
٣٦
لعل الأصل فيما أدركه الطهطاوي والتونسي من عدم المخالفة بين الشريعة وبين التمدن
الأوروبي، يقوم في اتفاقهما على نوع القاعدة، التي يقوم عليها التمدن الأوروبي؛ والتي
تتمثل في دعامتَي العدل والحرية أساسًا. فمن جهته مضى الطهطاوي إلى أن «مبنى التمدن على
العدل والحرية العمومية … حيث العدل أساس الجمعية التأنسية، والعمران، والتمدن، فهو
أصل عمارة الممالك، التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به.»
٣٧ ومن هنا إصراره على ذِكر «القانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن، ويتخذونه
أساسًا لسياستهم، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله
ﷺ، لتعرف كيف حكمَت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك
وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرَت بلادهم، وكثرَت معارفهم،
وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع من فيهم من يشكو ظلمًا أبدًا، والعدل أساس العمران.»
٣٨ فضلًا عن تأكيده أن «أعظم حرية في المملكة المتمدنة حرية الفلاحة،
والتجارة، والصناعة، فالترخيص فيها من أصول فن الإدارة الملكية. وقد ثبت بالبراهين
والأدلة أن هذه الحرية من أعظم المنافع العمومية، وأن النفوس مائلة إليها من القرون
السالفة، التي تقدَّم فيها التمدن إلى هذا العصر.»
٣٩ ولا ينسى الطهطاوي أن يقرر أن هاتَين الدعامتَين للتمدن الأوروبي يحضران عند
المسلمين بدَورهم؛ حيث إن «ما يسمِّيه [الإفرنج] الحرية، ويرغبون فيه، هو عين ما يُطلق
عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام
والقوانين، حيث لا يجور الحاكم؛ بل القوانين هي المحكَّمة والمعتبَرة.»
٤٠ إن ذلك يعني أن ما حكم به العقل (عند الغير)، هو مقتضى الشرع نفسه، وليس
منطوقه (عندنا).
وهكذا، إذ يطرح الطهطاوي تفسيرًا تاريخيًّا لأصول ظاهرة التمدن الأوروبي الحديث (وهي
الحرية والعدل)، فإنه قد راح يجد لهذه الأصول مرجعيةً أسبق في الإسلام، وما أنشأه من
التمدن. فإنه «لما دعَت الحروب الصليبية والغزوات الإفرنجية في البلاد المشرقية
الإسلامية إلى سفر رؤساء الجيوش بأنفسهم إلى هذه الحروب، وكانوا هم أرباب الالتزام،
واقتضى الحال أن يأخذوا من التزاماتهم ما قدروا عليه من الأموال والنفوس لحرب الإسلام
… وضاعت في الأزمان المختلفة أموالهم ورجالهم، وعمَّتهم، لضرورة الحرب، الفاقة، وعجزوا
عن الإطاقة، واضطُرُّوا إلى بيع الأراضي والرجال، فاشترى منهم أهل النواحي [التي يسيطرون
عليها] أملاكَهم وأنفسهم بالأموال … فوُجدَت عند الجميع الحرية، وصارت ممالك أوروبا
بالتمدن حقيقةً وحرية. وقد ترتَّب على إعتاق أهل الدوائر البلدية، وتحرير رقاب النواحي
في
البلاد الأوروبَّاوية، كما في غيرها من البلاد المتمدنة، فائدتان مهمتان [إحداهما] تمتُّع
أهالي النواحي بثمرات الاكتساب، وتحصيل المنافع، وتحسين أحوال أهاليها بالثروة، والغنى،
والأخذ في التمدن، والتقدم في العمران؛ [وثانيتهما] قوة الحكومة، وتمكين الدولة، حيث
صارت جميع النواحي في المملكة تابعةً لها مباشرة دون توسُّط الملتزمين والأمراء … ثم
لم
تزل النواحي تأخذ في التمكن من التصرفات الرشدية والتقدم، فتمتع جميع الأهالي؛ إذ ذاك
بثمرات مهارتهم الصناعية، وآثار براعتهم الزراعية.»
٤١ يرى الطهطاوي أن هذا الذي أنتجَته شروط التطور التاريخي مما يُعَد أصولًا
للتمدن الأوروبي هو مما «تنطق الشريعة الشريفة من صدر الإسلام بما هو أقوى منه، وأقوم،
والسيرة العمرية صادقة فيما هو أتم من ذلك كله وأنظم، والإسلام ساوى بين الجميع في
العدل والإنصاف، وقد عم به التمدن في سائر الأقطار والأطراف، واعترف له، بذلك، جميع أمم
الدنيا كمال الاعتراف.»
٤٢ وهكذا إنه يقطع بأن ما أنتجه «التاريخ» للأوروبيين من أسباب التمدن، سبق
للإسلام أن وفَّره للمسلمين. ولا ينسى الطهطاوي أن يؤكِّد أن «سفاهة بعض الحكام الذين
خالفوا أحكامه» هي التي عطَّلَت قدرة الإسلام على أن يكون أساسًا لتمدن المسلمين فيما
بعد؛
بما يعنيه ذلك من أنه يردُّ تخلف المسلمين إلى «سياستهم» وليس إلى «دينهم».
وليس من شكٍّ في أن الإقرار بالتطابق بين الإسلام والتمدن الأوروبي الحديث، على مستوى
الأصول التأسيسية الكُبرى، كان لا بد من أن يدفع بالطهطاوي إلى إعادة النظر في بعض
المسائل المخصوصة المنسوبة إلى الشريعة؛ والخاصة بالمرأة، وغير المسلمين، واختلاف
الأحكام. وهكذا، فإنه — انطلاقًا من «أن الحالة الراهنة اقتضَت أن تكون الأقضية والأحكام
على وفق معاملات العصر بما حدث فيها من المتفرعات الكثيرة المتنوعة بتنوع الأخذ
والإعطاء من أمم الأنام»
٤٣ — قد راح يخلخل المدونة التقليدية المتوارَثة بخصوص هذه المسائل؛ على النحو
الذي يجعلها تقترب من تحقيق مبادئ وأصول التمدن الكُبرى (كالعدل، والتسوية،
والحرية).
فإذ استقرَّت المدوَّنة التقليدية المتوارَثة على التمييز ضد النساء، وغير المسلمين،
والإزراء بهم جميعًا، فإن الطهطاوي قد راح يُعيد النظر في التصوُّرات، التي ترسَّخَت
بخصوصهم
في ضوء مبادئ وأصول التمدن الكُبرى. وكمثالٍ على ذلك، بخصوص المرأة بالذات، راح الطهطاوي
يطرح تصوُّرًا لها ينبني على قيَم العدل، والحرية، والتسوية، التي تغيب عن التصوُّر المتوارَث
القائم على الإزراء بها، والحط من شأنها. وإذ ينسب التصوُّر المتوارَث من القدماء هذا
الإزراء بالمرأة، والحط من شأنها، إلى أحاديث وآثار هي التي حدَّدَت لها هذا الوضع، فإنَّ
إدراك الطهطاوي أن القدماء قد ركَّزوا على الدلالة المباشرة للمنطوق النصِّي للحديث،
أو
الأثر؛ التي تعاملوا معها على أنها مطلَقة ونهائية، قد جعله يحدد تلك الدلالة المباشرة
بمبدأ تأسيسي يقوم خلفها (كالعدل، أو التسوية، وغيرها). وبطبيعة الحال، هذا التحديد
للدلالة هو مما يحُول دون اعتبارها نهائية ومُطلَقة، بقدر ما يَلزم بالنظر إليها على
أنها
محدودة وقابلة للتحول بحسب القدرة على تحقيقها المبدأ الكلِّي الكامن خلفها.
وهكذا، إذا كان ثمة من مضى إلى «أنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة،
٤٤ وأنها مكروهة في حقهن ارتكانًا على النهي عن ذلك.»
٤٥ فإن الطهطاوي يردُّ بأنه «ينبغي ألا يكون ذلك على عمومه. ولا نظر إلى قول
من علَّل ذلك [النهي] بأن من طبعهن المكر، والدهاء، والمداهنة، ولا يُعتَمد على رأيهن
لعدم
كمال عقولهن … وأن الله — تعالى — لو شاء أن يخلقهن كالرجال في جودة العقل، وصواب
الرأي، وحب الفضائل، لفعل. ولكن الله — تعالى — خلقهن لحفظ متاع البيت ووعاءً لصَون مادة
النسل. فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات الذميمة، ولا تنطبق على
جميع النساء.»
٤٦ وفي إطار سعْيه إلى نقض الأخذ بعموم مجرَّد النهي، فإنه يمضي إلى أن الفعل
تكون له وجوه يمكن أن يتعلق النهي بأحدها، ولا يتعلق بآخر. ومن هنا، إن الأفعال، التي
«وردَت الآثار بالنهي عنها، كحب الدنيا، ومقاربة السلاطين والملوك، والتحذير من الغنى»،
إنما ينصرف النهي فيها إلى مجرَّد الوجه الذي «يعقبه شر وضررٌ محقَّق»
٤٧ منها. فالفعل الواحد تكون له وجوهٌ عدَّة، وقد يكون أحدها موضوعًا للنهي لما
يعقبه من الضرر، فيما يكون وجهٌ آخر له موضوعًا للوجوب، أو حتى الندب، لما فيه من النفع.
إن ذلك يعني أن النهي أو الأمر ليسا مطلَقَين؛ بل إنهما يكونان مشروطَين بما يترتب عليهما
من المَفسدة أو المَنفعة؛ وبما يعنيه ذلك من تبنِّي الطهطاوي القول بأن الأحكام مُعلَّلة
بالغاية والغرض (الذي هو جلب المصلحة ودرء المفسدة). ولأن «تعليم البنات لا يتحقق ضرره»
(أو حتى قد يتحقق من أحد وجوهه) فإنه لا يمكن قبول النهي المتعلق به، بما هو نهيٌ مطلَق.
وهكذا، يقرر الطهطاوي قاعدة أن الأخذ بالنهي مشروط بما يعقبه من الضرر. وحين لا يكون
ثمة ضرر في الفعل الذي تقول الآثار بالنهي عنه، فإن هذا النهي لا بد من أن يرتفع آنئذ.
ولأن الضرر والصلاح يرتبطان بالوقت؛ بمعنى أن ما يكون ضررًا في وقتٍ بعينه قد يكون
صلاحًا في غيره، والعكس، إن ذلك يئول إلى أن دلالة النهي الذي ينطق به الأثر (أيُّ أثر)
لا يمكن أن تكون مطلَقة، أو نهائية؛ بل إنها تتحول مع تحولات الوقت. وليس من شكٍّ في
أن
قاعدة الارتباط بالوقت لا تنطبق على المنهي عنه وحده؛ بل على المأمور به أيضًا؛ بمعنى
أن الصلاح في وقتٍ يمكن أن يصبح ضررًا في غيره؛ وذلك بمثل ما جرى مع سهم «المؤلَّفة
قلوبهم»، الذي كان صلاحًا في وقت تنزيله، وأصبح ضررًا في غيره. وهنا يَلزم التنويه إلى
وعْي الطهطاوي بارتباط الحكم الشرعي بالوقت؛ وذلك من حيث أشار إلى «أن التشديد والتخفيف
في الأحكام قد يختلف باختلاف الأزمان والأيام. ويدل على ذلك ما قاله العلَّامة السيوطي
في كتاب «
الإنصاف في تمييز الأوقاف»، من أنك إذا
تأمَّلتَ فتاوى النووي، وابن الصلاح، وجدتَهما يشددان في الأوقاف غاية التشديد، وإذا
تأمَّلتَ
فتاوى السبكي، والبلقيني، وسائر المتأخرين، وجدتَهم يسهِّلون. وليس ذلك منهم مخالفة
للنووي؛ بل كلٌّ منهم تكلم بحسب الواقع في زمنه.»
٤٨ وليس من شكٍّ في أن اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان والأيام لا يعني إلا أنها
ليست ذات دلالةٍ نهائية ومطلَقة، بقدر ما إن دلالتها تقبل التحول بحسب الوقت. ويعني ذلك
أن القيمة، أو الحكم الخاص بأفعال المعاملات الاجتماعية والسياسية بالذات، يمكن أن يكون
في سياقٍ تاريخي واجتماعي معيَّنٍ غيره في سياقٍ تاريخي واجتماعي مغايِر.
على أي حال، إن تقرير الطهطاوي أن النهي يتوقف على ما يسببه وقوع المنهي عنه من
الضرر، قد جعله يرتب على ذلك عدم جواز النهي عن تعليم النساء؛ لأنه لا يمكن أن يعقبه
الضرر. وهو، فحسب، لا يكتفي بالتأكيد على انعدام الضرر من تعليم النساء؛ بل إنه يجعله
من السُّنة التي يجب التأسي بها. فقد «كان من أزواج النبي
ﷺ من يكتب
ويقرأ، كحفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهن، وغيرهما من نساء كل زمن من
الأزمان.»
٤٩ وإذ قد يحتج البعض بأن «تعليم النساء القراءة والكتابة ربما حملهن على
الوسائل غير المُرضية، ككتابة رسالة إلى زيد، ورقعة إلى عمرو، وبيت شعر إلى خالد، ونحو
ذلك.»
٥٠ فإنه يعقد مقارنة بين الرجال والنساء ينتهي منها إلى أن ضرر التعليم مع
الرجال أكبر منه مع النساء. وعلى الرغم من ذلك، ليس هناك نهي عن تعليم الرجال على الرغم
من كل ما قد يعقبه أيضًا من الضرر. فإنه «لم يُعهد أن عددًا كثيرًا من النساء ابتذلن
بسبب آدابهن ومعارفهن، على أن كثيرًا من الرجال [في المقابل] أضلهم التوغل في المعارف،
وترتب على علومهم ما لا يُحصى من شبه الخروج والاعتزال.»
٥١ بما يعنيه ذلك من أن الفساد ليس مرتبطًا بطبائع النساء بالذات. وبسبب هذا
التهافت الظاهر في منطق الناهين عن تعليم النساء، فإن الطهطاوي لا يكتفي، في مواجهته،
بأن يستدعي أحاديث أخرى «تدل على أن تعلُّم النساء الكتابة جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال
لا بأس فيه، حيث اشتركن معهم في أصل الطبائع والغرائز، وورود النهي عن تعليمهن ينبغي
أن
يكون ليس على إطلاقه بدليل ما يعارضه من أحاديث إباحة تعليم النساء الكتابة.»
٥٢ بل إنه يتجاوز إلى القطع بصدور هذا النهي عن تخلُّف البنية الاجتماعية
وانحطاطها؛ حيث «إن مرجع التشديد في حرمان النساء من الكتابة ليس إلا التغالي في الغيرة
عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيًّا ما كانت في ميدان الرجال تبعًا للعوائد المحلية
المشوبة بجمعيةٍ جاهلية.»
٥٣ وهكذا، يعود الطهطاوي بأصل النهي عن تعليم النساء، لا إلى الشريعة؛ بل إلى
ما يؤكِّد أنها البنية الاجتماعية الجاهلية (البدوية)، التي يغلب عليها الطابع الأبوي
والذكوري.
وإذا كانت البِنية الاجتماعية الجاهلية، حسب الطهطاوي، الأصل في النهي عن تعليم
النساء، فإنه يُرَد إلى البنية ذاتها (وليس إلى الشريعة) ما جرى من إقصائهن من مجال
الممارسة السياسية بالمثل. فإذ انتهت البنية التقليدية إلى ترسيخ قاعدة «عدم جواز ولاية
النساء»، فإنه — وإن لم يبلغ حد التقرير المباشر لجواز ولايتهن — قد راح يخلخل تلك
القاعدة المانعة؛ بما يكاد يؤدِّي فعليًّا إلى تحييدها، أو حتى يفتح الباب أمام إمكان
تجاوُزها. فإذ يورِد أنه «قد قضَت الشريعة المحمدية وقوانين غالب الممالك بقصر السلطنة
على
الرجال دون النساء، وأن النساء لا يتقلدن الرتب الملوكية، ولا يلبسن التاج الملوكي؛ بل
تكون المملكة متوارَثة في سلسلة الذكور إلا فيما ندر.»
٥٤ فإنه قد تبنَّى استراتيجيةً تقوم على زعزعة الأساس الذي تقوم عليه تلك
القاعدة. ومن هنا، لم يؤثِّر ما يقرره من «وجوب الاتباع وحظر الابتداع»
٥٥ بخصوص منع ولاية النساء، في حرصه على تأكيد أن هذا المنع ليس مُطلقًا؛ حيث
إن هناك «ممالكَ مُبيحة لسلطنة النساء.»
٥٦ وعلى الرغم من إقراره بقلة هذه الممالك، إلى حد النُّدرة، فإن مجرَّد إشارته
إليها تؤشِّر إلى سعيه إلى زعزعة فرضية عمومها؛ بما يعنيه ذلك من أن المنع ليس مطلَقًا؛
بل
موقوف على شروطٍ اجتماعية وثقافية تجعله فاعلًا في مملكة، ومرفوعًا في أخرى.
وليس من شكٍّ في أن ربط قاعدة منع ولاية النساء بالسياق الاجتماعي والثقافي، على
العموم، هي التي جعلَت الطهطاوي يقرر أن منع النساء «من القيام بأعمال الملك أمرٌ أغلبي،
[حيث إنه] قد عُهِد في النساء بعضُ ملِكاتٍ أحسنَّ السياسة والرئاسة على ممالكهن، واكتسبن
قصب
السبق في ميادين الفخار.»
٥٧ وإذ يسعى الطهطاوي إلى تأييد هذا الرأي بما تنطق به التجارب، فإنه يعرِض
نماذج لهؤلاء الملِكات اللواتي «أحرزن كلهن حُسن التدبير والإدارة، وأقمن البراهين على
لياقة النساء لمنصب السلطنة.»
٥٨ بما يكشف عن أنهن جميعًا قد ظهرن في المراكز الحضارية الكُبرى، كاليمن،
ومصر، والشام، والعراق، وغيرها من البؤر الحضارية، التي عرفَت ضربًا من الاجتماع التأنسي
المدني السابق على الدين؛ والتي تكون السياسة فيها (لذلك) ذات أصلٍ بشري، وليس دينيًّا.
ومن هنا ما يقرره من «أن سلطنة النساء الرسمية على الرعية لا تكون إلا في البلاد، التي
قوانينها محض سياسةٍ وضعية بشرية؛ لأن قوانين مثل هذه الممالك تنتج اختلاط الرجال
بالنساء، بناءً على قانون الحرية المؤسَّس عليه تمدن تلك البلاد.»
٥٩ وهكذا، إذا كانت بعض الجماعات البشرية، التي عاشت في أحواض الأنهار الكُبرى،
قد استطاعت أن تبلوِر قواعد للتعاون والعيش الأهلي المشترك (للحاجة الماسة إلى القيام
على ضبط شئون النهر)، وما أتاحه لها ذلك من قيام السلطة المركزية، وامتلاك الدولة
(كتنظيمٍ سياسي) قبل أن تعرف الدين، (وذلك بمثل ما جرى في مصر، والشام، وبلاد ما بين
النهرَين، مثلًا)، فإنه لا بد، حتمًا، من أن تكون هذه الجماعات من الذين يبيحون سلطنة
النساء الرسمية؛ وذلك ابتداء من أن «قوانينها [تكون] محض سياسةٍ وضعية بشرية». في
المقابل، فإن عرب ما قبل الإسلام «لم يحصل لهم الملك إلا بصبغةٍ دينية من نبوة، أو
ولاية، أو أثر من الدين على الجملة. والسبب في ذلك أنهم، لخُلق التوحش الذي فيهم، أصعبُ
الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة، والأنَفة، وبُعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما
تجتمع أهواؤهم، ولذلك كانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك.»
٦٠ وما يعنيه ذلك من أن السياسة، هنا، كان لا بد من أن تصير دينية، أو أنها —
كما يجدر بنا أن نقول — قد نشأَت بالدين ومعه. ومع ذلك، يمكن القول إن منع النساء من
الولاية لا يرجع إلى كون السياسة دينية؛ بل إلى ما يؤكِّده ابن خلدون من ضرورة «أن يكون
السائس، في ظل هذا الاجتماع البدوي بالذات، حاكمًا بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته.»
٦١ وبطبيعة الحال، كان لا بد من أن يمنع ذلك النساء من الولاية السياسية لما
استقر في عقل العربي، فيما يبدو، من عدم قدرتهن على أن يحكمن بالقهر، نظرًا إلى ما هن
عليه من الضعف، أو حتى النقص.
٦٢ وإذ يبدو، هكذا، أن طبيعة المعاش، أو العمران البدوي السائد قبل الإسلام،
هو ما يفسر منع عرب ما قبل الإسلام النساء من ولاية السلطة، فإن كون البنية العقلية،
التي أنتجها هذا العمران، قد ظلَّت تؤدِّي دورًا بارزًا في توجيه التفكير في نتاجات الثقافة
السائدة في الإسلام [ومنها الفقه لا محالة]، إنما يعني أن لوازم هذا العمران، ونواتجه
الثقافية، هي الأصل في منع النساء من الولاية في الإسلام أيضًا. وإذَن، يمكن القطع بأن
الأصل في منع النساء اجتماعي، وليس دينيًّا، وليس، أيضًا، عقليًّا أو طبيعيًّا؛ حيث إن
«العقل والطبع لا يأبيان أن يكون للنساء رئاسة المملكة.»
٦٣ يعني ذلك أنه لو كان عرب ما قبل الإسلام قد عرفوا حالةً من الاجتماع المدني
تسمح لهم بامتلاك قوانين سياسيةً بشرية، كما كان الحال عند شعوب، وجماعات، تتوطن بيئاتٍ
أخرى، لكان يمكن أن يكون لهم موقفٌ مختلف من ولاية النساء. وعلى الرغم مما يبدو — هكذا
—
من أن الأصل في منع ولاية النساء عند العرب يكمُن في طبيعة الوضع الاجتماعي، فإن هذا
الأصل الاجتماعي قد راح يجعل من نفسه فقهًا، أو حتى دينًا؛ على النحو الذي أصبح معه
تجويز ولاية النساء خروجًا على أصل ديني، وليس على وضعٍ فرضه سياقٌ تاريخي واجتماعي
معيَّن.
وإذا كان منع العرب لولاية النساء يرتبط بما بدا لهم من ضعفهن الذي يجعلهن غير قادرات
على الحكم بالقهر، الذي تفرضه طبائع العمران البدوي، الذي كانوا عليه، فإن المفارَقة
تأتي من أن الطهطاوي قد صار إلى أن هذا الضعف، المانع لولايتهن عند العرب، هو «الذي
بعينه يُكسبهن الرفق، والحلم، والتلطف، وكل ما يليق برتبة السلطنة من المحسنات، التي
مبناها الرأفة والشفقة، وهما ساكنان في قلب المرأة؛ لأن دأب الرجال الشدة، والعنفوان،
والجبروت، وما أشبه ذلك من الأخلاق الجافية، التي قلَّ أن يخلو منها الرجال، ولا تليق
بالملوك في تأليف قلوب الرعية، فلا موجب لحرمانهن [أي النساء] من المناصب الملوكية، ولا
سيَّما أن كثيرًا من الممالك حسنَت فيها ملوكية النساء.»
٦٤ وإذَن، إن ما يمنع البعض لأجْله ملوكية النساء (وهي الرأفة التي في قلوبهن)،
هو بعينه ما يقبل الطهطاوي من أجْله أن تكون لهن الملوكية والولاية (لأن تلك الرأفة تكون
جالبة لرضا الرعية الذي هو، عند الطهطاوي الليبرالي، أصل السياسة). وربما جاز القول،
أيضًا، إن «مصرية» الطهطاوي — وليس فقط ليبراليته — هي ما يقف وراء سعيه إلى خلخلة
التصوُّر المستقر بعدم جواز ولاية النساء. فإنه ليس من شكٍّ في أن الطبيعة النهرية لمصر
قد
فرضَت نوعًا من الاجتماع القائم على إدارة الشأن السياسي بالرفق والرضا الطوعي، الذي
يجوز معه أن تتولى النساء المملكة؛ وذلك على العكس من الطبيعة الصحراوية القاسية لشبه
الجزيرة العربية، التي فرضَت نوعًا من الاجتماع التوحُّشي — حسب ابن خلدون — الذي لا
تقوم
فيه السياسة إلا على القهر؛ وبما لا يمكن معه، أبدًا، تجويز ولاية النساء لرقتهن التي
لا محل لها في إطار مثل هذا الاجتماع.
وهكذا، إن الطهطاوي (المصري والليبرالي) يزعزع، على نحوٍ كامل، الأساس الذي يستند
إليه
منع النساء من الولاية؛ وذلك من خلال نزع صفة العموم والإطلاق عن هذا المنع عبْر ربطه
بشروطٍ اجتماعية وثقافية محدَّدة؛ بل إنه لم يقف عند مجرَّد ذلك، بل تعدَّى إلى اعتبار
النساء
الأليق بالسلطة لما هن عليه من الأخلاق غير الجافية، التي تليق بالملوك. ولعلَّه يمكن
القول، هنا، بتحبيذ الطهطاوي حكم النساء؛ لأنه لا يقوم على قهر الرعية. وهكذا، يكون
الرجل قد خرق بالفعل قاعدة «وجوب الاتباع وحظر الابتداع»
٦٥ التي قال إنه سيدير عليها تفكيره حول مسألة ولاية النساء؛ وذلك من حيث يبدو
أنه يفكر بالكلِّية خارج التصوُّر التقليدي المتوارَث عن المرأة. وحين يدرك المرء أن
النساء
لم يتمتعن في مصر بحق مجرَّد المشاركة السياسة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين،
وبعد نحو ثلاثة أرباع القرن من وفاة الطهطاوي، فإنه يستطيع أن يقدِّر قيمة وجرأة ما أحدث
الرجل من التفكير في جواز رئاستهن في هذا الوقت المبكر.
وإذ يلامس الطهطاوي، على هذا النحو، حقيقة ما أثقلت به الإكراهات ذات الطابع
الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، عمومًا، على مدوَّنة الأحكام الفقهية على العموم، فإن
ذلك
يئُول إلى إمكان التمييز عنده بين الشريعة والفقه. وهنا، أدار قراءته للشريعة على مفهوم
«النظام الذي وضعَته الحكمة الإلهية في القوى البشرية، وجعلَته مشتركًا بينهم، مستويًا
فيهم، ليميزوا به المباحات دون نظرٍ إلى بلدٍ دون أخرى، ولا لقوانين مملكةٍ دون ما عداها.»
٦٦ وهذا النظام هو الأصل الذي «لا تخرج عنه الأحكام الشرعية … وتأسسَت عليه
قوانين أهل الفترة [بين نبيٍّ وآخر]، وجاءت شريعة كل رسولٍ مقرِّرةً لأغلب قواعده.»
٦٧ إن ذلك يعني أن الشريعة تجد ما يؤسِّسها فيما هو عام ومشترك بين البشر
جميعًا دون نظر إلى بلدٍ دون أخرى، أو ملةٍ دون أخرى. وعلى العكس من ذلك، يبدو واعيًا
بارتباط الفقه بما يخص زمانًا دون آخر؛ حيث «الأحكام [الفقهية] تختلف باختلاف الأيام
والأزمان»،
٦٨ أو بوضعٍ سياسي بعينه. فقد أورد أنه «بتداوُل الأيام، ودخول أكثر الممالك
الإسلامية في قبضة الدولة العثمانية، التي يُقلِّد جمهور حكَّامها أبا حنيفة، انتهى الأمر
إلى أن صار حصْر القضاء على مذهب إمامهم، الذي هو أول من دوَّن الفقه، وجمعه، واختُصَّ
بكثير من الفروع التي تلائم وُلاة الأمور، وأعظمها عدم اشتراط أمورٍ كثيرة في المراسم
السلطانية … فبهذا كان مذهب أبي حنيفة أوفقَ للملوك وأصلح.»
٦٩ وهكذا، فيما يخص الطهطاوي «الشريعة» بما هو عام ومشترك بين البشر، يشير، في
المقابل، إلى ارتباط الفقه بما يخص وضعًا سياسيًّا، أو زمانًا بعينه.
ولعلَّ أهم ما أنجز الطهطاوي، بخصوص مسألة المرأة، يكمن في أنه قد فتح الباب أمام
إمكان
التفكير فيها خارج التصوُّر التقليدي المتوارَث عنها. وهكذا، إذا كان لم يتعرض تقريبًا
للأحكام الفقهية الخاصة بالنساء، فإنه قد فعل ما هو أخطر؛ وهو زعزعة التصوُّر الذي تقوم
عليه هذه الأحكام؛ بل سعى (وهو الأهم) إلى بَلورة تصوُّرٍ مغايِر يمكن أن تنبني عليه
منظومة
أحكامٍ بديلة. فالمؤكَّد أن جملة الأحكام الفقهية بخصوص مسألةٍ ما، كمسائل المرأة وغير
المسلمين والرقيق وغيرها، يشكِّل كلٌّ منها منظومةً متجانسة، ابتداء من كونها تنبني على
بنيةٍ
تصوُّرية تكون بمثابة الأساس النظري، الذي تقوم عليه هذه المنظومة. وإذ ترتبط البنية
التصوُّرية، التي تتحكم في منظومة الأحكام الفقهية التقليدية، بطبائع العمران السائد،
فإن
هيمنة العمران البدوي على بيئة الجزيرة العربية، حتى بعد ظهور الإسلام، قد أدَّى إلى
أن
تترك طبائع هذا العمران بصمتها على منظومة الأحكام الفقهية. وإذا كان الطابع الأبوي
الذكوري أحد أهم طبائع العمران البدوي،
٧٠ فإن ذلك كان لا بد من أن يئول إلى تحكُّم هذا الطابع في منظومة الأحكام
الفقهية الخاصة بالنساء، انطلاقًا، بطبيعة الحال، من تحديده للبنية التصوُّرية، التي
تقف
وراء تلك المنظومة. ولعلَّ في ذلك تفسيرًا لحقيقة انبناء المنظومة الفقهية التقليدية
الخاصة بالنساء حول ثُنائية الذكر/الأنثى؛ التي يكاد التمييز بين طرفَيها يكون المحدد
الأهم لبناء تلك المنظومة. ومن المعلوم أن هذا التمييز قد انبنى على «أن الذكَر أكمل
وأفضل من الأنثى، والأفضل الأكمل مُقدَّم على الأخسِّ الأرذل.»
٧١ بما يعنيه ذلك من الإنزال الصريح للأنثى إلى مقام النوع «الأخسِّ الأرذل»؛
وإذ يعكس هذا التمييز طبيعة البنية التصوُّرية، التي تقوم خلف المنظومة الفقهية السائدة،
فإن انشغال الطهطاوي كان لا بد من أن يتركز على زعزعة تلك البنية بالأساس؛ بل إنه قد
تجاوز إلى السعي نحو تأسيس بنيةٍ تصوُّرية نقيضة تقوم على التسوية بين الرجال والنساء.
فإن
«المرأة مثل الرجل سواءً بسواء؛ أعضاؤها كأعضائه، وحاجتها كحاجته، وحواسها الظاهرة
والباطنة كحواسه، وصفاتها كصفاته حتى كادت تنتظم الأنثى في سلك الرجال. أوَليس أن ناسوت
الرجل والمرأة في الخلقة على حدٍّ سواء، وهيكلهما مستوٍ في الترتيب، والتنظيم، وتناسُب
الحركات، والأعضاء، ومشابهتهما في الشكل معلومة، وفي الهيئة مفهومة. فإذا أمعن العاقل
في النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة في أي وجه كان من الوجوه، وفي أي نسبة من النسب،
لم يجد إلا فرقًا يسيرًا يظهر في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما.»
٧٢ ولا يقف الأمر عند حد التسوية بين الرجل والمرأة في الصفات البدنية؛ بل إنه
لا اختصاص لأحدهما بفضيلةٍ يتمايز بها عن الآخر؛ حيث «الفضائل من حيث هي فضائل إنسانية
توجد في الرجال والنساء.»
٧٣ من دون أي تمييز. وإذ يرسِّخ التقليد المتوارَث دعوى أن النساء «ناقصات عقل»،
فإن الطهطاوي يُجابِه هذه الدعوى بتأكيد «قوة الصفات العقلية في النساء من اختصاصهن بسرعة
تمييز الدقائق المعنوية، وحسن نادرتهن في لطيف المحاورات.»
٧٤ وهكذا، إن الطهطاوي يؤكِّد أنه لا أفضلية للرجل على المرأة أبدًا، فيما يتعلق
بأصل الخلقة في الجسم، والعقل، والفضيلة؛ بل يؤكِّد تساويهما؛ وبما يمنع أن يكون لأحدهما
حقوقٌ أعلى من تلك التي تخص الآخر. ومن هنا، يرفض ما يعتقده «كثير من الرجال من أن له
حقًّا على زوجته، وليس لها عليه حق، وأن جميع ما يفعله معها جميل.»
٧٥ وغنيٌّ عن البيان أن هذا الإنكار لحقوق النساء يرتبط بالتصوُّر الكامن أنهن
«الأخسُّ والأرذل»؛ وذلك فيما يرتبط انفراد الرجال بالحقوق بكونهم «الأفضل
والأكمل».
وإذ يسعى الطهطاوي، في مواجهة هذا التصوُّر التمييزي، إلى بَلورة تصوُّره القائم،
في
المقابل، على التسوية في الحقوق، فإنه يَلزم التنويه إلى أن تصوُّره هذا إنما يرتبط بنوع
الاجتماع المدني الحديث، الذي تعرَّف عليه عند أهل أوروبا. فإنه إذا كان التصوُّر التمييزي
يقوم على مفهوم «القوة»، الذي يجعل الذكر في مكانة أعلى من الأنثى، فإن الاجتماع المدني
الحديث يقوم على مفهوم «التسوية في الحقوق»، من دون أدنى تمييزٍ بين أهل هذا الاجتماع؛
على أساس النوع، أو الدين، أو المكانة الاجتماعية. وهذه «التسوية في الحقوق ليست إلا
عبارة عن تمكُّن الإنسان شرعًا من فعل، أو نيل، أو منع، جميع ما يمكن لسواه من إخوانه
أن
يفعله، أو يناله، أو يُمنَع منه شرعًا. فكل إنسانٍ يتصرف في أملاكه وحقوقه تصرُّفًا كتصرُّف
الآخرين أيًّا ما كانت في المملكة صفته شرفًا أو ضعة. فهو مساوٍ للجميع في تصرفاتهم.
ومن البديهي أن استواء الإنسان في حقوقه مع غيره يستلزم استواءه مع ذلك الغير في
الواجبات، التي تجب للناس بعضهم على بعض؛ لأن التسوية في الحقوق مُلازِمة للتسوية في
الواجبات. فكما أن الإنسان يطلب أن يستوفي ما هو له، عليه أن يؤدِّي ما عليه. فالتسوية
عبارة عن تكليف جميع أهالي المملكة دون فرْقٍ بينهم بأن يفوا بما يجب لبعضهم على بعض.»
٧٦ وإذَن، إنه الاجتماع، الذي لا يمايز بين أفراد المملكة، بحسب النوع، أو
الدين، أو المكانة الاجتماعية؛ بل يكون فيه الجميع متساوين في الحقوق والواجبات. ولعلَّ
تأثير هذه التسوية قد انعكس، فيما يخص المسائل الفقهية تحديدًا، على تصوُّر الطهطاوي
للزواج. فإذ جرى تصوُّر عقد النكاح في المنظومة الفقهية التقليدية على أنه عقدٌ يمتلك
به
الرجل بُضع المرأة؛
٧٧ بما يُدني المرأة إلى وضع الشيء موضوع الامتلاك، أو حتى الإجارة والانتفاع.
فإن الطهطاوي قد أعاد الزواج إلى مجاله القرآني، الذي يرتبط فيه بالسكن، والمودة، والرحمة.
٧٨ فقد مضى إلى أن «عقد الزواج إنما يُقصَد منه ارتباط أحد الزوجَين بالآخر،
وإيجاد علاقة الاتحاد بينهما للعفاف والنسل، حيث يكون ذلك على وجهٍ شرعي … ولا يتم هذا
المقصود إلا إذا صحبه صدق المحبة، وصفاء المودة، وأمانة أحد الزوجَين للآخر.»
٧٩ ولقد كان مما ترتب على ذلك أن أكَّد الطهطاوي «مطلب أن الاقتصار على الزواج
بواحدةٍ مندوب إذا كان لم تدعُ الحاجة إلى غيره»؛ وما يعنيه ذلك من تقييده للتعدُّد في
الزواج بالحاجة، وبشرط العدل، الذي يكاد حضوره يكون، بحسب القرآن ذاته،
٨٠ مستحيلًا في هذه الحال بالذات.
٨١ ومن اللافت أن إعادة الزواج إلى المجال القرآني، على هذا النحو، هو ما سوف
يفعله الأستاذ الإمام محمد عبده عند نهاية القرن ذاته. وإذ يعني ذلك تمييزًا بين
المجالَين القرآني والفقهي فيما يخص الزواج، فإن ذلك يعني أن الطهطاوي قد أدرك ما يمكن
القول إنه التبايُن بين الفقه والقرآن، الذي كثيرًا ما جرَت الإشارة إليه في مدوَّنات
التفسير الكُبرى.
وبخلاف سعي الطهطاوي إلى بنيةٍ تصوُّرية تقوم على مفهوم «التسوية»، الذي قصد من ورائه
إلى فتح الباب أمام قولٍ جديد حول المرأة، فإن هذا المفهوم ذاته، الذي لا يلغي الفارق
بين أهالي المملكة بحسب النوع فقط؛ بل بحسب الدين أيضًا، كان لا بد من أن يئول إلى
خلخلة التصوُّر المتوارَث بخصوص «غير المسلمين» أيضًا. فإنه لا يمكن حرمان غير المسلم
من
أهالي المملكة من حقوقه، أو إجباره على تغيير دينه، ليس فقط لأن ذلك يهدر مبدأَي الحرية
والتسوية؛ بل لأنه يفسد الدين بجعله موضوعًا للنفاق؛ حيث «إن الملوك إذا تعصبوا لدينهم،
وتداخلوا في قضايا الأديان، وأرادوا قلب عقائد رعاياهم المخالفين لهم، فإنما يحملون
رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يكرهونه على تبديل عقيدته، وينزعون الحرية منه، فلا
يوافق الباطن الظاهر … فقوة العنفوان الحسية، والشوكة الجبرية الغاضبة، لا تفيد
برهانًا قطعيًّا في العقيدة، ولا تكون حجةً يطمئن إليها القلب، فلا ينتج الإكراه على
الدين إلا النفاق وإظهار خلاف ما في الباطن.»
٨٢ بما يعنيه ذلك من أن تدخل الدولة في الشأن الديني إنما يئول إلى إفساد
الدين ذاته. وفي المقابل، إن الاجتماع المدني القائم على التسوية في الحقوق إنما يئول،
من جهةٍ، إلى تحرير الدين من قبضة الدولة؛ وبما يعود به إلى حقيقته الروحية، التي لا
يكون معها مجرَّد شكلٍ فارغ يحكمه النفاق. ومن جهةٍ أخرى، إنه يتيح للأفراد أن يحضروا
في
المجال العام بما هم — على قول الطهطاوي — «مستوون في الحقوق» بصرف النظر عن نوع الدين
الذي يدينون به. وهو يرى أنه ليس من معنًى لهذه التسوية «إلا اشتراك [الأفراد] في
الأحكام بأن يكونوا فيها على حد سواء، فحيث اشتركوا واستووا في الصفات الطبيعية
[البدنية]، لا يمكن أن تُرفَع هذه التسوية من بينهم في الأحكام الوضعية.»
٨٣ وما يعنيه ذلك من أنه يرى أن الطبيعة هي الأصل في هذه التسوية بين الأفراد،
بما يترتب على ذلك من وجوب التسوية بينهم في الأحكام الوضعية أيضًا. وحتى حين تقول ملةٌ
ما بالتساوي بين الأفراد، فإنها تؤسِّس ذلك على مبدأ تَساويهم الطبيعي؛ حيث إن «كل ملةٍ
[دينية] تتخذ أصل قانونها في التسوية من أصل الفطرة [الطبيعية] في الحقوق.»
٨٤ بما يعنيه ذلك من أنه ليس «الوضعي» فحسب؛ بل إن «الديني»، أيضًا، يتأسس على
قاعدة التساوي، التي يقوم جذرها الغائر في أصل الفطرة الطبيعية.
٨٥ ويرى الطهطاوي أن هذه التسوية بين الأفراد هي الأصل في حريتهم التي «تكون
معها مملكتهم راسخة القواعد لا يعتريها الخلل من بين يدَيها ولا من خلفها، وبهذا تقوى
على المُدافَعة عن بلادها، وتحمي عن حقيقة وطنها، وتدفع جور من جاوره من الممالك. فهذه
الأمَّة القوية الشوكة في الداخل والخارج مَهيبة عند الجميع.»
٨٦ وهكذا، إنه يؤكِّد أن السبيل إلى قوة المملكة هو في حرية الأفراد وتساويهم؛
بما يعنيه ذلك من أن عدم التسوية بين الأفراد، والتمييز بينهم، هو مما يئول — لا محالة
— إلى إضعاف المملكة وتدهور أحوالها. ولهذا السبب، كان على الطهطاوي أن يعالج الموقف
من
غير المسلمين (يهودًا ونصارى) الموجودين بالفعل في مصر آنذاك، والذين كانوا يعانون من
الإقصاء، والنبذ الاجتماعي الكامل؛ بما يؤدِّي إلى فتح الباب أمام حضورهم في المجال العام
من دون تمييز، بل من باب الاستواء في الحقوق والواجبات.
وضِمن هذا السياق، يبدو أن ما كتبه المقريزي حول وضع النصارى، قبل أربعة قرون من
ظهور
الطهطاوي، هو الذي ظل يحدد ملامح التصوُّر السائد بخصوصهم. فقد كتب أن «النصارى كانوا
يلبسون العمائم البيض، فنودي في القاهرة ومصر: من وجد نصرانيًّا بعمامة بيضاء حل له
ماله ودمه، ومن وجد نصرانيًّا راكبًا حل له دمه وماله. وخرج مرسومٌ بلبس النصارى العمامة
الزرقاء، وألا يركب [النصراني] فرسًا ولا بغلًا. ومن ركب حمارًا فليركبه مقلوبًا، ولا
يدخل نصراني الحمام إلا وفي عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزي المسلمين، ومنع الأمراء
من استخدام النصارى، وأخرجوا من ديوان السلطان، وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين
من النصارى.»
٨٧ وإذ هو التنزيل للنصارى في المجال الاجتماعي، والإخراج لهم من المجال
السياسي، فإنه يبدو أن تلك الممارسة كانت هي المحدد لوضع غير المسلمين في مصر المملوكية
العثمانية. وليس من شكٍّ في أن آثار تلك الممارسة، بما تتضمنه من تحديد مكانة الفرد على
أساس الدين الذي ينتمي إليه، كانت لا تزال فاعلة في عصر الطهطاوي. وغنيٌّ عن البيان أنه
إذا كان هذا التحديد لمكانة الفرد على أساسٍ ديني يمثِّل جوهر ما يمكن القول إنه الاجتماع
الديني المنتمي إلى العصور الوسطى، فإنه يتعارض بالكلِّية مع ما يسعى الطهطاوي إلى
الترويج له من الاجتماع المدني الحديث القائم على مبدأ عدم التمييز والتسوية في الحقوق
والواجبات.
وهنا، يَلزم التنويه بأن سعي الطهطاوي إلى تغيير الممارسة المتوارَثة بخصوص غير
المسلمين، وفتح الباب أمامهم للدخول إلى المجال العام، كان يمثِّل تجاوبًا مع مطالب دولة
الباشا محمد علي. فإذ وجد الباشا أن مطلبه في بناء الدولة الحديثة يحتاج منه إلى
استشارة؛ بل تشغيل، العديد من العلماء، والخبراء الأوروبيين، والأرمن من غير المسلمين.
فإن اتصاله بهم كان لافتًا لأنظار الكثيرين؛ إلى حد أن بعضهم قد راح يصفه بأنه «والي
النصارى».
٨٨ فقد «كان محمد علي أول حاكمٍ مسلم يمنح الأقباط رتبة البكوية [السامية]،
واتخذ له مستشارين من النصارى.»
٨٩ بما يعنيه ذلك من أن الأمر لم يقف عند حد استشارة النصارى وتوظيفهم؛ بل
تجاوز إلى حد التسامي الاجتماعي بهم؛ وذلك في تضاد كامل مع ما استقرَّت عليه الممارسة
التاريخية السائدة في مصر.
وكمثالٍ على الضرورات، التي أوجبَت على دولة الباشا تطوير موقفها من غير المسلمين،
فإنه
يمكن الإشارة إلى حالة الجيش الذي كان هو القلب، الذي نشأَت حوله هذه الدولة. فالملاحَظ
أن هوية جيش الباشا لم تكن دينية؛ بل كانت سياسية (أو حتى وطنية)؛ بمعنى أنه لم يكن جيش
جهادٍ دينيًّا يحرم غير المسلمين من الالتحاق به، بقدر ما كان جيش مدافعةٍ وطنية، أو
حتى
توسيعٍ سياسي خاض حروبه الكُبرى في مواجهات من أجْل إخضاع أقاليم إسلامية أساسًا. ولعلَّ
ذلك
يتفق مع حقيقة أن الإسلام لم يكن شرطًا من شروط الانخراط في جيش الباشا؛ بل كان ممكنًا
لغير المسلمين أن ينخرطوا في سلك جنوده. وإذ صدر الأمر العالي بإلحاق الأقباط بالجيش،
بعد سنوات من وفاة الباشا الكبير، وأثناء حكم ابنه الخديوي سعيد، في العام ١٨٥٦م، فإن
ذلك قد استدعى إعادة النظر فيما اتفق عليه الفقهاء من أن أهل الذمة «يمنعون من ركوب
الخيل وحمل السلاح»؛ بما يعنيه ذلك من الإقصاء الكامل لهم عن مهمات الجندية والمحاربة.
وهكذا، إن التراث الطويل القاضي بمنع أهل الذمة من الانخراط في جيوش المسلمين بسبب
الطابع الديني لحروبهم، قد آن له أن يتضعضع مع بدء بناء الجيش المصري على أُسسٍ وطنية،
لا
دينية. ولقد كانت تلك هي المقدِّمة لما قاله الخديوي إسماعيل لأحد المؤرخين الفرنسيين،
بينما تمر أمامهما إحدى كتائب الجيش المصري: «انظر إلى هذه الكتيبة؛ إن فيها عربًا
وأقباطًا، ومسلمين ونصارى، وهم يسيرون في صفٍّ واحد، وإني أؤكِّد لك أنه لا يوجد بينهم
من
يهتم بديانة جاره، وأن المساواة بينهم تامة.»
٩٠ ومن هنا، إمكان القول إن الجيش كان، في الحالة المصرية، هو القاطرة التي
تجر البلاد في اتجاه مساءلة الموروث المستقر بخصوص غير المسلمين بالذات؛ وعلى النحو
الذي انتهى إلى فرض التسوية القانونية بين المسلمين وغير المسلمين، بعد قرون من التمييز
الراسخ بينهما.
وإذ يبدو هكذا أن المطالب العملية لبناء دولة الباشا الحديثة كانت هي التي تقف وراء
السعي إلى تجاوُز الموروث الفقهي الخاص بغير المسلمين، فإنه يَلزم التنويه إلى كون
السياقات الاجتماعية (وليست الدينية) هي التي أدَّت الدور الأبرز في تحديد وبناء هذا
الموروث، ما يسهِّل هذا السعي نسبيًّا؛ إذ الحق أن معظم الأحكام الفقهية، التي نشأَت
لتنظيم سلوك النصارى، بخصوص اللباس، والهيئة، وإصلاح الكنائس، وبنائها، واستخدام الدواب
في التنقل، وغيرها، تكاد تفتقر إلى الأصل الديني/النصِّي؛ حيث لا تجد ما يؤسِّس لها إلا
في القصد إلى التنزيل الاجتماعي لهم. ولأنه لا أصل لهذه الشروط في أصول الإسلام الكُبرى
(القرآن والسُّنة)، فإن الفقهاء والمؤرخين قد ردُّوها إلى ما قيل إنها العهدة العُمَرية؛
التي شاع، مع ذلك، أن عمر لم يكن هو الذي وضعها، بل قيل إن نصارى الشام هم الذين
وضعوها، وشرطوها على أنفسهم، وطلبوا منه المصادقة عليها فقط. ويبدو أن غلظة الشروط،
التي حملَتها العهدة، هي التي جعلَت الفقهاء يقولون إنها من وضع النصارى؛ ولكن ذلك كان
يعني (يا للغرابة) اضطرار الفقيه (المسلم) إلى أن يجعل الأصل، الذي يستند إليه في حكمه
مِن وضْع النصارى (غير المسلمين). وهنا، تبلغ المفارقة أقصاها حين يضطر الفقيه إلى أن
يرتفع بقول النصراني إلى حيث يصبح أصلًا كالقرآن والسُّنة.
ولعلَّ ذلك يرتبط بما يغلب على القرآن بالذات من مبدأ عدم الإكراه في الدين؛ وذلك
فضلًا
عن مسلكه الودِّي والمتسامح تجاه النصارى. وهكذا، إن ما بدا من التعارض بين غلظة الشروط
الواردة في العهدة وبين تسامُح التوجيه القرآني بخصوص النصارى، هو ما دفع الفقهاء إلى
جعل معظم الأحكام المستقرة حولهم في كتب الفقه، مجرَّد نتاج لما ألزموا به أنفسهم في
عهدهم لعمر. واللافت أنهم رفضوا حتى أن يجعلوا عمر هو الواضع لها، بأن أكدوا أن دوره
يتمثل في مجرَّد المصادقة عليها فحسب؛ وبما يُحيل إليه ذلك من تحفظهم حتى في مجرَّد نسبتها
إلى عمر. ويبقى السؤال عما إذا كان يمكن في العقل قبول أن يفرض المغلوب على نفسه شروطًا
بهذه القسوة والغلظة.
حتى بخصوص مصادَقة عمر على العهد، إن ثمة من يشكك في تلك المصادقة، بسبب ما يرد في
العهد من شروطٍ تتعارض مع ما أقره عمر بنفسه. فهو، من جهةٍ، قد أقر بأخذ العُشْر على
خمور
أهل الذمة، ما داموا هم الذين يقومون ببيعها، ومع ذلك، إن العهد يورِد شرطًا بتحريم بيع
أهل الذمة للخمور. ومن جهةٍ أخرى، إن مضمون هذا العهد الذي يكاد لا ينطوي إلا على إلزام
المغلوبين النصارى بالواجبات الثقيلة، من دون أن يشير إلى أي حقوقٍ لهم في المقابل،
يبدو مناقضًا لما ورد في عهد عمر إلى أهل إيلياء، الذي «نجده، في معظمه، حقوقًا
للمغلوبين، وليس فيها من حقوقٍ عليهم سوى الجزية، وأن يُخرجوا الروم واللصوص.»
٩١
ولعلَّ ذلك يئول إلى إمكانية أن يكون العهد العمري من وضْعِ فقهاء متأخرين أرادوا
تقرير
قواعد لتنظيم علاقة المسلمين مع الذميين في لحظةٍ بعينها. وإذ الأمر يتعلق، هكذا، بفقهاء
أرادوا أن يُضفوا على القواعد التي يضعونها، قوة التقليد المنسوب إلى شخصيةٍ كُبرى في
حجم
عمر، فإنه يَلزم تأكيد أن تلك القواعد قد تحدَّدَت بظروف اللحظة التي تبلورَت فيها؛ والتي
يبدو أنها لم تكن لحظةً ودية على أي حال. وإذَن، يندرج الأمر في إطار سعي الفقهاء إلى
وضع سابقةٍ تكون أصلًا للحكم في كل ما يستجد من وقائع تخص العلاقة بين المسلمين
والنصارى؛ مع ملاحَظة أن هذه السابقة تمضي في عكس المسار، الذي تؤشر عليه الأصول الكُبرى
(القرآن والسُّنة). وربما كان ذلك بالذات هو السبب في نسْبتها إلى عمر؛ وذلك من حيث ما
تؤكِّده الوقائع من أن عمر كان الأكثر تفكيرًا برأيه في موازاة تلك الأصول، ولو كان ذلك
بالتعارض مع المنطوق النصِّي للقرآن، في بعض الأحيان. وربما كان من المفيد الإشارة إلى
أن
العهد المنسوب إلى عمر قد ورد، لأول مرة، عند أبي بكر الخلال (تلميذ ابن حنبل وحافظ
تراثه)؛ وهي اللحظة التي يبدو أن الأحداث كانت تتحول فيها من «وقائع» إلى «نصوص» يجري
التفكير بها. وبطبيعة الحال يعني ذلك أن ما جرى التعالي به إلى مقام الأصل الموازي
للقرآن، لا يعدو كونه جملة قواعد جرَّدَها الفقهاء من قلب الأحداث في لحظةٍ ما لتنظيم
العلاقات داخل المجتمع بين المسلمين وغيرهم.
وعلى الرغم من أن المصادر تأبى، مع ذلك، إلا أن تربط بين عمر وبين التنزيل الاجتماعي
للنصارى، يبقى هذا التنزيل رأيًا خاصًّا لعمر. فقد نسبَت المصادر إلى عمر بن الخطاب أنه
رد على طلب أبي موسى الأشعري الإذن بأن يكون له كاتبٌ نصراني، قائلًا: «لا أكرمهم إذ
أهانهم الله، ولا أُعزهم إذ أذلَّهم الله، ولا أُدنيهم إذ أَبعدهم الله.»
٩٢ وعلى الرغم مما يبدو من أن عمر يرى — بحسب ما تنسبه إليه الرواية — أن
إهانة النصراني، وإذلاله، وإبعاده تكون من الله، فإنه يبقى أن ذلك هو أدنى ما يكون إلى
«القول الإنساني»، أو الرأي الخاص من عمر؛ لأنه لو كان الأمر يتعلق بأمرٍ صريح من الله
فعلًا، لما جاز أن يجهله أبو موسى الأشعري، أو أن يعلمه ويمارس عكسه. وحين يتعلق الأمر
بالقول الإنساني، وليس الأمر الإلهي، فإن الباب ينفتح واسعًا أمام اشتغال المقاصد
الاجتماعية. وهنا، يَلزم التنويه بأن كون الأصل في الأحكام الفقهية المتعلقة بغير
المسلمين اجتماعيًّا، وليس إلهيًّا، قد جعل من الميسور نسبيًّا إمكان خلخلتها وإعادة
مراجعتها، حين اقتضى الأمر ذلك في عصر الباشا؛ ولا سيما بعد أن بدا أن نوع الاجتماع،
الذي نشأَت هذه القواعد والأحكام في ظله، هو من النوع المتعصب، أو غير الودي. وهكذا،
إن
وصف «الجاهلي»، الذي أعطاه الطهطاوي للاجتماع، الذي يقف وراء التمييز ضد النساء، يكاد
ينطبق على نوع الاجتماع، الذي يصدر عنه التمييز ضد غير المسلمين، أيضًا؛ لأن التعصب
المناقض للحِلم الذي يحدد الموقف من غير المسلمين هو جوهر الاجتماع الجاهلي.
ومن هنا، كان لا بد للطهطاوي — وهو القائم بالتنظير لدولة الباشا — أن يحاول فتح
الباب أمام قولٍ يؤسِّس لاجتماعٍ جديد يسمح لغير المسلمين بالحضور الفاعل في المجال العام
للدولة. وعلى صعيد القول الفقهي، إن أهم ما ترتب على هذا السعي كان إسقاط الجزية عن غير
المسلمين عند أواسط القرن التاسع عشر (١٨٥٥م)، قبل أن يتحقق ذلك الإسقاط في الدولة
العثمانية ذاتها.
٩٣ ولقد راح الطهطاوي يمهِّد لهذا الإسقاط بتأكيد «الرخصة الممنوحة لأهل الكتاب
بالتدين بدينهم؛ والتي هي مؤسَّسة على العهد، الذي لا بد من أن يحفظه كل مسلم، لأن العهد،
في الحقيقة، إنما هو لله تعالى.»
٩٤ بما يعنيه ذلك من تصوير الطهطاوي لهذه الرخصة على أنها ليست هبة من أحد
يفعل بها، أو لا يفعل، حين يشاء، بقدر ما هي توجيه من الله واجب الاتباع. وإذ الأمر
يتعلق بممارسةٍ يؤسِّسها التوجيه الإلهي، فإنه «لا شك في جواز مخالطة أهل الكتاب،
ومعاملتهم، ومعاشرتهم … ومما يقرب ذلك حل الكتابية للمسلم، وولاية العقد لها من وليها
[غير المسلم]، لقوله تعالى:
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ (المائدة: ٥)، أي حل لكم مع جواز التسري بالكتابيات اللاتي وقعن في أسْر
الإسلام بحرب؛ لأنه
ﷺ تسرى بصفية وريحانة قبل إسلامهما، وممن تزوج
بالكتابيات من الخلفاء الراشدين ذو النورين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإنه تزوج
بنصرانيةٍ كتابية.»
٩٥ ويواصل سعيه إلى فتح الباب أمامهم لولوج المجال العام، مستدعيًا ما «قال
الإمام النووي في التحفة ما نصُّه: وللإمام أو نائبه الاستعانة بأهل الذمة، والاستئمان
على العدو، بشرط أن تؤمن خيانتهم بأن يُعرَف حسن رأيهم فينا، ويُشترَط في جواز الإعانة
بهم
الاحتياج إليهم، ولو بنحو خدمة، أو قتالٍ لقِلَّتنا، ونفعل بالمستعان بهم الأصلح من أفرادهم
أو تفريقهم في الجيش.»
٩٦ وهكذا، يستدعي الطهطاوي من القدماء ما يجوز معه الخروج على حكم عدم موالاة
أهل الكتاب، أو الاستعانة بهم، الذي صرح السابقون بأنه «باقٍ إلى يوم القيامة.»
٩٧ بما يعنيه ذلك من أن عزلهم للنصارى ليس كاملًا فقط، بل إنه مؤبد
كذلك.
لسوء الحظ، إن ما جرى على مدى القرنَين الفائتَين تقريبًا حتى الآن، يكشف عن أن ما
سعى
الطهطاوي إلى بَلورته من قولٍ جديد حول المرأة وغير المسلمين لم يجاوِز كونه محض خدوشٍ
على
سطح خطابٍ راسخ. فإن نظرةً على الممارسات القائمة حتى اليوم بخصوص المرأة وغير المسلمين،
تؤكِّد على استمرار خطاب التمييز ضدهم، على الرغم من كل الزركشات والمراوغات، التي يجهد
في إخفاء مَنطِقه التمييزي خلفها. ولعلَّ ذلك يرتبط بأن الطهطاوي قد اشتغل، مع التراث،
بالآلية نفسها التي اشتغل بها مع الحداثة؛ والتي كانت آلية عزل الممارسة (المقبولة في
حال الحداثة والمرذولة في حال التراث) عن البِنية التصوُّرية المؤسسة لها. فالطهطاوي
لم
يقم بتفكيك البنية التصوُّرية الحاملة للقواعد والأحكام، التي تحدد كيفية حضور النساء
وغير المسلمين في المجال العام. وتصوُّر أن مجرَّد إشاراته إلى بنيةٍ تصوُّرية جديدة
(تقوم على
التسوية بين الناس في الحقوق) يمكن أن يئول إلى إزاحة البنية التصوُّرية التقليدية (التي
تقوم على التمييز بينهم)؛ بل إنه قد بدا أن الطهطاوي قد ظل (يا للغرابة) يعمل ضِمن منطق
البِنية التصوُّرية الأشعرية المتوارَثة ذاتها، التي تؤسِّس للتمييز؛ بما راح يعيق خطابه
من
داخله. فإذ لا مدخل إلى قوله الجديد، بخصوص النساء وغير المسلمين، إلا من باب العقل،
الذي كان الطهطاوي واعيًا بأنه الأصل في التمدن الأوروبي، فإنه كان غريبًا منه أن يؤكِّد
أن «تمدن الممالك الإسلامية مؤسَّس على التحليل والتحريم الشرعيَّين، دون مدخل للعقل
تحسينًا وتقبيحًا في ذلك؛ حيث لا حسن ولا قبيح إلا بالشرع.»
٩٨ والأكثر من ذلك أنه يطرح فهمًا حرفيًّا نصوصيًّا للشريعة يتعارض تمامًا مع
جوهر ما يسعى إليه من الإمساك بما يقوم خلف النصوص من مبادئ وأصولٍ كلِّية. وهكذا، إن
انشغاله بالتفكير في أصولٍ جديدة للاجتماع المدني، لا بد من أنها تستلزم طريقةً جديدة
في
التفكير الفقهي، لم يمنعه من المصير إلى أنه «لا يسوغ لمتولِّي الأحكام أن يحكم في
التحريم والتحليل بما يخالف الأوضاع الشرعية المنقولة عن الأئمة المجتهدين، ولا عبرة
بالاستكراه النفساني، والاستحسان الطبيعي، والأخذ بالرأي، من غير دليلٍ شرعي؛ بل يعتمد
متولي الأحكام على فتاوى العلماء وأقوال المجتهدين.» بل إنه يبالغ في وجوب الاعتماد
على الآثار المنقولة ناقلًا عن أبي حنيفة قوله: «إياكم والأخذ في دين الله بالرأي،
وعليكم باتباع السُّنة.»
٩٩ ولعلَّ ما يطلبه من وجوب اتباع ما يقول إنها السُّنة، كان لا بد من أن يمنعه من
النطق بقوله المغايِر بخصوص النساء وغير المسلمين؛ وذلك من حيث يتأسس القول الفقهي
المهيمن المتعلق بهاتَين المسألتَين على مفهوم السُّنة (بمعناه الواسع الذي ينصرف إلى
تقاليد الأولين، وليس إلى تقاليد النبي الكريم فحسب) بالذات.
وإذ يمكن قبول ذلك كله منه؛ لأن الأفق المعرفي للعصر، الذي عاش، وفكَّر فيه، لم يكن
ليسمح له بغير ما فعل، فإنه كان يتعين على اللاحقين عليه أن يقوموا بتفكيك البنية
التقليدية المتوارَثة؛ على النحو الذي يؤسِّس لإمكان تجاوُزها فعلًا. وإلى الآن، يبقى
وجوب
الإمساك بالبنية التصوُّرية، التي تقف وراء المنظومة الفقهية التقليدية، مع ربطها بطبائع
العمران العربي التقليدي ما قبل الحديث الذي ترك أثره الجلي على طرائق التفكير التي
سادت في الفقه وغيره. فمن دون هذا الإمساك المعرفي، كل عملٍ يسعى إلى تجاوُز الأقوال
الفقهية، التي تكاد، في الجزء الأكبر منها، تكون نتاجًا لضرب من الاجتماع شبه الجاهلي
—
على قول الطهطاوي — لن يكون قادرًا على بلوغ هدفه.
(٤) خير الدين باشا التونسي: سيرة غير «المسلمين» الموافقة للشريعة
عندما ربط الطهطاوي اختلاف الأحكام الفقهية باختلاف الأزمان، فإنه قد أشار إلى أن
خير
الدين باشا «قد أتى بمثل ذلك [الربط].»
١٠٠ بما يعنيه ذلك من أنه يتعامل معه كنموذجٍ يُحتذَى به في هذا الشأن. والحق أن
التونسي قد تعرَّض صراحة لهذا الربط، بما أورده من أن «القرافي قد سُئل عن الأحكام
المترتبة على العوائد؛ إذا تغيرَت تلك العوائد، هل تتغير الأحكام لتغيرها؟ أم يقال: نحن
مقلدون، وليس لنا إحداث شرعٍ جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فأجاب بأن إجراء الأحكام، التي
مدركها العوائد، مع تغير تلك العوائد [يكون] خلافًا للإجماع، وجهالة في الدين؛ بل الحكم
التابع للعادة يتغير بتغيرها. وليس هذا بتجديد اجتهاد من المقلدين؛ بل هي قاعدةٌ اجتهد
فيها العلماء وأجمعوا عليها.»
١٠١ والحق أن الإصرار على إجراء الأحكام مع تغيُّر العوائد، لا يكون خلافًا
للإجماع أو جهالة في الدين فحسب، بل إنه — وهو الأخطر — يؤدِّي إلى تجرُّؤ الولاة على
مخالفة الشرع، «وسبب ذلك أنهم، أو العلماء الذين يفتونهم [يأخذون] بظواهر النصوص،
فيضيِّقون ما وسَّعه الله عليهم، فيضطرون إلى خلع القيود، وهتك الحرمات والحدود.»
١٠٢ وهكذا، يربط بين عدم مجاراة الأحكام للعوائد في التغيُّر، وبين المصير إلى
مخالفة الشرع، بسبب ما يكون في ذلك من التضييق على الناس؛ الذي ينبني على الإفتاء
بظواهر النصوص. وإذ يؤكِّد — والحال كذلك — ضرورة التفكير فيما يقوم وراء ظواهر النصوص،
لأن الوقوف عندها يؤدِّي (يا للمفارقة) إلى مخالفة الشرع. فإنه ينشغل بتحديد جوهر هذه
المخالفة في ممارسة الولاة بالذات للاستبداد. بطبيعة الحال، إن ذلك يعني أنه يرى أن
ممارسة الاستبداد هي النتاج المباشر لاختزال الشريعة في ظواهر النصوص. وهنا يَلزم
التنويه إلى وعي التونسي اللافت بالارتباط بين الحال السياسية، التي كان عليها المسلمون
في عصره، وبين نوع التفكير الغالب في حقل الشريعة. وقد بلغ به هذا الوعي إلى حد تصوُّر
أن
الوقوف بالشريعة عند ظواهر النصوص يجعل منها ظهيرًا مباشرًا لاستبداد الوُلاة؛ بما
يعنيه ذلك من أنَّ جعْلها أداةً لتحرير البشر يستلزم التجاوز إلى أصولها القائمة وراء
ظواهر
النصوص والمنطوقات.
ولقد كان ذلك أداته في قراءة السياقات، التي يتحقق ضِمنها عمران الممالك، وتقدُّمها.
فإذ
هو، من جهةٍ، قد أرجع اقتراب بعض الممالك الأوروبية، في العصور الوسطى، من الاضمحلال
«لسوء تصرُّف الحكام الناشئ عن إطلاق أيديهم [من دون الخضوع لأي قانونٍ أو شرع]»، فإنه
يمكن تصوُّر أن السوء في تصرف الحكام إنما يرتبط بجمود شريعتهم بسبب الوقوف بها — من
العاملين عليها — عند ظواهر النصوص. وعلى العكس من ذلك، إنه يشير إلى «حُسن سيرة
مجاوريهم، إذ ذاك، من الأمَّة الإسلامية الناتج عند تقيُّد ولاتهم بقوانين الشريعة؛ التي
من
أصولها إخراج العبد عن داعية هواه [بمعنى عدم الحكم بالهوى]، وحماية حقوق العباد، سواء
أكانوا من أهل الإسلام أو غيرهم، واعتبار المصالح المناسبة للوقت والحال، وتقديم درء
المفاسد على جلب المصالح … ومن أهم أصولها [أيضًا] وجوب المشورة، التي أمر الله بها
رسوله المعصوم
ﷺ مع استغنائه عنها بالوحي الإلهي، وبما أودع الله فيه
من الملكات، فما ذاك إلا لحكمة أن تصير سُنةً واجبة على الحكام بعده.»
١٠٣ بما يعنيه ذلك من أن حُسن تصرُّف الولاة وتقيدهم بالشريعة الراجع إلى اعتبارها
للمصالح المناسبة للوقت، والحال، وعدم وقوفها عند ظواهر النصوص، هو أصل تقدُّم العمران.
وهكذا، إنه يرجع بالتقدم الذي عاشه المسلمون، في عصورهم الزاهرة، إلى سيادة الحكم المقيَّد
بأصول الشريعة؛ وعلى النحو الذي يجعل من الشريعة بناءً قائمًا على أصولٍ مماثلة لتلك
التي ينبني عليها الدستور المقيِّد لحكم الممالك الأوروبية المتقدمة في عصره. وهو يحدد
أصول الشريعة بأنها تقييد الحكم بالقانون لإخراج الحاكم عن داعية هواه، وحماية حقوق
الناس بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، واعتبار المصالح بحسب شروط الوقت، والحال،
والشورى؛ وبما يقترب بها، ترتيبًا على ذلك، من أصول الحكم الدستوري الحديث.
والحق أن قاعدة التماثل (بين كلٍّ من أصول الشرع من جهةٍ، وأصول التمدن الحديث) قد
حدَّدَت
طريقة قراءة التونسي للكيفية، التي يمكن بها إحداث التقدم في الأمَّة الإسلامية. فهو؛
إذ
يقطع بأنه «لا سبب للتمدن الأوروبي إلا تقدَّم الإفرنج في المعارف الناتجة عن التنظيمات
المؤسَّسة على العدل والحرية»
١٠٤ فإنه يرتب على ذلك أن «التقدم في المعارف وأسباب العمران لا يتيسر دون
إجراء تنظيماتٍ سياسية تناسب التنظيمات السياسية، التي نشاهدها عند غيرنا في التأسس على
دعامتَي العدل والحرية؛ اللذين هما أصلان في شريعتنا.»
١٠٥ ويبدو أن تلك المماثَلة هي ما كان يفكر فيها الكثيرون في العالم الإسلامي
آنذاك؛ حيث كان مدحت باشا التركي يمضي، من جهته، إلى «أن الشورى الإسلامية نُظِمَت في
العصر الحديث بما يسميه الأوروبيون البرلمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشكَّل
في
المدنية الحديثة بحرية الصحف في النقد.»
١٠٦ وهكذا، يقوم الاتفاق بين المصري، والتونسي، والتركي، ليس، فحسب، على أن
التمدن الأوروبي الحديث يقوم على دعائم العدل، والحرية، والشورى، بالأساس؛ بل — وهو
الأهم — على اعتبار أن العدل والحرية هما — على قول التونسي — «أصلان في شريعتنا» كذلك؛
بمعنى أنهم قد رأوا أن مقومات التمدن الحديث هي أصول الشريعة نفسها في الإسلام.
وغنيٌّ عن البيان أنه كان لا بد من تصوُّر الشريعة، ضِمن هذا السياق، لا على أنها
الأحكام المخصوصة،
١٠٧ بل بما هي جملة الأصول الكُبرى، التي تؤسِّس لهذه الأحكام؛ وهي الأصول المؤسِّسة
للتمدُّن الإنساني على العموم. ويرتبط ذلك، عند التونسي، بما قرره من أن هناك «مصالح
تمس
الحاجة إليها، بل تتنزل منزلة الضرورة [حيث] يحصل بها استقامة أمور الناس، وانتظام
شئونهم، ولا يشهد لها من الشرع أصلٌ خاص [أو حكمٌ مخصوص] كما لا يشهد بردها؛ بل أصول
الشريعة تقتضيها إجمالًا، وتلاحظها بعين الاعتبار. فالجرْي على مقتضيات مصالح الأمَّة،
والعمل بها حتى تحسن أحوالهم، ويحرزوا قصب السبق في مضمار التقدم، متوقف على الاجتماع،
وانتظام طائفة ملتئمة من الأمَّة من حمَلة الشريعة ورجالٍ عارفين بالسياسات ومصالح الأمَّة،
متبصرين في الأحوال الداخلية والخارجية، ومناشئ الضرر والنفع، فيتعاون مجموع هؤلاء على
نفع الأمَّة بجلب مصالحها، ودرء مفاسدها.»
١٠٨ وإذَن، إن الأمر يتعلق بمصالح مستجدة ومفتوحة لا يكون لها حكمٌ مخصوص في
منطوقات الشريعة؛ بل يكون فيها بما هي أصولٌ إجمالية تتسع — من دون تفصيل — لهذه المصالح
التي يكون تقصِّيها، لهذا السبب، ليس من اختصاص حمَلة الشريعة فحسب؛ بل عبْر التعاون
مع
العارفين بالسياسات والمصالح الدنيوية بالذات. ويربط التونسي ذلك بحقيقة «أن إدارة
أحكام الشريعة، كما تتوقف على العلم بالنصوص، تتوقف على معرفة الأحوال التي تُعتبَر في
تنزيل تلك النصوص؛ فالعالِم إذا اختار العزلة، والبُعد عن أرباب السياسة، فقد سد عن نفسه
أبواب معرفة الأحوال المُشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة.»
١٠٩ وإذَن، إن اشتغال الشريعة لا يكون بمجرَّد العلم بالنصوص؛ بل بالجمع بين هذا
العلم وبين الفهم الواعي لشروط الواقع المطلوب اشتغالها فيه، أولًا؛ وذلك من حيث إن
النصوص لا تنتج دلالتها في عُزلة عن الواقع أبدًا. وإذ الأمر هكذا، فإن «مخالطة علماء
«الشريعة» لرجال السياسة بقصْد التعاضد على المقصد المذكور [الذي هو نفع الأمَّة]، من
أهم
الواجبات شرعًا لعموم المصلحة، وشدة مدخلية الخلطة المذكورة في إطْلاع العلماء على
الحوادث، التي تتوقف إدارة الشريعة على معرفتها. ومعروفٌ أن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب.»
١١٠ وهكذا، ينتهي التونسي إلى اعتبار التنظيمات (الحديثة) من قبِيل «الواجب
الشرعي»؛ لأن الواجب الأهم المتمثِّل في نفع الأمَّة وصلاحها لا يتم إلا بها. وهو يرتب
ذلك
على ما يورِده من قولٍ لابن قيم الجوزية حاصله «أن أمارات العدل، إذا ظهرَت بأي طريقٍ
كان،
فهناك شرع الله ودينه، والله — تعالى — أحكمُ من أن يخص طرُق العدل بشيءٍ ثم ينفي ما
هو
أظهر منه وأبيَن.»
١١١ ويعني ذلك أنه يتصوَّر «التنظيمات» ليس، فحسب، بما هي أحد الطرق الموصلة إلى
العدل، بل بما هي من الطرُق الأبيَن والأظهر؛ لأن «الداعي إليها ليس إلا تحسين إدارة
المملكة، وحفْظ حقوق الأمَّة في النفس، والعِرض، والمال، وكفِّ الأيدي الجائرة من الولاة
ونحو ذلك من المصالح … [وأنها بما هي كذلك] ليست خارجةً عن المنهج الشرعي.»
١١٢ وفي كلمةٍ واحدة، إن التونسي قد جعل التنظيمات «الحديثة» جزءًا من صميم أصول
«الشرع»؛ على الرغم من أنها ليست من منطوقاته.
وهكذا، يظهر جليًّا أن التونسي يدير تفكيره في الشريعة على قاعدة «المصلحة»، التي
راح
يتفرَّع عنها عنده ضرورة تغيُّر الأحكام مع تغيُّر العوائد من جهةٍ، والإيجاب الشرعي،
من جهةٍ
أخرى، لما تقتضيه تلك المصلحة؛ ابتداء من القاعدة الأصولية المُعتبَرة، التي تقضي بأن
«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله». المهم أنه قد صار إلى أن إهمال تلك القواعد
سوف يؤدِّي — لا محالة — إلى التضييق على الناس، وفتح أبواب التسلُّط للولاة، الذي يرتبط
باختزال الشريعة في مجرَّد النصوص؛ وبما يُحيل إليه ذلك من وعيه بالعلاقة الكامنة بين
التصوُّر النصوصي للشريعة، وبين سيادة الاستبداد السياسي والتسلط الاجتماعي. وبطبيعة
الحال، ذلك يعكس ضربًا من التفكير في الشريعة المُجاوز لمنطوقاتها النصِّية إلى ما يقوم
وراءها. ولعلَّه يبدو أن أهم ما أنجزه التونسي هو الانتقال من موقع «الدفاع» في مواجهة
مَن
يقفون في فهم الشريعة عند ظواهر النصوص، إلى موقع «الهجوم» عليهم من منطلق أن فهمهم
الظاهري للشريعة يكون هو الظهير المباشر للاستبداد السياسي. وبطبيعة الحال، يبقى أنه
يدعم الافتراض القاضي بأن التوظيف السياسي التسلطي للشريعة إنما يئول، بالضرورة، إلى
اختزالها في منطوقاتها النصِّية.
وبدَوره، تبنى الطهطاوي منطق التفكير نفسه في الشريعة، لا بالنص؛ بل بالقصد القائم
وراءه؛ بما يكشف عن وحدة استجابة آباء النهضة الأوائل للتحدي المتعلِّق بصَوغ العلاقة
بين
الشريعة والتمدن الحديث. ومن هنا ما صار إليه (أي الطهطاوي) من «أن رسالة الرسل
بالشرائع هي أصل التمدن الحقيقي، الذي يُعتدُّ به ويُلتفَت إليه … وأن من زاوَل علم أصول
الفقه، وفَقِه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد، جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية،
التي وصلَت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم،
وأحكامهم، قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول، التي بُنِيَت عليها الفروع الفقهية، التي عليها
مدار
المعاملات. فما يُسمَّى، عندنا، علم أصول الفقه يُسمَّى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعية
أو
النواميس الفطرية؛ وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا، وتقبيحًا، يؤسِّسون عليها أحكامهم
المدنية.»
١١٣ وغنيٌّ عن البيان أن البلوغ إلى حد التسوية بين ما «وصلَت إليه عقول الأمم
المتمدنة [يقصد الأوروبية] مما جعلوه أساسًا لقوانين تمدنهم»، وبين شريعة الإسلام، لم
يكن ليصبح ممكنًا إلا من خلال اعتبار الشريعة بما هي الأصول الكلِّية المجملة، وليس
الأحكام التفصيلية المخصوصة.
ومن هنا، لا مجال لما يشوِّش به البعض على الأصول، التي يقوم عليها التمدن الحديث
من
أنها «شرعٌ جديد مخالف لشريعة الإسلام.»
١١٤ وقد راح التونسي يؤكِّد أن هذه المخالفة ليس لها ظل من الحقيقة أبدًا؛ بل إن
أصلها يقوم في مَيل البعض إلى إطلاق سلطته الخاصة، والعمل بما يفرضه هواه. حيث إن مَن
يقومون بذلك هم أولئك البعض «ممن له فائدة في التصرف بلا قيد ولا احتساب، لما تيقنوا
أن
إجراء الإدارة والأحكام على مقتضى التنظيمات مما يخل بفوائدهم الشخصية.»
١١٥ وهكذا، إن كون التمدن الحديث يقوم أساسًا على تقييد السلطة هو ما يدفع ببعض
المسلمين إلى تأكيد مخالفته للشريعة ليضمن لنفسه أن تكون سلطته مطلَقة، ولا تخضع لأي
قيود. وليس لذلك من معنًى إلا إقرار التونسي الصريح بأن الميل إلى الاستبداد هو الأصل
في
كل ما يمكن إطلاقه من دعاوى التعارض بين الشريعة وأصول التمدن الحديث. وإذ يئول ذلك إلى
أن تصبح الشريعة — والحال كذلك — مجرَّد قناعٍ يغطي به البعض على استبداد الحكام، فإنه
يَلزم تأكيد أن هذا مجرَّد قناعٍ يغطي به البعض على استبداد الحكام، فإنه يَلزم تأكيد
أن هذا
الحطَّ من شأن الشريعة لم يكن ممكنًا إلا مع النظر إليها من زاوية الأحكام التفصيلية
المخصوصة، وليس باعتبارها جملة من الأصول الكلِّية؛ وما يعنيه ذلك من أن استخدام الشريعة
كقناعٍ للاستبداد يرتبط باعتبارها من زاوية الأحكام المخصوصة فحسب. ولعلَّ ذلك ما تؤكِّده
حقيقة أن عمليات الإقصاء الدموي، التي تمارسها جماعات العنف الجهادي، في دُول الثورات
العربية، لا تجد ما تؤسِّس عليه مشروعية أفعالها الوحشية إلا في الأحكام التفصيلية
المخصوصة التي ظهر، في أحايين كثيرة، أنها قد تمثِّل إهدارًا للأصول الكلِّية (أو حتى
انحرافًا عنها) على الرغم من أنها هي الأَولَى بالرعاية والاعتبار.
والغريب، حقًّا، ما يرصده التونسي من «أنَّا، إذا تأملْنا حالة هؤلاء المنكرين لما
يُستحسَن من أعمال الإفرنج، نجدهم يمتنعون من مجاراتهم فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها،
ولا يمتنعون منها فيما يضرهم. وذلك أنا نراهم يتنافسون في [استجلاب] الملابس وأثاث
المساكن ونحوها من الضروريات، وكذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربية، والحال أن جميع ذلك
من أعمال الإفرنج. ولا يخفى ما يلحق الأمَّة بذلك من الشَّين والخلل في العمران وفي السياسة.»
١١٦ وهكذا، إن المستبدين لا يستحسنون من الإفرنج إلا لوازم الترف، التي تئول
إلى خلل العمران بحسب ما أفاض ابن خلدون، الذي يرجع إليه التونسي كثيرًا. أما كل ما
يهدد استبدادهم فإنه يجري تصويره للعامة على أنه مخالف لشرع الإسلام؛ وبما يكشف عن أن
التلاعب السياسي بالشريعة يرتبط بتصوُّرها جملة أحكامٍ تفصيلية موروثة، مُعرَّاة من أي
أصولٍ
كلِّية هي بمثابة الأساس الصلب الذي تقوم عليه هذه الأحكام.
وغنيٌّ عن البيان أن تأكيد التونسي على جوهرية الأصول الكلِّية للشرائع إلى حد تقرير
أن
«المخالفة في الدين» لا تُحيل، على نحوٍ آلي، إلى الاختلاف الجوهري بين الشرائع؛ وذلك
باعتبار أن هذه الأصول هي مما يتوافق عليه أهل الأديان المختلفة. وفضلًا عن ذلك، يُقر
بإمكان خلو الدين — كالديانة النصرانية
١١٧ — من الشريعة المُنزَّلة أصلًا؛ وما يعنيه ذلك من نفي الرابطة الميكانيكية
بين الدين والشريعة، حيث قد يُوجَد الدين من دون أن تصحبه الشريعة. وفي هذه الحالة، يكون
العقل المصدر، الذي تصدر عنه الأصول التي يقوم عليها اجتماع الناس. وإذ يساوي التونسي
—
والحال كذلك — بين الشرعي والعقلي في إمكان أن تصدر عنهما الأصول المقوِّمة للاجتماع
الإنساني، فإنه يمكن تصوُّر أن ثمة أشياء محمودة في «سيرة الغير» (المخالفين في الدين)،
وتكون «موافقةً لشرعنا»؛ وهي أشياء قد يكونون بلغوها بعقولهم. وقد ضرب مثالًا على هذا
المحمود في سيرة الغير — ولم يكن من آثار ديانتهم
١١٨ — بالتنظيمات السياسية المؤسَّسة على العدل والحرية اللذين «هما أصلان في شريعتنا».
١١٩ وعملًا بقاعدة المماثَلة، التي كان يفكر فيها، مع غيره من مُجدِّدي عصره،
فإنه قد راح يجد الكيان المماثل للتنظيمات (الأوروبية) في القائمين على مبدأ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمَّة (الإسلامية). فإذ «نصب الأوروبَّاويون المجالس،
وحرروا المطابع، فالمُغَيرون للمنكر في الأمَّة الإسلامية تتقيهم الملوك، كما تتقي ملوك
أوروبا المجالس وآراء العامة الناشئة عنها وعن حرية المطابع. ومقصود الفريقين واحد، وهو
الاحتساب على الدولة لتكون سيرتها مستقيمة، وإن اختلفَت الطرق الموصلة إلى ذلك.»
١٢٠ ومن هنا ما قيل من «أن التنظيمات ليست خارجة عن المنهج الشرعي، وما هي إلا
ضبط للسياسات الشرعية، التي كانت قد أُهمِلَت، وأن الداعي إليها ليس إلا تحسين إدارة
المملكة، وحفظ حقوق الأمَّة في النفس، والعِرض، والمال، وكفِّ الأيدي الجائرة من الولاة،
ونحو ذلك من المصالح.»
١٢١ وإذَن، إن التنظيمات المقرَّرة بالعقل إنما تقوم على تحقيق ما يمكن القول
إنها المقاصد المعتبَرة بالشرع كافة؛ بما يعنيه ذلك من أنها محض طريقٍ مختلِف يقود إلى
المقصد نفسه الذي هو الأصل الأجدر بالرعاية والاعتبار في الشرع ذاته.
وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن التونسي يركِّز، في قراءته للشرع، على «المقصد الكلِّي»
القائم، بطبيعة الحال، وراء المنطوقات، وليس «الحكم التفصيلي الجزئي» المنطوق به. وغنيٌّ
عن البيان أن اعتبار التونسي للقصد، مع صرف النظر عن الوسيلة التي يمكن أن يتحقق بها،
هو ما يؤسِّس لاستحسانه الكثير مما أحدثه الأوروبيون بعقولهم. وهكذا، فإنه يَلزم الوقوف
على
إشارة التونسي إلى أن المحمود في سيرة الغير ليس من آثار ديانتهم؛ لأن ذلك يعني أن
الأمر يتجاوز الجدل الفقهي التقليدي حول «شرع من قبلنا» إلى الموقف مما «أحدثوه
بعقولهم». فإذ قد يحتجُّ البعض بأن قبول مبدأ الموافقة بين «شرع مَن قبلنا» من غير
المسلمين وبين «شرعنا»، إنما يرتبط بأنهما من مصدرٍ إلهي واحد، فإن التونسي يفتح الباب
أمام استحسان ما أحدثوه بعقولهم، أيضًا، انطلاقًا من وحدة المقصد الجامع بين الشرع وبين
هذه المستحدَثات. وهكذا، إنه ينتقل من تعويل القدماء على وحدة «المصدر» إلى تركيز
المحدَثين على وحدة «المقصد»؛ وعلى النحو الذي يعكس طريقتَين في التفكير تنشغل القديمة
منهما بالأصل المنطوق به، فيما تنفتح الحديثة على القصد غير المنطوق به. وترتيبًا على
ذلك كله، فإنه كان لا بد من أن ينفتح الباب أمام قولٍ جديد بخصوص غير المسلمين؛ وعلى
النحو الذي يسمح لهم بالحضور الفاعل في المجال العام للدولة.
ومن هنا، ما أظهره التونسي من الاحتفاء بالمنشور، الذي أصدره السلطان عبد المجيد
في
العام «١٢٧٢» هجرية؛ بخصوص حقوق غير المسلمين من رَعايا الدولة العليَّة. وملخَّص هذا
المنشور «أن أصناف الرعية كلهم [هم] وديعة الله في يد الملك، فالواجب أن يكونوا كلهم
حاصلين على الحالة الحسنة من العدل والإحسان … وأن كل امرئٍ له الحرية التامة في دينه
ومذهبه، فلا يُمنَع أحد من رعايا السلطنة عن عبادته، ولا يُجبَر على تبديل دينه أو مذهبه.»
١٢٢ إذَن، إنه لا تمييز بين رعايا الدولة على أساس الدين؛ حيث إنهم هم وديعة
الله بين يدَي الملك. إنه يؤكِّد أن الجميع أمام الدولة سواء، ويجب أن يحصلوا جميعًا
على
العدل والإحسان، ولا يجب إجبار أي إنسان على تبديل دينه أو مذهبه.
وعلى الرغم من أن التونسي لم ينشغل، بسبب الطابع العملي الإجرائي لكتابته، بالتعرف
على الجذر المُغذي لما يظهر بين الأمم من التوافق على مستوى الأصول المحقِّقة للتمدن
(سواء
كانت شرعية أم عقلية)، مع ما قد يكون بينها من الاختلاف في الدين، فإن الطابع شبه
النظري لكتابة الطهطاوي، الذي قارب حدود التنظير أحيانًا، قد جعله يبلغ ما يمكن أن يكون
فيه تفسير ذلك؛ وهو مفهوم «النواميس الطبيعية». حيث يقول الطهطاوي عن هذه النواميس إنها
«لا تخرج عنها الأحكام الشرعية، التي هي سابقة على تشريع الشرائع عند الأُمم والمِلل،
وعليها في أزمان الفترة [التي لا يكون فيها أنبياء] تأسَّسَت قوانين الحكماء الأُوَل
وقدماء الدول، وحصل منها الإرشاد إلى طريق المعاش في الأزمنة الخالية، كما ظهر منها
التوصل إلى نوعٍ من انتظام الجمعيات التأنسية عند قدماء مصر، والعراق، وفارس، واليونان،
وكان ذلك من لُطف الله تعالى بالنوع البشري، حيث هداهم إلى معاشهم بظهور حكماء فيهم
يقنِّنون القوانين المدنية ولا سيما الضرورية، كحفظ المال، والنفس، والنسل.»
١٢٣ ولعلَّ المرء يلحظ أن الطهطاوي قد جعل ما يقول عنها الشاطبي إنها مقاصد
الشريعة (حفظ المال والنفس والنسل) من قبِيل القوانين المدنية، التي تتأسس على «النواميس
الطبيعية». وليس من شكٍّ في أن تصوُّره لهذه النواميس الطبيعية على أنها «فطريةٌ خلقها
الله
— سبحانه وتعالى — مع الإنسان، وجعلها ملازمة له في الوجود»،
١٢٤ يعني أنه يرتفع بما تقوم عليه الشريعة إلى حيث يكون من قبِيل «الجذر
المُشترَك» بين بني البشر جميعًا؛ لأنه مفطور في نفوسهم. وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني
أن
أصل «التمدن» يقوم فيما يسبق الشرائع من «الحقوق الطبيعية»، التي «جاءت شريعة كل رسولٍ
مقرِّرةً لأغلبها».
١٢٥ وبطبيعة الحال، لا مجال للمنازَعة في أن شرائع الرسل لا بد من أن تأتي مقرِّرة
للنواميس الطبيعية ابتداءً من أنه يستحيل أن يرسل الله إلى الناس شريعةً تخالف ما فطره
في
نفوسهم من تلك النواميس.
ولعلَّ قيمة مفهوم النواميس الطبيعية تتأتَّى من كونه يسمح بتأسيس الحقوق على ما هو
مفطور في الطبيعة الإنسانية، التي يتشارك فيها بنو البشر جميعًا، ولا تخصص أهل دينٍ أو
مِلة بما يتمايزون به عن غيرهم؛ بما يعنيه ذلك من الخروج من العصور الوسطى، التي كانت
فيها الوضعية الحقوقية للأفراد تتحدد بانتمائهم الديني، أساسًا، إلى التأسيس الحديث
لمفهوم الحقوق. فقد أسس آباء الحداثة الأوائل (هوبز، ولوك، وروسو) الحقوق المدنية على
فكرة النواميس الطبيعية المستقرة في العقل، والتي تتيح للإنسان أن يحافظ على أهم حقوقه
الطبيعية؛ وهي حق الحفاظ على النفس والمال. وهنا، يَلزم التنويه إلى أن مفهوم النواميس
الطبيعية كان هو المبدأ الذي وجد فيه هؤلاء الآباء أساسًا موضوعيًّا صلبًا تقوم عليه
حقوق الإنسان بما هو محض إنسان؛ أعني بصرف النظر عن دينه، ومعتقده، وجنسه، وعِرقه.
بطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن هذا المفهوم كان هو الأصل في بناء منظومة حقوق الإنسان
الحديثة التي تقوم، على الرغم من خضوعها للتلاعب السياسي من جانب القُوى الكُبرى، على
إلغاء كل أشكال التمييز والتفاوُت بين البشر. وبطبيعة الحال إن فهم الطهطاوي المنفتح
للشريعة، الذي بلغ به حد تقرير أن «الأحكام الشرعية لا تخرج عن النواميس الطبيعية»؛ بما
يعنيه ذلك من أن تأسيسه للشريعة على النواميس الطبيعية، يكشف عن اقترابه من رفع الفارق
تمامًا بين المدني والشرعي؛ وهو ما يكاد يكون الهاجس الشاغل للأستاذ الإمام محمد عبده،
على الرغم من اختلاف السياق الذي أنشأ فيه خطابه.
(٥) الأزمة كأحد محددات التفكير في الشريعة عند الإمام محمد عبده
على الرغم من أن الأستاذ الإمام ينتمي إلى سياقٍ مختلف نسبيًّا عن ذلك الذي أنشأ فيه
كلٌّ من الطهطاوي، والتونسي خطابَهما المتفائل تجاه إمكان المصالحة بين مقتضيات التمدن
الحديث، وبين أصول الشريعة الإسلامية، فإن قناعته لم تهتز في إمكان هذه المصالحة أبدًا؛
بل إن هذه القناعة قد دفعَته إلى أن يكون أكثر انفتاحًا ونقدية في تعامله مع «الشريعة»؛
ولا سيما مع الجانب المتعلق بالأحكام الجزئية التفصيلية فيها، حين أدرك فيها ما يُخاصم
مكتسبات التمدن الحديث. ولعلَّ هذا التوجه النقدي يرتبط بما بدا أنه الإحساس بالأزمة،
الذي كان قد بدأ يجتاح معظم بلدان العالم الإسلامي آنذاك، بعد موجة التفاؤل الأُولى في
إمكان إخراج مجتمعاتهم الراكدة من ركودها التاريخي الطويل.
فقد «وُلِدَ محمد عبده، وعاش في فترةٍ بدأ فيها الاستعمار بتوجيه الضربات المتتالية
لبرنامج الاستقلال، والبناء، والنهوض، الذي وضعه محمد علي، وقد عايَش محمد عبده هذه
الأحداث التي انتهت بدخول الإنجليز إلى مصر، والبدء العملي بتصفية تركة محمد علي،
وإفراغ مصر من كل مكتسبات عصره، بعد أن كان الاستعمار قد أربك كل المسيرة التحديثية قبل
ذلك بعدة عقود.»
١٢٦ وضِمن هذا السياق الانتكاسي، كانت الساحة المصرية قد انفتحَت، من جهةٍ أخرى،
أمام أفكار السيد جمال الدين الأفغاني، الذي كان مشغولًا، على نحوٍ حماسي، بالأزمة
العاتية، التي كانت تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية في مواجهة الحداثة الأوروبية آنذاك؛
والتي كان قد شاهد آثارها جليَّةً في الهند؛ قبل مجيئه إلى مصر. وعلى الرغم من أن الأستاذ
الإمام قد أظهر وعيًا لافتًا بالأزمة ذاتها، فإنه قد اختلف، إلى حدٍّ كبير، عن أستاذه
الأفغاني في تقديره طبيعة تلك الأزمة وحدودها. ولعلَّ هذا الاختلاف بينهما يرجع إلى تبايُن
السياق «الهندي» الذي تبلوَر فيه وعي الأفغاني بالأزمة، عن السياق «المصري» الحاكم لوعي
الأستاذ الإمام بالأزمة ذاتها. فعلى الرغم من أن الأزمة في الحالَين كانت نتاج التقابل
مع الحداثة، فإن طبيعة الأزمة قد تبايَنَت في أحَد البلدَين عما كانت عليه في الآخر.
إذ فيما كان الإسلام في الهند يتعرض، في مواجهة الحداثة الأوروبية، لأزمةٍ فعلية
وضعَت
نهايةً لحُكمه، الذي استمر لقرونٍ عديدة في هذا البلد الكبير، فإن الأمر في مصر لم يكن
يمضي في الاتجاه ذاته؛ بل لعله كان يمضي في عكس هذا الاتجاه تمامًا. فقد بدا وكأن
مكتسبات الدولة الحديثة، وليس التقليد الإسلامي المستقر، هي ما يتعرض للتهديد في مصر؛
وما يعنيه ذلك من أن الحداثة كانت هي التي تأكل مكتسبات دولتها في بلد الأستاذ الإمام.
وبطبيعة الحال إن ذلك يعني أن الأوضاع في مصر كانت تتجه (على عكس الحال في الهند) نحو
تقوية دعائم الإسلام التقليدي. وهكذا يمكن القول، مع التبسيط بطبيعة الحال، إنه فيما
كانت الهند تشهد، حسب الأفغاني، تجربة تحلُّل «دولة الإسلام» التي حكمَتها لقرون، فإن
مصر
كانت تشهد، حسب محمد عبده، تأزُّمًا عميقًا لتجربة «الدولة الحديثة»، التي نشأ عن دورانها
حول إرادة الباشا، الذي «استعمل المصريين كآلات تصنع له ما يريد، وليس لها إرادة فيما
تصنع».
١٢٧ وليس من شكٍّ في أن هذا التبايُن كان لا بد من أن يترك أثره على نوع
الاستجابة، التي سيبلورها كل واحدٍ منهما في مواجهة تلك الأزمة. فإذ انشغل الأفغاني
ببَلورة آلياتٍ دفاعية عن الإسلام (الدولة والشريعة)، الذي يتعرض للتهديد، فإن الأستاذ
الإمام قد انشغل، في المقابل، بمساءلة السياقات التي ساعدَت على جعل المصريين مجرَّد
«آلات» ليس لها إرادة فيما تصنع؛ حيث انتكسَت تجربة التمدن الحديث.
وضِمن سياق هذه المساءلة، إن الأستاذ الإمام قد بلغ حدود إدراك أن مأزق تجربة دولة
الباشا الحديثة
١٢٨ إنما يتأتى من تعاطيها مع مسألة التمدن الحديث، باعتبارها مجرَّد تعبيرٍ عن
الإرادة السياسية للباشا؛ وبما ترتب على ذلك من أن هزيمة السياسة كانت مُؤْذِنةً بتهديد
مكتسبات التجربة كلها. وعلى العكس من هذا التعاطي السياسي، كان الإمام يرى أبعادًا
لعملية التمدن الحديث في مصر تتجاوز مجرَّد الوجه السياسي للأزمة المصرية، إلى مجمَل
البنية الاجتماعية والفكرية السائدة في مصر آنذاك؛ والتي جعلَت من المصريين مجرَّد آلات،
لا ذوات. ومن هنا، اتجه بالنقد ليس فحسب إلى هذه البنية؛ بل، أيضًا، إلى ما يؤسِّس لها
في
أشكال الفهم السائدة للدين والشريعة.
١٢٩ ومن هنا، ما يَلزم تأكيده من اختلاف الإمام مع أستاذه الأفغاني الذي كان
تقديره أن الأزمة ذات طابعٍ سياسي خالص؛ بينما أدرك الإمام للأزمة أبعادًا أعمق تتعلق
بالبنية الاجتماعية، والحالة العقلية والفكرية القائمة. ولقد أدَّى به هذا الإدراك ليس،
فحسب، إلى ما جرى على لسانه من لَعن السياسة والمشتغلين بها على السواء؛
١٣٠ بل — وهو الأهم — إلى تعليق الأزمة في رقبة الفقه والفقهاء الذين «هم
المسئولون عند الله تعالى عن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة، لأنه كان عليهم أن
يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبِّقوا عليه الأحكام بصورةٍ يمكن للناس اتِّباعها، لا
أنهم
يقتصرون على المحافَظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء، ويتركون لأجْلها
كل شيء.»
١٣١
وقد ترك هذا التبايُن أثره على الطريقة، التي تعامل بها الواحد منهما مع الشريعة؛
حيث
إنه فيما انشغل الأفغاني باستدعاء الشريعة لتشتغل على نحوٍ دفاعي في مواجهة التهديد
السياسي لدولة الإسلام؛ فإن الأستاذ الإمام كان يبحث فيما يراه مسئولًا عن التأزُّم
المُعيق لتقدُّم المصريين. وفيما آل استدعاء الشريعة لأداء دَورٍ سياسي دفاعي، عند
الأفغاني، إلى تكريس حضورها التقليدي النصِّي، فإن البحث فيها عما يكون سببًا للتآزم
الحاصل، عند الإمام، قد آل إلى استعادة التفكير في أصولها الكامنة وراء المنطوقات
النصِّية من جهةٍ؛ وإلى إعادة النظر، من جهةٍ أخرى، في الكثير من أحكامها التفصيلية
الجزئية.
وهكذا، انبنَت استراتيجية الأستاذ الإمام، في التعامل مع الشريعة، على محورَين؛ يتمثل
أولها في تأكيد تطابُق أصولها مع الأصول الكُبرى للتمدن الحديث، بينما يتجلى الثاني في
ممارسته المنفتحة تجاه البعض من مسائلها الجزئية على النحو الذي يسمح لها باستيعاب
مكتسبات التمدن الحديث. وفي سياق اشتغاله على المحور الأول، فإن جهده قد تركز على تأكيد
أن الجوهر الحقيقي للشريعة (وحتى الفقه) يتجاوز منطوقاتها النصِّية إلى معانٍ كلِّية
أعمق
تقوم وراءها. وهو ينطلق هنا من أن «الشريعة الإسلامية شريعةٌ عامة باقية إلى آخر الزمان،
ومن لوازم ذلك أنها تنطبق على مصالح الخلق في كل زمان ومكان، مهما تغيرَت أساليب
العمران. وشريعةٌ هذا شأنها لا تنحصر جزئيات أحكامها، لأنها تتعلق بأحوال البشر ما
وُجِدُوا، ولا يحيط بذلك علمًا إلا عالم الغيب والشهادة، وهو الذي جعل أساسها حفظ
الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال؛ إذ مصالح البشر، في كل آن، مبنية على هذه
الأشياء، التي فيها السعادة في المعاش والمعاد. وقد استخرج الأئمة والفقهاء — رضي الله
عنهم — القواعد الكلِّية والأحكام الجزئية، وبنَوها على أساس هذه الأصول الخمسة. ومن
القواعد المُتَّفق عليها بينهم أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، وأن الضرورات تبيح
المحظورات، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الضرر الخاص يُتحمَّل
لدفْع الضرر العام، والضرر الأشد يزال بالأخف، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو
خاصة، وأن الأحكام تتغير بتغيُّر الأزمان.»
١٣٢ ويرتب الأستاذ الإمام على ذلك وجوب أن يصرف المشتغلون بالأحكام جهدهم إلى
«فهم أقوال الفقهاء ومقاصدهم في الأحكام، التي استخرجوها من الشريعة لوقاية مصالح
الخلق، وحفظ حقوقهم ومنافعهم، لا أن يأخذوا بظواهر ألفاظهم، ظانِّين أنهم متعبدون بها،
فإن القاعدة المتَّفق عليها في العقود والمعاملات هي أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا
بالألفاظ والمباني، والفقه هو الفهم، فمن يأخذ بظواهر الألفاظ فهو ليس بفقيه، وليس
عندنا كتابٌ نتعبد بألفاظه إلا كتاب الله تعالى، ومع ذلك نرى جميع العلماء من المتكلمين
والفقهاء وغيرهم قد أجرَوا فيه التفسير والتأويل، ولم يأخذوا بظواهر ألفاظه كلها مع أنها
منزَّلة ومتواترة ومحفوظة من التحريف، فكيف نأخذ بظواهر ألفاظ الفقهاء من غير فهم، وليس
لها مزية من مزايا القرآن.»
١٣٣ وإذَن فإنه التفكير، على طريقة سابقيه كالطهطاوي والتونسي بالذات، في
الشريعة بالمقاصد والأصول، التي تقوم وراء منطوقاتها النصِّية؛ والتي لا قوام للشريعة
من
دونها.
وإذا كان حفظ هذه المقاصد هو أساس الشريعة، فإن هذا الحفظ، بما راح يفرضه من قواعد
كلِّية حاكمة وضعها الأصوليون من أجْل ضمان تحقيقه، سوف يكون هو الأصل في تغيُّر الأحكام
والقوانين الجزئية؛ ابتداءً من أنَّ تغيُّر حال العمران يستلزم تغيرًا في الأحكام، ليقوم
التناسب بينهما. والمهم، هنا، هو ما بدا من أن صلاحية الشريعة العابرة للزمان والمكان
تستلزم تجاوُز ظاهر النص إلى ما يسكن وراءه من المعنى والقصد. ومن هنا، ما لاحظه الأستاذ
الإمام من أن التفكير في الشريعة بالمنطوقات قد أدَّى، ليس، فحسب، إلى إظهار جمودها؛
بل —
وهو الأخطر — إلى تهديد وجودها؛ حيث إنها قد اضْطُرَّت إلى ترك مكانها لمنظومةٍ قانونية
مغايِرة تتفق ونوع العمران الحديث، الذي كان يتبلور في مصر آنذاك؛ أي في النصف الثاني
من
القرن التاسع عشر. واللافت، هنا، هو ما يظهر من أن الأستاذ الإمام لا يَدِين ما فعله
الخديوي إسماعيل من إحلال ما قيل إنها «شريعة نابليون» محل القوانين المنسوبة إلى شريعة
الإسلام؛ بل إنه يوجه الإدانة إلى ما يرى أنها «جناية شيوخ الأزهر على الشريعة». وهو
يعني بهذه الجناية «قعودهم عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديوي تأليف كتاب في الحقوق
والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة مرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين
الأوروبية، وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء المحاكم الأهلية، واعتماد الحكومة
على قوانين فرنسا، وإلزام الحكام بترك شريعتهم وحرمانهم من فوائدها.»
١٣٤ وهنا، يقدِّم الأستاذ الإمام الدليل العملي على ما لاحظه خير الدين التونسي،
من قبلُ، من أنَّ ترْك الحكام (بل حتى العوام) للشريعة هو نتاج تقاعس العلماء والشيوخ
عن
النظر فيها، بما يجعلها موافِقة لحال العصر، ومستجيبة لأسئلة الواقع. وللغرابة، إن
هؤلاء الشيوخ قد برروا تقاعسهم «بأنهم يحافظون بذلك على الشرع، وطريقة سلفهم الأزهري
في
التأليف، [حيث اعتبروا] أن تأليف كتاب أو كتب [في الشريعة] يقتصر فيها على القول
الصحيح، ويُجعَل بعبارةٍ سهلة، مقسَّمًا إلى مسائل تُسرَد بالعدد على كيفية كتب القوانين
[الأوروبية]، من البدع الهادمة لتلك السُّنة التي جرى عليها الميِّتون من عدَّة قرون.»
١٣٥ وإذا كان قد جرى اعتبار الخروج على سُنن الموتى من قبِيل «البدعة»، التي تئول
بصاحبها إلى الضلالة، فإن المرء يتفهَّم اعتذار الطهطاوي، حين طالبه الخديوي إسماعيل
بإقناع شيوخ الأزهر بأن يتركوا سُنن الموتى، ويكتبوا في الشريعة على الطريقة الحديثة،
مخافة أن يطعنوا في دينه.
١٣٦ وهكذا، تحقَّق إخراج الشريعة من المجال العام في مصر بإرادة أصحاب الشأن من
القائمين على حراستها من شيوخ الأزهر، ولم يكن قرارًا من جانب سلطةٍ غاشمة كما كان الحال
في الهند. وبحسب ذلك، يكون مفهومًا أن تتبدَّى الأزمة، طبقًا للأستاذ الإمام، في العقل،
وليس في السياسة. ومن هنا، انصرف الجهد عند الإمام إلى ضرورة تجديد التفكير في الشريعة
وغيرها، ولم يبدِّد طاقته في مجرَّد التعريض بسلطة السياسة القائمة. فإنه لا محل لتوجيه
النقد للحكومة؛ لأن «الشيوخ [هم] العقَبة في طريق كل إصلاح، وحجتهم الوهمية هي المحافظة
على الدين، الذي لا يعرفه سواهم، و[مصدر] قوتهم [هو] غرور العامة بهم، وتصديق دعاويهم،
والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا كانت أو باطلة، لئلَّا
تهيِّج عليها الرأي العام، ولذلك كان صلاح حال العامة بالتربية الصحيحة والتعليم النافع
مُفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بطبيعة الحال؛ لأن رأي الأمَّة يكون حينئذٍ، صحيحًا، وقوة
الأمَّة لا تُقاوَم لأن يد الله مع الجماعة.»
١٣٧ ما يلفتُ النظر هنا هو تعليق الأستاذ الإمام لِبؤس الحكومة على الحال البائسة
التي يكون عليها العامة؛ وبما يرتبه على ذلك من أن صلاح الحكومة موقوف على صلاح العامة.
وهو يردُّ بؤس العامة إلى تصديقهم لدعاوى شيوخ الأزهر؛ وبما لا بد أن يترتب على ذلك من
أن إصلاح «الدين» هو التوطئة الضرورية لإصلاح «السياسة». وبطبيعة الحال، إنه الدين، لا
بما هو «عبادة»، بل بما هو محور ثقافةٍ منتجةٍ لعقل. وإذ تكون الأزمة — والحال كذلك —
ذات طابعٍ عقلي، لا سياسي، فإن ذلك يؤكِّد قناعة الإمام بأنه سيكون من السذاجة تعليق
الأزمة في رقبة السياسة وحدها؛ وبما راح ينعكس على إدراكه أن تجاوُزها يستلزم، أولًا،
إصلاح العقل بما هو الشرط الضروري لإصلاح الحكم.
وبسبب جمودها، إن خروج الشريعة من المجال العام كان ضروريًّا، بعد أن ضاقت عن الاتساع
للوقائع المستجدَّة في حياة الناس؛ ما أدَّى بها إلى الصمت أمام ما يُعرَض عليها من المسائل،
على النحو الذي اضطر معه أهلها «إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما
لا يرتقي إليها».
١٣٨ بل إنه قد «ظهر للناس، بالاختبار، أن المحاكم التي يُحكَم فيها بقانون فرنسا
أضمَن للحقوق، وأقرب إلى الإنصاف من المحاكم التي تُسنَد شريعتها إلى الوحي السماوي»؛
١٣٩ وما يعنيه ذلك من أن شريعة الإسلام لم تعُد، مقارنةً بشريعة نابليون، أضمن
للحقوق، أو أقرب للتناصف. ومن هنا، ليس من الغريب أن يكون شيوخ الأزهر أنفسهم من الذين
«يتحاكمون إليها [أي إلى المحاكم التي تحكم بشريعة نابليون]، فالشيخ العباسي رفع إليها
بعض القضايا، وكان شيخَ الأزهر ومفتي الديار المصرية، وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ
سليم البشري، تحاكَم إليها في قضيةٍ تتعلق بأوقاف الأزهر، وكان له مندوحة عن ذلك، فكانت
جنايتهم على الشريعة أنهم أضاعوا القسم الأكبر منها، وكل ذلك بحجة حماية الدين، وحفظ
الشريعة، الذي هو فخرهم، ولو بالباطل، ينالون به الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين
لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون».
١٤٠ وهكذا، إن ما قيل إنه «حفظ الشريعة» لم يكن — في حقيقته — إلا ضربًا من
المحافظة، بلُغة الأستاذ الإمام، على «التقليد الأعمى للميِّتين والجمود على العادات
الموروثة».
١٤١ وهي المحافظة التي لم تذهب فحسب بروح الدين والشريعة؛
١٤٢ بل إنها ذهبَت برسومهما أيضًا. فإن «الناس تحدُث لهم باختلاف الزمان، أمور
ووقائع لم يُنصَّ عليها في هذه الكتب [الموروثة]، فهل نوقف سَير العالم لأجل كتبهم؟ هذا
لا يُستطاع، ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية ولجئوا إلى غيرها.»
١٤٣
ولعلَّ في هذا الذي أدركه الأستاذ الإمام من أن عجْز شيوخ الأزهر عن جعل الشريعة
موافقة
لحال العصر قد انتهى إلى ترك الناس لها (وبما آل إلى اضمحلالها روحًا ورسمًا)، ما يقوم
دليلًا على أن تغيُّر أحوال العمران يستلزم تغييرًا في الأحكام، وإلا فإنها ستتحول إلى
محض عباراتٍ فارغة لا فِعل لها في الواقع.
١٤٤ وغنيٌّ عن البيان أن دوران الأحكام مع حال العمران ينبني على فرضية أن
الشريعة ليست هي تلك الأحكام الجزئية المخصوصة بحال العمران في لحظةٍ ما، بقدر ما هي
مقاصد وأصول كلِّية ذات جوهرٍ ثابت؛ وفقط، إن الأحكام هي الإجراءات الواقعية العملية،
التي
تحقِّق هذه المقاصد بما يتناسب وأحوال العمران القائم. وإذا كانت المقاصد والأصول ذات
جوهرٍ ثابت، وعابر لأحوال العمران المتغيرة، فإن الأحكام المحققة لها تكون مشروطة بهذه
الأحوال المتغيرة؛ وما يعنيه ذلك من وجوب تغيُّرها. ولقد عبَّر الإمام عن هذا الترابُط
بين
الزمان والأحكام، بما أشار إليه من «أن أهل بُخارَى جوَّزوا الربا لضرورة الوقت عندهم.
والمصريون قد ابتُلوا بهذا، فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد، فصاروا يرون أن الدين
ناقص، فاضطر الناس إلى الاستدانة من الأجانب بأرباحٍ فاحشة استنزفَت ثروة البلاد
وحوَّلَتها للأجانب. والفقهاء هم المسئولون عند الله تعالى عن هذا، وعن كل ما عليه الناس
من مخالفة الشريعة، لأنه كان عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام
بصورة يمكن للناس اتباعها، لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها
ويجعلونها كل شيء ويتركون لأجلها كل شيء.»
١٤٥
ومن هنا ما يقرره الأستاذ الإمام، بصراحة وحسم، من أن حالة العمران، التي يكون عليها
الناس، أو الأمَّة، هي المرجع للقوانين والأحكام، وأنظمة العقاب والجزاء القائمة في لحظةٍ
بعينها. فهو، إذ ينطلق من تصوُّر أن «قوانين كل أمَّة تكون على نسبة درجتها في العرفان،
وأنها تختلف باختلاف الأمم في الجهالة والعلم، حيث لا يجوز وضع قانون طائفة من الناس
لطائفة أخرى، تُباينها في درجة العرفان، أو تزيد عليها فيه، لأنه لا يلائم حالة
أفكارها، ولا ينطبق على عوائدها وأخلاقها، وإلا لاختل نظامها»؛
١٤٦ فإنه يؤكِّد بذلك صدور القانون (من دون أن يكون للمصدر الذي صدر عنه أي تأثير
في ذلك) عن الحال، التي تكون عليها الأمَّة، ودرجة ارتقائها في العلم والعرفان. ولعلَّ
ما
يؤكِّد على وعي الإمام بأن حقيقة دوران القانون مع حال الأمَّة ورقيِّها في العمران،
لا
تتأثر حتى في حال القول إن مصدره السماء، يتبدَّى في تأكيده أن أنظمة الزجر والعقاب تدور،
بدَورها، مع رُقي الأمَّة في المدنية؛ بمعنى أنه إذا كانت العقوبة البدنية تناسب حالة
انحطاط المدنية، فإن الترقي في المدنية سوف يفرض نوعًا مختلفًا من العقوبة. فإن هناك
«أمَّة فطرَت أفرادها على الغلظة، ومجافاة الرقة، وكانت بواطنهم منطوية على الخِسَّة
والسفالة، فهؤلاء لا يردعهم عن غيِّهم، ولا يصدهم عن موارد بهتانهم، إلا القوانين
الصارمة المؤسسة على الجزاءات الشديدة، فمن الخطأ البيِّن أن يُعامَل مذنبهم بالسجن إذا
كانت نفسه تستخف ما هو أشد منه عقابًا.»
١٤٧ وهكذا، تتناسب صرامة العقوبة وغِلظتها مع حال الانحطاط في المدنية. وحين
يدرك المرء أن هذه الحال من الغلظة والانحطاط في المدنية كانت، حسب ابن خلدون، هي حال
العرب قبل الإسلام،
١٤٨ فإنه يستطيع أن يقدِّر أن هذه الحال هي التي تقف وراء نظام العقوبة الصارم،
الذي وضعه الإسلام؛ مع ملاحَظة أن الرقي في المدنية لا بد من أن يدفع باتجاه نظامٍ أقل
صرامة في العقاب. فإن هناك «من الناس من ينفع فيهم الزجر الخفيف، ويردعهم الوعيد
بالجزاء الهيِّن، إذا كانت طباعهم سهلة الانقياد، ونفوسهم شريفة، وحواسهم سريعة التأثر،
فهؤلاء لا يُسَن لهم من القوانين إلا ما كان منطبقًا على أحوالهم، فلا يُكلَّفون بالقوانين
الصارمة لأنها تضر بهم، شأن من يتجاوز في استعمال الدواء الحد المخصوص.»
١٤٩
وهكذا، لم يمنع الأصل القرآني للحدود، أو نظام العقوبة، الأستاذ الإمام من ربطها
بحالٍ
معيَّن في العمران، والاجتماع؛ إلى حد ما يمكن قوله من أنها تجد مرجعيَّتها ونظام معقوليَّتها
في أحوال هذا العمران. وإذَن، إنه لم يتعامل معها بما هي نظامٌ ثابت ومطلَق يقوم فوق
أحوال الاجتماع الإنساني، ولا ترتبط صلاحيته بزمانٍ بعينه؛ بل ربطها بأحواله ودواعيه.
وبذلك، يكون الأستاذ الإمام قد حسم، قبل ما يزيد على القرن، معضلة العلاقة بين أحكام
الشريعة، وأحوال العمران (أو بين «الشرعي» و«المدني»)؛ وعلى النحو الذي بدا معه أن
الأحكام (أو القواعد القانونية والجزائية) إنما تجد — ولو كانت حتى ذات أصلٍ ديني —
مرجعيَّتها التفسيرية في أحوال العمران «المدني»، وليس العكس؛ بما يكشف عن أطروحةٍ أكثر
رقيًّا من تلك التي يطرحها دُعاة الإسلام السياسي الآن. فأولئك الأخيرون لا يعرفون إلا
منظومةً (قانونية وجزائية) ترتبط (على قول الإمام) بحالٍ بعينه في العمران المدني،
ويريدون فرضها على حالٍ مغايِر لحال العمران الذي نشأَت فيه؛ متجاهلين ما قاله الأستاذ
الإمام من أن وضع قانون طائفةٍ بعينها لطائفةٍ أخرى مبايِنة لها سوف «يقلب ما يكون دواءً
للأُولى إلى داءٍ للأخرى».
١٥٠ ويعني من حيث سيؤدِّي ذلك إلى اختلال نظام الاجتماع والعمران. وهكذا إن
العبرة، عند الأستاذ الإمام، هي بما يؤدِّي إلى صلاح العمران البشري؛ وما يعنيه ذلك من
نزع سمات الإطلاق والقداسة عن قواعد الضبط السياسي والاجتماعي على العموم.
وإذ يرسِّخ الأستاذ الإمام قاعدة دوران الأحكام الشرعية مع أحوال العمران، فإن تحليلًا
لتلك القاعدة يئول إلى أن أحوال العمران هي «الأصل»، الذي تدور وراءه الأحكام، كفرعٍ
له.
ولعلَّ أهم ما يترتب على ترسيخ تلك القاعدة تأكيد تمايُز مقاصد الشريعة وأصولها الكلِّية
(غير القابلة للتحول) عن أحكامها، التي تقبل التحول والدوران. وبحسب هذا التمييز، إذا
كانت بعض أحكام الشريعة لا تقبل التجاوب مع أحوال العمران الحديث، الذي كانت تشهده مصر
آنذاك، فإن أصولها ومقاصدها لا تقبل هذا التجاوب فحسب؛ بل إنها ستكون أساسًا لأحكام
أخرى تحقِّق هذا التجاوب عمليًّا؛ بل إنه يبدو أن حفظ مقاصد الشريعة وأصولها يكون موقوفًا
على تغيُّر أحكامها وفروعها؛ وذلك من حيث إن عدم تغيُّر الأحكام وتبدلها سيكون مهددًا
للمقاصد والأصول. ومن هنا، ما كان لا بد من أن يقوم به الأستاذ الإمام من إعادة النظر
في الكثير من الأحكام المستقرة التي لم تعُد تتفق مع حال العمران في عهده، وتهدد تفعيل
المقاصد والأصول.
وكالمتوقَّع، إن الأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء، وغير المسلمين، والرقيق، والمعاملات
المالية المستحدثة، كانت هي التي أدار الإمام عليها مراجعاته. ولعلَّ انشغاله بهذه
المسائل يتكشف عن سعيه الجاد إلى توطيد دعائم المدنية الحديثة؛ وفي القلب منها مفهوم
«المواطنة»، الذي بدا أنه يقتضي — حسب تعبير الطهطاوي — تفعيل مبدأ «التسوية» بين أهل
المملكة، من دون أي تمييز على أساس النوع، أو الدين، أو العرق. وإذا كان الطهطاوي قد
عالج مثل هذه المسائل على النحو الذي سمحَت به حدود لحظته له، فإن معالجة الأستاذ الإمام
للمسائل ذاتها قد كانت أكثر تفصيلًا وعملية. ولعلَّ ذلك يرتبط بأن إلحاح الحاجة إلى
الإصلاح الاجتماعي قد تزايَد مع الإمام عما كان عليه مع الطهطاوي، الذي لم تكن حدة
الأزمة المصرية قد ارتفعَت وتيرتها في عهده.
وإذا كان الأستاذ الإمام قد ارتدَّ بجوهر الأزمة المصرية إلى التدني بالمصريين إلى
وضعية «الآلات»؛ وهي الوضعية التي كان لرجال الدين، بتفكيرهم الجامد في الدين والشريعة،
دورٌ حاسم في تكريسها، فإن جوهر رؤيته الإصلاحية قد تمحورَت حول التعالي بهم من وضع
«الآلات» إلى ما أراده لهم الله من أن يكونوا «ذوات». وهكذا، إن هذا التعالي كان هو
المحدد لتعامله مع المسائل الجزئية كافة، التي بدا له أن «الذاتية» الإنسانية تتعرض
فيها للتهميش على نحوٍ كامل تقريبًا. وإذ كانت النساء، وغير المسلمين، والرقيق، هم
الفئات الأكثر تهميشًا وتدنيًا بهم إلى ما دون الإنسان، وكان هذا التدني يجد ما يؤسِّس
له
ويحرسه في جملة أحكامٍ منسوبة إلى الشريعة، أو — كما يجدر بنا أن نقول — المدونة الفقهية
المتوارَثة، فإن الأستاذ الإمام قد أخذ يفكك هذه الأحكام المتوارَثة، كاشفًا عن انحراف
الكثير منها عن مقاصد شريعة القرآن. ولعلَّه كان يكشف بذلك عن التقابل بين الفقهي
والقرآني، الذي يبدو فيه وكأن الفقهي كثيرًا ما كان ينحاز إلى التقليد الاجتماعي
المستقر على حساب التوجيه القرآني. وعلى الرغم من ذلك «جعل الفقهاء من كُتبهم هذه، على
عِلَّاتها، أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل بما فيها، وإن عارض الكتاب
والسُّنة. فانصرفَت الأنظار عن القرآن والحديث، وانحصرَت أنظارهم في كتب الفقهاء، على
ما
فيها من الاختلاف في الآراء والركاكة.»
١٥١
ولعلَّ هذا التقابل بين القرآني والفقهي هو ما سعى الأستاذ الإمام إلى توظيفه في أنسنة
علاقة الاقتران بين المرأة والرجل. فإذ يأخذ على «الفقهاء أنهم يعرِّفون الزواج بأنه
عقدٌ
يملك به الرجل بُضع المرأة. وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة
شيئًا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية من الإشارات إلى الواجبات
الأدبية التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذبان كلٌّ منهما من الآخر»، فإنه يقرر أنه قد
رأى
«في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج، ويصح أن يكون تعريفًا له، ولا أعلم أن
شريعة من شرائع الأمم، التي وصلَت إلى أقصى درجات التمدن، جاءت بأحسن منه، قال الله
تعالى:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: ٢١)، والذي يقارن بين التعريف الأول، الذي فاض من
علم الفقهاء علينا، والتعريف الثاني الذي نزل من عند الله، يرى بنفسه إلى أي درجةٍ وصل
انحطاط المرأة في رأي فقهائنا وسرى منهم إلى عامة المسلمين، ولا يستغرب، بعد ذلك، أن
يرى المنزلة الوضيعة، التي سقط إليها الزواج، حيث صار عقدًا غايته أن يتمتع الرجل بجسم
المرأة ليتلذذ به، وتبع ذلك ما تبعه من الأحكام الفرعية، التي رتَّبوها على هذا الأصل
الشنيع».
١٥٢ وهكذا، فيما يتنزَّل «الفقهي» بالمرأة إلى منزلة الشيء/الجسد، الذي يكون
موضوعًا لتملُّك الرجل من أجْل التلذُّذ، فإن أهم ما يلفت النظر هو أن «القرآني» لا يشير
إليها كجسد، بل كزوجٍ مخلوق من «نفس» الرجل؛ وبما يشير إليه ذلك من رفع أي أساس للتمايز
بينهما. ومن جهةٍ أخرى، إن إشارة القرآن إلى كونها مخلوقة من الرجُل نفسه يُحيل إلى أن
«الجسد» لا يمكن أن يكون هو محور العلاقة بينهما، بقدر ما ينتسب إلى «النفس» من معاني
المودة والرحمة هو الأساس الحاكم للعلاقة بينهما.
ولعلَّه يمكن القول إن الأستاذ الإمام قد اتخذ من ملاحَظة (التبايُن بين الفقهي والقرآني)
ذات الطابع النظري، أساسًا لإحداث تغييراتٍ جوهرية تطال جوهر العلاقة بين المرأة والرجل
في الواقع العملي؛ وبما تجلى في دعوته إلى استحداث تشريعاتٍ ملزِمة تنظِّم الحق في الطلاق،
وتعدُّد الزوجات بالذات. وضِمن هذا السياق، لم يعمل الإمام كفقيهٍ يستدعي من المنظومة
المتوارَثة بدائل مختلفة يدفع بها في وجه الأحكام المستقرة بخصوص هاتَين المسألتَين؛
بل
إنه انشغل بقراءة القصد القرآني الأعمق للآيات الحاكمة لعلاقة الرجل بالمرأة على النحو
الذي يفتح الباب للتفكير في وضعية المرأة خارج إطار المنظومة المتوارَثة التي تتنزل بها.
وفي هذه القراءة للقصد القرآني، راح يؤكِّد أن قيَم الأحكام المحققة لهذا القصد تتبدل
بحسب
ضرورة الوقت، وذلك لكي يكون ممكنًا تحقيقه في أحوالٍ متغيرة.
ولقد كانت تلك هي آليته الرئيسة في التعاطي مع مسألة تعدُّد الزوجات في الإسلام.
فقد
«كان للتعدُّد في صدر الإسلام فوائد أهمُّها صلة النسب والصهر الذي تقوى به العصبية،
ولم
يكن له من الضرر مثل ما له الآن؛ لأن الدين كان متمكنًا من نفوس النساء والرجال».
ويقدِّم عبدُه تفصيلًا لما يقول إنها «الرزايا والمصائب المتولِّدة من تعدُّد الزوجات،
التي
منها السرقة، والزنى، والكذب، والخيانة، والجبن، والتزوير، بل منها القتل حتى قتل الولد
والده، والوالد ولده، والزوجة زوجها، والزوج زوجته، وكل ذلك واقعٌ ثابت في المحاكم»؛
ما
يؤكِّد أن الفوائد التي كانت للتعدُّد قد انعدمَت، ولم تعُد له إلا المضار التي يَلزم
معها
تغيير حكمه. ومن هنا، ما يصير إليه من أنه «يجب على العلماء النظر في هذه المسألة، ولا
سيما الحنفية منهم، الذين بيدهم الأمر، وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينكرون أن الدين أُنزل
لمصلحة الناس وخيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيءٍ مفسدةٌ في
زمنٍ
لم تكن تلحقه فيما قبله، فلا شك في وجوب تغيير الحكم وتطبيقه على الحالة الحاضرة، يعني
على قاعدة: درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. وبهذا يُعلَم أن تعدُّد الزوجات مُحرَّم
قطعًا
عند الخوف من عدم العدل».
١٥٣ وإذ يكون «شرطُ التعدُّد هو التحقُّق من العدل، وهذا الشرط مفقودٌ حتمًا، فإن وُجِد
في واحدٍ من المليون، فلا يصح أن يُتخَذ قاعدة، ومتى غلب الفساد على النفوس، وصار من
المرجَّح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم جاز للحاكم أن يمنع التعدُّد، أو للعالِم أن يمنع
التعدُّد مطلَقًا مراعاةً للأغلب».
١٥٤ وإذ يبدو العدل، هكذا، هو «المانع» لتعدُّد الزوجات، فإنه «لا يُمنع رجلٌ لم
تأتِ زوجته منه بأولاد أن يتزوج بأخرى ليأتي منها بذرية، لأن الغرض من الزواج هو التناسل».
١٥٥ هكذا، إن الحكم الشرعي، بحسب الإمام، ليس حكمًا مطلَقًا يعمل بمعزلٍ عن أي
شروط، بل إنه معلَّق على شروطٍ تقوم خارجه، هي التي تحدد إمكان تفعيله، أو تعليقه. وإذا
كانت قاعدة المصلحة ومراعاة الأغلب قد انتهت بالإمام إلى «تجويز الحجر على الأزواج
عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا لضرورة تثبت لدى القاضي، [فإنه يؤكِّد أنه] ليس في الدين
ما يمنع ذلك [التجويز]، وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط».
١٥٦ ولعلَّه يكشف بذلك عن وعيه بأن العادة والتقليد الاجتماعي قد أدَّيا دورًا
حاسمًا في توجيه «الفقهي»، ولو كان ذلك على حساب «القرآني». ومن هنا، إلحاح الإمام على
معالجة مسألة تعدُّد الزوجات ضِمن إطار «القرآني» بالذات.
وضِمن هذا السياق، فإنه إذا كان ثمة من يحتج بأن من «يطيل البحث في النصوص القرآنية،
التي وردَت في تعدُّد الزوجات، يجد أنها تحتوي حظرًا وإباحة». فإن الأستاذ الإمام يجمع
بين
نصوص الحظر والإباحة قارنًا للواحدة منهما بالأخرى بما يكشف عن أن وجهة القرآن هي حظر
التعدُّد ومنعه. فإن «الشارع علَّق وجوب الاكتفاء بواحدة [أي زوجةٍ واحدة] على مجرَّد
الخوف من
عدم العدل
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء: ٣)، ثم صرَّح بأن
العدل غير مُستَطاع
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ (النساء: ١٢٩)، فمن ذا الذي يمكنه ألا يخاف عدم العدل مع ما تقرر من أن
العدل غير مُستطاع؟ وهل لا يخاف الإنسان من عدم القيام بالمُحال؟ أظن أن كل بشر إذا
أراد الشروع في عملٍ مستطاع يخاف، بل يعتقد أنه يعجز عن القيام به، والوقوع في ضده. ولو
أن ناظرًا في الآيتَين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لَما كان حكمه هذا
بعيدًا عن معناهما. لولا أن السُّنة والعمل جاء بما يقتضي الإباحة في الجملة».
١٥٧
وبعبارةٍ أصح، إن الأستاذ الإمام يقطع بأن آية إباحة تعدُّد الزوجات إذا كانت تشير
إلى
أن «تعدُّد الزوجات حلال إذا أُمِن الجور، فإن هذا الحلال، كسائر أنواع الحلال، تعتريه
الأحكام الشرعية الأخرى من المنع، والكراهة، وغيرهما، بحسب ما يترتب عليه من المفاسد
والمصالح، فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو مُشاهَد في أزماننا، أو نشأ
عن
تعدُّد الزوجات فساد في العائلات، وتعدٍّ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة
بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حدٍّ يكاد يكون عامًّا، جاز للحاكم، رعايةً
للمصلحة العامة، أن يمنع تعدُّد الزوجات بشرطٍ أو بغير شرط، على حسب ما يراه موافقًا
لمصلحة الأمَّة».
١٥٨ وهكذا، إذا كان القرآن يتَّسع لدلالتَي الحظر والإباحة، فيما يتعلق بالتعدُّد،
فإن كون آية الإباحة «لم تُنسَخ بالإجماع، ويَلزم العمل بمدلولها ما دام الكتاب».
١٥٩ لم يمنع الأستاذ الإمام من أن يتأولها على النحو الذي راحت معه تتحول إلى
سندٍ لدلالة حظره. فإنه قد علَّق «الإباحة على شرط العدل، فإن ظُن الجور مُنعَت الزيادة
على الواحدة، وليس في ذلك ترغيب في التعدُّد، بل فيه تبغيض له».
١٦٠ وإذ ينطوي القرآن على «تبغيض» التعدُّد، فإن الأستاذ الإمام لم يجد بدًّا من
تقرير أنه لا مستند للتعدُّد إلا السُّنة والعمل
١٦١ الذي استقرَّ عليه الناس.
وهنا، يَلزم التنويه بأن حال «الترقِّي» في المدنية، التي أصبح عليها الناس في عصر
الإمام، هي ما يقف وراء ما يقرؤه من «تبغيض» القرآن للتعدُّد؛ إلى حد تحريمه وحظره. فإن
تعدُّد الزوجات «هو من العوائد التي دل الاختبار التاريخي على أنها تتبع حال المرأة في
الهيئة الاجتماعية، فتكون في الأمَّة غالبة، عندما تكون حالة المرأة فيها منحطة، وتقل
أو
تزول بالمرَّة عندما تكون حالها مُرتقية».
١٦٢ وتبعًا لهذه القاعدة، التي ترسَّخَت بالاختبار التاريخي، فإن «الرجل إذا بلغ
من كمال العقل ما يشعر معه بمنزلة زوجته من أهله وأولاده، وعرف أن من حقوقها أن تكون
في
المرتبة التي تستحقها بمقتضى الشرع والفطرة، مال إلى الاكتفاء بالواحدة من الزوجات،
ويمكن الاستدلال على ذلك بما نُشاهده، ولا نظن أحدًا ينازعنا فيه، من أن هذه العادة خفَّت
في بعض الطبقات من أهل بلادنا عما كانت عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة».
١٦٣ وإذا كان حال الترقي الراهن قد جعل ظاهرة تعدُّد الزوجات تقل أو تزول بالمرة،
فإن قراءة الظاهرة نفسها بالحال السابق الأقل رقيًّا تجعل ما فعله القرآن من الاكتفاء
بتخفيفها (أو حتى محاصرتها) أمرًا مفهومًا تمامًا.
فإن «تعدُّد الزوجات من العوائد القديمة التي كانت مألوفة عند ظهور الإسلام، ومنتشرة
في
جميع الأنحاء يوم كانت المرأة نوعًا خاصًّا، معتبَرة في مرتبةٍ بين الإنسان والحيوان».
١٦٤ وضِمن سياق هذا الترقي الأدنى الذي جعل المرأة في مرتبةٍ بين الإنسان
والحيوان، فإن «النساء لم يكُنَّ إلا متاعًا للشهوة لا يُراعى فيهن حقٌّ، ولا يُؤخَذ
فيهن
بعدل، حتى جاء الإسلام فشرع لهن الحقوق، وفرض فيهن العدل».
١٦٥ وكمتاعٍ للشهوة فإنه لم يكن هناك «حدٌّ لما يبتغيه الرجال من الزوجات».
١٦٦ إن القرآن قد واجه هذه الحال الدنيا من الترقي بأن «خفف الإكثار من
الزوجات، ووقف عند الأربع، ثم إنه شدد على المكثرين إلى حدٍّ لو عقلوه لما زاد واحد منهم
على الواحدة».
١٦٧ ويعني ذلك أن بناء الدلالة القرآنية الخاصة بتعدُّد الزوجات تتحرك على مدارٍ
يبدأ من «التخفيف» — من خلال وضع حدٍّ لعدد الزوجات — ويصل إلى «التبغيض» بما يفعل من
تعليق التعدُّد على شرط العدل العسير التحقيق؛ وبما يفتح الباب أمام تحريمها
وحظرها.
واللافت أنه إذا كان القرآن قد اتسع لدلالتَي الحظر والإباحة بخصوص تعدُّد الزوجات،
فإن
الإمام قد جعل السياق هو وحده المحدِّد لاشتغال إحدى الدلالتَين في لحظةٍ بعينها. وترتيبًا
على هذه القاعدة، بدا أن السياق الموجَّه لدلالة إباحة التعدُّد يتحدد من جهتَين؛ تتمثل
الأولى في أن «العرب كانوا قبل البعثة في شِقاق وقتال دائمَين، والقتال إنما كان بين
الرجال، فكان عدد الرجال ينقص بالقتل، فيبقى كثير من النساء بلا أزواج، فمن كانت عنده
قوةٌ بدنية وسعة في المال كانت تذهب نفسه وراء التمتع بالنساء، فيجد منهن ما يُرضي شهوته،
ولا يزال يتنقل من زوجةٍ إلى أخرى ما دام في بدنه قوة وفي ماله سعة».
١٦٨ وتتمثل الثانية في أن «الرجل من العرب كان يكفل اليتيمة فيعجبه جمالها
ومالها، فإن كانت تحل له تزوجها، وأعطاها من المهر دون ما تستحق، وأساء صحبتها، وقتَّر
في الإنفاق عليها، وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، وشدد عليهم في الامتناع عنه،
وأمرهم أن يؤتوا اليتامى أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم إلى أموالهم، ثم قال
لهم: إن كان ضعف اليتيمات يجرُّكم إلى ظلمهن، وخفتم ألا تقسطوا فيهن إذا تزوجتموهن، وأن
يطغى فيكم سلطان الزوجية فتأكلوا أموالهن وتستذلوهن، فدونكم النساء سواهن، فانكحوا ما
يطيب لكم منهن من ذوات جمال ومال من واحدة إلى أربع».
١٦٩ وهكذا، إنَّ ما عرفه الواقع فعليًّا من نقص عدد الرجال نتيجة للحروب، التي
كانوا يقتتلون فيها في شبه الجزيرة العربية من جهةٍ، وطمع الرجال، من جهةٍ أخرى، في أموال
اليتيمات اللواتي يكفلونهن، قد كانا هما المحددَين للسياق المبيح لتعدُّد الزوجات. وفي
المقابل، بدا أن السياق الموجه للدلالة نحو حظر التعدُّد إنما يتحدد بحال الترقي والتقدم
في المدنية الذي جعل ظاهرة التعدُّد تقلُّ أو تزول بالكلِّية. والمهم، هنا، أن الإمام
يكرِّس
الفكرة القاضية بأن دلالة الأحكام ليست نهائية أو مُطلَقة؛ بل هي متحولة بحسب ما يطرأ
على سياق الواقع من تحولاتٍ تدور (بالذات) مع حال الترقي في المدنية أو عدمه. وهكذا،
إذا
كانت الأحكام الجزئية لا تتجاوب مع ما يقتضيه الترقي الحاصل في المدنية، فإن الأستاذ
الإمام يعوِّل على تجاوُب مقاصد الشريعة وأصولها مع هذا الترقي؛ وعلى الذي تكون معه هذه
المقاصد والأصول مولِّدة لأحكامٍ جديدة تناسب الترقِّي، وتكون بديلًا للأحكام السابقة،
التي لا تتجاوب معه. وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن تحوُّل الدلالة لا يؤثِّر في أن الحكم
يكون في حالتَي الحظر والإباحة محققًا لقصد المصلحة الذي ترعاه الشريعة؛ بل إنها تتحول
لكي تحقق هذا القصد بالأولى. وليس من شكٍّ فيما يؤكِّد عليه ذلك من أن الأستاذ الإمام
يميز
في الشريعة بين الأحكام الجزئية القابلة للتحول لأنها ترتبط بالوقت من جهةٍ، وبين
المقاصد الكلِّية، التي تتسع للمصالح الإنسانية على نحوٍ عابر للوقت، والتي تتبلور الأحكام
كمجرَّد إجراءاتٍ عملية لتحقيقها من جهةٍ أخرى. وضِمن سياق هذا التمييز، بدا أن مقاصد
الشريعة وأصولها الكلِّية هي الأكثر ارتباطًا بالمجال «القرآني»، على عكس الأحكام
المتحوِّلة التي هي أكثر إحالة إلى «الفقهي». وغنيٌّ عن البيان أنه ما كان يمكن تفعيل
ذلك
كله من دون الفصل (على الدوام) بين «منطوق اللفظ» وبين ما يقوم وراءه من «الأصل
والقصد»، الذي قد لا يكون موضوعًا للنطق الصريح.
ولقد كانت تلك هي المبادئ الحاكمة لطريقة تعامُل الأستاذ الإمام مع المسائل كافة،
التي
ألزمه عصره بوجوب النظر والتفكير فيها؛ سواء ما يتعلق منها بما يخص النساء، كمسألة
الطلاق مثلًا، أو مسألة غير المسلمين والرقيق. فقد ركَّز الأستاذ الإمام على إظهار
المسافة القائمة بين «القرآني» وبين «الفقهي» فيما يخص الطلاق. وبحسب ذلك، قد مضى إلى
أنه إذا كان «شرعنا الشريف قد وضع أصلًا عامًّا يجب أن تُرَد إليه جميع الفروع في أحكام
الطلاق، وهو أن الطلاق محظور في نفسه مباح للضرورة، [فإن] المُطَّلِع على كُتب الفقه
يرى
أن الفقهاء من أتباع الأئمة قد توسعوا في أمر الطلاق، ولم تطَّرد طريقتهم على وتيرةٍ
واحدة في تطبيق الأحكام على الوقائع».
١٧٠ وإذَن، فيما يقصد «القرآني» التضييق في أمر الطلاق؛ إلى حد الاقتراب به من
أن يكون محظورًا إلا للضرورة، فإن «الفقهاء»، على العكس، يتوسعون فيما يؤدِّي إلى وقوعه؛
إلى حد إيقاعهم له بمجرَّد التلفظ به، ولو على نحوٍ عابث، ومن غير ضرورة بالمرة.
وكمثالٍ لتبايُن الفقهي عن القرآني، يُورد الأستاذ الإمام «مسألة وقوع الطلاق الصريح
دون
اشتراط النية»، التي يبدو فيها أن «الفقهاء، وخصوصًا من المذهب الحنفي، قد خالفوا فيها
الأصول العامة، التي بُنيت عليها معظم أحكام الشريعة، وفاضت بها نصوص الكتاب والسُّنة،
كالأصل المقرر لعدم تكليف المُكره والغافل المخطئ، وأخرجوا الطلاق من مشمول هذا الأصل،
فقضوا بوقوعه على المكره المخطئ، والهازل، والسكران … [والظاهر طبعًا] أن أهل هذا الرأي
[من الفقهاء] لم يعوِّلوا على النية، التي هي أساس الدين الإسلامي، كما يستفاد من حديث
«إنما الأعمال بالنيات»، كما أنهم لم يلتفتوا إلى قصد الشارع في أن الطلاق محظور في
الأصل، وأنه أبغض الحلال عند الله».
١٧١ وقد أرجع الإمام هذا التبايُن إلى تعلُّق «الفقهي» بما هو شكلي وخارجي، وذلك
فيما يلحُّ «القرآني» على ما هو جوهري وباطني؛ إذ فيما يقع الطلاق عند الفقهاء؛ «لأن
لفظ
الطلاق ذُكِر على لسان الزوج»؛
١٧٢ بمعنى أنه يقع بمجرَّد النطق باللفظ، فإن الأصل في الشريعة أنه لا يقع إلا
بالنية والقصد. وهنا، لم يترك الإمام الفرصة تمر دون تأكيد أن مأزق الفقهاء يأتيهم من
«اشتغالهم بتأويل الألفاظ في فهْم معانيها في ذاتها، بقطع النظر عن الأشخاص، وعندهم متى
ذُكِر اللفظ تم الأثر الشرعي، ولهذا قصروا أبحاثهم جميعها على الكلمات والحروف، وامتلأَت
الكتب بفهْم: طلَّقتُك، وأنتِ طالق، وأنتِ مطلَّقة، وعليَّ الطلاق، وطلقتُ رجلك، أو رأسك،
أو عرقك، وما أشبه ذلك. وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب ربما كان مفيدًا
للغة والنحو، ولكنه لا يفيد مطلَقًا علم الفقه بشيء … ولو ترك فقهاؤنا الاشتغال
بالألفاظ، وبحثوا في مآخذ الأحكام التي يقرِّرُونها، وعرفوا تاريخها وأسبابها، وقارنوا
المذاهب بعضها ببعض، وانتقدوها، وبالجملة لو اشتغلوا بعلم الفقه الحقيقي، لتبين لهم أن
الطلاق الحقيقي لا يكون طلاقًا إلا إذا كان مصحوبًا بنية الانفصال».
١٧٣ وهنا، يقرر الإمام قاعدة «أن الأعمال لا تستغني عن الألفاظ؛ إذ لو حلَّلنا أي
عقدٍ لوجدناه مُركَّبًا من ظهور إرادةٍ أو مطابقة إرادتَين حصل الاستدلال عليها، أو عليهما،
من ألفاظٍ صدرَت شفاهيًا أو بالكتابة، ولذلك ليس الغرض الاستغناء عن الألفاظ، وإنما
مُرادنا أن اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلا من جهة كوْنه دليلًا على
النية [أو القصد]».
١٧٤ وكعهده، يربط هذا المراد بالأحوال المتغيرة لعصره؛ بمعنى أن تعليق وقوع
الطلاق على النية والقصد، وليس مطلَق اللفظ إنما يبنيه على قوله: «نحن في زمانٍ ألِفَ
رجالٌ فيه الهَذَر بألفاظ الطلاق، فجعلوا عِصَم نسائهم كأنها لُعَب في أيديهم
يتصرفون فيها كيف يشاءون، ولا يرعون للشرع حرمة، ولا للعشرة حقًّا».
١٧٥ وهو يرتب على هذه الحال تجويز الإقرار بأن «وجود الشهود وقت الطلاق ركنٌ
دونه لا يكون الطلاق صحيحًا، فيمتنع بهذه الطريقة هذا النوع الكثير الوقوع من الطلاق
الذي يقع الآن بكلمةٍ خرجَت على غير قصد، ولا رويَّة، في وقت غضب. [والأهم من ذلك أنه]
يظن
أن في الأخذ بهذا الحكم موافقةً لآية من كتاب الله، ورعاية لمصلحة الناس، وما يُدرينا
لعلَّ
الله — سبحانه وتعالى — قد اطَّلع على ما تصل إليه الأمَّة في زمانٍ كزماننا هذا، فأنزل
تلك
الآية الكريمة
١٧٦ لتكون نظامًا نرجع إليها عند مسيس الحاجة كما هو شأننا اليوم».
١٧٧
وانطلاقًا من أن مصلحة الناس تستلزم تقييد الطلاق بسبب ما جرى من الاستخفاف به؛ وهو
الذي «تتعلق به أعظم الحوادث المدنية، كالنسب، والميراث، والنفقة، والزواج»، وأن القرآن
يأتي موافقًا لتلك المصلحة، فإن الأستاذ الإمام لم يتورع عن اشتراط أن يكون الطلاق بحكم
من القاضي، بدلًا من تركه يقع من الزوج من غير رويَّة. وهو لا يربط ذلك بما «فيه منفعة
عظيمة هي تقليل عدد الطلاق، [بل وهو الأهم] بما فيه من اتِّباع أوامر الله، وتنفيذ حكمٍ
مهم مثل حكم التحكيم [بين الزوجَين] المنصوص عليه في الآية التي ذكَرْناها، واتباع أمرٍ
شرعي، بقي معطلًا إلى الآن؛ حيث لم نسمع بإجرائه يومًا».
١٧٨ وإذَن، إنه التعطيل (في منظومة الفقه المستقرة) لحكم التحكيم، لتترك القرار
الأخطر في الحياة الزوجية نهبًا لإرادة الرجل المنفردة، أو حتى المستبدة. وغنيٌّ أن
الاستبداد الأصغر، على صعيد العلاقة بين الرجل والمرأة، هو ما يؤسِّس للاستبداد الأكبر
على مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهنا، يَلزم التنويه بما يبدو وكأن الإمام قد
أدركه من أن المصلحة تقتضي تحديد الإرادة المنفردة للرجل بما يحُول دون استبدادها. ولم
يكن هذا التحديد ليتعلق، فحسب، بما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة؛ بل إن خطاب الأستاذ
الإمام يكشف عن سعيه لتحديد الإرادة المنفردة للحاكم أيضًا. والمهم، هنا، هو ما يكاد
ينطق به الإمام من أن تفعيل مبدأ المصلحة لا يكون بالتضاد مع القرآن، بقدر ما أنَّه يفتح
الباب لتشغيل ما عطلَته المنظومة الفقهية من أحكام القرآن. والأخطر هو ما يبدو قابلًا
للاستنتاج من أن القصد الخفي لهذا التعطيل لأحكام القرآن قد يكون خدمة
الاستبداد.
وعلى أي الأحوال، إذا كان حال العصر يقتضي تحريكًا للحكم على غير ما استقرَّت عليه
المنظومة الفقهية الموروثة، فإن الأستاذ الإمام يؤكِّد أن في القرآن ما يؤسِّس لهذا
التحريك، الذي تقتضيه رعاية مصلحة الناس. وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أنه، في الحال
التي لا يكون فيها «الفقهي» مواكبًا لحال العصر، فإن «القرآني» يتكفل بتقديم ما يكون
أساسًا لحكمٍ يتجاوب مع تلك الحال. ويكاد المرء يستنتج أن الإمام يرى القرآن مختصًّا
(في
مواجهة الفقه) بما يؤسِّس لما يمكن به التجاوب مع أحوال الأزمنة المتغيرة؛ إلى حد تصوُّره
أن يكون الله قد اطلع على ما سيحدث من تحولات الأزمنة، فضمَّن كتابه ما يمكن أن يكون
جوابًا على تلك التحولات.
ولعلَّ ذلك يعني، بلا أي مواربة، أن الإمام يفكر في الشريعة، كسابقيه الطهطاوي،
والتونسي، بالقصد، وليس بالنص. وإذ القصد الأكبر، عند الإمام، هو الارتقاء بالبشر من
منزلة «الآلات» إلى مقام «الذوات»، فإنه، فيما يخص الطلاق، قد راح يتعامل معه، لا على
طريقة الفقهاء المستقرة في النظر إليه كمجرَّد موضوع للإرادة المنفردة للرجل وحده؛ بل
جعله حقًّا للمرأة كذلك؛ بما يعنيه ذلك من التصريح بمبدأ التسوية بينهما. وغنيٌّ عن
البيان أنه كان بذلك يخلخل بالكلِّية المنطق الذكوري الأبوي، الذي تقوم عليه المنظومة
الفقهية المتوارَثة؛ التي استقرَّت على «أن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل الأكمل
مقدم على الأخس الأرذل».
١٧٩
وبحسب مبدأ التسوية، يقرر الإمام «أنه مهما ضيَّقْنا حدود الطلاق، فلا يمكن أن تنال
المرأة ما تستحق من الاعتبار والكرامة، إلا إذا مُنِحَت حق الطلاق. ومن حُسن الحظ أن
شريعتنا النفيسة لا تعوقنا في شيء مما نراه لازمًا لتقدم المرأة».
١٨٠ وهو يرى أن الوصول إلى منْح المرأة حق الطلاق يكون من خلال «العمل بمذهبٍ آخر
غير مذهب الحنفية، الذي حرَمَ المرأة، في كل حال، من حق الطلاق؛ حيث قال الفقهاء من
أهله: إن الطلاق مُنِع عن النساء لاختصاصهن بنُقصان العقل، ونُقصان الدين، وغلبة الهوى.
مع
أن هذه الأسباب باطلة؛ لأن ذلك إن كان حال المرأة في الماضي، فلا يمكن أن يكون حالها
في
المستقبل؛ ولأن كثيرًا من الرجال أحط من النساء في نقصان العقل، والدين، وغلبة الهوى».
١٨١ وهكذا، إذا كان النقصان هو حال المرأة في الماضي، فإن «ما كان لها في
الماضي [من النقص] ليس ناشئًا عن جوهر خلقتها، وإنما كان فصلًا من فصول حياتها الطويلة».
١٨٢ ويعني أنه ليس من أصلٍ طبيعي؛ بل يرجع إلى سببٍ تاريخي. وهكذا، ليس النقص
قدَرًا ملازِمًا للمرأة بما هي كذلك؛ بل إنه يرتبط بسياقٍ بدا أنه قد تغيَّر بالفعل في
حاضر
الإمام على النحو الذي لاح فيه أن هذا النقصان لم يفارقها فحسب؛ بل إنه قد ظهر أنه مما
يلحق بالكثيرين من الرجال أيضًا. وإذ بدا للإمام أن السبب، الذي حال دون منح المرأة حق
الطلاق في الماضي، قد زال في الحاضر من جهةٍ، وأن المذهب الحنفي، الذي يمنع هذا الحق،
لا
يمكن تبديله من جهةٍ أخرى، فإنه قد اختار «أن يستمر العمل على مذهب أبي حنيفة، ولكن
تشترط كل امرأةٍ تتزوج أن يكون لها الحق في أن تُطلِّق نفسها متى شاءت، أو تحت شرط من
الشروط».
١٨٣ مع العلم بأن هذا هو ما بدا أن «المذهب الحنفي قد قرره وأساغه [لاحقًا]».
١٨٤
وإذا كان الأستاذ الإمام لم يتعرَّض، على نحوٍ واسع، لمسألة ميراث المرأة، بما يؤسِّس
لإمكان تساويها مع الرجل، فإن القواعد الحاكمة لتفكيره من ربط الأحكام الفقهية بسياقٍ
تاريخي قابل للتغير، ومن التأكيد على كون القرآن يتجاوب مع هذه القابلية للتغير على
النحو الذي يكون معه أصلًا لأحكامٍ مستحدثة تناسب الوقت، قد وجهَت تفكير أحد خلفائه (وهو
الطاهر الحداد) في مسألة ميراث المرأة؛ ما يمكن معه القول إنها أفكار الإمام منطوقًا
بها على لسان غيره. وهي الأفكار التي راحت تفتح الباب أمام إمكان التسوية بين المرأة
والرجل في الميراث.
لا يكتفي الحداد بتقرير حقيقة دوران الأحكام مع السياقات المتغيرة بطبيعتها؛ بل الأهم
ما يؤكِّده من أنها، في هذا الدوران، لا تقدر، أبدًا، على استنفاد القرآن. ولعلَّ ذلك
يعني
أن ما يقف وراء الأحكام ليس مُقتضى السياق فحسب، بل — وكذا — نظام الخطاب في القرآن.
وهكذا، إذا كان سياق التنزيل قد استلزم نزول ميراث المرأة عن الرجل بسبب ما كان «للرجل
من تفوُّقٍ ظاهر على المرأة في الإنتاج وحمايته، وحماية العائلة والمصالح العامة لقبِيلته
أو شعبه، وحتى في حماية المرأة عند نزول الحادثات. ومثل هذه التكاليف تجعله عرضة لأخطار
ومصاعب كبيرة كثيرة تأكل من ماله ولحمه، ودمه. فإذا قَدَّر له نصيبًا أوفر في الميراث
تعويضًا له عما يهلك منه، فليس ذلك مما يصعب احتماله على العدالة».
١٨٥ فإن نظام الخطاب في القرآن يفتح الباب أمام إمكان تجاوُز هذا النزول بميراث
المرأة.
ويظهر ذلك فيما يورِده الحداد من أن «الإسلام لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل
كأصلٍ
من أصوله، التي لا يتخطاها».
١٨٦ بما يعنيه ذلك من نفي الحداد أن يكون النزول بميراث المرأة (بما يحمله من
مبدأ التمييز بينها وبين الرجل) أصلًا من الأصول الثابتة غير القابلة للتجاوز. وفي
المقابل، يرى أن «القرآن يرمي، في جوهره، إلى العدالة التامة»؛ بما يعنيه ذلك من أن هذه
العدالة، بما تستلزمه من تأكيد مبدأ التسوية وعدم التمييز، أحد أهم أصول الإسلام
الكُبرى. وهكذا، تنبني فرضية الحداد الرئيسة، في إمكان التساوي، على حقيقة أنه فيما
يستحيل أن يكون التمايز أصلًا في خطاب القرآن، فإن العدالة، بما تقتضيه من التساوي، هي
أحد أصوله الكُبرى. ومن ثَم إن مُقتضَى خطاب القرآن يفرض رفع كل أشكال التمايز في
العلاقات بين البشر؛ ومنها، بطبيعة الحال، العلاقة بين الرجل والمرأة فيما يخص
الميراث.
وللتدليل على أن النزول بميراث المرأة ليس هو الأصل الثابت في القرآن، فإن الحداد
يُورد من القرآن ليس ما يؤكِّد، فحسب، أنه قد ساوى حالاتٍ بعينها بين الرجل والمرأة في
الميراث؛ بل ما يكشف أنه قد جعل نصيب المرأة أعلى من الرجل في حالات أخرى. فقد ساوى
القرآن المرأة بالرجل «في مسائل كميراث الأبوين مع وجود الولد،
١٨٧ وميراث الإخوة في الكلالة؛
١٨٨ بل قد ذهب معها أكثر من ذلك، فجعل حظها أوفر منه في وجهٍ من مسألة الأبوين
مع فقْد الولد عكس الصورة الأولى كما في الآية
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (النساء: ١١)، فعلى ظاهر الآية، كما يقول
ابن عباس، أن الثلث الذي لها من أصل التركة، فإذا كان من الوارثين زوج يستحق النصف من
امرأته الهالكة فلم يبقَ للأب إلا القليل من نصيب الأم، وهما من درجةٍ واحدة في القرب.
وبهذا المسلك، أخرس كل نطق عن اعتبار نقص ميراث المرأة قد نشأ عن أنوثتها».
١٨٩ وهكذا، إن القرآن نفسه هو الذي يخلخل القاعدة، التي ترسَّخَت في التقليد
الاجتماعي عن نزول ميراث المرأة عن الرجل؛ وذلك من خلال ما يورِده من حالاتٍ يتساويان
فيها أحيانًا، ومن أخرى يفوق فيها نصيبها ما يحصل عليه الرجل. ويعني ذلك، بطبيعة الحال،
أن القرآن لم يجعل النزول بميراث المرأة عن الرجل قاعدةً مطلَقة لا تنكسر أبدًا؛ بل إنها
محض حالةٍ مؤقَّتة تفرضها شروطٌ ترتفع بارتفاعها. ولهذا فإنه «لا شيء يجعلنا نعتقد خلود
هذه
الحالة [أي حالة نقص ميراث المرأة عن الرجل] دون تغيير».
١٩٠ بل إن نظام القرآن في الخطاب يقول بإمكان هذا التغيير.
وهو يربط التغيير، في هذه الحالة وغيرها، بما استقر عليه القرآن من اتِّباعه سنة
التدريج في التعامل مع الواقع المراد تغييره. ولعلَّ إسهامه المهم، هنا، يتمثل فيما قرره
من أن سنة التدريج لا تتوقف مع اكتمال التنزيل؛ بما يعنيه ذلك من تصوُّر التدريج كممارسةٍ
منفتحة لا تنتهي إلا مع بلوغ التطابق بين الإجراء العملي القائم، وبين المثل الأعلى
المأمول؛ إذ «ليس هناك ما ينص، أو يدل على أن ما وصل إليه التدريج في حياة النبي هو
نهاية المأمول، الذي ليس بعده نهاية، ما دام التدريج مرتبطًا بما للمسائل المتدرَّج فيها
من صعوبةٍ يمكن دَفعها عن قرب، أو وعورة تستدعي تطور الأخلاق والاستعدادات بتطور الزمن».
١٩١ وهكذا، إن التدريج في بعض المسائل بالذات، يبقى قائمًا، طالما أن هذه
المسائل كانت تحتاج، في تغييرها، إلى حدٍّ زمني مجاوِز لذلك الذي استغرقَته فترة تنزيل
الوحي. وهنا، يَلزم التنويه إلى أن هذا التدريج لا يتحدد، فحسب، بتحولات الزمان، بل إنه
(وهو الأهم) يكون بمثابة التحقيق العملي لمقصد القرآن.
ولقد كانت مسألة الرِّق هي المثال الذي يورِده الحداد لتأكيد انفتاح فعل التدريج
وعدم اكتماله؛ بمعنى أن التطور لم يبلغ من اكتمال التنزيل، في حالة الرق
بالذات، حد التطابق بين الإجراء المعمول به وبين الوضع المأمول. ويرتبط ذلك بأن هذا
التطابق كان في حاجةٍ إلى تطوُّرٍ في الأخلاق والاستعدادات (الاجتماعية والتاريخية) لم
يكن
موفورًا آنذاك. ومع الحدوث التدريجي لهذا التطور يمضي الأمر في اتجاه حصول هذا التطابق
بين القائم المعمول به وبين المثال المأمول فيه. فإن «عامة الشرائع إنما ترجع، في حقيقة
جوهرها ومرماها، إلى أمرَين عظيمَين: هما الأخلاق الحميدة الفاضلة، وحاجة الإنسان في
العيش، تؤيدهما وتعدل ما بينهما حتى لا يتعارضا في الحياة … غير أن هذه الروح الطيبة
الخالدة تضطر، في عامة الأحوال، إلى أن تساير بقدر الضرورة استعدادات الإنسان وأحواله
الناقصة في بروز آثارها في التربية والتشريع، ثم تأخذ في الوضوح بالتدريج إلى بلوغ
مستواها عند نضوج الإنسان. وهذا هو عين ما سار فيه الإسلام فيما عُرِف عنه من اتباع
الحكمة التدريجية في تشريع أحكامه».
١٩٢
ولعلَّ النتيجة القصوى لذلك تتمثل في أن ما قرره التنزيل، بخصوص الرق، ليس هو القول
النهائي، الذي لا قول بعده في المسألة؛ بل إنه هو القول الممكن بحسب تطور الأخلاق
والاستعدادات؛ وعلى النحو الذي يفتح الباب لأقوال أخرى فيها تتجاوب مع تطورات الأخلاق
والاستعدادات اللاحقة. وعلى الرغم من أن هذه الأقوال لا تكون من منطوقات القرآن، فإنه
لا يمكن القول بخروجها عن نظام خِطابه أبدًا. فإن هذا النظام ينطوي على التدريج المكتمل
كالحال في الخمر، في مقابل التدريج المفتوح غير المكتمل الذي يفتح الباب لأقوال في
المسألة (كمسألة الرق مثلًا) لم ينطق بها القرآن، لكنها تكون منه مع ذلك؛ باعتبار
توافقها مع نظام خطابه.
ولعلَّ ذلك هو ما كان يفكر به الأستاذ الإمام حين قرر «أن الدين الإسلامي لا يعارض
في
إلغاء الرقيق، كما هو الحادث في هذه الأيام؛ بل هو لا يوافق على استمراره أصلًا …
[ولهذا فإنه] ستصدر فتوى من شيخ الإسلام إعلانًا بأن إلغاء الرقيق يوافق روح القرآن والسُّنة».
١٩٣ وبطبيعة الحال، ما كان يمكن لمثل هذه الفتوى أن تصدر لولا أن وراءها هذا
الفهم الذي يقضي بأن عدم تحقُّق المأمول، في مسألة الرق، مع اكتمال التنزيل، لا يُغلق
الباب أمام إمكان التحقُّق اللاحق له مع تطور الأخلاق والاستعدادات الذي بدا أن العصر
الحديث يدفع به في اتجاه الحصول. ولعلَّه يتفق مع هذا الفهم ما يقرره الأستاذ الإمام
من
أن القواعد الحاكمة للرِّق في المنظومة الإسلامية ليست «دينية»، بقدر ما هي ذات طبيعةٍ
«سياسية». ومن هنا ما يقوله من أن «العبد، في الواقع، أسيرٌ قد أُخِذ في حربٍ مشروعة،
أو
هو أحد أفراد أمَّة ليست على صفاء في علاقاتها بأمراء المسلمين، وليست بينها وبينهم
معاهدات أو محالفات تحميها، [ولهذا إن] الكافر، الذي ينتمي إلى أمَّةٍ متحالفة مع أميرٍ
مسلم، لا يمكن أن يؤخذ في الرق».
١٩٤ إن كون العداوة «السياسية» وليس الكفر «الديني» هي الأصل في الرق إنما يعني
أنه لا وجود لسببٍ ديني يبرر استمرار بقاء الرق؛ بقدر ما إنه موقوف على نوع العلاقة
السياسية لجماعة المسلمين بغيرهم. وفي كلمةٍ واحدة، إن ذلك يعني أن العمل بقواعد الرق
ليس جزءًا من أصول معتقَد المرء، وثوابت إيمانه. ضِمن هذا السياق، إن تحول القاعدة
الحاكمة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم من «الدين» (الذي حدد هذه العلاقة في العصور
الوسطى) إلى «السياسة» المحددة للعلاقة نفسها في الأزمنة الحديثة، إنما يعني حصول تطور
في الاستعدادات (التاريخية والأخلاقية) على النحو الذي راح يمهِّد الطريق أمام رفع الرق
بالكلِّية. ولعلَّ ذلك يكشف أن الموقف من ظاهرة الرق هو، في حقيقته، موقفٌ «سياسي»، لا
«ديني».
ولعلَّ حصول التطور في الاستعدادات التاريخية والأخلاقية (الذي آل إلى رفع الرق) هو ما
يقف وراء سعي الأستاذ الإمام إلى إعادة النظر في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين،
على النحو الذي تتحرر معه من قبضة من أسماهم «الجهلة المتشدقين»، الذين جرت إرادتهم
باستمرار التمييز ضد غير المسلمين بما يئول إلى تهميشهم والحيلولة دون اندماجهم في
المجال العام. وفي ذلك، يخلخل ما يروِّج له هؤلاء «الجهلة المتشدقون»، باعتبار أنه يصدر
عن شُبهةٍ لهم في فهْم الآيات، التي تسوِّغ تفسيقهم لإخوانهم (غير المسلمين) أو حتى
تكفيرهم؛ بما يحُول دون قيام الألفة والمودة معهم. وهكذا، يقرأ آيات النهي عن موالاة
غير المسلمين،
١٩٥ التي تسوِّغ تفسيق غير المسلم وتكفيره بما يراه آيةً «مُحكَمة» تحُول دون هذا
التفسيق، والتي تقول:
لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (الممتحنة: ٨-٩). فإن هذه الآية تخصِّص خطاب النهي وتجعله مخصوصًا
بأولئك، الذين يسلكون تجاه المسلمين سلوكًا غير ودِّي؛ وعلى النحو الذي يجعله نهيًا
مشروطًا وغير مطلَق. ولعلَّ الأستاذ الإمام كان يؤكِّد ذلك بما أضافه من أن «الله أباح
لنا،
في آخر ما نزل على نبيه
ﷺ نكاح الكتابيات، ولا يكون نكاح في قوم حتى
تكون فيهم قرابة المصاهرة، ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة».
١٩٦ وما يعنيه ذلك من أن النهي عن المودة، وعن الموالاة من ثَم، لم يكن
نهائيًّا ومطلَقًا.
وإذ يجعل الأستاذ الإمام فعل النهي عن مودة غير المسلمين وموالاتهم نهيًا مشروطًا،
فإنه يعلِّق هذه المشروطية على ما يترتب على الفعل من النفع أو الضرر؛ بمعنى أنه يدور
مع
المصلحة وجودًا وعدمًا بدَوره. وهكذا، «إذا أمِن الضرر، وغلب الظن بالمنفعة، ولم يكن
في
الموادة معونة على تعدي حدود الله، ومخالفة شرعه، فلا خطر في الاستعانة بمن لم يكن من
غير المسلمين، أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء، فإن طالب الخير
يُباح له؛ بل ينبغي أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه، ما لم يكن ضرر للدين والدنيا».
١٩٧ وهو ينتقل إلى رصد الممارسات المؤكِّدة لهذا الفهم (الذي يعلق النهي عن
الموالاة أو عدمه) في سنة النبي الكريم، وممارسات الخلفاء، وحكام المسلمين؛ بما يكشف
عن
استيعابهم العملي لدلالة عدم النهي عن موالاة غير المسلمين الذي تنطق به آية:
لَا
يَنْهَاكُمُ اللهُ (الممتحنة: ٨). ولقد بلغ هذا الاستيعاب حد قبول استعانة المسلمين
في حروبهم بغير المسلمين، وليس في مجرَّد الوظائف المدنية كالكتابة، والجباية، والوزارة،
وغيرها. وهو ينقل عن ابن خلدون تفسيره لهذه الاستعانة بغير المسلمين من «أن القوم كانوا
عربًا أُمِّيين لا يحسنون الكتابة والحساب، فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب …
وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور، لم يكن عندهم [يعني العرب] رتبةٌ خاصة، للأمية التي
كانت فيهم».
١٩٨ إن ذلك يعني، بطبيعة الحال، وعي الأستاذ الإمام بأن شروط السياق تؤدِّي دورًا
جوهريًّا في توجيه الدلالة نحو المودة والموالاة. وهكذا، إنه ينقل عن ابن خلدون، أيضًا،
أن «ملوك المغرب صاروا يتخذون طائفة من الإفرنج [غير المسلمين] في جندهم، واختصوا بذلك؛
لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر. والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون درءًا
للمقاتلة أمامه، فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قومٍ متعوِّدين للثبات في الزحف،
وهم
الإفرنج، ويرتبون مصافَّهم المحدق بهم منها [أي الإفرنج]، هذا على ما فيه من الاستعانة
بأهل الكفر، وإنما استخفُّوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان».
١٩٩ وهكذا، إن الضرورة قد أباحت لملوك المغرب المسلمين أن يستعينوا بالإفرنج،
وهم أهل كفر، للمقاتلة في جيوشهم، لكونهم خبراء في فنون من المقاتلة، كان المسلمون غير
معتادين عليها.
وينتهي الأستاذ الإمام من ذلك كله إلى أنه «قد قامت الأدلة من الكتاب، والسُّنة،
وعمل
السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة المسلمين».
٢٠٠ وحين يدرك المرء أن عدم إدماج غير المسلمين في جيوش المسلمين كان هو الأساس
الذي يبرر به الفقهاء فرض الجزية عليهم، فإن إدماجهم في هذه الجيوش كان لا بد من أن
ينتهي إلى رفع الجزية عنهم؛ وما يعنيه ذلك من رفع التمييز الحاصل ضدهم. وبذلك، إن
الأستاذ الإمام كان يتجاوب مع مقتضيات التمدن الحديث، التي تلزم بحضور الفرد في المجال
العام، لا باعتبار دينه الذي يجعله متميزًا عن غيره؛ بل باعتبار المواطنة التي تساويه
بغيره. وهكذا، يبدو كأن الأستاذ الإمام قد انشغل، من خلال تأكيد دلالة عدم النهي عن
موالاة غير المسلمين، بإدماج غير المسلمين في مجتمعاتٍ أغلبية سكانها من المسلمين؛ حيث
ينفتح الباب أمامهم للحضور الفاعل في المجال العام. وهنا، يَلزم التنويه بأن الإمام قد
انشغل بالمثل بإدماج المسلمين في المجتمعات التي يعيشون فيها، وتكون أغلبية سكانها من
غير المسلمين.
فإذ أرسل مسلمو إقليم الترنسفال (في جنوب أفريقيا) إلى الأستاذ الإمام يستفتونه فيما
إذا كان يمكن لهم أن يشاركوا أهالي الإقليم (الذين هم أشد النصارى تعصبًا في دينهم،
وتمسكًا بكتبهم) ملبسهم وطعامهم، فإنه قد أجاب بما يجيز لهم ذلك؛
٢٠١ وعلى النحو الذي يتيح لهم الاندماج في المجتمع، بما لا يؤدِّي إلى ظهور ما
يمكن تسميته بالمسألة الإسلامية، على غرار المسألة اليهودية، التي تبلورَت عن عجز اليهود
عن الاندماج في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها بسبب تمييزهم لأنفسهم في اللباس
والطعام. وفيما يخص اللباس، فإنه قد راح يفك الارتباط بين الدين والملبس؛ على النحو
الذي لا يمكن معه نسبة نوعٍ ما من اللباس إلى دينٍ بعينه. ومن هنا «أن الإسلام لم يقيِّد
أهله بزيٍّ مخصوص؛ لأن الزي من العادات التي تختلف باختلاف حاجات الشعوب وأذواقهم وطبائع
بلادهم فهو [يعني لبس القلنسوة الأوروبية] مباحٌ لهم».
٢٠٢ وهكذا، يفك الأستاذ الإمام «اللباس» من التحدد بالدين ليربطه بالعادة؛ حيث
إنه «لم يكن من حكمة هذا الدين العام للبشر أن يقيد شعوب الأرض كلها بعادة طائفة منهم
كأهل الحجاز أو غيرهم، ولهذا لَبِس النبي
ﷺ من لبوس النصارى، والمجوس،
والمشركين، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة».
٢٠٣ وإذ الزي ليس، على هذا النحو، دينًا؛ بل عادة، فإن تلميذ الأستاذ (رشيد
رضا) قد راح يرد على الناكرين فتوى أستاذه بجواز ارتداء زي غير المسلمين، بأنهم من
«الجاهلين الذين لا يعرفون من الدين إلا ما ينسب إليه من العادات والتقاليد الشائعة بين
المسلمين في بلادهم خاصة».
٢٠٤ بمعنى أنه يردُّ الأمر إلى جهلهم، الذي يجعلهم يُحيلون العادة والتقليد إلى
«دين». وغنيٌّ عن البيان أن تعرية تحوُّل «العادة والتقليد»، بسبب الجهل، إلى «دين» إنما
يندرج في إطار ما يمكن أن يكون تمييزًا للفقه عن الشريعة؛ انطلاقًا من اتساع الفقه
للعادة والتقليد اللذين يختصَّان بطائفةٍ معيَّنة في لحظةٍ محددة في مقابل تعلُّق الشريعة
بما
هو عام وعابر للزمان بين بني البشر.
وفيما يخص طعام أهل الكتاب، إن الأستاذ الإمام قد تلقَّى سؤالًا عن جواز أكل المسلم من
ذبائح نصارى الترنسفال؛ لأن «ذبحهم مخالف؛ لأنهم يضربون البقر بالبلط، وبعد ذلك
يذبحونها بغير تسمية، والغنم يذبحونها بغير تسمية أيضًا». إن مخالفة الذبح تأتي من أن
ضرب البقر بالبُلط يؤدِّي إلى موتها، فيكون أكلها من قبِيل «أكل الميتة»؛ الذي لا يجيزه
الإسلام. ولأن آية أكل الميتة
٢٠٥ غير منسوخة، فإنه يعتمد على ترتيب النزول بينها وبين الآية، التي تجيز
تناوُل طعام أهل الكتاب.
٢٠٦ فقد أفتى الأستاذ الإمام «بالأخذ بنص آية
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (المائدة: ٥)؛ حيث قال الله هذا بعد آية تحريم الميتة، وأحل
طعامهم، ويعلم ما يقولون عند الذبح، ويعلم ما يعتقدون بعُزير والمسيح».
٢٠٧ وهكذا، إن دلالة تحريم طعام أهل الكتاب ليست نهائية أو مطلَقة؛ بل إنها قد
أصبحَت مقيَّدة بما نزل لاحقًا من الآية، التي تحمل دلالة التجويز والإباحة. ويعني ذلك
أنه
لا مستند لاستقرار دلالة تحريم أكل طعام أهل الكتاب وذبائحهم إلا التقليد الاجتماعي،
الذي راح يزحزح دلالة الإباحة لصالح دلالة الحظر؛ بما يؤشِّر عليه ذلك من الوعي بالدور
الذي يؤدِّيه الاجتماعي في بناء الفقهي. ومرةً أخرى، إن ذلك يؤكِّد حقيقة التمييز بين
ما
يمكن القول إنه «الشريعة» المتصلة بالقرآن الحاوي للدلالات المتحولة، بحسب مبدأ المصلحة
الإنسانية، في مقابل الفقه، الذي يتحدد بالتقليد الاجتماعي الراسخ في لحظةٍ ما. وليس
من
شكٍّ في أن «الشريعة» — والحال كذلك — هي الأوسع والأكثر حيويةً وديناميكية من
الفقه.
ولعلَّ ذلك التمييز بين الشريعة والفقه — ولو كان حاضرًا على نحوٍ مضمر — هو الأصل
في
المرونة، التي تتسم بها معالجة الأستاذ الإمام لكل المسائل، التي تعرض لها. ولقد تجلى
ذلك واضحًا في سياق معالجته لمسألة موالاة غير المسلمين، والنساء، والرق، وغيرها؛ حيث
بدا أنه لم يتقبل الموروث الفقهي الشائع في هذه المسائل بكل ما ينطوي عليه من قواعد
يبدو أن نصيب «التاريخ» غير الودِّي مع النساء، وغير المسلمين، والرقيق في صَوغها كان
أكبر
بكثير من نصيب «القرآن» الذي تتجه دلالته، في المقابل، إلى اعتبار التراحم، والتسوية،
والمودة، هي الأصل في بناء العلاقة بين الأطراف الفاعلة في هذه المسائل. وضِمن هذا
السياق، فإنه فيما يتجه التاريخ إلى جعل القواعد، التي يصوغ بحسبها نظام العلاقة بين
الأطراف الفاعلة في هذه المسائل، «دينًا» ثابتًا، فإن القرآن يعلِّق نوع هذه العلاقة
على
ما يبدو أنها «السياسة والتقاليد» المتغيرة؛ وبما يعنيه ذلك من أن يتعامل معها بوصفها
«فقهًا» لا «شريعة».
ولقد كان هذا التمييز بين الشريعة والفقه هو الأساس النظري الذي بنى عليه قاسم أمين
خطابه الجديد حول المرأة بالذات. فإن «الشريعة الإسلامية إنما هي كلِّياتٌ وحدود عامة،
ولو
كانت تعرَّضَت إلى تقرير جزئيات الأحكام لما حُق لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل
زمان ومكان ما يوافق مصالحها».
٢٠٨ وهكذا، فإن الأمر يصل به إلى أن يرى في أن «تعرُّض الشريعة لتقرير جزئيات
الأحكام» ينفي عنها أن تكون «شريعةً» صالحة لكل زمان ومكان. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن
الشريعة «جاءت، في الغالب، مطلَقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق».
أما جزئيات الأحكام فهي متغيرة؛ ولهذا إن فهْمها موكول «إلى أنظار المكلَّفين، وقد وضعَتها
[الشريعة] تحت تصرُّف اجتهادهم. وعلى هذا، جرى العمل بعد وفاة النبي
ﷺ
بين أصحابه وأتباعه. ولمَّا اتسعَت خطة الإسلام، وكثُر اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم،
وعرضَت عليهم حاجات وضرورات اقتضَت أحكامًا ومشروعاتٍ جديدة قام المجتهدون بينهم؛
واستنبطوا لهم من أصول الشريعة العامة ما يناسب الوقائع الخاصة، ففصَّلوا ما أجمله
القرآن والسُّنة من الأحكام، وفرَّعوا منها ما يناسب الأحوال، والأمصار، والأعصار، فهم
لم
يضعوا بذلك شرعًا، ولم يُضيفوا على الدين شيئًا، وإنما كان اجتهادهم قاصرًا على النظر
في
الجزئيات، وردها إلى كلِّياتها المقررة في الكتاب والسُّنة».
٢٠٩ ومن هنا، ما يمكن الانتهاء إليه من أن الشريعة عنده هي «هذه القواعد
الكلِّية، التي تحدِّد أعمالنا بحدودٍ يجب الانتهاء إليها على حسب ما ورد في الكتاب والسُّنة
الصحيحة، هي التي لا تقبل التغيير ولا التبديل … [أما الفقه فإنه] الأحكام المبنية على
ما يجري من العوائد والمعاملات، فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان.»
٢١٠ ولكنه لا يجعل هذا التغيير منفلتًا من كل ضابط؛ حيث إن الشريعة تقتضي «ألا
يُخِل هذا التغيير [في الأحكام] بأصلٍ من أصولها العامة، فكشْفُ الرأس، مثلًا، قبيح في
البلاد الشرقية؛ لأنه كان معتبَرًا في العادة، مخلًّا بالمروءة، ولهذا السبب عُد عند
أهل
الشرق قادحًا في العدالة، ولكنه غير قبيح في البلاد الغربية، فلا يكون عندهم قادحًا.
فالحكم الشرعي يجب أن يختلف باختلاف ذلك. وجواز إثبات التصرفات الشرعية بالشهادة لم يكن
الغرض منه معنًى مخصوصًا في أشخاص الشهود، وإنما الغرض من إثبات هذه التصرفات بالطريقة
التي وقع الإصلاح عليها، ولم يكن غيرها مألوفًا، فإذا تغيرَت الأحوال، وتبدَّل الإصلاح،
واعتاد الناس التعامل فيما بينهم بالكتابة، تغير كذلك الحكم الشرعي، وتحولَت طريقة
الإثبات من الشهادة إلى الكتابة، وإذا قيل باستحباب ستر المرأة وجهها من الرجال لخوف
الفتنة، وعدم اقتضاء الحال لكشفه في زمانٍ كان هناك محلٌّ لخَوف الفتنة، ولا تقضي ضرورات
الحياة على المرأة بكشف وجهها، فلا مانع من أن يتغير هذا الاستحسان إلى ضده في زمان
آخر؛ ذلك أن اختلاف الأحكام باختلاف العوائد ليس، في الحقيقة، اختلافًا في الشريعة،
إنما هو ردٌّ لأحكام الجزئيات إلى أصولها الكلِّية، ورجوع بها إلى مقاصدها الشرعية».
٢١١ ولعلَّ ذلك يعني، بمنطق المخالَفة، أن عدم تغيير الأحكام لِتتماشى مع العوائد
والإصلاحات الجارية يكون فيه إخلال بالأصول الكلِّية للشريعة. وهكذا، يكاد المرء يقطع
بأنه من دون تمييز قاسم أمين بين الشريعة والفقه لما كان يمكنه فتح الباب أمام وجوب
تغيير الأحكام، ليس فقط لتتماشى مع الحوادث المستجدة، بل (وهو الأهم) لكي يتم تفعيل
أصول الشريعة الكلِّية.
ولعلَّ ذلك يعني أن مفكِّري النهضة العربية وأباءها الأوائل قد أعادوا الشريعة (عبر
تمييزها عن الفقه) إلى المجال التداولي لها في القرآن، الذي ترتد فيه إلى جملة أصول
ومبادئ تأسيسية كُبرى تتوافق عليها الأديان جميعًا. وإذ هم يقولون بإمكان، بل وجوب،
تغيير الأحكام لتناسب العوائد والحوادث المتغيرة، فإن ذلك قد فرض عليهم أن يردوا تلك
الأحكام إلى الفقه، الذي هو مجالٌ إنساني حسب القرآن ذاته، وأن يمايزوه عن الشريعة بما
هي أصول وقواعد كلِّية توجِّه حركة الأحكام الفقهية. ولقد تمثَّلَت الإضافة، التي تميز
بها
هؤلاء الآباء، في حقيقة ما راحوا يكشفون عنه من الاتفاق بين أصول الشريعة وقواعدها
الكلِّية، وبين أصول التمدن الحديث. وضِمن هذا السياق، إذا كانت الموجة الأولى من هؤلاء
المفكِّرين (الطهطاوي والتونسي) قد انشغلَت بتأكيد عدم تعارُض أصول الإسلام مع أصول التمدن
الحديث، فإن المفكِّرين اللاحقين عليهم (محمد عبده، والطاهر الحداد) قد انشغلوا بفحص
المنظومة الإسلامية القائمة، ومعالجة بعضٍ من مسائلها الجزئية المتعلقة بالمرأة، وغير
المسلمين، والرقيق، وغيرها من المسائل، التي تنطوي على ما يتعارض مع أصول كلٍّ من الإسلام
والتمدن الحديث. وفي الحالَين، كان ذلك يتحقق عبْر الخروج بالقواعد الحاكمة لهذه المسائل
من تحديدات «الفقه» المقيَّد بحدود اللحظة إلى رحابة «الشريعة» العابرة لهذه التحديدات
والقيود.
لسوء الحظ، إن مسار هذا النوع من التفكير المنفتح في الشريعة، الذي ساد على مدى القرن
التاسع عشر، والذي كان يمكن أن يفتح الباب أمام بناء نظرية «الحق»، التي لم يعرفها
التفكير الفقهي في الإسلام، قد بدأ في التراجع والانحسار، بعد إعلان سقوط الخلافة في
عشرينيات القرن العشرين. وإذ ارتبط مسار هذا الفهم المنفتح للشريعة بما بدا أن التفاعل
الإيجابي مع الحداثة عند مفكِّري ومصلحي القرن التاسع عشر الكبار (وكلهم من العرب
والأتراك تقريبًا)، فإنه يمكن تصوُّر أن انقطاعه نتاجٌ لنوع من الخبرة السلبية مع الحداثة
التي راحت تأخذ وجهًا إمبرياليًّا. ولأن هذا الانقطاع قد راح يتجلى في عمل الأفغاني
بالذات، فإن ذلك يُحيل إلى لزوم الوعي؛ ليس، فقط، بالكيفية التي تحقق بها القطع مع الفهم
المنفتح للشريعة في عمل الأفغاني، بل بالسياق الذي تبلورَت فيه خبرة الأفغاني مع
الحداثة، وهو سياق الإسلام الهندي الذي سيُنجب المفكِّر الذي سيبلغ بمسار التفكير غير
المنفتح في الشريعة إلى مداه عند منتصف القرن العشرين؛ وهو أبو الأعلى المودودي، الذي
سيكون السلف المباشر (عبر وساطة سيد قطب) لكل جماعات الإسلام الراديكالي المتشدد، التي
تنشر الخراب والفوضى في ربوع العالم العربي في هذه الأيام.