بدا، مع نهايات القرن التاسع عشر، أن التمدن، الذي حلم به الآباء الأوائل، قد أخلف
وعْده،
وأن شيئًا لم يتخلف عنه إلا وقوع مصر، بعد عقودٍ قليلة، تحت الوصاية الأوروبية الضاغطة،
التي
سرعان ما انتهت إلى احتلالها بالكامل قبل نهاية القرن بأقل من عقدَين. وعندئذٍ، راح يظهر
للكافة أن الحداثة قد بدأَت تدخل في العالم الإسلامي إلى طور الأزمة؛ وعلى النحو الذي
كان لا
بد من أن ينعكس على فهْم الشريعة وطريقة مقاربتها. وضِمن هذا السياق، ثمة من راح يستدعي
الشريعة (والأفغاني هو المثال) لتكون درعًا يحمي وراء أسواره هويته الإسلامية التي تهددها
الحداثة بالاقتلاع. وذلك في مقابل من ظل يلحُّ (والأستاذ الإمام محمد عبده هو المثال)
على
ضرورة المقاربة العقلانية المنفتحة للإسلام (كعقيدةٍ وشريعة)، على النحو الذي يجعله في
اتساق
مع أصول التمدن الحديث؛ وبما يكاد يعنيه ذلك من تصوُّر الأزمة، لا في الحداثة؛ بل في
الفهم
الجامد للإسلام وشريعته نفسها. وفي كلمةٍ واحدة، إنه التبايُن بين تصوُّر الشريعة كإطارٍ
لحراسة
الهوية (الأفغاني)، وبين تصوُّرها كقناعٍ للجمود (محمد عبده).
(١) التأثير الهندي في تسييس الإسلام
من حُسن الحظ، أن هناك، من الهند نفسها، من راح يرصد بالفعل ملامح التبايُن بين
التجربتَين المصرية/العربية والهندية، بخصوص الحداثة، وانعكاس ذلك على كيفية تصوُّر
الشريعة. فقد مضى أبو الحسن الندوي إلى أنه «منذ مطلع القرن التاسع عشر المسيحي ظهر في
العالم الإسلامي، الذي كان يعاني التدهور الفكري والانحطاط السياسي، اضطرابٌ فكري عجيب،
بفعل نفوذ أوروبا السياسي، وتقدُّمها المادي الحثيث، وغزوها المتتابع، وانتصاراتها
المتواصلة في مجال العلم والعلوم التجريبية، مما جعل قضية عَرض الإسلام في أسلوبٍ عصري
فرض كفاية».
٣ وإذ «نهض في مختلَف نواحي العالم الإسلامي كُتَّاب وعلماء حاولوا أن يواجهوا
هذا الموقف الحرج، وتقلَّدوا مسئولية الدفاع عن الإسلام والشريعة الإسلامية، وتاريخ
الإسلام والمسلمين، ونظام حكمهم وتعليمهم … [فإنه]، على الرغم من الاعتراف بقيمة هذه
المحاولة وجدواها؛ حيث انتشلَت عددًا وجيهًا من النفوس الصالحة من حمأة تلك البلبلة
الفكرية والرِّدة الحضارية، التي كانت تهبُّ أعاصيرها الهوجاء في العالم الإسلامي. فإنها
كانت تتسم بالأساليب الدفاعية والاعتذارية، وتبدو وكأنها ترمي، أولًا وقبل كل شيء، إلى
إزالة الفجوة، أو تضييقها على الأقل، بين الحضارة والقيَم الإسلامية، والحضارة والمُثُل
الغربية، كما كانت تنمُّ عن تقبُّل المصطلحات السياسية والاقتصادية الغربية على عِلَّاتها
أو
تطبيقها على التعاليم الإسلامية دون تحفُّظ أو احتياط».
٤ وإذ يبدو واضحًا أن الندوي يشير إلى الاستجابة الإصلاحية للفكرة الغربية،
التي تبلورَت، على مدى القرن التاسع عشر، في مصر وتركيا بالذات، فإنه قد راح يدمغها بما
يقول إنه «التحريف العالي»؛ وبما جعله يشير إلى ضربٍ من الاستجابة المغايِرة، و«البعيدة
عن التحريف»، بطبيعة الحال، التي تبلورَت في الهند بالذات.
ومن هنا ما يقوله من أن «الراسخين في العلم من العلماء المعاصرين قد حاسبوا هذه
المحاولة [الإصلاحية] — مع الاعتراف بقيمتها الجزئية — محاسبةً علمية، وأبَوا أن تقبل
الأمَّة المسلمة هذا الفهم الديني الذي تُنشئه هذه الكتابات، وأخذوا بأيدي جماعاتٍ كبيرة
من
الشباب المسلمين المثقفين، الذين كانوا قد تأثروا بذلك، إلى الصراط المستقيم، وعلى ذلك
فقد سدُّوا منافذ التحريف العالي، التي افتتحها كتابات هؤلاء الأفاضل وبحوثهم … [ثم يحدد
أن] أكبر قسط من هذا العمل، الذي يمتاز بمتانته، وعُمقه، واعتداله قد تم في الهند التي
كانت أكبر مسرحٍ للصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية بحكم كوْنها خاضعةً خضوعًا
مباشرًا لسيطرة الاستعمار البريطاني».
٥ وهكذا فإنه في مقابل «التحريف العالي» الذي يَصِم به الندوي الاستجابة
الإصلاحية للحداثة في مصر وتركيا بالذات، فإن الهند كانت عنده مسرحًا لاستجابةٍ أكثر
عمقًا ومتانةً للصراع بين الفكرة الإسلامية، والفكرة الغربية. والحاصل أن الشرط الخاص
بالسيطرة الإنجليزية المباشرة على الهند، التي اقتلعَت المسلمين من حُكمها، قد أدَّت
دورًا
بالغ التأثير والحسم، في بَلورة استجابةٍ للحداثة مغايِرة لتلك الاستجابة الإصلاحية،
التي
تبلورَت قبل ذلك في مصر، وتركيا، وتونس، وحدَّدَت تصوُّرًا بعينه للشريعة راح معه يجري
التركيز على جانبها الإجرائي كأحكام ونصوص، وليس كمقاصد وأصول.
فقد ترتَّب على «ما واجهه الشعب المسلم الهندي من إخفاق حرب الاستقلال المستميتة
في
١٨٥٧م، أن امتلأ قلبه كراهيةً وسخطًا ضد الحكومة الإنجليزية والشعب البريطاني الأوروبي
المسيحي الذي كان يمثِّل هذه الحضارة. وهذه الفكرة [الغربية]، وهذه الفلسفة للحياة، وقد
انبثقَت من هذه الكراهية والسخط حركة الخلافة الجبارة، وحركة رفض الموالاة مع الإنجليز
القوية.»
٦ وبطبيعة الحال، قام على هاتَين الحركتَين كتيبةٌ من «العلماء الربانيين الذين
لم تؤثِّر الحضارة الغربية وقيَمها ومُثُلها في حياتهم وتفكيرهم، [وهم] ثروة لم تكن
متوافرة في كثير من البلاد الإسلامية والعربية، أو كانت هذه الروح قد ضعفَت فيها واضمحلَّت.»
٧ وهكذا، فإن تخلخُل وضْع الإسلام والمسلمين في الهند قد آل إلى استجابةٍ تختلف
عن مثيلتها في العالم العربي وتركيا؛ من حيث السخط على الفكرة الغربية والرفض الكامل
لإمكان المصالحة معها، ومن حيث بروز السياسة كمركزٍ للتفكير مع ما قيل إنها «حركة
الخلافة الجبارة». وهكذا فإنه فيما كانت مركزية الخلافة تخفِتُ عند كلٍّ من الأتراك
والعرب، فإنها كانت تنبثق كمركزٍ للتفكير في الإسلام عند المفكِّرين الهنود. ويتفرع ذلك
عن
حقيقة أن السيطرة الإنجليزية على الهند لم تتمخض فقط — على قول ماركس — عن تحلُّل نظام
الحياة التقليدي، الذي تميز بجموده وركوده على مدى القرون؛
٨ بل إنها قد انتهت، فيما يخص الحكم الإسلامي في الهند، إلى ضعضعة أُسسه
تدريجيًّا؛ ثم إلى زواله على نحوٍ كامل.
وبخصوص الهند الإسلامية، فإنه على الرغم من أن الإسلام قد بدأ يطرق أبواب الهند منذ
القرن الهجري الأول؛ وعلى عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فإنه لم يبدأ تمدده وراء
الساحل إلا مع نهايات القرن الرابع الهجري، حين أسَّس الغزنويون دولتهم في شمال شبه
القارة الهندية. وبالطبع فإن ذلك يعني أن عصر الممالك الإسلامية لم يبدأ في الهند إلا
في عصر تَضَعضُع سُلطة الخلافة، وبداية ظهور عصر الدول المستقلة (السلجوقية والبويهية
وغيرها). فعلى مدى أكثر من ثمانية قرون، تمتد بين تأسيس أُولى الممالك الإسلامية في
الهند في القرن الحادي عشر الميلادي (الدولة الغزنوية)، وبين سقوط سلطة آخر ملوك المغول
المسلمين في القرن التاسع عشر مع إخضاع الهند للتاج البريطاني، «ظل المسلمون يتداولون
حكم الهند دولة بعد دولة، حتى جاء الإنجليز إليها تجارًا، فأكرموهم، وأتاحوا لهم فرصة
المتاجَرة، ومنحوهم كثيرًا من الامتيازات، فكانت الباب الذي دخلوا إلى السيطرة منه شيئًا
فشيئًا، حتى تم لهم القضاء على الحكم الإسلامي نهائيًّا في سنة ١٢٤٧ هجرية/١٨٥٧
ميلادية»، ومعنى ذلك «أن الحكم [الإسلامي] ظل في الهند ثمانية قرون ونصفًا، كان
المسلمون فيها هم السادة والحكام، وكانت الشريعة الإسلامية هي الأساس العام لحكم هذه
البلاد».
٩
وقد تطور وضع الإسلام، على مدى هذه الفترة الطويلة، من مجرَّد مملكةٍ محدودة أسَّسها
الغزنويون في الشمال إلى دولةٍ مترامية الأطراف بسطَت سيادتها على شِبه القارة الهندية
بأسْرها تقريبًا، التي دانت لسلاطين المغول المسلمين، الذين جعلوا من دلهي عاصمة حُكمهم.
وبطبيعة الحال، ما كان من الممكن أن يستقر الإسلام في حكم هذا البلد الشاسع، وأن تكون
«شريعته — كما قيل — هي الأساس العام لحُكم البلاد»، من دون أن ينفتحا على النحو الذي
يتَّسعان فيه لأوضاع التعدُّد الديني، والمذهبي، والثقافي، الذي يزخر به هذا البلد الكبير.
وفي كلمةٍ واحدة، إن الثراء الثقافي والديني والحضاري، الذي تتميز به الهند كان لا بد
من
أن ينعكس على الكيفية، التي تُبلوِر لها حضور كلٍّ من الإسلام وشريعته على النحو الذي
تميزا
معه بالمرونة والانفتاح. وليس من شكٍّ في أنه لم يكن من الممكن تحقيق هذا الضرب من
المرونة والانفتاح إلا عبْر تفكيرٍ يركِّز على المبادئ الكُبرى، والمقاصد الكلِّية، ولا
يخضع
لمحدودية المنطوقات النصِّية.
ولعلَّ أهم ما يلاحظه المرء أن مرونة الإسلام الهندي وانفتاحه قد بلغَت ذروتها في
عهد
الدولة، التي تحقَّقَت معها السيادة شِبه الكاملة للإسلام على الهند؛ وهي دولة ملوك المغول.
ويرتبط ذلك، فيما يبدو، بترامي أطراف هذه الدولة، التي شملَت رقعتها شبه القارة بأكملها
من جهةٍ، وباستمساك الكثيرين من أهلها بدياناتهم وثقافاتهم القديمة من جهةٍ أخرى؛ وعلى
النحو الذي دفع إلى ضرورة تبنِّي سياسةٍ متسامحة لا تسمح فحسب لأصحاب هذه الديانات القديمة
باستمرار الاعتقاد فيها، بل بعدم حرمانهم من المشاركة في الشأن العام دون التمييز ضدهم.
١٠ ولعلَّ ذلك يرجع إلى تجذُّر التجربة الدينية وتنوعها في الهند على النحو الذي
لم تُتَح معه للإسلام فرصة إزاحة الأديان القائمة، واضطراره إلى الاحتفاظ بها إلى جواره؛
على عكس ما حصل في مناطق أخرى استطاع معها الإسلام أن يُخلي الساحة لنفسه على نحوٍ كامل.
وهكذا، إن البيئة المنبنية على التعدُّد الديني والثقافي قد فرضَت ضرورة التزام سياسةٍ
تقوم
على التسامح؛ ما أتاح للإسلام أن يتجاوز ضِيق «الحرف» إلى رحابة وانفتاح «الروح». ولقد
بدا أن رحابة «الروح» قد بلغَت، أحيانًا، حد ما بدا أنه التغليب لها على تحديدات «الحرف»
وقيوده؛ بما ينكشف عنه جليًّا عصر السلطان جلال الدين أكبر على مدى النصف الثاني من
القرن العاشر الهجري.
فقد «أدرك أكبر — كغيره من سلاطين المغول الكبار — أنه لا يمكن حكم بلاد الهند
الواسعة، وإقرار الأمور فيها إقرارًا حقيقيًّا إلا بقيام المؤاخاة والألفة بين أهلها
على اختلاف مِللهم، وتبايُن أعراقهم ونِحَلهم».
١١ ولعلَّ هذا الإدراك هو ما يقف وراء تبنِّيه فلسفةً للحكم تقوم على أن «المُلك
نعمة من نعم الله، ويتجلى العرفان بها في حسن إدارة الحاكم لحكومته على وجهٍ يجعل رعاياه
يتفانون في طاعته. وعلى هدْي هذه الغاية، حاول أن يمزج نفسه بالهند وشعوبها من مسلمين،
وهنادكة، مزجًا عميقًا، لينقلب هو وبلاده، آخر الأمر، إلى وحدة لا تنقسم أو تتجزأ، فمضى
يعمل على انضواء الهنادكة جميعًا تحت راية الحكم الإسلامي عن رضًا وقبول بتأليف قلوبهم».
١٢ وهكذا، تعود آلية «تأليف القلوب»، التي عمل بها الإسلام على عهد النبي
وخليفته الأول أبي بكر للاشتغال في الهند على عهد «أكبر» بعد أن كان عمر بن الخطاب قد
أوقف العمل بها حين أدرك أن الإسلام قد حقق انتصاره على النحو الذي لم يعد معه في حاجة
إلى دعم غير المؤمنين. لكنه يَلزم التنويه إلى أنه إذا كان مبدأ «تأليف القلوب» قد عمل
في صدر الإسلام في شكل دفع أعطياتٍ لغير المؤمنين به، فإنه سوف يعمل في الهند في صورة
رفع الأعباء المالية المفروضة عن كاهل غير المسلمين، مع السماح لهم بالمشاركة الفعالة
في المجال العام، إلى حد قيادة الجيوش؛ وما يعنيه ذلك من أن حروب المسلمين في الهند لم
تكن آنذاك حروب «دين»؛ بل كانت حروب «دولة» لا تمايز بين رعاياها.
ولعلَّ هذا التصوُّر للمُلك لا يقوم على «القوة»؛ بل على «رضا المحكومين»
١٣ يتفرع عن حقيقة اجتماع المُلك والاجتهاد في شخص «أكبر»؛ وهو ما يبين عنه
«مرسوم العصمة»، الذي أقر فيه علماء عصره بأهليته للاجتهاد. فإن «جمهور العلماء — حسبما
يقول نص المرسوم — من الذين تضلعوا في العلوم النقلية، وفاقوا أقرانهم في الفنون
العقلية، وعُرِفُوا بالورَع، والأمانة، وصدق الطوية، يعلنون، بعدما تدبروا معاني الآية
الكريمة
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
(النساء: ٥٩)، وأمعنوا في مغزى الأحاديث الشريفة
«إن أحبَّ الناس
إلى الله يوم القيامة إمامٌ عادل»، و
«من يُطع
الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني»، وتفطَّنوا إلى غيرها من
الشواهد العقلية والدلائل النقلية، يعلنون، بعد كل ذلك أن السلطان العادل أرفع درجةً
عند
الله من العالِم المجتهد، وكذلك يصرِّحون بأن سلطان الإسلام، أمير المؤمنين، ظل الله
في
الأرض، الملك الغازي أبا الفتح جلال الدين محمد أكبر هو أعدل الملوك، وأعقلهم، وأعلمهم.
فإذا عرضَت مسألة من المسائل، التي تضاربَت فيها أقوال الأئمة المجتهدين، وأراد الملك
أن
يعزِّز جانبًا، أو يرجِّح رأيًا، مستنِدًا إلى ثقوب ذهنه، ونضوج رأيه، إذا عرضَت مسألةٌ
كهذه،
وقطع الملك فيها بشيء تسهيلًا للعامة، وتحسينًا لإدارة الملك، وجب على الجميع الخضوع
لأمره، والعمل به، وكذلك إذا أصدر الملك أمرًا لا يعارض النص، ويكون فيه ترفيه عن
الأمَّة، وجب العمل بمقتضاه على كل واحد، والذي يخالف أمره من رعيته يستحق العذاب في
الآخرة، والخسران في الدين والدنيا جميعًا».
١٤ وعلى الرغم من أن الأمر لا يتجاوز حدود ترجيح السلطان لرأي من آراء الفقهاء
(تسهيلًا للعامة، وتحسينًا للملك)، أو إصدار أمر لا يعارض النص (ويكون فيه ترفيه
الأمَّة)، فإن هناك من يرى «في ثنايا [هذا المرسوم] من دواعي الفساد والإلحاد في الدين»؛
١٥ على النحو الذي يُخرِج «أكبر» من دين الإسلام.
وهنا يَلزم التنويه إلى أن ما جرى اعتباره «من دواعي الفساد والإلحاد في الدين» لم
يكن
إلا إدراك الوجه الذي تكون معه الشريعة «رحمة للعالمين» حقًّا؛ وحيث يكون فيها «التسهيل
للعامة، والتحسين للمُلك، والترفيه عن الأمَّة». ولقد تبدَّى هذا الوجه الإنساني الرحيم
للشريعة فيما مضى إليه «أكبر» من «إزالة الفوارق بين المسلمين والهندوس في دفع الضرائب؛
بل رفع الضرائب، التي كان يدفعها الهندوس عند زيارتهم لأماكنهم المقدَّسة، وفتح بابه
للشَّاكِين، وجعل على بابه ناقوسًا يدقه كل من أراد أن يقدِّم شكواه إليه، وأعان الزراع،
وثبَّت ملكياتهم للأرض، وتجاوز عن ديونهم المتأخرة. ومنع الزواج قبل سن الرشد، وأباح
للأرامل الهندوسيات الزواج، وكُن لا يتزوجن، كما منع المرأة من إحراق نفسها إذا مات
زوجها، وامتنع عن جعل أُسارى الحرب عبيدًا، وأمر حكَّامه أن يحيطوا علمًا بأحوال رعيتهم،
ويعاملوا الناس معاملةً خاصة، ويحسنوا إلى الفقراء، وألا يعفوا عن المجرمين، ولا يقبلوا
الهدايا، ولا يعترضوا على المخالفين لهم في الدين، فهم إن كانوا على الحق فلا يصح
الاعتراض عليهم، وإن كانوا على الباطل فهم مرضى يجب الرفق بهم، ثم عليهم أن يلاحظوا دخل
الناس وخرجهم، حتى إذا زاد خرجهم كان ذلك دليلًا على اكتساب حرام، ومنع اغتسال النساء
والرجال في الأنهار سويًّا، كما منع شُرب الخمر وعصْرها، [ومنع] مشي النساء كاشفاتٍ
وجوههن، ومنع جَبْر أحدٍ على الإسلام، ومن أُجبِر فله الخيار، وجعل للناس الحرية التامة
في اعتناق أي دين يريدون.»
١٦
وإذ رأى البعض في هذه الإجراءات أنها تكاد تكون تحقيقًا لقيَم المساواة، والعدالة،
والحرية، والرفق، ورفع الظلم، وعدم التمييز، وغيرها من القيَم الإنسانية الكُبرى، فإنه
يكون من المنطقي أن ينتهي هؤلاء إلى أنه «لا يمكن لأحد من المسلمين الواسعي الأفق أن
يعترض على أكبر في سياسته، أو معظمها على الأقل؛ بل إنهم يرَون في عدل أكبر وسياسته نحو
رعاياه صورةً من صور المبادئ الإسلامية العادلة، التي تحرص على العدل بين جميع الرعايا».
١٧ ولقد بلغ الحرص على العدل بين جميع الرعايا، بصرف النظر عن اختلافهم في
الدين، أنه قد أصبح المحدد الرئيس لعلاقة أكبر بفقهاء عصره. فقد «كان أكبر، في أول
أمره، ميَّالًا إلى العلماء والصلحاء، وكان يتَّبع أحكام الشريعة، ويحترم الصوفية، ويحضر
بنفسه في مجالسهم، وكان للعلماء [أو الفقهاء] الكلمة النافذة في سياسة البلاد، وشئون
العباد، ولكنهم كانوا لا يعاملون من خالفهم في دينهم معاملة العدل والمساواة، وكان أكبر
لا يحب أن يعمل بهذه الخطة [القائمة على التمييز، وعدم التسوية بين الرعايا]، فأخذ
يتبرأ منهم، فلم يبقَ عنده من العلماء إلا من يوافقه على سياسته، ويحذو حذوه في إدارة
شئون المملكة، التي كان أكثر أهلها من غير المسلمين.».
١٨ وغنيٌّ عن البيان أن حرص «أكبر» (والفقهاء الموافقين له) على العدل والتسوية
بين الرعايا جميعًا (بصرف النظر عن اختلافهم في الدين) قد جعلهم يقدِّمون مبادئ الشريعة
وقيَمها الكُبرى (التي تقف وراء منطوقاتها النصِّية) على ما فيها من التكاليف والأحكام
الإجرائية (التي لا يلغي النص عليها أنها تكون، في لحظةٍ بعينها، مجرَّد أداةٍ تتحقق
من
خلالها المبادئ الكُبرى للشريعة).
وبطبيعة الحال، إن أولئك، الذين لا يعرفون من الشريعة إلا جانبها الإجرائي النصِّي، قد
راحوا ينظرون إلى الفقهاء، الذين تجاوزوا هذا الجانب الإجرائي النصِّي في الشريعة، إلى
ما
يقف وراءه من القيَم الكُبرى كالعدل والمساواة، على أنهم من «علماء السوء الذين يأتون
المنكرات وقبائح الأعمال مستظلين بظل البدعة الحسنة».
١٩ ومن المنطقيِّ أيضًا، أن يصرِّح هؤلاء المتمسكون بالجانب الإجرائي النصِّي في
الشريعة برفضهم المُطلق لمبدأ البدعة الحسنة انطلاقًا من أن «البدعة — على قول المجدِّد
السرهندي [١٠٣٤ هجرية] — إما رافعة للسنة أو ساكتة عنها، والساكتة لا بد وأن تكون زائدة
على السُّنة، فتكون ناسخة لها في الحقيقة؛ لأن الزيادة على النصِّ نسخٌ له، فالبدعة كيف
كانت تكون رافعة للسنة، ونقيضة لها، فلا خير فيها ولا حُسن.»
٢٠ وهكذا، يؤسِّس رفضه للبدعة على أنها تكون رافعة للسُّنة في كل الأحوال؛ بما لا
بد من أن يئول به الحكم بقبحها على الدوام. ولعلَّ المراوغة، هنا، تتمثل في تضييقه للأصل
الذي سيؤسِّس عليه حكمه على البدعة بالقبح، حيث جعله «السُّنة»، التي هي أضيق بكثير من
قواعد الشريعة وأصولها الكلِّية. ولو أنه جعل اتفاق البدعة، أو عدمه، مع قواعد الشريعة
وأصولها الكلِّية هو المعيار الذي يؤسِّس عليه حكمه على البدعة لما كان قد انتهى إلى
الحكم
بقبحها في كل الأحوال. ومن حُسن الحظ أن اعتبار البدعة في إطار اتفاقها، أو عدمه، مع
قواعد الشريعة، وأصولها الكلِّية، كان هو الموقف المعتمَد تقريبًا عند الكثيرين من فقهاء
الإسلام. ومن هنا، ما جرى المصير إليه من أن «البدع الحسنة متَّفَق على جواز فعلها،
والاستحباب لها، ورجاء الثواب لمن حسُنَت نيَّته فيها، وهي كل مبتدَعٍ موافق لقواعد الشريعة
غير مخالف لشيء منها، ولا يَلزم من فعله محذورٌ شرعي؛ وذلك نحو بناء المنابر، والربط،
والمدارس، وخانات السبيل، وغير ذلك من أنواع البر، التي لم تُعهَد في الصدر الأول، فإنه
موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى».
٢١ وهكذا، إن حُسن البدعة، أو قبحها، إنما يُقاس على الأصل الكلِّي الأشمل، الذي
«جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاوَنة على البر والتقوى» في إشارة، بطبيعة
الحال، إلى قوله تعالى:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: ٢). وبطبيعة الحال، إن قراءة الحدود
الإجرائية النصِّية (في السُّنة وغيرها) لا بد من أن تتحقق في ضوء توجيه هذا الأصل التأسيسي
الكلِّي، الذي تقوم عليه الشريعة؛ وهو أصل التعاون على البر والتقوى.
وتبعًا لذلك، كان يَلزم أن تتسع الشريعة لمفهوم البدعة الحسنة، الذي يُحيل إلى ضرب
من
التفكير فيها لا يكون خاضعًا لمحدودية المنطوقات النصِّية؛ بمعنى النظر إلى المستجدات
لا
من حيث إنه لا نص عليها؛ بل من حيث ما فيها من المصلحة، التي يَقدر العقل على تحديدها.
فإنه لا معنى لمفهوم «البدعة الحسنة» إلا القول بمبدأ «التحسين العقلي»؛ الذي يعني أن
ما هو «حسن» لا يكون من «النص» فحسب؛ بل يمكن أن يُبدِعه العقل أيضًا. وهكذا، هناك الكثير
مما يبدعه العقل، ويكون حسنًا، على الرغم من أنه يأتي من خارج نصوص الدين، طالما أنه
يسهم في التيسير على الناس، وتحقيق مصالحهم (وهُما من قواعد الشريعة). وإذَن، فهو القول
بما سوف يقرره الطهطاوي نفسه؛ لاحقًا، من أنه ليس كل مُبتدَعٍ مذموم؛ بل إن منه الكثير
مما يدخل تحت مظلة «الحسَن/المقبول»، على الرغم من صدروه عن العقل. وإذ يدرك المرء أن
القول بالتحسين العقلي يعني، في العمق، أن قيمة «الحُسن» تكون كامنة في الفعل المحكوم
عليه به، وأن الشريعة حين تقرر حسن هذا الفعل، فإنها لا تفعل إلا أن تخبر عن الحسن
الكامن فيه؛ والذي يقدر العقل على إدراكه طبعًا، فإن ذلك يئول إلى استحالة أن يقرر
الشرع شيئًا على غير وفاقٍ مع العقل. ويعني ذلك أن كل ما يصدر عن العقل المنضبط، وليس
على المَيل والهوى، لا بد من أن يكون على وفاقٍ مع الشرع، حتى وإن لم يصرِّح به؛ حيث
إن
الشرع حق، والعقل حق، «والحق لا يمكن أن يضاد الحق»، بلُغة ابن رشد.
٢٢ وهكذا، إن مفهوم «البدعة الحسنة»، الذي عوَّل عليه السلطان أكبر وعلماؤه،
يكاد ينتهي إلى إدخال العقل والمصلحة في تركيب الشرع؛ على النحو الذي يطرح مفهومًا
منفتحًا للشرع يقترب من ذلك الذي سوف يطرحه الطهطاوي، حين جعل من مفهوم النواميس
الطبيعية، ذات الطبيعة العقلية، أصلًا للشرائع السماوية ذاتها.
وهكذا، إن كل ممارسةٍ لا يوجد لها ما تنضبط به في نص الشرع، أو في فعل الصحابة، لن
يجري النظر إليها على أنها من البدعة المرذولة المقترنة بالضلالة؛ بل إنها مما يمكن أن
يدخل بالعقل تحت مظلة «البدعة الحسنة». ولأن لأهل الهند عاداتهم، وتقاليدهم، وثقافتهم،
على العموم، التي قد لا يكون للكثير منها أصولٌ تنضبط بها في نص الشرع، فإنه كان لا بد
من أن يتبلور مفهوم «البدعة الحسنة»؛ لكي يستوعبها طالما كانت مقبولة في العقل. وكمثالٍ،
يمكن الإشارة إلى أعراف أهل الهند بخصوص أبقارهم المقدَّسة؛ فإذا بلغ تقدير أهل الهند
لأبقارهم حد تقديسها، فإن تفاعل الإسلام مع هذا العُرف الهندي المستقر قد جعل بعض سلاطين
المسلمين يقررون، تقربًا من الرعية غير المسلمين، عدم الإذن بذبح الأبقار، على الرغم
من
أن الشرع يأذن بذلك.
٢٣ وليس من شكٍّ في أن إعمال مبدأ التحسين العقلي، بما يفرضه من تغليب دواعي
المصلحة، هو ما يقف وراء تقرير كراهة ذبح الأبقار في بيئةٍ تَعُد ذبحها من المحرَّمات.
ولعلَّ
ذلك يُعَد استئنافًا للتقليد، الذي دشَّنه عمر بن الخطاب بتعليق سهم المؤلَّفة قلوبهم،
على
الرغم من كوْنه منصوصًا عليه في القرآن؛ وعلى النحو الذي يكون تعليق عمر للحكم، على
الرغم من كوْنه منصوصًا عليه، معادلًا لتقرير الملك الهندي بابور (١٤٨٣–١٥٣٠م) بكراهة
ذبح الأبقار، على الرغم من مشروعية ذلك من وجهة النظر الإسلامية. إن ذلك يعني أن فاعلية
الحكم الشرعي لا تتوقف، فحسب، على كونه منصوصًا عليه في القرآن؛ بل إن السياق، الذي
يحصل فيه الفعل، موضوع هذا الحُكم، هو الذي يؤدِّي الدور الأبرز في تقرير استمرار فاعليته
أو تعليقها. فإنه ليس من شكٍّ في أن السياق الخاص بالثقافة الهندوسية هو (وليس سواه)
الأصل في الحكم بالكراهة على ذبح الأبقار؛ بما يعنيه ذلك من أن الشريعة تأخذ في
اعتبارها السياق الهندوسي الذي تتحرك داخله.
وهنا، يَلزم التنويه إلى أن مبدأ التحسين العقلي يجد ما يؤسِّسه في حقيقة أنه لا يمكن
تصوُّر إحاطة الشريعة بجميع الأحكام على كل الأفعال الممكنة الحدوث؛ ليس لأن الأفعال
لا
تتناهى فحسب، بل (وهو الأهم) لأنها تتباين بحسب اختلاف البيئات الثقافية، بما تشتمل
عليه من العادات والأعراف، التي تكون بمثابة الشروط، التي تجعل هذه الأفعال قابلة
للتحقُّق. ولعلَّ هذا الاختلاف هو ما يقف وراء رفض الإمام مالك العمل بأحكام مدوَّنته
الفقهية خارج البيئة الثقافية (الخاصة بالمدينة)، التي نشأَت فيها؛ لأن ذلك يكون جالبًا
العسر والمشقة على الناس في غيرها من البيئات. وإذَن، إن توسيع نطاق الشريعة؛ لكي لا
تخاصم تقاليد الثقافة الهندية، إنما يجد ما يدعمه في ممارسة الصحابة (عمر بن الخطاب
بتغليبه دواعي المصلحة على الحكم المنصوص عليه في القرآن)، وأصحاب المذاهب الفقهية
(الإمام مالك بربطه منظومة الأحكام الشرعية بالبيئة الثقافية التي تنشأ فيها).
وهكذا، أدرك ملوك المسلمين أن استقرار حكمهم في الهند يرتبط بضرورة أن يبلوروا نوعًا
من الفهم المنفتح للشريعة؛ على النحو الذي يجعل حكمهم متسعًا لمشاركة غير المسلمين.
ولقد ظل الإسلام على انفتاحه (إلى الحد الذي راح معه يحمل السمات الخاصة للثقافة
الهندية) حتى مجيء القرن التاسع عشر، الذي شهد زوال الحكم الإسلامي في الهند، بعد أن
سقطَت بالكامل في قبضة غُزاة الشمال القادمين من وراء البحار. فقد أصدر علماء الهند حينها
فتواهم بإعلان الهند دارًا للحرب؛ بما يعنيه هذا الإعلان من بدء تبلور الشريعة كإطارٍ
للجهاد والمدافعة، أو حتى المحاربة. وهكذا، على الرغم من أن البعض كانوا «يُطلقون عباراتٍ
بأن الهند لا تصير دار حرب ما دامت شعيرة من شعائر الإسلام تُقام فيها»، فإن الشاه عبد
العزيز (الابن الأكبر للإمام شاه ولي الله الدهلوي ١٧٤٦–١٨٢٣م)، قد أصدر فتواه القاضية
بأن «إمام المسلمين قد أصبح الآن لا حول له، ولا تُنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد
المسيحيين الإنجليز، حتى لم يعد أحد يستطيع دخول دلهي إلا بإذنهم، وهم يحصِّلون الخراج،
ويعيِّنون الموظفين، ويدفعون المرتبات، ويشرفون على القضاء، والأمن، وتنفيذ الأحكام،
وهم،
وإن كانوا لا يتعرضون للشعائر الدينية، مثل الصلاة، والأذان، والذبح، والأعياد، إلا أن
الأمور الأساسية في الإسلام لا يحترمونها، ولا يدعونها في يد أصحابها، فوق أنهم يهدمون
المساجد بغير اكتراث … من أجْل هذا تصير كل بلادٍ يقبض عليها الإنجليز بهذا الشكل قد
انتقلَت من دار الإسلام إلى دار الحرب».
٢٤ وعلى الرغم من أن إعلان الهند دارًا للحرب كان عملًا سياسيًّا يستهدف،
أساسًا، إثارة محفِّزات الجهاد ضد الأوروبيين، فإنه كان لا بد من أن يترك تأثيره الكبير
على تصوُّر الشريعة.
ولعلَّ المظهر الرئيس لهذا التأثير يتبدَّى في أنه فيما كان يجري النظر إلى الشريعة،
حين
كانت الأساس العام لحُكم الهند، من زاوية المبادئ والمقاصد الكلِّية الموجَّهة لأحكامها
وحدودها، فإن النظر إليها، مع القضاء على الحكم الإسلامي في الهند، سيتحول إلى التركيز
على الأحكام الجزئية والتحديدات الإجرائية. وبطبيعة الحال، إذا كان النظر إلى الشريعة
من زاوية مبادئها الكلِّية قد جعلها تتسع لتستوعب التنوع الديني والثقافي في الهند؛ على
النحو الذي انعكس في الازدهار، الذي جعل الهند مطمَعًا للأوروبيين أنفسهم، فإن النظر
إلى
الشريعة، في المقابل، من زاوية أحكامها وتحديداتها الجزئية سوف يؤدِّي إلى تكريس ضروبٍ
من
التمييز والتفاوت، التي ستنتهي (وهو ما حصل فعلًا) إلى تقسيم الهند، وتهديد
وحْدتها.
(٢) إرهاصات تسييس الإسلام: الأفغاني
لعله سيكون من المنطقي — والحال كذلك — أن يبدأ تبلوُر التفكير في استعادة التراث/الشريعة
ملاذًا للمسلمين في مواجهة الحداثة/الأزمة، مع أحد رجال الإصلاح القادمين من
المجال الهندي؛ وهو السيد جمال الدين الأفغاني. فحين جاء الأفغاني إلى مصر، في مطلع
سبعينيات القرن التاسع عشر، كان قد مضى ما يزيد على القرن من الاشتغال الإمبريالي
للحداثة في الهند؛
٢٥ على النحو الذي أدخلها مرحلة الأزمة الشاملة تقريبًا. وكانت مصر نفسها قد
وقعَت في قبضة الوصاية الأوروبية الضاغطة. وغنيٌّ عن البيان أن هذا الوجه الإشكالي للحداثة
في المجال الهندي كان هو الذي حدد تفكير الأفغاني فيها، وفي كيفية مواجهتها؛ حيث يُقرُّ
الرجل أن «عقله قد تثقف في الهند».
٢٦ ولأن الإسلام كان جزءًا أصيلًا من المجال الهندي الواسع، فإن الأفغاني قد
انخرط في الجدل حول هذه الإشكالية؛ إلى حد أنه قد خصص رسالته في
«الرد على الدهريين» لتفنيد آراء الإصلاحيين المسلمين الهنود (من أتباع
مدرسة السيد أحمد خان)، الذين جعلوا من جامعة عليكرة ساحةً لنشر الأفكار والعلوم
الأوروبية الجديدة. وقد أدار الأفغاني استراتيجيته، في مواجهة هذه الإشكالية، ليس، فحسب،
على تأكيد عدم إنتاجية منظومة الأفكار الأوروبية الحديثة، أو ما أسماه بالعلوم الجديدة،
في عالم الشرق،
٢٧ بل سعى (وهو الأخطر) إلى إبراز ما تنتهي إليه من تفكيك الروابط والأبنية
الاجتماعية التقليدية السائدة في هذا العالم؛ على النحو الذي أدَّى إلى تصدُّع ملامح
العالم
القديم من دون إمكانية الانخراط في نظام العالم الجديد.
٢٨ وبطبيعة الحال، راح يرتب على ذلك أن هذه العلوم الغربية الجديدة إنما تُمثِّل
تهديدًا مباشرًا للهُوية الإسلامية، بما ينبني على ذلك من وجوب استعادة الدين/الشريعة
سلاحًا يستنهض به الأمَّة، ويحمي به ما يرى أنها هويتها المهددة.
٢٩
وإذ انتهى الأفغاني — والحال كذلك — إلى أن «مَن طلب إصلاح الأمَّة بوسيلةٍ سوى [الدين]
فلن يزيد الأمَّة إلا نحسًا ولا يكسبها إلا تعسًا».
٣٠ فإنه قد ربط ضياع الدين، وطروء الخلل على الأمَّة، من ثَم، بما تعرضَت له
منظومة الخلافة من الانهيار الفعلي في العصر العباسي. فقد «بدأ الانحلال والضعف في
روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء
العباسيون باسم الخلافة، دون أن يحوزوا شرف العلم، والتفقُّه في الدين، والاجتهاد في
أصوله وفروعه، كما كان الراشدون رضي الله عنهم. كثُرَت، بذلك، المذاهب، وتشعَّب الخلاف
من
بداية القرن الثالث من الهجرة، إلى حدٍّ لم يسبق له مثيلٌ في دينٍ من الأديان، ثم انثلمَت
وحدة الخلافة إلى أقسام: خلافةٌ عباسية في بغداد، وفاطميةٌ في مصر والمغرب، وأمويةٌ في
أطراف الأندلس، تفرَّقَت بهذا كلمة الأمَّة، وانشقَّت عصاها، وانحطَّت رتبة الخلافة إلى
وظيفة
الملك، فسقطَت هيبتها من النفوس، وخرج طلَّاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة
والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة».
٣١ وهكذا، يلامس الأفغاني، على نحوٍ صريح، فكرة أن ابتعاد الأمَّة عن الدين، بكل
ما ترتَّب على ذلك من التردي والخلل، إنما يرتبط بالانهيار الفعلي لمؤسسة الخلافة، وخروج
الممالك والسلطنات عليها. ولا بد، بطبيعة الحال، من أن يترتب على ذلك أن تكون عودة
الدين (لكي تسترد الأمَّة مجدها السابق) مشروطةً باستعادة الخلافة؛ بما يعنيه ذلك من
ابتداء تبلوُر «المسألة السياسية» كمركزٍ للتفكير في أزمة الإسلام والأمَّة في العصر
الحديث. ولسوء الحظ، إن هذا النوع من التفكير، الذي يردُّ الأزمة إلى غياب الدين، ثم
يختزل هذا الغياب للدين في الانهيار الذي أصاب الخلافة هو الذي قاد، في النهاية، إلى
النزوع الدائم لتسييس الإسلام. ومن هنا، ما يمكن قوله من أن الأفغاني هو نقطة البدء في
المسار الطويل لتسييس الإسلام، الذي انطلق من الهند في القرن التاسع عشر، وتكاد دولة
الإسلام في العراق والشام (داعش) تكون هي ذروته الآن.
لعلَّ ما يؤكِّد مركزية الهند، في ابتداء التفكير الذي يرجع بالأزمة إلى التردي السياسي
للإسلام، هو ما يبدو من أن «الخلافة» كانت هي إحدى مسائل الخلاف الجوهرية بين الأفغاني
وخصمه الكبير السيد أحمد خان؛ وذلك على الرغم من الإلحاح الشائع على مركزة الخلاف
بينهما حول الموقف من العلوم والأفكار الغربية الجديدة؛ إذ لم يكتفِ السيد أحمد خان
بالمصير إلى أن بمقدور المرء أن يكون مسلمًا حقيقيًّا مع الاعتقاد في جدوى العلوم
والأفكار الأوروبية وتبنِّيها أيضًا من جهةٍ، ومن دون أن يتمسك بوجوب الخلافة من جهةٍ
أخرى؛
بل إنه قد راح يتشكك في مدى مشروعية فكرة الخلافة ذاتها. فالملاحَظ أنه قد مضى إلى أن
في
استمرار بقاء مؤسسة الخلافة (بعد الخلفاء الأربعة الأوائل) خروجًا مؤكَّدًا على سنة النبي
الكريم، التي تقضي ببقاء الخلافة بعد رحيله لمدة ثلاثين عامًا فقط، يأتي بعدها الملك
العضوض (المستبد). «وبالتالي، فإنه لا يمكن، بعد انقضاء مدة الثلاثين سنة، التي ذكرها
الرسول في حديثه، اعتبار أي حاكمٍ مسلم في أي بلدٍ إسلامية «خليفة»؛ بل هو مجرَّد حاكم،
حتى
ولو أطلق الحاكم على نفسه لقب «خليفة»، فهو ليس كذلك؛ لا هو خليفة لرسول الله
ﷺ، ولا هو خليفة لخليفة رسول الله.»
٣٢ إن ذلك يعني أن الخلافة ليست سلطة مأمورًا بها من النبي الكريم؛ ما ينفي
عنها أن تكون «سُنةً نبوية» واجبة الاتباع؛ بل إنها محض ممارسة تاريخية ناسبَت ظروف الواقع
القائم آنذاك. وهكذا، إن «خلافة أبي بكر لم تكن خلافة بالمعنى الديني، بمعنى أنه لم يكن
يمتلك أي سلطة دينية، بل كانت حدود سلطته تقف عند مجرَّد ضمان استمرار سنة الرسول
وتعاليمه، وكذلك النظر في أمور المسلمين، وتحقيق ما هو في صالحهم، ولم يكن يحق له أن
يُحلَّ حرامًا، أو يُحرِّم حلالًا، ولا أن يأتي بسُنةٍ جديدة غير سنة رسول الله
ﷺ، فضلًا عن أن يلغي، أو ينسخ أي تعاليم دينية، ولن يستطع، أيضًا، أن يشفع لأحد
عند الله، أو أن يمحي ذنوب المستغفرين». إذَن، الخلافة منصب سياسي يجد أساس مشروعيته
في
تحقيق مصالح المسلمين في الدنيا؛ وليس من الممكن، أبدًا، اعتبار الدين أساس مشروعيتها،
بل هي محض المصلحة.
ولعلَّه يَلزم القول إن السيد أحمد خان لم يقف عند حد تأكيد أن الخلافة ليست منصبًا
يقتضيه الدين، أو حتى عند تصوُّرها تزيُّدًا في الدين، من حيث تمثِّل خروجًا عن المنسوب
إلى
النبي قوله؛ بل إنه قد تعدَّى إلى الرجوع بأصل التصوُّر، الذي استقر لها إلى تقاليد غريبة
عن الإسلام؛ هي تقاليد «الدين الكاثوليكي الروماني، حينما كان رئيس الكنيسة الكاثوليكية
الرومانية يُنظَر إليه على أنه خليفة القدِّيس بطرس، وتابع للمسيح، ويُسمَّى «بابا».
كما أن
إرشاداته وتعاليمه لا تُناقَش؛ بل تُتَّبع سواء كانت متَّفِقة مع التعاليم الدينية المعترَف
بها أم لا.» وإذ يبدو الأمر على العكس من ذلك في التاريخ السياسي للإسلام؛ وذلك حيث
«يمكن للمسلمين أن يرفضوا طاعة الخليفة، لو أنه خالف أوامر الله وتعاليم الرسول الكريم.
الخليفة المسلم لا يملك السلطة التي تسمح له بأن يأتي بأحكام أو قوانين جديدة على
المستوى الديني»، فإن ذلك يعني أن التصوُّر الذي استقر عند المسلمين المتأخرين للخلافة،
كمنصبٍ ديني، ليس من الإسلام (دينًا وتاريخًا) أبدًا.
ولقد كان هذا التحديد للخلافة كمنصبٍ سياسي، لا ديني، الآلية، التي استخدمها السيد
أحمد خان لتحرير المسلمين الهنود مما بدا أنه يشيع بينهم من أن سقوط حكمهم للهند مؤذن
بضياع الإسلام ذاته. وإذَن، على العكس تمامًا من الأفغاني، لم يترتب على السقوط السياسي
للإسلام تصدُّعه دينًا؛ أو لم يُعلَّق بقاء الإسلام دينًا على شرط أن يكون الحاكم مسلمًا.
يتعلق الأمر، إذَن، بتأكيد عدم وجوب التطابق بين دين المحكومين ودين الحاكمين، طالما
أنه يُتاح للمسلم أن يدير شأنه الخاص طبقًا لقواعد دينه. فإن «الحكومة البريطانية قد
كفلَت لمسلمي الهند السلام، والأمن، والحرية الدينية، على الرغم من أن دين الحاكمين هو
المسيحية، ولكن إن اعتنق أي مسيحي الدين الإسلامي، فإن الحكومة لا تتدخل مطلَقًا، وهو
رد
الفعل الحيادي نفسه حينما يتحول مسلم إلى المسيحية. ولا علاقة بين الحكومة البريطانية
وبين جماعات التبشير المسيحية، ولجماعات التبشير المسيحية الحق في الدعوة إلى الدين
المسيحي كما يتسنَّى، أيضًا، لآلاف المسلمين أن يدعُوا لدينهم. وكذلك كل الحقوق المرتبطة
بالزواج، والطلاق، والميراث، وكل هذه الأمور، تتم وَفقًا للشريعة الإسلامية، حتى ولو
كان القاضي مسيحيًّا، فإنه يحكم وفق أحكام الإسلام». وهكذا، إذا كان قد حاجج ضدَّ أن
يكون للخلافة، أو الشأن العام، أصل في الشريعة من حيث المبدأ؛ وما يترتب على ذلك من عدم
إمكان الاحتجاج بأن سقوط حكم المسلمين يعني سقوط الشريعة، فإنه يرى أن حضور الشريعة في
المجال الخاص للمسلم الهندي، على الرغم من سقوط حكم المسلمين، دليل على أنها ليست
مشروطة بالسياسة.
ومن هنا، ما يرتبه على ذلك من أنه «حين يعيش المسلمون في بلدان عديدة، ويحكمهم غير
المسلمين، فإنه لا يصح لحاكمٍ مسلم أن يكون خليفة عليهم. ولا يجب أن يذكر اسم الحاكم
في
صلاة الجمعة؛ لأن مثل هذه الأعمال تندرج في تصنيف البدعة». وهكذا، تقوم استراتيجية
السيد أحمد خان على التفكيك الكامل للارتباط بين الديني والسياسي؛ بما انعكس على تصوُّره
للشريعة بناءً مفتوحًا يتجاوب مع التحولات، التي طرأَت على واقع الهند بعد سقوط دولة
المسلمين. وإذا كان السيد أحمد خان قد رتَّب على ذلك «أنه لا سلطان لشيخ الإسلام، المقيم
في القسطنطينية، على أهل الهند. وأهل الهند يدينون للحكومة البريطانية فحسب. ومن هنا،
إن القوانين، التي يمكن تطبيقها على مسلمي تركيا، لا يمكن تطبيقها على مسلمي الهند، كما
أن أوامر وأحكام شيخ الإسلام ليس لها أي سلطة دينية على مسلمي الهند»، فإن الأفغاني قد
مضى، في المقابل، إلى «أن للدولة العثمانية شأنًا في المسألة الهندية لا يجوز إنكاره،
فإن لها عُدَّة كافية، وقوة وافية يمكنها أن تستخدمها لآرائها السياسية متى شاءت، ويسهل
عليها أن تستفيد منها إذا أقبلَت عليها بشيء من التدبير. تلك قوة خمسة وأربعين مليونًا
من المسلمين أهل السُّنة يعتقدون بأنها دولة الخلافة، وأنها مرمى آمالهم في تخليصهم من
أيدي الأجانب، ومكانتها من قلوبهم أعلى من مكانة حاكميهم».
٣٣ وهكذا، فيما يُلِح الأفغاني على ربط مصير المسلمين الهنود بسلطة الخلافة،
يحاجج السيد أحمد خان ضد أي اتصال بين الرابطتَين الدينية والسياسية؛ وبالكيفية التي
تسمح للمسلم بقبول حكم غير المسلم طالما كان مؤدِّيًا حقوقه وحافظًا لها.
ومن هنا، أقام الأفغاني، على العكس تمامًا من السيد أحمد خان، استراتيجيته على الربط
الحاسم بين الديني والسياسي؛ إلى حد تعليق الديني على السياسي. ولعلَّ ما يؤكِّد أن هذا
التعليق (للديني على السياسي) قد بدأ تبلوُره في الهند بالذات، إنما يتأتى من إدراك أن
الأفغاني لم يكن وحده الذي بالغ في الإلحاح على الوضع المركزي للخلافة. فقد خصَّص الشيخ
ولي الله الدهلوي للمسألة كتابًا أسماه
«إزالة الخفاء عن خلافة
الخلفاء» بلغ فيه حد تعليق «إقامة الدين» على نصب الخلافة. فالخلافة
عنده «هي الرئاسة العامة في التصدِّي لإقامة الدين، بإحياء العلوم، وإقامة أركان
الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش، والفرض للمقاتلة، وإعطائهم
الفيء؛ والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، نيابة عن النبي
ﷺ».
٣٤ وهو يرى أن هذه الوظائف جميعًا هي وظائف دينية؛ حيث «لو أردْنا أن نعبِّر عن
هاته الشُّعب والشئون [التي تتضمنها الخلافة]، وعن الجزئيات بالكلِّيات، وعن الكلِّيات
بكلِّيٍّ واحد يشمل كلها، ويكون كجنسٍ أعلى لهذه الأنواع والأجناس جميعًا، لقُلنا: إنها
إقامة
الدين، فهي تتضمن جميع الكلِّيات التي تدخل في نطاقها جميع الجزئيات».
٣٥ وهكذا، إن تحقيق كل ما يتضمنه مفهوم «إقامة الدين» هو، حسب الدهلوي، موقوف
على نصب الخلافة؛ بما يترتب على ذلك من تصوُّر أن في ذهاب الخلافة ذهابًا للدين ذاته.
ليست الخلافة مطلوبة، إذَن، لضرورتها للاجتماع؛ بل لإقامة الدين وحفظه.
ولقد انعكس هذا الربط للديني بالسياسي على تصوُّر الشريعة، والإسلام على العموم؛ بمعنى
أنه قد جر أصحابه إلى ما يمكن القول إنه النزوع بالإسلام إلى الاصطباغ بسمتٍ جهادي شبه
حربي. ومن هنا ما صار إليه الأفغاني من أن «الديانة الإسلامية [قد] وُضِع أساسها على
طلب الغلب، والشوكة، والافتتاح، والعزة، ورفض كل قانونٍ يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة
لا
يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن
يقرأ سورةً من كتابها المُنزَّل، يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد من أن
يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الأمم إلى اختراع الآلات القاتلة،
وإتقان العلوم العسكرية، والتبحُّر فيما يَلزمها من الفنون، كالطبيعة، والكيمياء، وجر
الأثقال، والهندسة، وغيرها، ومن تأمل في آية
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ (الأنفال: ٦٠) أيقن أن منَ صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغلبة، وطلب كل
وسيلة إلى ما يسهِّل له سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلًا عن الاعتصام
بالمنعة، والامتناع من تغلُّب غيره عليه، ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة، إلا
في السباقة والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها».
٣٦ وهكذا، يُضيف الأفغاني إلى تسييس الإسلام «عسكرته»، إلى حد اعتباره «أول ملةٍ
حربية في العالم»؛ على النحو الذي انفتح معه الباب أمام ما سيحدث لاحقًا من انفجار
الإسلام الجهادي الحربي، الذي يصطلي المسلمون وغيرهم بنيرانه الآن. ولقد كان ذلك بعينه
هو ما أدركه ابن الأزرق قبل الأفغاني بقرون، حين مضى إلى أن الرباط، الذي لا ينفصم بين
الديني والسياسي في الإسلام، إنما يصدر عن سعي الإسلام، أو — كما يجدر بنا أن نقول —
المسلمين إلى فرض هيمنتهم على غيرهم. فإن «الملَّة الإسلامية لمَّا شُرع فيها الجهاد
لِحمل
الكافة على إجابة دعوتها العامة طوعًا أو كرهًا، فلا جرم اتحدَت فيها الخلافة [الدين]
والملك [السياسة]، ولا كذلك غيرها من المِلَل، فلا ينبغي للقائم فيها [أي تلك المِلل
غير
الإسلام] بأمر الدين شيء من سياسة الملك، ووجوده فيها إنما هو بالعرَض، والأمر فيها غير
ديني؛ إذ لم يُخاطَبوا بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية زادها الله ظهورًا.»
٣٧ وهكذا، إن كون الخطاب موجَّه إلى الملة الإسلامية بالتغلب على غيرها من الأمم
لحمْل الكافة على الإسلام، فإن ذلك ما يبرر أن يكون للقائم فيها بأمر الدين شيئًا من
سياسة الملك؛ وذلك على عكس المِلل الأخرى، الذين لم يخاطَب أهلها بالجهاد من أجْل نشر
دعوتها على قول ابن الأزرق. وهكذا إن الجهاد من أجْل نشر الإسلام طوعًا أو كرهًا هو ما
يقف وراء الرباط الحاسم في الملة الإسلامية بين الديني والسياسي؛ بما يؤكِّده ذلك من
أن
الصبغة الجهادية شبه الحربية هي أحد محفزات ربط الديني بالسياسي، أو هي حتى أحد
تداعياته.
وفضلًا عن ذلك، يمكن القول إن ما مضى إليه الأفغاني من إعطاء الأولوية للرابطة
الدينية على الرابطة الجنسية، أو القومية، قد كان مما أسهم، بدَوره، في إنتاج ظاهرة
الإسلام الجهادي العابر للحدود القومية. فهو يشير إلى «إعراض المسلمين، على اختلاف
أقطارهم، عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عُصبتهم
الإسلامية، فإن المتدين بالدين الإسلامي، متى رسخ فيه اعتقاده، يلهو عن جنسه وشعبه، ويلتفت
عن
الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقَد».
٣٨ وفي تفسيره لهذا الإعراض عن الجنسيات، يرده إلى «أن الدين الإسلامي لم تكن
أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحَظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية
مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالمٍ أعلى، بل هي كما كانت كافلة لهذا، جاءت وافية
بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق كُلِّيِّها وجزئيِّها، وتحديد السلطة
الوازعة، التي تقوم بتنفيذ المشروعات، وإقامة الحدود، وتعيين شروطها، حتى لا يكون
القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعًا لها، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس،
أو قبِيلة، أو قوةٍ بدنية، وثروةٍ مالية، وإنما تنالها بالوقوف عند أحكام الشريعة،
والقُدرة على تنفيذها، ورضاء الأمَّة، فيكون وازع المسلمين، في الحقيقة، شريعتهم المقدَّسة
الإلهية، التي لا تميز بين جنسٍ وجنس، واجتماع آراء الأمَّة، وليس للوازع أدنى امتياز
عنهم
إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها».
٣٩ وهكذا، يظهر جليًّا أن الأفغاني يردُّ الإعراض عن رابطة الجنس (الوطنية) إلى
وحدة الشريعة (المُقدَّسة الإلهية)، التي لا تميِّز جنسًا عن آخر؛ بما سوف يترتب على
ذلك
من اعتبار الشريعة أساس التشكيل السياسي، الذي ينبغي أن يعيش المسلمون في ظله. وبطبيعة
الحال، إن ذلك هو ما يؤسِّس عنده لمفهوم «الجامعة الإسلامية»، الذي هو المفهوم الأكثر
مركزية في خطابه. وهنا تحسُن الإشارة إلى أن محمد عبده سوف يختلف جذريًّا مع رؤية
الأفغاني، التي تجعل الدين الرابطة المحددة لهوية الجماعة؛ حيث إنه إذا كان «المتدين
بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده، حسب الأفغاني، يلهو عن جنسه وشعبه، ويلتفت فقط
إلى علاقة المعتقد»، فإن الأستاذ الإمام سوف يرى «الوطن» بما هو المحدد، بمعناه الحقوقي
والقانوني الحديث، لهوية الجماعة. والملاحَظ أن عبده يحرِّر مفهوم الوطن من تلبيساته
الدينية؛ حيث يجعل له ثلاثة محددات ليس من بينها الدين. فهو يتحدد بأنه «السكن الذي في
الغذاء، والوقاء، والأهل، الولد [أولًا]، وأنه [ثانيًا] مكان الحقوق والواجبات، التي
هي
مدار الحياة السياسية، وهما حسيَّان ظاهريَّان، وأنه [ثالثًا] موضع النسبة، التي يعلو
بها
الإنسان، ويعز، أو يسفل، ويذل، وهو معنويٌّ محض.»
٤٠ وهنا، إذا كانت تجربة الأفغاني الهندية قد جعلَت الأفغاني يرى أنه «لا وطن
إلا مع الدين»؛ حيث كان المسلمون الهنود يواجهون، بعد سقوط دولتهم، خطر الذوبان في
المحيط الهندوسي الواسع، فإن تجربة محمد عبده المصرية قد أوصلَته إلى أنه «لا وطن إلا
مع
الحرية، التي إن لم تُوجَد فلا وطن، لعدم الحقوق والواجبات السياسية».
٤١ حيث المصريون جميعًا (أقباطًا ومسلمين) يعانون من سطوة الاستبداد. وليس من
شك في أن ربط الأستاذ الإمام الوطن لا بالدين، بل بمفهوم الحرية، بمعناه الحقوقي
الحديث، هو ما سيؤسِّس لتعريفه الوطنية بأنها «عبارة عن تعاوُن جميع أهل الوطن الواحد
المختلفي الأديان على كل ما فيه عمرانه وإصلاح حكومته».
٤٢
وضِمن سياق هذا التبايُن بين تصوُّرٍ لهوية الجماعة يحددها بالدين (الأفغاني)، وبين
آخَر
يحددها بالوطن (محمد عبده)، يَلزم التنويه إلى التمييز الذي أقامه الأفغاني بين الشريعة
«من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى [للوصول] إلى عالمٍ أعلى»، وبين
الشريعة «الوافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق، وتحديد السلطة
الوازعة، التي تقوم على إقامة الحدود، وتعيين شروطها»؛ بما يمكن من القول إنه التمييز
بين المحتوى الروحي للشريعة (أو الشريعة كطريق إلى الله)، وبين المضمون السياسي لها (أو
الشريعة كأداةٍ لضبط المجالَين الاجتماعي والسياسي). وغنيٌّ عن البيان أنه فيما تميل
الشريعة، في حال كون «الوطن»، الجامع بين أهله المختلفي الأديان، هو المُحدِّد لهوية
الجماعة، إلى أن تكون ذات طابعٍ روحاني، فإنها، في حال كون «الدين» هو المحدد لهوية
الجماعة، تأخذ الشكل السياسي الإجرائي البراني؛ الأمر الذي يفرض عليها أن تتعين كأحكام
وحدود يكون تطبيقها، وحده، المحقق للهوية. ولعلَّ هذا التعيُّن الأخير هو ما سيفتح الباب
أمام تبلوُر مفهوم «تطبيق الشريعة» كسلاحٍ تحارب به جماعات الإسلام السياسي معركتها في
مواجهة الدولة الوطنية القائمة. فإن سقوط «حكم الشريعة» سوف يكون، منذ ذاك وإلى الآن،
هو السلاح الذي يدير عليه دُعاة «الدولة الإسلامية» معركتهم في مواجهة فكرة «الدولة
الوطنية»؛ التي صارت إحدى ضرورات الدخول إلى العصر الحديث.
ولعلَّ ذلك يعني أن نقطة البدء في مسار الإسلام السياسي، الذي يعربد الآن في مشرق
العالم العربي ومغربه، قد انطلقَت، مع الأفغاني، في سياق التراجع، الذي شهده الإسلام
في
الهند، وما صاحبه من التحول من «الرابطة الدينية» كأساسٍ للتشكيل السياسي الحاكم، إلى
اعتبار «الرابطة الجنسية الوطنية» أساس هذا التشكيل. وهكذا، إذا كان السيد أحمد خان قد
ألحَّ على الرابطة الوطنية، كأساسٍ للتشكيل السياسي في الهند، بعد سقوط حكم دولة
المسلمين، فإن الأفغاني قد راح يُلحُّ، في المقابل، على ضرورة أن تكون الرابطة الدينية
هي أساس التشكيل السياسي الجامع بين المجتمعات الإسلامية على العموم. وفيما يخص الرابطة
الدينية، كأساسٍ للتشكيل السياسي، فإنه يرجع بها إلى الشريعة؛ وبالذات، إلى كونها محض
أحكام وتكاليف تقبل الاشتغال السياسي. وضِمن هذا السياق، إن الشريعة، كأساسٍ للتشكيل
السياسي، تفرض على المسلمين أن تكون لهم السيادة على المخالفين لهم في المجتمع. فإن
«المسلمين، بحُكم شريعتهم ونصوصها الصريحة، مُطالَبون، عند الله، بالمحافظة على ما يدخل
في ولايتهم من البلدان. وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين
في الجنس، ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحدٍ منهم، إن لم يقم قوم بالحماية
عن
حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام. ومن فروضهم في سبيل الحماية، وحفظ الولاية، بذل
الأموال والأرواح وكل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يُباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في
حالٍ
من الأحوال، حتى ينالوا الولاية خاصة لهم من دون غيرهم. وبالغَت الشريعة في طلب السيادة
على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبَت عليه الهجرة من
دار
حربه. وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغيِّر منها تأويلات
أهل الأهواء، وأعوان الشهوات في كل زمان».
٤٣ وغنيٌّ عن البيان أن التعبيرات المتناثرة في النص من قبِيل «طلب السيادة»،
و«عدم المسالمة حتى ينالوا الولاية خاصة لهم من دون غيرهم»، و«الهجرة في حال العجز عن
التملُّص من سلطة المخالفين»، واعتبار ذلك من «القواعد المثبتة في الشريعة، التي لا
تغير منها تأويلات أهل الأهواء والشهوات»، هي التي سوف يشيع تداولها لاحقًا كمفاهيم
مركزية في أدبيات جماعات الإسلام السياسي، على اختلافها وتنوعها. ولعلَّ مقارنةً لهذه
التعبيرات بتلك، التي سيشيع تداولها في كتابات تلميذ الأفغاني (المصري محمد عبده)
لَممَّا يؤكِّد التأثير البالغ، الذي تركَته تجربة الهند على الأفغاني. فإن ما سيشيع
في
كتابة عبده، بخصوص العلاقة مع غير المسلمين، يحمل روحًا ودية معاكسة تمامًا لتلك الروح
العدائية، التي يفيض بها نص الأفغاني. ومن حُسن الحظ أن هذه الروح الودية قد حملها جوابٌ
يرد فيه عبده على سؤال جاءه من الهند بخصوص جواز الاستعانة بغير المسلمين.
فقد استدل عبده بما «أباح الله لنا في آخر ما أنزل — من القرآن — على نبيه
ﷺ [من] نكاح الكتابيات، [على أنه] لا يكون نكاح في قوم حتى تكون فيهم قرابة
المصاهرة، ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة.»
٤٤ واستدل، كذلك، بما كان من سيرة النبي والخلفاء؛ حيث «أنشأ عمر بن الخطاب —
رضي الله عنه — الديوان، ونصَّب العمال، واحتاج المسلمون إلى من يقوم على العمل في حساب
الخَراج، وما يُنفق من بيت المال، واحتاجوا إلى كُتَّاب المراسلات، والقوم أُمِّيون لا
يستطيعون القيام بما كان يطلبه العمل من العمال، فوضعوا ذلك كله في أيدي أهل الكتاب من
الروم، وفي أيدي الفُرس. ولم يزل العمل على ذلك في خلافة بني أمية، بعد الراشدين، إلى
زمن عبد الملك بن مروان. ولا شك في أن في هذا استعانةً بغير المسلمين على أعمالٍ هي من
أهم أعمالهم، فكيف ينكر الجُهال جواز تلك الاستعانة؟! بل قد استعان كثير من ملوك
المسلمين بغير المسلمين».
٤٥ وبطبيعة الحال، يستحيل، في سياق هذه الاستعانة للمسلمين بغير المسلمين في
أهم أعمالهم، بل حتى في حروبهم، ما ذهب إليه الأفغاني من «مبالغة الشريعة في طلب
السيادة من المسلمين على من يخالفهم [في الدين] إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة
غيره، لوجبَت عليه الهجرة من دار حربه.»
وبطبيعة الحال، إن ذلك يرتبط بالتبايُن الكبير بين التجربتَين الهندية والمصرية؛
بمعنى
أن ما عرفَته مصر قد جعل رجل الإصلاح المصري يركِّز تعاطيه مع الشريعة على جعلها ساحة
للتعايش المُشتَرَك مع غير المسلمين من شركاء الوطن،
٤٦ وذلك في مقابل تحوُّلها، في التجربة الهندية، إلى ساحةٍ للمفاصلة والتمايُز عن
غير المسلمين، وطلب السيادة عليهم. ومن جهةٍ أخرى، عدَّها عبده أساسًا للتشكيل العقلي
والاجتماعي القائم؛ ما جعل من مراجعتها وإعادة النظر فيها شرطًا لازمًا لإصلاح هذا
التشكيل، على عكس وضعِها عند الأفغاني كسلاحٍ للمحاربة والمدافَعة من أجْل تثبيت السيادة
للمسلمين. وبطبيعة الحال، إن كونها سلاحًا للمحاربة كان لا بد من أن يحُول دون أي
محاولةٍ لفحصها، وإعادة النظر فيها؛ وذلك من حيث يكون مطلوبًا منها أن تصبح درعًا يتحصن
وراءه المسلم بهويته المتميزة.
ولعلَّه يجوز التأكيد، ضِمن هذا السياق، على أن التركيز البالغ للأفغاني على المحتوى
السياسي للشريعة، قد انعكس على تصوُّره للاجتهاد؛ فإنه إذا كان قد ألحَّ على ضرورة تفعيل
مبدأ الاجتهاد، فإن إشارته إلى «انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة [السياسية]،
وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة، دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين
والاجتهاد في أصوله وفروعه، كما كان [الخلفاء] الراشدون رضي الله عنهم، فكثُرَت بذلك
المذاهب، وتشعَّب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة، إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل
في
دين من الأديان. هي نقطة البدء في انحلال وضعف روابط المِلَّة الإسلامية.»
٤٧ إنما تُحيل إلى ربط الاجتهاد بسلطة ولي الأمر؛ بمعنى أنه قد ألحَّ على وجوب
توحُّد السلطة العلمية والسلطة السياسية في شخص ولي الأمر. ولقد بلغَت جوهرية هذا التوحد
بين السلطتَين السياسية والعلمية حد أن الأفغاني قد رأى أن غيابه هو الأصل في كل
الانحلال والتدهور الذي أصاب الأمَّة لاحقًا.
وإذ يبدو، هكذا، أن الأفغاني لا يرى الاجتهاد مستقلًّا عن السلطة السياسية؛ فإن ذلك
يدنو به (ويا للغرابة) من تصوير الحاكم «السنِّي» على نحوٍ يكاد يتماثل فيه مع الإمام
«الشيعي» الذي تجتمع فيه، بدَوره، السلطتان (الدينية والسياسية)؛ وذلك على الرغم مما
قيل
من تميز المذهب السني بما حصل فيه باكرًا، حسب ابن العربي، من الانفصال بين العلماء والأمراء.
٤٨ والأغرب من ذلك ما سيمضي إليه محمد عبده، الذي تتلمذ على الأفغاني نفسه، من
اعتبار الجمع بين السلطتَين (الدينية والسياسية) من أصول المسيحية، التي لم يعرفها
الإسلام. فإنه إذا كان الوضع في الإسلام أن «الملوك، الذين لا تسمح لهم أوقاتهم بتعلُّم
العلوم الدينية، يحتاجون إلى من يرجعون إليه من علماء الدين، كالمفتي، وشيخ الإسلام،
فإن المفتي، أو شيخ الإسلام إنما كان يجيب (فقط) عما يُسأَل فيه، أو يؤدِّي ما كُلِّف
به»؛ فإن الوضع في المسيحية كان، في المقابل، أن «رجل الدين كان يبتدئ المشورة، ويقترح
المطلب، ويقيم نائب الملك على المذهب، ويكفُّ يده عن العمل الذي لا يرضاه، ويحمله على
بسطها فيما يتوخاه، فكانت السلطة الحقيقية مدنية سياسية دينية في نظام واحد، لا فصل فيه
بين السلطتَين. وهذا الضرب من النظام هو الذي يعمل الباباوات وعمالهم من رجال الكثلكة
على إرجاعه؛ لأنه أصلٌ من أصول الديانة المسيحية عندهم».
٤٩ وهكذا، إن الجمع بين السلطتَين (الدينية والسياسية) إما أنه من خارج التقليد
السُّني، حسب ما استقر عليه هذا التقليد من الفصل بين الأمراء والعلماء، وإما أنه، حسب
عبده، من خارج الإسلام بالكلِّية.
وعلى أي الأحوال، يبقى أن جمعَ الأفغاني بين السلطتَين (الدينية والسياسية) قد كان
بمثابة إرهاص بما سوف تنتهي إليه لاحقًا فيالق الإسلام السياسي من اعتبار «السلطة
السياسية» أحد الأصول المهمة التي لا قيام للدين من دونها؛ حيث راحت «الدولة» تأخذ موقع
الشرط اللازم لإكمال إقامة الدين؛ بل إنه يجري اعتبارها ركنًا جوهريًّا من أركانه؛ حيث
إن ثمة من سيمضي من الجماعات المتأخرة، كجماعة «التكفير والهجرة» المصرية، مثلًا، إلى
تعليق أداء بعض العبادات والفروض الواجبة على المسلم (كصلاة الجمعة) طالما أن «الجماعة
المسلمة» لم تبلغ حد «التمكين» في الدولة؛ بمعنى أنها لم تمسك بدولاب السلطة
بعد.
وإذا كان الأفغاني هو الذي ابتدأ الإعلاء من شأن «المسألة السياسية» على النحو الذي
أصبحَت معه، في اللاحق، أصل الأصول في تفكير كل جماعات الإسلام السياسي في الإسلام، فإنه
يَلزم التنويه إلى أن هذا الإعلاء للسياسة قد أدَّى به (وكان ذلك لازمًا) إلى التركيز
على
الجوانب ذات الطابع العملي الإجرائي في الشريعة، والمتعلق بالحدود والأحكام بالذات؛ على
النحو الذي جعله أكثر نزوعًا نحو المحافظة في التعامل مع قضاياها؛ بمعنى أنه لم يفتح
الباب (كما فعل تلميذه محمد عبده) أمام تبلوُر أقوالٍ جديدة في الأحكام والحدود
الإجرائية. ولعلَّ ذلك ما يؤكِّده التبايُن بين الأفغاني وعبده في تصوُّر الفقه تحديدًا؛
باعتبار أن منهج التعامل معه (على نحوٍ منغلق أو منفتح) إنما يتحدد بطبيعة هذا التصوُّر.
فإن ما مضى إليه الأفغاني من تصوُّر «أن أحكام الفقه كلها مبنية على الوحي والإلهام،
ولا
مأخذ لها سوى كلام الله وسنة نبيه».
٥٠ لا بد من أن يحدد طريقته في التعامل معه على نحوٍ يصبح فيه الفقه موضوعًا
لقداسة لا يقبل معها أي نظر أو مراجعة. وفي المقابل، إن ما يمضي إليه محمد عبده من أن
«الفقهاء قد جعلوا كتبهم، على علاتها، أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل
بما فيها، وإن عارض الكتاب والسُّنة، فانصرفَت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرَت أنظارهم
في كتب الفقهاء، على ما فيها من الاختلاف في الآراء والركاكة».
٥١ إنما يحدد طريقته في التعامل مع الفقه، بما هو نتاج اجتهادٍ إنساني، قد يأتي
معارضًا للكتاب والسُّنة، وقابلًا، من ثَم، للنظر والمراجعة.
بطبيعة الحال، إن هذا التبايُن الجلي بين الأفغاني وعبده إنما يُحيل إلى أن ما فرضه
السياق الهندي على الأفغاني من النظر إلى «المسألة السياسية» على أنها نقطة البدء في
استعادة الإسلام دَوره؛ بما ترتب على ذلك من تبني وجهة نظرٍ تقليدية محافِظة حول الشريعة،
لم يؤثِّر كثيرًا في محمد عبده، الذي فرضَت عليه تطورات السياق المصري، ولا سيما بعد
إخفاق
الثورة العرابية ليس الإقلال فحسب من شأن السياسة في إصلاح عالم الإسلام؛ بل التعدي إلى
اعتبار «المسألة الفكرية/العقلية» المدخل الضروري لهذا الإصلاح. وغنيٌّ عن البيان أن
هذا الاعتبار للجانب الفكري والعقلي في الإصلاح سوف يئول إلى تبنِّي وجهة نظرٍ محددة
ومنفتحة تجاه الشريعة، التي بدا لمحمد عبده أنه يجري استخدامها قناعًا تستتر خلفه ضروب
شتَّى من الجمود الفكري والاجتماعي.
(٣) انتقال تسييس الإسلام إلى الفضاء العربي: رشيد رضا
يلفت الانتباه، حقًّا، أن فكرة الأفغاني المركزية الخاصة باعتبار «الشأن السياسي»
المدخَل الجوهري للإصلاح في المجتمعات الإسلامية، لن تجد من يتجاوب معها في السياق
المصري، والعربي على العموم، إلا في الربع الأول من القرن العشرين؛ ومع تزايُد وتيرة
التمدد الوهابي في الحجاز من جهةٍ، وتفاقم الوضع المتردِّي للخلافة، حتى إعلان سقوطها
من
جهةٍ أخرى. والغرابة في أن التلميذ المباشر والأكبر لمحمد عبده، الذي هو السيد رشيد رضا،
سوف يكون الجسر الذي ستعبر، من خلاله، أفكار الأفغاني الخاصة بتسييس الإسلام إلى الفضاء
العربي. ولعلَّه يَلزم التنويه إلى أن أفكار رضا كانت النبع، الذي استقى منه الأب المؤسِّس
لجماعة الإخوان المسلمين؛ حسن البنا، كل أفكاره تقريبًا. وغنيٌّ عن البيان أن جماعة
الإخوان بمثابة الإطار الذي ظلَّت كل جماعات الإسلام السياسي تتناسل داخله على مدى القرن
العشرين إلى الآن.
فإذ يبدو أن رشيد رضا أدرك وجوب الإصلاح، قبل أن يغادر مسقط رأسه (القلمون في شمال
لبنان)، فإنه قد انشغل بما قيل إنه «الإصلاح الأصغر»، الذي ركَّز القول فيه على ضرورة
التخلص من البدع، التي رآها تسود بين أهل بلدته، من قبِيل التبرك بالأولياء، وأصحاب
القبور، والأشجار، وغيرها؛ بما يقترب من المفهوم الوهابي عن البدع الشركية. وحين يدرك
المرء أن نجاح الوهابية في مسعاها إلى التخلص مما عدَّته البدع الشركية الغالبة على أهل
القرى، المبعثرة في جزيرة العرب، قد ارتبط بتحالفها السياسي مع آل سعود، فإن ذلك يفسر
ما حصل، لاحقًا، من تفضيل رشيد رضا (أو حتى انحيازه إلى) مسار «الأفغاني»، الذي ينبني
على المركزية شبه المطلَقة للمسألة السياسية في الإصلاح. وكان ذلك، بطبيعة الحال، على
حساب ما كان من تتلمذ على منهج الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي ينبني، في المقابل، على
المركزية شبه المُطلقة للإصلاح العقلي والفكري. ولعلَّ ذلك ما تبين عنه مراجعاته المتعددة
على نصوص الأستاذ الإمام، التي تعكس تراجعه عن كثير من الآراء المنفتحة للأستاذ.
في المقابل، إن «هناك تطابقًا، فيما يتعلق بمفهوم الجامعة الإسلامية، بين رشيد رضا
وجمال الدين الأفغاني، علمًا بأنه بإمكاننا القول إن الأول [رشيد رضا] اقتبس هذا
المفهوم، إضافة إلى مخطط تنفيذه، من الأفغاني.»
٥٢ وإذ «الجامعة الإسلامية» هو المفهوم الأكثر مركزية في الفكر السياسي
للأفغاني، فإن في ذلك تأكيدًا لحقيقة أن «السياسة» كانت هي الجامع بين الأفغاني ورضا.
وفضلًا عن ذلك، إن رضا يتبنَّى رؤية الأفغاني نفسها بخصوص أولوية الرابطة الدينية
الإسلامية على الرابطة الجنسية أو الوطنية؛ بما جعله يستنكر مسعى مَن أسماهم حزب
المتفرنجين «لاستبدال الرابطة الجنسية، أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية».
٥٣ ومن حُسن الحظ أن السياسة قد جمعَت بين الرجُلَين في تصوُّر طبيعة سلطة الخليفة
أيضًا؛ لأنه إذا كان الأفغاني يرى الخليفة كحاكمٍ ومجتهد؛ حيث تجتمع فيه السلطتان
السياسية والدينية، فإن الخليفة، عند رضا، «ليس هو ذلك الحاكم الزمني السياسي المطلَق،
إنما هو المجتهد الذي بإمكانه أن يوحِّد، من خلال اجتهاداته، الأمَّة الإسلامية».
٥٤ بما يؤشِّر إليه ذلك من جمعه بين السلطتَين أيضًا.
ومن الجائز القول: إن رشيد رضا قد ظل يتأرجح بين منهجَي الأفغاني وعبده في الإصلاح
إلى
أنْ حسم أمره نهائيًّا، وألقى بنفسه، على مدى العقدَين الأخيرَين من حياته بالذات، إلى
جانب الأفغاني على نحوٍ كامل. ولعلَّ من الطبيعي أن يأتي الشاهد على ذلك من التبايُن
الجلي
بين عبده ورضا بخصوص مسألة الخلافة والإمامة بالذات؛ فإذ يمكن اعتبار عبده داعية إلى
«إقامة الخلافة على أساسٍ روحي أكبر»؛
٥٥ فإن رضا قد انشغل بالخلافة كمؤسسةٍ سياسية أساسًا. ومن هنا ما قام به رضا من
الانتقاد القوي لتحويل أتاتورك الخلافة إلى «خلافةٍ روحية لا سلطان لها في سياسة الأمَّة»؛
٥٦ مؤكِّدًا أن هذا التحويل بدعة يمكن أن تؤدِّي إلى الفتنة. والحق أن رضا لم يطوِّر
موقفه المعارِض للأستاذ الإمام بخصوص الخلافة، بعد وفاة هذا الأخير، كما قد يحسب البعض؛
حيث تورد المصادر أنه «عندما عرض الشيخ رشيد رضا على الأستاذ الإمام افتتاحية العدد
الأول من مجلة المنار، وكان الشيخ رشيد قد جعل من بين مقاصد المنار تعريف الأمَّة بحقوق
الإمام، والإمام بحقوق الأمَّة، اعترض الأستاذ الإمام، وذكر: أن المسلمين ليس لهم اليوم
إمام إلا القرآن، وأن الكلام في الإمامة مَثار فتنةٍ يُخشَى ضرره، ولا يُرجَى نفعه الآن».
٥٧ وهكذا، كانت المسألة السياسية، منذ وقتٍ مبكر، تحتل مكانةً مركزية في تفكير
رضا، بينما كان حضورها يخفت كثيرًا عند عبده إلى حد التلاشي، الذي جعله لا يرى للمسلمين
إمامًا إلا القرآن. وهكذا، يسجِّل الأستاذ الإمام انتقاله الصريح من التعويل على سلطة
«السياسة» إلى إدراك الخلاص في سلطة «المعرفة».
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن التطورات السياسية، التي شهدها العالم الإسلامي مع مطلع
القرن العشرين، قد كانت من بين ما حفز رضا على حسم موقفه على النحو الذي راحت معه
السياسة تصبح مركزًا له. وضِمن هذا السياق، يمكن المصير إلى أن المسار الإصلاحي لرشيد
رضا، الذي وصمَته السياسة بطابعها الغلَّاب، قد تحدَّد بما كان شاهدًا عليه من التحالف
بين
شيوخ الوهابية وولاة آل سعود من جهةٍ، ثم بما جرى من تطوراتٍ بخصوص الخلافة انتهت إلى
إعلان سقوطها مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
٥٨ وإذَن، هناك جملة مساراتٍ تداخلَت في فكر رشيد رضا، وانتهت به إلى حيث أصبح
السلف الأقرب إلى ظاهرة الإسلام السياسي الراهنة. فثمة، أولًا، التأثير الممتَد من
الأفغاني، الذي تفاعل مع التمدد الوهابي في الحجاز من جهةٍ، ومع الانهيار الحاصل في
منظومة الخلافة من جهةٍ أخرى.
لعل استغراق رشيد رضا في الوقوف تحت مظلة خطاب تسييس الإسلام يتجلَّى في موقفه الرافض،
بحسمٍ، الأفكار التي حملها الكتاب، الذي أثار الجلَبة حول الخلافة في حينه؛ وهو كتاب
«الإسلام وأصول الحكم»، الذي أصدره الشيخ علي عبد
الرازق، بعد عامٍ واحد من إعلان سقوط الخلافة في عام ١٩٢٤م. ويكاد موقف رضا من هذا
الكتاب يعيِّن له موقعه كأحد البنَّائين الكبار لخطاب تسييس الإسلام؛ وذلك من حيث ما
يبدو
من انحيازه الكامل لاعتبار الخلافة «شأنًا دينيًّا». ومرةً أخرى، كان هنا يعلن قطيعته
الكاملة مع ما صار إليه أستاذه محمد عبده من اعتبار السلطة «شأنًا مدنيًّا» خالصًا.
وضِمن هذا السياق، يمكن قراءة معركة رضا ضد صاحب
«الإسلام وأصول
الحكم»باعتبارها معركة ضد «الأستاذ الإمام»، الذي يكاد يكون هو صاحب
الدعوى، التي أخذ الشيخ علي عبد الرازق على عاتقه عبء المحاججة عليها.
٥٩ فإذ يتمثل جوهر الدعوى، التي ينافح عنها الأستاذ الإمام، في أنه «ليس في
الإسلام ما يُسمَّى، عند قوم، بالسلطة الدينية بوجهٍ من الوجوه، [ولهذا فإن الخليفة]
هو
حاكمٌ مدني من جميع الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما
يسميه الإفرنج «ثيوكراتيك»؛ أي سلطانٌ إلهي، [ويترتب على ذلك] أن الأمَّة هي التي تُنصِّب
الخليفة، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها.»
٦٠ فإن جوهر هذه الدعوى الخاصة بمدنية الحكم في الإسلام كان هو ما انشغل صاحب
«الإسلام وأصول الحكم»بتفصيل القول في المدافَعة
عنه، وتثبيته.
فإذا لم يجد عبد الرازق، في نصوص الإسلام الكُبرى (القرآن والسُّنة)، ما يمكن الاستناد
إليه في تقرير أن الخلافة هي من واجبات الدين وفروضه، فإنه قد راح يقطع بأنها محض
«تاريخٍ وسياسة»، وليست، أبدًا، «دينًا وعقيدة». وهكذا، انطلق من أنه «ليس القرآن وحده
هو الذي أهمل الخلافة، ولم يتصدَّ لها؛ بل السُّنة، كالقرآن أيضًا، قد تركَتها، ولم تتعرض
لها»، ليستنتج من ذلك «أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن
تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوةً مادية مُسلَّحة».
٦١ وهنا، يَلزم التنويه إلى أن عبد الرازق كان يتواصل مع تراثٍ سُنِّي غالب جعل
«الشوكة» والغلبة هي مرتكز سُلطة السياسة كما وقعَت فعلًا في الإسلام.
٦٢ والغرابة تكمن في أن الأمر لم يقف عند حد الإقرار بالغلبة كأساسٍ للسلطة؛ بل
إنه قد تجاوَز إلى حد اعتبارها أمرًا شرعيًّا، أيضًا، حيث «إنه لا يقوم بأمر أمَّة، أو
جيل، إلا مَن غلب عليهم، والوجود شاهد على ذلك، وقلَّ أن يكون الأمر الشرعي مخالفًا للأمر
الوجودي؛ بل لا يكون كذلك البتَّة».
٦٣ وعلى الرغم مما يعنيه ذلك من أن الأمر لا يتجاوز مجرَّد السعي إلى تبرير حُكم
المتغلب، باعتبار أن مجرَّد حصوله في الواقع هو الدليل على مشروعيته الدينية، فإنه يبقى
أنَّ جعل «الغلبة» هي مرتكَز الخلافة، وأساسها إنما يُحيل إلى وجوب التعامل معها ضِمن
حدود
المجال السياسي وحده.
وليس من شكٍّ، أبدًا، في أن ذلك هو ما وجَّه عبد الرازق إلى تأكيد أن الخلافة لم
تقع خارج
«نص» القرآن والسُّنة فحسب؛ بل إنها، ابتداءً من وقوعها بمجرَّد الغلبة، إنما تقع كذلك
خارج
«العصر» الذي تجاوز أن تكون «القوة»، أو الغلبة، هي مستند السلطة وأصلها. وإذ هي —
والحال كذلك — لم تقع بنصٍّ؛ بل وقعَت بالقوة، التي تجعلها خارج العصر، فإنه «لا شيء
في
الدين يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن
يهدموا ذلك النظام، الذي ذلُّوا له، واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد مُلكهم، ونظام
حكومتهم، على أحدث ما أنتجَت العقول البشرية، وأمتن ما دلَّت تجارب الأمم على أنها خير
أصول الحكم».
٦٤ فحيث لا «نصَّ» يُعيِّن، صراحةً، قواعد الحكم، فإنه ليس إلا أن تكون «العقول
والتجارب» هي سند نظام الحكم، من أجْلِ أن يُتاح لأصحابه الانتساب إلى «عصرٍ» لا يقبل
بغير أن تكون إرادة الناس هي أساس الحكم.
وفي مقابل هذا الذي صار إليه عبد الرازق، من أن محض «القوة» هي مستنَد الخلافة، وليس
«النص» (قرآنًا أو سنة)؛ بما يترتب على ذلك من اعتبارها محض «تاريخ وسياسة»، فإن رضا
كان «يريد أن يجد في السُّنة دليلًا [نصيًّا] على وجوب الخلافة؛ فانتقد مَن أسماهم
الغافلين عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة الواردة في الْتزام جماعة
المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن من مات، وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية.»
وسيأتي حديث حذيفة المُتفَق عليه، وفيه قوله (
ﷺ) له: «
تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.»
٦٥ بما يؤشِّر إليه ذلك من اعتبارها «دينًا وعقيدة». ويؤسِّس لهذا الاعتبار ما
يستند إليه رضا من التصريح بأن من مات، وليس في عنقه بَيعة، مات ميتة جاهلية؛ حيث إن
وصف الجاهلية مخصوص بالوضع السابق على حضور «الدين والعقيدة». وليس من شكٍّ في أن كون
«الجاهلية» هي الوضع الذي يصير إليه من يخرج على «العقيدة» ومن ينكر «الخلافة» إنما
يعني الارتقاء بالخلافة إلى المقام الذي تصبح فيه كالعقيدة. من هنا أنه لن يكون من
الغريب أن يمضي رضا إلى حد تكفير عبد الرازق لمقالته التي عدَّ فيها الخلافة مجرَّد سياسة؛
حيث عدَّها رضا «بدعةً شيطانية لم تخطر في بال سُنِّي، ولا شيعي، ولا خارجي، ولا جهمي،
ولا
معتزلي؛ بل لم تخطر حتى على بال الزنادقة».
٦٦ ولعلَّ هذا التكفير هو ما سيتطور مع حركات الإسلام السياسي الحركي إلى حد
تكفير المجتمعات بأسْرها، ابتداءً من كونها مجتمعات جاهلية بسبب عدم إقامتها لحكومة
الإسلام. ولسوء الحظ، إن ما ستدين به جماعات الإسلام الجهادي لرضا سوف يتجاوز القول
بجاهلية المجتمعات وكفرها إلى توفير جملة المفاهيم، التي ستبني بها هذه الجماعات خطابها
الحركي من قبِيل «الحكم بما أنزل الله» في مقابل «حكم الطاغوت». فحين يقرأ المرء لرضا
تفاخُرَه بأنه كان «أول من قام بتفنيد ما أودع في كتاب
«الإسلام
وأصول الحكم» من الكفر والضلال، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، ومنع
الحكم بما أنزل الله، وإباحة حكم الطاغوت».
٦٧ فإنه يجد نفسه إزاء ما يمكن اعتباره تدشينًا لمفاهيم «الطاغوت» و«الحاكمية»
(فضلًا عن «الجاهلية») التي سيبني بها إمام العنف المعاصر (الذي هو سيد قطب) خطابه
الدامي.
والحق أن معركة رشيد رضا مع
«الإسلام وأصول الحكم»
تتكشَّف عما يمكن القول: إنها معضلة السياسة في التقليد السني. وتتمثل تلك المعضلة فيما
يكاد يلحظه الكثيرون من حصول انقلابٍ في التقليد السني، ابتدأ معه النظر إلى الخلافة
على
أنها من أصول الإسلام التي لا يكتمل إيمان المرء إلا بإقامتها. ومن هنا ما كان لا بد
من
أن يحصل من النظر إلى كتاب
«الإسلام وأصول الحكم»على
أنه «يحمل سمومًا لو تجرعها المسلمون لتبدَّلوا الكفر بالإيمان»، لا لشيءٍ إلا لما يحمله
من نظرةٍ للخلافة على أنها من «الخطط السياسية التي لا شأن للدين بها».
٦٨ بما يعنيه ذلك من النظر إليها على أنها ليست من أصول الدين المُعتبَرة. وقبل
المصير إلى تقصِّي طبيعة هذا الانقلاب في النظر إلى الخلافة والظروف التي أحاطت به
واقتضَته، يَلزم تعيين موقع
«الإسلام وأصول الحكم»
(الذي انتقده رضا بعنفٍ بالغ) ضِمن التقليد السني، الذي حصلَت كل هذه التطورات داخله.
وغنيٌّ
عن البيان أن ذلك ينطوي، أيضًا، على تعيين موقع رضا نفسه ضِمن التقليد السني ذاته. وضِمن
هذا السياق، فيما سيكون عبد الرازق الأكثر وفاءً لأصول التقليد السني، فإن رضا سيكون
(ويا للغرابة) الأكثر انحرافًا عن تلك الأصول.
ولعلَّ نقطة البدء في هذا التعيين تنطلق من استقرار التقليد السني على تجنُّب النظر
إلى
الخلافة، ومسألة الحكم على العموم، على أنها من «الأصول»، والإصرار على اعتبارها من
قبِيل «الفروع»؛ بما ترتَّب على ذلك من الحكم عليها بأنها «ليست من المهمات … وليست من
أصول الديانات، ولا من الأمور اللابُدِّيات (الواجبات)، حيث لا يسع المكلَّف الإعراض
عنها، والجهل بها؛ بل — لعمري — إن المُعرض عنها لأرجى حالًا من الواغل فيها، فإنها
قلَّما تنفكُّ عن التعصب والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء … لكن لمَّا جَرَت العادة
بذكرها في أواخر كُتب المتكلمين، لم نرَ من الصواب خرق العادة بترك ذكرها، موافقة للمألوف
من الصفات، وجريًا على مقتضى العادات.»
٦٩ وهنا، يَلزم التنويه إلى أن تنزيل التقليد السني لمقام الخلافة أو الإمامة
على هذا النحو، إلى حد استحسان الإعراض عن الخوض فيها، قد تبلوَر في مواجهة التقليد
الشيعي، الذي جعل الإمامة «أصلًا من أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها».
٧٠ إذ الحق أن التقليد السني يكاد يكون قد اقترب، في سعيه إلى تمييز نفسه عن
التقليد الشيعي، من اعتبار الخلافة، أو مسألة الحكم من ضرورات الاجتماع المدني، ولم
يعدَّها أبدًا من ضرورات الدين.
ومن هنا، راح أبو الحسن الماوردي (وهو فقيه السياسة السني الكبير في القرن الخامس
الهجري) يجعل السلطان والخلافة، ومعهما الدين ذاته، من ضرورات الاجتماع. فهو قد مضى إلى
أنه إذا كان «الدين المُتَّبَع» هو القاعدة الأولى فيما يصلح به الاجتماع في الدنيا،
فإن
القاعدة الثانية التي يقوم عليها هذا الصلاح هي «السلطان القاهر» (والخلافة إحدى صوره).
واللافت، هنا، أنه لا يكتفي بالتمييز بين الدين والسلطان (أو الخلافة) كقاعدتَين لصلاح
الاجتماع البشري؛ حيث تنفصل الواحدة منهما عن الأخرى؛ بل إنه يمضي إلى أن يجعل للسياسة
(ومنها الخلافة) شأنًا في تحقيق صلاح هذا الاجتماع يعلو على شأن كلٍّ من الدين والعقل.
٧١ ولهذا، إذا كان الماوردي قد مضى إلى تقرير ضرورة الخلافة من أجْل إقامة بعض
المسائل الدينية؛ كالحدود بالذات، فإنه يظهر جليًّا أن إقامة هذه المسائل يعد هو نفسه
من ضرورات الاجتماع؛ بما يعنيه ذلك من أن الدين والخلافة معًا تتحدد قيمتهما بفائدتهما
للاجتماع؛ حيث إن «مَن لا سلطان لهم هم — على قول الآمدي— كالذئاب الشاردة، والأُسُود
الضارية، لا يُبقي بعضهم على بعض، ولا يحافظون على سُنَّة ولا فرض».
٧٢ إن ذلك يعني، بحسب ما ينطق به خِطاب هؤلاء المؤسِّسين الكبار للتقليد السني،
أن الخلافة ليست من مطالب الدين؛ بل إنها، ومعها الدين ذاته، مطلوبان من أجْل الاجتماع.
وإذ الأمر هكذا، فإنه لا يمكن ادِّعاء أن ما مضى إليه صاحب
«الإسلام وأصول الحكم» من اعتبار الخلافة من الخطط السياسية (التي تكون
مطلوبة لصلاح الاجتماع) يمثِّل أي انقطاع مع ما استقر عليه التقليد السني.
بل يبدو (ويا للغرابة) أن الناقضين لاجتهاد صاحب
«الإسلام
وأصول الحكم» (ومنهم رشيد رضا بطبيعة الحال) هم الذين يقطعون مع ما
استقر عليه التقليد السني من اعتبارها من ضرورات الاجتماع؛ وذلك بما صاروا إليه من
اعتبار الخلافة شأنًا دينيًّا. وإذ يئول هذا القطع بأصحابه إلى الاندراج تحت مظلة
التقليد الشيعي، فإنه يُجلي المفارَقة التي تتمثل في أن القائلين (في مواجهة صاحب
«
الإسلام وأصول الحكم») بالطابع الديني للخلافة
هم الأكثر خصومة مع الشيعة، الذين «يرون — على قول رضا نفسه — أن الخلافة أصل من أصول
الدين كالنبوة».
٧٣ بما يؤشِّر إليه ذلك من اعتبارها شأنًا دينيًّا. وإذ لا يتعلق الأمر — والحال
كذلك — بتحوُّل ناقضي دعوى الشيخ عبد الرازق إلى تبنِّي التقليد الشيعي، الذي لم تفتر
سخونة
خصومتهم معها؛ بل لعلَّها زادت، فإنه لا مجال لفهم هذه المعضلة إلا من خلال المصير إلى
أن
انقلابًا قد طال التقليد السني، على النحو الذي جعل من التعالي بالخلافة إلى حيث تصبح
من أصول الدين قولًا مقبولًا داخله. والمدهش هو ما يبدو من أن هذا الانقلاب قد تحقق
كأحد تداعيات التلاقي العنيف بالذات بين هذا التقليد «السني» وبين الحداثة.
وهنا، يَلزم التنويه إلى أن استجابات التقليد السني للتحدي، الذي فرضَته الحداثة
الأوروبية على العالم الإسلامي، منذ مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن — كما سبق القول —
من
طبيعةٍ واحدة؛ بل الملاحَظ أنها قد تباينَت في بعض المجتمعات الإسلامية عنها في الأخرى،
بحسب تبايُن الكيفية التي جرى بها التلاقي مع الحداثة. فإذ جرى التلاقي مع الحداثة في
مصر، مثلًا، بطريقةٍ مباينة لتلك التي جرى بها في الهند، فإن ذلك قد ترك أثرًا واضحًا
على طبيعة التفكير في «المسألة السياسية» وغيرها؛ إذ فيما آل هذا التلاقي في الهند إلى
إسقاط حكم المسلمين، الذي استقر فيها على مدًى يزيد على ثمانية قرون، فإن ذلك قد فتح
الباب واسعًا أمام ارتقاء «المسألة السياسية» إلى موقع الأصل في الإسلام. أما في مصر،
فإنه لم يترتب على التلاقي مع الحداثة فيها ما يرتقي بالمسألة السياسية إلى مقام الأصل
في الإسلام. وقد ارتبط ذلك بحقيقة أنه لم يترتب على التلاقي مع الحداثة في مصر أي تهديد
لوضع المسلمين أو الإسلام؛ بل لعله كان مدخلًا لإعمال ما كان مُعطَّلًا من مبادئه؛ وذلك
بحسب ما يكشف عنه استحسان شيوخ الأزهر للإصلاحات الشورية، التي أدخلها نابليون على
طريقة الحكم في مصر، حيث عدُّوا ذلك بمثابة إعمالٍ لمبدأ الشورى، الذي هو أحد المبادئ
الأصيلة في الإسلام. ولعلَّ هذا التبايُن بين استجابتَين لتحدي الحداثة يجد ما يدعمه
في
التبايُن الكبير بين نمطَين في مسار حركة الإصلاح الديني؛ يقف على رأس أحدهما من لا يمكن
الشك في انتسابه إلى فضاءات الإسلام الهندي (جمال الدين الأفغاني)، بينما يأتي على رأس
الثاني المصري (محمد عبده).
فإذ يجعل الأفغاني من «المسألة السياسية» الأصل الرئيس في مشروعه لإصلاح الأوضاع في
عالم الإسلام، فإن محمد عبده سوف يمضي، في المقابل، إلى إعلان البراءة الكلِّية من
السياسة؛ إلى حد جعلها موضوعًا للسباب واللعنة. وبطبيعة الحال، إن ذلك يرتبط بالتبايُن
الكبير بين التجربتَين الهندية والمصرية؛ بمعنى أن ما عرفَته الهند من إقصاء المسلمين
عن
حكمها قد جعل انشغال الأفغاني الجوهري لا يجاوز حدود تأكيد ضرورة أن يكون الإسلام
أساسًا لتشكيلٍ سياسي يجتمع فيه المسلمون الذين يتميزون — على قوله — برفضهم أي نوعٍ
من
العصبيات، ما عدا عُصبتهم الإسلامية. وفي المقابل، إن رجل الإصلاح المصري قد راح،
منطلقًا من تجربةٍ مختلفة، يركِّز على ضرورة تحرير الإسلام من استخدامه كقناعٍ يجري
التغطية به على ضروب من الجمود العقلي والاجتماعي، التي تُعَد — وليست السياسة — هي
المسئولة عن التردي الحاصل في المجتمعات الإسلامية.
وفي سعيه إلى تحرير الإسلام من استخدام السياسة له كقناعٍ تمارس من ورائه تسلطها،
فإن
رجل الإصلاح المصري قد انتهى إلى أنه «لا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند
المسلمين بما يسميه الإفرنج «ثيوكراتيك»؛ أي سلطانٌ إلهي. فالأمَّة — أو نائب الأمَّة
— هو
الذي ينصِّبه، والأمَّة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من
مصلحتها؛ فهو حاكمٌ مدني من جميع الوجوه».
٧٤ ولقد تواصل هذا التأكيد للطابع المدني للخلافة عند عبد الرحمن الكواكبي،
الذي صار إلى «أنه لا يوجد في الإسلام نفوذٌ ديني مطلَقًا في غير مسائل إقامة الدين»؛
لأن
القرآن يقرر وجوب «أن يستشير الملوك الملأ؛ أي أشراف الرعية [نوَّاب الأمَّة]، وألا
يقطعوا أمرًا إلا برأيهم، وأن تُحفَظ القوة والبأس في يد الرعية، وأن يُخصَّص الملوك
بالتنفيذ، ويُكرَّموا بنسبة الأمر إليهم، ويُعلَن شأن الملوك المستبدين واستحقاقهم للمؤاخذة
والتقبيح.»
٧٥ بما يعنيه ذلك من أن الخلافة ليست منصبًا دينيًّا، بقدر ما هي منصبٌ مدني
خالص. ولعلَّ ذلك يكشف عن أن صاحب
«الإسلام وأصول
الحكم» لم يفعل إلا أن أفاض في الحجاج على دعوى «مدنية الخلافة»، التي
افتتح القول فيها كلٌّ من محمد عبده والكواكبي قبله. ومن اللازم، هنا، تأكيد أنهم كانوا،
بتبنِّيهم هذه الدعوى، يتواصلون مع ما استقر عليه «التقليد السني» من اعتبار الخلافة
من
قبِيل المصالح الدنيوية.
في المقابل، يمكن المصير، هنا، إلى أن الأفغاني، مُنطلِقًا من تجربة الإسلام في الهند،
كان أول من لامَس في العصر الحديث، وعلى نحوٍ صريح، فكرة أن ابتعاد الأمَّة عن الدين،
بكل
ما يترتب على ذلك الابتعاد من التردي والخلل، إنما يرتبط بما جرى من انهيار الخلافة،
وخروج الممالك والسلطنات عليها. وبطبيعة الحال، كان لا بد من أن يترتب على ذلك أن تكون
عودة الدين (لكي تسترد الأمَّة مجدها السابق) مشروطة باستعادة الخلافة؛ بما يعنيه ذلك
من
ابتداء تبلوُر «المسألة السياسية» كمركزٍ للتفكير في أزمة الإسلام والأمَّة في العصر
الحديث. ولسوء الحظ، إن هذا النوع من التفكير، الذي يرُد الأزمة إلى غياب الدين، ثم
يختزل هذا الغياب للدين في الانهيار الذي أصاب الخلافة، كان هو الذي قاد، في النهاية،
إلى النزوع الدائم لتسييس الإسلام. ومن هنا ما يَلزم قوله من أن الأفغاني هو نقطة البدء
في المسار الطويل لتسييس الإسلام الذي انطلق من الهند في القرن التاسع عشر، ثم تواصل
مع
رشيد رضا، الذي تتلمذ عليه حسن البنا، مؤسِّس جماعة الإخوان المسلمين، التي تناسلَت منها
كل حركات الإسلام السياسي، التي تنشط الآن، في نشر الخراب والفوضى في مشرق العالم
العربي ومغربه.
ولسوء الحظ، إن خطاب تسييس الإسلام، الذي كان الأفغاني هو من دشَّنه، سوف يتنامى
إلى حد
إنتاج المفهوم الأخطر في الإسلام السياسي؛ وهو مفهوم «الحاكمية الإلهية»، الذي سوف يأتي
إلى العالم العربي، مع انتصاف القرن العشرين، من فضاءات الإسلام الهندي، ولكن مع أبي
الأعلى المودودي هذه المرة. وبحسب هذا المفهوم، إن الخلافة، والحكم بمعناه السياسي، سوف
يتحوَّلان ليُصبحا جزءًا من صميم الألوهية ذاتها. ومن هنا ما يقوله المودودي: «ألم ترَ
أنه
بينما جاء في القرآن أن الله — تعالى — لا شريك له في الخلق، وتقدير الأشياء، وتدبير
نظام العالم، جاء معه أن الله له الحكم وله الملك، وليس له شريك فيهما، ما يدل دلالةً
واضحة على أن الألوهية تشتمل على معاني الحكم والملك أيضًا، وأنه مما يستلزمه توحيد
الإله ألا يُشرَك بالله تعالى في هذه المعاني كذلك».
٧٦ لقد بلغ الأمر، إذَن، إلى حد الارتقاء بالخلافة والحكم إلى مقام «العقيدة»،
التي يكون مطلوبًا من الناس أن يتعبدوا الله بإقامتها. والغرابة في أنه قد بات ممكنًا
أن يتصوَّر المرء أن يكون لهؤلاء «عقيدتهم في الحاكمية أو الخلافة»، بمثل ما يتحدث خصومهم
من الشيعة عن «عقيدتهم في الإمامة». ولعلَّ ذلك يُجلي معضلة التقليد السني، الذي فرض
عليه
تلاقيه مع الحداثة أن يشهد هذا الانقسام، الذي يشقى به بين تصوُّرَين متناقضَين للخلافة؛
تكون في أحدهما «مصلحةً دنيوية»، بينما تكون في الآخر «عقيدةً دينية». وهكذا، إذا كان
إبعاد «آل البيت» عن السلطة السياسية قد أدَّى بأصحاب التقليد الشيعي إلى أن يكتبوا
«عقيدتنا في الإمامة»، فإن إبعاد المسلمين السُّنة عن السلطة؛ ولا سيما حين شغلها غير
المسلمين، كما حدث في الهند، قد فتح الباب أمام تبلوُر مسارٍ يكاد فيه هؤلاء يقتربون
من
حدود الكتابة عن «عقيدتهم في الخلافة».
ولعلَّ المفارَقة، هنا، تتأتى من أن واحدًا من مسارات «الحداثة» في العالم الإسلامي
كان
هو الأصل الذي يقف وراء تبلوُر خطاب تديين السياسة، واعتبار إقامة الخلافة مُعتقَدًا
وعبادة، في التقليد السني. وليس من شكٍّ فيما يئول إليه ذلك من أن ما ينافح عنه صاحب
«الإسلام وأصول الحكم» من اعتبارها مجرَّد «تاريخ
وسياسة» هو ما يتجاوَب مع التراث السابق للتقليد السني، الذي استقر، مع أحد بنَّائيه
(وهو
الماوردي)، على اعتبار السياسة والسلطان، والخلافة من ثَم، أحد أهم ضرورات الاجتماع
البشري ولوازمه؛ بما يعنيه ذلك من أنها شأن دنيوي لا ديني. وفضلًا عن ذلك، إذا كان
«الإسلام وأصول الحكم»إنما يتواصل مع مسار في
الإصلاح انشغل بتحرير الإسلام من الاستخدام كقناعٍ يتم التغطية به على ضروب متعددة من
الجمود العقلي، والاجتماعي، والسياسي، فإن ما يكشف عنه الحاصل الآن في العالم العربي
من
سعي فيالق العنف الجهادي إلى بناء دولة تكون بمثابة أداتها في الانسحاب من عوالم
المدنية، والارتكاس إلى عصور كان فيها الدين مجرَّد غطاء تستتر وراءه غرائز العدوان
والعنف، إنما يئول إلى تأكيد القيمة القصوى لما طرحه صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، في مقابل ما تمخضَت عنه أطروحة رضا من الجحافل
التي تحارب الآن تحت راية «الخلافة» بوصفها أحد أصول الإسلام.
وغنيٌّ عن البيان أن الطابع السياسي، الذي غلب على هذا المسار الإصلاحي، الذي كان
رضا
أحد رُوَّاده، قد راح ينعكس (وكان ذلك لازمًا) على الطريقة، التي تعامل بها مع الشريعة؛
إذ
الحق أن تسييس الإسلام يكون، بالضرورة، مصحوبًا باختزال الشريعة في مجرَّد جوانبها
الإجرائية من الأحكام والتكاليف الشرعية. وينشأ ذلك، بطبيعة الحال، عن حقيقة أن مدار
الانشغال في السياسة يكون هو الإجرائي القابل للتحقق العيني؛ وذلك لاحتياج المشتغلين
بها إلى قواعد ذات طابعٍ إلزامي من أجْل ضبط الجمهور والتحكم فيه. ومن هنا ما هو
معروف من ابتداء تبلوُر مفهوم «تطبيق الشريعة»، واحتلاله مركز السيادة في خطاب الإسلام
الجهادي؛ وهو المفهوم الذي تنحلُّ معه الشريعة إلى محض قواعد وأحكام قابلة للتطبيق. ولعلَّ
الشاهد على تركيز رضا على الطابع الإجرائي للشريعة يتبدَّى في تراجُعه عن كثير من الآراء
المنفتحة لأستاذه في بعض المسائل الشرعية. فإذ تركَّز انشغال أستاذه بالقصد من وراء
الأحكام الإجرائية، وليس بمنطوقاتها النصِّية، فإن انشغال رضا قد انصرف، في الأغلب، إلى
تثبيت الدلالة النصِّية للأحكام الإجرائية.
وكمثالٍ على تراجُع رضا عن أستاذه، يمكن الإشارة إلى موقفه من الحكم الشرعي بخصوص
«نصب
التماثيل»، وكذا من مسألة «تعدُّد الزوجات» مقارنة بموقف أستاذه (عبده) منها. فإذ حدَّد
رضا موقفه من المسألة الأولى بأن «استدلال «مصطفى كمال أتاتورك» على جواز نصب التماثيل
لكبراء الرجال بعمل الحكومة المصرية [أي بنصب الحكومة المصرية لها] يشبه استدلاله على
صحة سلب السلطة من الخليفة، الآن، بسلبها من الخلفاء العباسيين، وليس [أي الاستدلال على
نصب التماثيل] من الدين في شيء، فإن الحكومة المصرية غير مقيَّدة بالشرع في جميع أعمالها،
ولم يكن نصبها لشيء من هذه التماثيل بفتوى من علماء الأزهر، ولا غيرهم، ولو استفتَتْهُم
لما أفتوا بذلك؛ لا لأن نصب التماثيل مُحرَّم في الإسلام فقط، بل لأن فيه إضاعة كثير
من
مال الأمَّة في غير مصلحة أيضًا.»
٧٧ وهكذا، يرى نصب التماثيل حرامًا في الدين والمصلحة معًا. وفي المقابل، إن
أستاذه الإمام (محمد عبده) قد صار إلى أنه «ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام،
وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية: إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات
البشر في انفعالاتهم النفسية، وأوضاعهم الجسمانية؟ حرام؟ أو جائز؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟
أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة
وتعظيم التمثال أو الصور قد مُحي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك، بعد ظهور
الواقعة، وإما أن ترفع سؤالًا إلى «المُفتي»، وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردتَ عليه حديث
«إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون»،
أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في
أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببَين، الأول: اللهو، والثاني: التبرك
بمثال من تُرسَم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام
لمحوه، والمصور في الحالَين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به. فإذا زال هذان العارضان،
وقُصدَت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر من المصنوعات، وقد جاء
ذلك في حواشي المصاحف، وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش
المصاحف موضوع النزاع. أما فائدة الصورة فمما لا نزاع فيه، على الوجه الذي ذكر».
٧٨ وهنا، إذا كان رضا يتكئ في حُكمه على أن «نصب التماثيل محرَّم في الإسلام»،
على ما تحمله المنظومة الفقهية من نصوص تفرض هذا التحريم، فإن أستاذه كان يفكر في
«مسألة جواز نصب التماثيل» بالمقاصد؛ وعلى النحو الذي جعله يتجاوز الإجرائي النصِّي،
الذي
يقول به الحديث تحريمًا لها. وهو هنا يبلغ إلى حد اعتبار التصوير ونصب التماثيل من أفضل
وسائل العلم. «والشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد
تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة، ولا من جهة العمل».
٧٩ فالحكم الشرعي بخصوص نصب التماثيل يتحرك، عند الأستاذ الإمام، مع القصد
القائم وراءه. فإذا كان القصد المؤسِّس للنهي، في السابق، هو «منع العبادة»، فإن تحوُّل
القصد لاحقًا إلى «تحقيق العلم» كان لا بد من أن يؤدِّي إلى تغيير الحكم من النهي إلى
الإباحة.
وبالمثل، إن الموقف من «تعدُّد الزوجات» يكشف عن تراجُع رضا عن أستاذه أيضًا. فإذ
كان
عبده حاسمًا في التضييق على تعدُّد الزوجات؛ إلى حد ما بدا من بلوغه إلى النهي عنه، فإن
رضا قد مضى في اتجاه تبرير وقوعه. فقد صار عبده إلى أن «جواز إبطال هذه العادة؛ أي عادة
تعدُّد الزوجات لا ريب فيه؛ لأن شرط التعدُّد هو التحقُّق من العدل، وهذا الشرط مفقود
حتمًا
[حيث قطع الله نفسُه بأن تحقيقه غير مستطاع]،
٨٠ فإن وُجد في واحد من المليون، فلا يصح أن يُتخَذ قاعدة. ومتى غلب الفساد على
النفوس، وصار من المرجَّح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم، جاز للحاكم أن يمنع التعدُّد،
أو
للعالم أن يمنع التعدُّد مطلَقًا مراعاة للأغلب … وبالجملة، يجوز الحجر على الأزواج [أي
منعهم] أن يتزوجوا غير واحدة إلا لضرورة تثبت لدى القاضي، ولا مانع من ذلك في الدين
البتة، وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط.»
٨١ وهكذا، يرى عبده، تقريبًا، أن ما قطع به الله من عدم استطاعة تحقيق العدل
بين الزوجات، مانعًا التعدُّد، الذي عدَّه في غير حالة الضرورة القصوى (كأن تكون الزوجة
عاقرًا لا تلد) مجرَّد «حيلةٍ شرعية لقضاء شهوةٍ بهيمية، وهو علامة تدل على فساد الأخلاق،
واختلال الحواس، وشرَه في طلب اللذائذ.»
٨٢ وإذا كان ذلك كله من قبِيل العادات الفاسدة، التي نهى الشرع عنها، فإن
التعدُّد يكون فاسدًا بدَوره؛ لأن ما ينشأ عنه الفساد لا بد من أن يكون فاسدًا
بالمثل.
والمُلاحَظ أن عبده قد قدَّم لموقفه المانع لتعدُّد الزوجات بما قصد إليه من استعادة
التداول القرآني للزواج في مقابل الانبناء الفقهي له. فإنه إذا كان الفقه، ابتداء من
تعريف الزواج فيه بأنه «عقد يمتلك به الرجل بُضع المرأة»، يتدنَّى بالمرأة إلى حد اعتبارها
محض وعاء للشهوة، وأداة لإنتاج النسل؛ بما جعل عبده يقرِّر أنه «لم يجد في كتب الفقهاء
كلمةً واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئًا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة
الجسدانية»، فإن «في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفًا له،
ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم، التي وصلَت إلى أقصى درجات التمدن، جاءت بأحسن منه.
قال تعالى:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم: ٢١)»؛
٨٣ بما يعني أن المودة والرحمة — وليست الشهوة — هي أساس الزواج في القرآن.
«والذي يقارن — حسب عبده — بين التعريف الأول، الذي فاض من عالَم الفقهاء علينا، والتعريف
الثاني، الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجةٍ وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا،
وسرى منهم إلى عامة المسلمين، ولا يستغرب بعد ذلك أن يرى المنزلة الوضيعة التي سقط
إليها الزواج؛ حيث صار عقدًا غايته أن يتمتع الرجل بجسم المرأة ليتلذذ به، وتبِع ذلك
ما
تبعه من الأحكام الفرعية، التي رتَّبوها على هذا الأصل الشنيع».
٨٤ والجدير بالملاحَظة، هنا، ما يبدو من أن تمييز الأستاذ الإمام بين مجالَين
متباينَين للزواج؛ أحدهما «قرآني» والآخر «فقهي» سوف يكون هو مدخله لربط تعدُّد الزوجات
بالمجال الفقهي، الذي انحط بالزواج إلى حيث أصبحَت غايته، إشباع شهوة الرجل. أما المجال
القرآني الذي يكون فيه الزواج سكنًا تغمره المودة والرحمة، فإنه لا يقبل بحصول التعدُّد؛
لأنه يكون مانعًا من تحقُّق «الواجبات الأدبية، التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذَّبان
كلٌّ
منهما من الآخر».
٨٥ المهم، هنا، هو ما يبدو من أن عبده لا يجد إلا انفتاح «القرآني» ليجابه به
أحكام «الفقهي» الإجرائية.
وفي مقابل هذا الذي صار إليه الأستاذ الإمام من جعْل «الواجبات الأدبية» هي المطلوب
الأعظم للزواج، فإن تلميذه رضا قد نزل به، حين عدَّ «النسل هو غاية الزوجية ومقصدها الفطري».
٨٦ وإذ التناسل، الذي هو الغاية، يكون أكثر غزارة في حال اقتران الرجل بأكثر
من امرأة، فإن ذلك سوف يؤدِّي برضا إلى ما يمكن اعتباره تبريرًا لتعدُّد الزوجات. ولعلَّ
ما
جعل رضا مشغولًا بتبرير التعدُّد هو ما لاحظه من «أن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة
تعدُّد
الزوجات أكبر قادح في الإسلام، متأثرين بعاداتهم وتقليدهم الديني، وغلوهم في تعظيم النساء».
٨٧ وإذ يعني ذلك أن رضا قد انشغل بمسألة تعدُّد الزوجات ضِمن سياق السجال مع
جماهير الإفرنج، فإن هذا السياق السجالي قد فرض عليه، ضِمن سعيه إلى التسامي بالإسلام
في
مواجهة قادحيه، أن يبرر تعدُّد الزوجات بحججٍ أضفى عليها صبغةً شِبه عصرية (أو شِبه علمية)؛
لكي تبدو متجاوبة مع عقول الإفرنج. ولأن عقول هؤلاء الإفرنج قد تشبعَت بالعلوم الطبيعية،
فإن ذلك قد جعل رضا يتعامل مع الزواج بما هو «فعلٌ طبيعي»؛ بما أدَّاه إلى الاختلاف مع
أستاذه «عبده»، الذي عالج الزواج «من الناحية المعنوية التي يَلزم أن تكون وجهة كل راغب
في الزواج».
٨٨
وهكذا، مضى رضا إلى تعليق حكم تعدُّد الزوجات على «النظر في طبيعة الرجل وطبيعة المرأة،
والنسبة بينهما من حيث معنى الزوجية، والغرض منها، وفي عدد الرجال والنساء في الأمم
أيهما أكثر، وفي مسألة المعيشة المنزلية، وكفالة الرجال للنساء، أو العكس، أو استقلال
كلٍّ من الزوجَين بنفسه، وفي تاريخ النشوء البشري، ليعلم هل كان الناس، في طور البداوة،
يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأةٍ واحدة».
٨٩ وقد أدَّى به النظر في هذه المسائل إلى تأكيد «أن الرجل، بطبيعته، أكثر طلبًا
للأنثى منها له، وأنه قلَّما يُوجَد رجلٌ عِنِّين لا يطلب النساء بطبيعته، ولكن يوجد
كثير من
النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن».
٩٠ وإذا كانت «الحكمة الإلهية في مَيل كلٍّ من الزوجَين، الذكر والأنثى، إلى
الآخر، المَيل الذي يدعو إلى الزواج، هو التناسل الذي يحفظ به النوع، فإن داعية النسل
في
الرجل أقوى منها في المرأة».
٩١ ويستدِل رضا على هذا الفرق بين الرجل والمرأة بما أورده من أن «بعض حكماء
الإفرنج قال: لو تركنا رجلًا واحدًا مع مائة امرأة سنةً واحدة لجاز أن يكون لنا من نسله،
في السَّنة، مائة إنسان، أما إذا تركنا مائة رجل مع امرأةٍ واحدة سنةً كاملة، فأكثر ما
يمكن
أن يكون من نسلهم إنسانٌ واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدًا؛ لأن كل واحد من
الرجال يُفسد زرع الآخر».
٩٢ ويزيد رضا على ذلك «أن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع
الأرض، وترى الرجال على كوْنهم أقل من النساء، يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج
أكثر مما يعرض للنساء، فإذا لم يُبَح للرجل المستعد للزواج التزوج بأكثر من واحدة اضطُرَّت
الحال إلى تعطيل عددٍ كثير من النساء، ومنعهن من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمَّة منهن».
٩٣ وفضلًا عن ذلك، «إذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة في البيت، وعملها
محصورًا فيه لِضعفها عن العمل الآخر، وبما يعوقها عن الحمل والولادة، وكانت، بذلك، عالة
على الرجل، وأن الرجال قوَّامون على النساء كما هو ظاهر. فماذا نعمل والنساء أكثر من
الرجال عددًا، ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يُباح للرجل الواحد عدة
نساء، وإن من المصلحة على هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته».
٩٤ وأخيرًا، «من يرجع إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت،
يجد أن الرجل في أمَّة من الأمم لم يكن يكتفي بامرأةٍ واحدة، كما هو شأن أكثر الحيوانات».
٩٥ وهكذا، يستدعي رضا من الطبيعة والتاريخ معًا ما يجعل من تعدُّد الزوجات أمرًا
مقبولًا ومستساغًا على نحوٍ كامل. وعلى الرغم من أنه قد انتهى إلى «أن الأصل في السعادة
الزوجية والحياة البيتية هو أن يكون للرجل زوجةٌ واحدة، وأن هذا هو غاية الارتقاء البشري
في بابه».
٩٦ فإن ذلك لم يقدِر على التشويش على ما تنتهي إليه مُقدِّماته من أن تعدُّد الزوجات
أمرٌ له ما يبرره في الطبيعة والتاريخ؛
٩٧ بل إنه (ويا للغرابة) يتجاوز محض التبرير إلى التحدث عما يمكن أن يجره منع
تعدُّد الزوجات من المفاسد، كأن يرى الرجل «أن المرأة الواحدة لا تكفي لإحصانه؛ لأن مزاجه
يدفعه إلى كثرة الإفضاء، ومزاجها بالعكس، أو أن يكون زمن حيضها طويلًا ينتهي إلى خمسة
عشر يومًا في الشهر، ويرى نفسه مُضطرًا إلى أحد أمرَين: التزوج بثانية، أو الزنى، الذي
يضيع الدين، والمال، والصحة، ويكون شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما
كما هو شرط الإباحة في الإسلام، ولذلك استُبيح الزنا في البلاد التي مُنِع فيها التعدُّد
بالمرة.»
٩٨ ولعلَّ ذلك يعني أن رضا يتجاوز مجرَّد تبرير التعدُّد (من الطبيعة والتاريخ) إلى
بيان ضرورته (ولو في بعض الحالات) باعتباره مانعًا لحصول الزنا الذي هو مفسدة للدين،
والمال، والصحة.
ولعلَّ ما يبدو من إيراد رضا الكثير من الحجج الداعمة لمبدأ تعدُّد الزوجات لممَّا
يقوِّي
القول بمَيله إلى قبول هذا المبدأ. وقد لُوحِظ أنه يحرص، في صياغته لهذه الحجج، على تأكيد
مرجعيتها الإفرنجية؛
٩٩ بما يجعله أحد مؤسِّسي التقليد الكاشف عن وعيٍ شقيٍّ يدفع بأصحابه إلى البحث
عند الأوروبيين عما يدعمون به يقينهم الزائف في ميراث الدين، ولا سيما في المسائل ذات
الطابع التقليدي المحافظ، التي لا تتوافق مع قواعد العقل، أو الاجتماع الحديث. وعلى أي
الأحوال، يبقى أن مَيل رضا إلى قبول مبدأ تعدُّد الزوجات إنما يشير إلى الكيفية، التي
تحضر
بها المرأة في خطابه، كمجرَّد وعاء لشهوة الرجل وجهاز لإنتاج النسل.
١٠٠ وغنيٌّ عن البيان أن هذا الخطاب الشهواني حول المرأة هو الذي سوف يحدد حضورها
اللاحق مع حركات الإسلام السياسي كمجرَّد جسد يتسرى به الرجل؛ وذلك بحسب ما تكشف عنه
فتوى
داعش بخصوص جهاد النكاح. ولعلَّ ذلك يكشف عن اقتران الخطاب الشهواني حول المرأة بخطاب
تسييس الإسلام؛ وإلى حد ما، يبدو أنه أحد لوازمه. ولعلَّ الرابط بين الخطابَين يتمثل
في
أنه إذا كان خطاب تسييس الإسلام لا يرى له حضورًا إلا في «دولة» تكون بمثابة الجسد له،
فإن الخطاب الشهواني حول المرأة يختزل كل وجودها في جسدها. وفي الخطابَين معًا، فإن
الجسد (سواء دولة أم امرأة) لا بد من أن يكون موضوعًا للسيطرة والإخضاع من جانب الإسلام/الرجل.
وإذ تتحقق السيطرة بالإسلام على الدولة، من خلال تحويله إلى أحكام، وتكاليف
إجرائية، فإن السيطرة على المرأة تتحقق بالطريقة ذاتها؛ أي بتغليب الإجرائي على القصدي
في الإسلام. ولعلَّ ذلك بالذات ما يكشف عنه التبايُن بين كلٍّ من محمد عبده، ورشيد رضا،
بخصوص مسألة تعدُّد الزوجات. فقد كان عبده مشغولًا بالمفاسد الاجتماعية المترتبة على
تعدُّد
الزوجات في عصره، ونتيجة لذلك، ألحَّ على ما يئول إلى منع التعدُّد. أما رضا فإنه كان
مشغولًا بالدفاع عن الإسلام، في مواجهة القادحين له من الإفرنج من باب إباحته التعدُّد،
ولهذا، إنه قد اضطُر إلى إيراد ما يبرر التعدُّد، ويجعله مقبولًا. إن الفارق بينهما يأتي
من نقطة البدء عند «عبده» هي إدراكه لمفاسد اجتماعية قائمة في واقعه، وتنتج عن تعدُّد
الزوجات، فراح هذا الإدراك يوجِّه قراءته لآية التعدُّد في القرآن، على النحو الذي يؤدِّي
إلى
منعه، أما رضا فإنه قد انطلق من أن «جملة القول في مسألة التعدُّد أن القرآن أتى فيها
بالكمال الذي لا بد من أن يعترف به جماهير الأوروبيين».
١٠١ ولهذا انشغل ببيان هذا الكمال لإبراز سمو الإسلام وتعاليه. إن اهتمام عبده
بإصلاح الواقع جعله أكثر انشغالًا بالقصد لا بالنص، في حين أن اهتمام رضا ببيان كمال
الإسلام قد جعله أكثر انشغالًا بالنص. ولن يكون غريبًا — والحال كذلك — أن ينزع تفكير
رضا الفقهي نحو النص على نحوٍ أكبر.
ومن هنا، ما قيل من «أن أبرز وجوه التغيير لدى السيد رشيد هو منهجه في التفكير الفقهي
والديني. فقد تحول عن نهج المقاصد، ومقاصد الشريعة، وهو نهج محمد عبده، إلى الدعوة
للاجتهاد بمعنى الخروج على نهج تقليد المذاهب الفقهية التقليدية لصالح العودة إلى
القرآن والسُّنة؛ بل السُّنة بالتحديد. وقد حدث التغيير استنادًا إلى ابن تيمية في منهج
السيد رشيد رضا في الاستنباط الفقهي؛ إذ تجاوز التاريخ الفقهي الإسلامي ليلجأ إلى السُّنة
مباشرة في الاستدلال متأبطًا قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي».
١٠٢ وهكذا، تحول رضا عن «المقاصد»، التي تكاد تؤسِّس للتفكير الفقهي عند الأستاذ
الإمام، إلى مسار التفكير في السُّنة، الذي كان الشافعي هو رائده المؤسِّس. ولعلَّ ما
تجدر
ملاحَظته أن تحوُّل رضا إلى التفكير في الفقه بالسُّنة؛ بما يعنيه ذلك من الإغراق في
النصِّية،
قد حدث تحت تأثير ابن تيمية، الذي كان «رضا» أول من جاء به إلى مصر تقريبًا. وإذا كان
ابن تيمية (وهو أحد كبار الحنابلة الذين وصلوا بالفقه الآثاري النصِّي إلى ذروته) قد
أصبح
موضوعًا للاستدعاء، وإعادة الاكتشاف منذ القرن الثامن عشر من جانب الإصلاحيين الهنود،
واليمنيين، والمغاربة، فإن «تأثيراته اختلفَت باختلاف طبيعة البيئات التي عُرف فيها.
ففي
الهند جرى الاهتمام من أبعاد فكره بفكرة تميُّز الإسلام وخصوصيته، وتحريم التشبه
بالكفار، والخضوع لهم، وفي اليمن استفاد إصلاحيو الزيدية بإعادة الاعتبار إلى السُّنة
في
الاستدلال. أما في مصر، فإن السيد رشيد رضا أفاد من ابن تيمية في ناحيتَين: اكتشافه نهج
التأصيل القائم على السُّنة، وسموق الهوية الإسلامية وانفصالها القاطع عما حولها.»
١٠٣ وإذ يبدو هكذا أن رضا يُعيد، مع ابن تيمية، اكتشاف «السُّنة» كمركز للتفكير
الفقهي من جهة، ويستعيد معه الانفصال القاطع للهوية الإسلامية المتسامية عما حولها من
جهةٍ أخرى، فإن ذلك يعني أنه يستفيد منه «النصِّية» كمركز للتفكير في الدين، و«الهوية
المتميزة» كمركز لوجود الجماعة. وغنيٌّ عن البيان أنهما معًا (أي النصِّية والهوية
المتميزة) يُعدَّان من أهم ما يؤسِّس للسردية الحاكمة لكل حركات الإسلام السياسي؛ وفي
القلب منها جماعة الإخوان المسلمين التي كان مؤسِّسها واحدًا من تلامذة رضا
المباشرين.
(٤) الإسلام السياسي: ذروة التسييس
حين يقول حسن البنا، مخاطبًا قومه: «إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسُّنة في
شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمَّة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام، وتعاليم
الإسلام، وأحكام الإسلام، وهدي الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا،
وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًّا، فنحن أعرق الناس، والحمد لله، في السياسة.»
١٠٤ فإنما ليؤكِّد وفاءه لتقاليد أستاذَيه الكبيرَين (الأفغاني ورضا)، التي ظهر
فيها الانشغال لافتًا بالمنزعَين السياسي والسلفي. وضِمن هذا السياق، أخذ البنا عن رضا
نزوعه السلفي على النحو الذي جعله يَعُد جماعته «دعوةً سلفية لأنهم يدْعُون إلى العودة
بالإسلام إلى مَعينِه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله».
١٠٥ بما ينطوي عليه ذلك من الخروج — فيما سبق القول — على نهج تقليد المذاهب
الفقهية لصالح العودة إلى القرآن؛ بل السُّنة بالتحديد؛ «لأنهم يحملون أنفسهم على العمل
بالسُّنة المطهرة في كل شيء».
١٠٦ ومن جهةٍ أخرى، سلك كالأفغاني في اعتبار أن الفكرة الغربية هي الأصل في
المأزق الكبير، الذي تعيش فيه المجتمعات الإسلامية. فإذ أراد الرجل أن يحدد أعراض الداء
الذي أصاب الأمم الشرقية، فإنه لم يجد هذه الأعراض إلا فيما بدا له وكأنها متلازمات
الحداثة الغربية من قبِيل «الاستعمار، والحزبية، والربا، والمروق، والإلحاد، والقوانين
الوضعية، التي لا تُغني يومًا من الأيام غناء القوانين السماوية، التي وضعها خالق الخلق،
ومالك الملك، ورب النفوس وبارئها».
١٠٧ وإذ يبدو — والحال كذلك — أن الأمر يتعلق بهوية أمَّة يتهددها «التقليد
الغربي، الذي يسري في مناحي حياتها، سرَيان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها».
١٠٨ فإنَّ البنا سيندفع (كالأفغاني قبله) إلى استدعاء الإسلام كدرعٍ يحمي هذه
الأمَّة المُهدَّدة. وهكذا، إذا كان هناك «طريقان كلٌّ منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمَّة
وجهته، وتسلكوا بها سبيله، ولكلٍّ منهما خواصه، ومميزاته، وآثاره، ونتائجه، ودُعاته،
ومروِّجوه. فأما الأول فطريق «الإسلام»، وأصوله، وقواعده، وحضارته، ومدنيته، وأما
الثاني، فطريق «الغرب»، ومظاهر حياته، ونُظمها، ومناهجها، فإن عقيدتنا أن الطريق الأول،
طريق «الإسلام» وقواعده وأصوله، هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يُسلَك، وأن تُوجَّه إليه
الأمَّة الحاضرة والمستقبلة.»
١٠٩ وإذَن، إنه التبايُن الكامل بين طريقَين لا سبيل لأي الْتقاءٍ بينهما إلا على
نحو ما يلتقي النقيضان: الإسلام والجاهلية. ويرتبط هذا التبايُن الحاسم بما سينتهي إليه
الوريث المباشر للبنَّا (سيد قطب، الذي أعطى الإسلام السياسي وجهة الجهادي العنيف) من
أن
«نتاج الغرب في كل حقول المعرفة يقوم، ابتداءً، على أساس رواسب مسممة بالعداء لأصل
التصوُّر الديني جملة».
١١٠ وبما سيرتبه على ذلك من ضرورة المفاصلة الكاملة بينهما. ولأنه كان من
المنطقي أن تؤسس هذه المفاصلة نفسها على ضرب من المفاضلة بينهما، فإن البنا كان الرائد
السابق لقطب في تثبيت هذه المفاضلة.
وضِمن هذا السياق، إن البنا يؤسس تفضيله الإسلام على الغرب على ما بدا له من أن «مدنية
الغرب، التي زهت بجمالها العلمي حينًا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم،
تفلس الآن وتندحر، وتندك أصولها وتنهدم نظمها وقواعدها».
١١١ ونظرًا إلى تمدُّد الغرب في العالم بأسْره، فإن هذا الاندحار قد أدَّى إلى أنْ
أصبحَت «الإنسانية كلها معذَّبة شقية قلِقة مضطربة، وقد اكتوَت بنيران المطامع والمادة،
فهي
في أشد الحاجة إلى عذبٍ من سؤر الإسلام الحنيف يغسل عنها أوضار الشقاء، ويأخذ بها إلى
السعادة».
١١٢ والجدير بالملاحَظة ما سينتهي إليه من أن وراثة الإسلام للغرب سوف تكون
محتومة استنادًا إلى ما يتصوَّر أنه قانونٌ تاريخي يتبادل فيه كلٌّ من الشرق والغرب موقع
السيادة على الدنيا. فقد «كانت قيادة الدنيا في وقتٍ ما شرقيةً بحتة، ثم صارت بعد ظهور
اليونان والرومان غربية، ثم نقلَتها النبوات الموسوية، والعيسوية، والمحمدية، إلى الشرق
مرةً ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكُبرى، ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي
لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو الغرب يظلم، ويجور، ويطغى، ويحار،
ويتخبط، فلم تبقَ إلا أن تمتد يدٌ شرقية قوية يظللها لواء الله، وتخفق على رأسها راية
القرآن، ويمدها جند الإيمان القوي المتين، فإذا بالدنيا مسلمةٌ هانئة، وإذا بالعوالم
كلها هاتفة: الحمد لله الذي هدانا لذلك وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».
١١٣ ولعلَّ هذه الوراثة من الإسلام للغرب هي ما سيفتح الباب أمام وضع البنَّا
لجماعته في وضع «المُنقِذ»، ليس للمسلمين فحسب، بل للعالم بأسْره. فإن «العالم كله حائر
يضطرب، وكل ما فيه من النظُم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم
الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المُنقِذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام، التي
تحملون مشعلها وتبشرون به».
١١٤ ومن هنا، ابتداء تبلوُر مفهوم «الأستاذية» على العالم الذي يستحيل الإسلام
ضِمنه إلى مجرَّد سلاح للهيمنة. وليس من معنًى لذلك إلا أن الإسلام سيتحول إلى سلاحٍ
يحاربه
دُعاة «الإسلام السياسي» معركتهم من أجْل السيطرة، ليس فقط على «الدولة»؛ بل على «العالم»
بأسْره، وذلك عبْر «السعي لإحداث الانقلاب العالمي، ومعناه ألا يكتفي بإقامة النظام
الإسلامي في قُطرٍ واحد، أو في الأقطار، التي يقطنها المسلمون فحسب؛ بل تبعث حركة عالمية
قوية تكفل انتشار الدعوة الإسلامية الإصلاحية والانقلابية بين عامة سكان هذه الأرض.
فتكون حضارة الإسلام هي الغالبة في الأرض، ويطرأ على نظام التمدن، في شرقي الأرض
وغربيها، الانقلاب من الطراز الإسلامي، ويتولى الإسلام إمامة العالم ورئاسته في الأخلاق
وأعرافها وموازينها».
١١٥ وهكذا، ينقل الإسلام السياسي نفسه من وضع «المنقذ»؛ أو حتى «الأستاذ»
للعالم إلى وضع من له «الإمامة والرئاسة» على العالم بأسْره؛ وهو الوضع الذي لا سبيل
لتحقيقه إلا بالجهاد.
والجدير بالذكر أن البنا سوف يطلق على هذا الإسلام، الذي يستدعيه، ليحقق به الهيمنة
على الدولة والعالم معًا، أنه «إسلام الإخوان» الذي هو «هذا المعنى الكلِّي الشامل، وأنه
يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة وأن تصطبغ جميعها به، وأن تنزل على حكمه، وأن تساير
قواعده، وتعاليمه، وتستمد منها ما دامت الأمَّة تريد أن تكون مسلمة إسلامًا صحيحًا. أما
إذا أسلمَت في عبادتها، وقلَّدَت غير المسلمين في بقية شئونها، فهي أمَّةٌ ناقصة الإسلام».
١١٦ ويواصل تأكيده هذا المعنى قائلًا: «نحن [الإخوان] نعتقد أن أحكام الإسلام
وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه
التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية، أو الروحية، دون غيرها من النواحي، مخطئون في
هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، ومصحف وسيف.»
١١٧ والحق أن هذا الإسلام الشامل ليس شيئًا إلا الإسلام وقد اخترقَته السياسة،
وأصبحَت جزءًا أصيلًا من كينونته. ولقد كان ذلك — ولحُسن الحظ — ما قطع به البنا صراحة
حين مضى يقول، بعد تحديده معنى الإسلام الشامل: «أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم
لن
يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، يعيد النظر في شئون أمته، مهتمًّا بها، غيورًا عليها.
وأستطيع كذلك أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد (يعني تجريد الإسلام من السياسة) أمر
لا
يقره الإسلام، وعلى كل جمعيةٍ إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمَّتها
السياسة، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام.»
١١٨ وهكذا، فإن البنا قد صكَّ مفهوم «الإسلام الشامل» لا لشيء إلا ليجعل من
«السياسة» مكوِّنًا مركزيًّا من مكونات الإسلام «الدين».
وهنا يَلزم التنويه إلى أن البنا لم يفعل إلا أن أعاد إنتاج خطاب الأفغاني نفسه،
الذي
انبنى على أن «الفكرة الغربية» هي الأصل في المأزق الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية؛
بما ترتب على ذلك من دخول السياسة كأحد المكونات الأكثر مركزية في إقامة دين الإسلام؛
حيث إنه يستحيل، من دون الإمساك بسلطة السياسة، مواجهة الفكرة الغربية، واستعادة الفكرة
الإسلامية لتأخذ مكانها. فإن «الحكومة المسلمة هي التي تقود الشعب إلى المسجد، وتحمل
الناس على هدي الإسلام من بعدُ، كما حملَتهم على ذلك بأصحاب رسول الله، أبي بكر، وعمر،
من
قبلُ. ونحن، لهذا، لا نعترف بأي نظامٍ حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام، ولا يستمد منه،
ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمَنا أهل الكفر
وأعداء الإسلام على الحُكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل
مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام».
١١٩ وهكذا، يربط الاحتياج إلى الحكومة بحمل الناس على الإسلام من جهةٍ، والعمل،
من جهةٍ أخرى، على تحرير المسلمين من الفكرة الغربية «التي أرغمَنا أهل الكفر وأعداء
الإسلام على الحكم بها، والعمل عليها»؛ بما يؤكِّده ذلك من أنه لا عودة للإسلام إلا
بامتلاك الحكومة التي كان لا بد — والحال كذلك — من أن تصبح «ركنًا من أركان الإسلام
الذي يؤمن به الإخوان».
١٢٠ ولسوف يكون ذلك هو ما ستعتقد به نفسه فيالق الجهاديين اللاحقين، الذين
أنشئوا استدلالًا على الوجوب الديني لإقامة الدولة والجهاد من أجْل إقامتها. فإذ نقلوا
عن ابن تيمية قوله في
«مجموع الفتاوى» إن من «الواجب
اتخاذ الإمارة دينًا وقُربة يُتقرَّب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعة رسوله
من
أفضل القربات.»
١٢١ فإنهم قد رتَّبوا هذا الوجوب الديني للإمارة على أنها الشرط، الذي لا تتم
فرائض الشرع إلا بإقامته، «وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أيضًا»، وزادوا على
ذلك أنه «إذا كانت هذه الدولة [الإسلامية] لن تقوم إلا بقتالٍ فوجب علينا القتال».
١٢٢ وإذ أدرك الجهاديون — والحال كذلك — أنه لا سبيل إلى إقامة الإمارة، كركن
من الدين، إلا بالمواجهة والقتال، فإنهم كانوا يبلغون بالمقدمات التي وضعها البنا إلى
منتهاها.
ولعلَّ هذا الحضور المركزي للسياسة، عند البنا، هو ما جعله يقرر أن الحكومة جزء من
دين
الإسلام. ومن هنا جاء خطابه إلى أتباعه قائلًا: «إذا قيل لكم إلامَ تدعون؟ فقولوا: ندعو
إلى الإسلام الذي جاء به محمد
ﷺ، والحكومة جزءٌ منه، فإن قيل لكم: هذه
سياسة! فقولوا: هذا هو الإسلام.»
١٢٣ وبحسب ما قيل آنفًا، فإن البنا قد صار إلى اعتبار الحكومة جزءًا من الإسلام
لما بدا له من أن غياب الحكومة من الإسلام إنما يؤدِّي إلى ضياع الإسلام ذاته. ولقد كان
ذلك هو ما قطع به، على نحوٍ صريح، حين مضى إلى أنه «قد أتى على الإسلام والمسلمين حينٌ
من
الدهر توالت فيه الحوادث، وتتابعَت الكوارث، وعمِل خصوم الإسلام على إطفاء روائه، وإخفاء
بهائه، وتضليل أبنائه، وتعطيل حدوده، وإضعاف جنوده، وتحريف تعاليمه وأحكامه تارةً بالنقص
منها، وأخرى بالزيادة فيها، وثالثةً بتأويلها على غير وجهها، وساعَدَهم على ذلك ضياع
سلطة
الإسلام السياسية، وتمزيق إمبراطوريته العالمية، وتسريح جيوشه المحمَّدِية، ووقوع أُمَمه
في
قبضة أهل الكفر مُستذَلين مُستعمَرين».
١٢٤ وهكذا، إنه يربط ما يقول إنه «تعطيل حدود الإسلام وتحريف تعاليمه وأحكامه»
بما جرى من ضياع «سلطته السياسية»؛ وبما لا بد من أن يترتب على ذلك (وبالحتم) من أن
«تفعيل حدوده، وتصحيح تعاليمه وأحكامه» يستلزم استعادته سلطة السياسة. وبذلك، يبلغ
البنا حدود تأكيد الفرضية الأكثر مركزية في بناء خطاب الإسلام السياسي؛ وهي الفرضية
القاضية بأنه حيث «لا دولة» (أو حكومة) فإنه «لا دين ولا إسلام». ومن هنا، ما ستحتله
«الدولة» من وضعيةٍ مركزية عند دُعاة الإسلام السياسي؛ وعلى النحو الذي سوف يضعهم (ويا
للغرابة) في موقع التوافق الكامل مع خصومهم الذين عوَّلوا على مركزية الدولة في نشر
التحديث.
وهكذا، لا يختلف دُعاة الإسلام السياسي، في مسعاهم للإمساك بالدولة، عن غيرهم من
الذين
عملوا، على الجهة المقابلة، تحت رايات الأيديولوجيات التحديثية (الليبرالية، والقومية،
والاشتراكية، وغيرها). والاختلاف بينهم يأتي، فحسب، من نوع الأيديولوجيا التي يعمل دُعاة
الإسلام السياسي تحت رايتها؛ وهي أيديولوجيا الأسلمة. وهكذا، يبقى أن الجميع يراوحون
تحت مظلة الأطروحة ذاتها التي لا ترى سبيلًا للتغيير في المجتمعات الإسلامية إلا بتسكين
الجوانب التقنية الإجرائية من الحداثة الأوروبية فوق البنيات ذاتها التقليدية المتوارَثة
للوعي، التي تحتفظ للجمهور بوداعته، وهدوئه، وطاعته.
١٢٥ والاختلاف بينهما يأتي، فحسب، من نوع المفردات، التي يستخدمها كل فريق في
سعيه إلى الهيمنة على المجال العام؛ إذ فيما ظل دُعاة الأيديولوجيات الحداثية يستخدمون
المفردات المتداوَلة في إطار الأيديولوجيات التي يبشِّرون بها (من قبِيل الحرية،
والديمقراطية، والدستور، والاشتراكية، والطبقة العاملة، والقومية، وغيرها)؛ والتي لم
يقدروا على السيطرة بها على المجال العام لعدم امتلاك الجمهور (المقصود التأثير عليه
بها) للتراث المعرفي والتاريخي، الذي تقف عليه هذه المفردات. فإن دُعاة الإسلام السياسي
يستخدمون مفرداتٍ تنتمي إلى الرأسمال الرمزي الديني للجمهور من أجْل السيطرة على المجال
العام (من قبِيل الشريعة، والحكم بما أنزل الله، وتطبيق الحدود، وغيرها). ما سيجعل من
دولة الإسلام السياسي، «الدولة التنِّين» فعلًا؛ حيث ستحضر الدولة؛ كقوةٍ قابضة ليس على
كل أدوات القمع الحديثة فحسب؛ بل على الرأسمال الرمزي المقدَّس، أيضًا، الذي سيجعل من
الخروج عليها هرطقة، وكفرًا، يستحق فاعله التأثيم واللعنة.
وإذ يئول ما سبق إلى جعل البنَّا أحد البنائين الكبار لخطاب الإسلام السياسي، فإنه
يُضعف الفرضية السائدة، التي تجعل منه صاحب دعوى دينية فحسب. ومن حُسن الحظ أن البنا
نفسه
يرى أن «قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمةٌ إسلامية لا يكفِّرها إلا
النهوض واستخلاص قوة التنفيذ [يعني الحكومة] من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام
الحنيف.»
١٢٦ ولعلَّ استمرار النظر إلى البنا، إلى الآن، على أنه صاحب دعوى دينية، على
الرغم مما يقوله من أن عدم المطالبة بالحكم يُعَد جريمة من وجهة نظر الإسلام، إنما يرتبط
بحقيقة أن ظاهرة الإسلام السياسي (وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان المسلمين) تقوم،
أساسًا، على ضروب من الالْتباسات التي يجري إخفاؤها، عن عمد، لتكون بمنأى عن الوعي
المنضبط بها؛ وعلى النحو الذي يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بالسعي
إلى تصوير الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي، على أنها جماعات «طهورية»، لا
انشغال لها بما يجاوز حدود «المُقدَّس» الديني؛ وبما يتبدَّى في إلحاحها على اعتبار أن
السياسة التي تنشغل بها هي من الواجب الذي لا يقوم الدين إلا به. ومن هنا وجوب إعادة
النظر في الكيفية، التي تقوم بها جماعات الإسلام السياسي بإدماج السياسة في الدين؛ على
النحو الذي يؤدِّي، في النهاية، إلى إبراز الطبيعة «الدنيوية» لهذه الجماعات التي لا
يحضر
«المقدَّس» في خطابها إلا بما هو مجرَّد أداتها الرئيسة في احتكار المجال العام، لا
غير.
ولعلَّ نقطة البدء، في هذا النظر، تنطلق من تحديد البنا هوية الجماعة، التي قام على
تأسيسها في العقد الثالث من القرن العشرين. فإذ يقرر، من ناحيةٍ، أن هذه الجماعة «دعوةٌ
سلفية، وطريقةٌ سنِّية، وحقيقةٌ صوفية»؛ بما يعنيه ذلك من تأكيد هويتها الدينية، فإنه
لا
ينفي عن الإخوان، في الوقت نفسه، أنهم «هيئةٌ سياسية؛ لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في
الداخل، وتعديل النظر في صلة الأمَّة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب
على العزة، والكرامة، والحرص على قوميته إلى أبعد حد».
١٢٧ وهكذا، لا يفلح تأكيد الهوية الدينية للجماعة في التغطية على جوهرية المكوِّن
السياسي في بنائها؛ وإلى حد اعتبار هذا المكوِّن ركنًا من أركان الدين ذاته. ولكن الإشكال
يتأتى من أن هذا الاعتبار قد أوصل البنا إلى حد الخروج على ما استقر عليه «التقليد
السني» بخصوص السياسة على العموم. فإذ استقر هذا التقليد على النظر إلى السياسة بوصفها
من «الفقهيات والفروع»، فإن البنا قد مضى، في المقابل، إلى أن «الحكم معدود في كتُبنا
الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع».
١٢٨ وغنيٌّ عن البيان أن اعتبار البنا للحكم السياسي من «العقائد والأصول» لن
يؤدِّي، فحسب، إلى نقض ما وصف به جماعته من أنها «طريقة سنية»، وذلك باعتبار أن السياسة
معدودة، عند أهل السُّنة، من «الفقهيات والفروع»؛ بل لعله سيؤدِّي إلى الدنُو بجماعته
من
موقع «الطريقة الشيعية»، باعتبار أن فِرَق الشيعة هي التي انفردَت وحدها باعتبار السياسة
من «العقائد والأصول».
١٢٩ وإذ لا يمكن الشك في معرفة الرجل بما يقول به الشيعة بخصوص الإمامة
والسياسة، فإنه لا يبقى إلا أن الانتهاء إلى ما يقول به الشيعة سيكون هو النتيجة، التي
تفرض نفسها على كل من يسعى إلى إخفاء ما يمارسه من السياسة وراء أستار المعتقد الديني؛
وإلى الحد الذي يفرض عليه التزام القول بأن السياسة من أركان الدين.
وللغرابة، يبدو — والحال كذلك — أنه إذا كانت السياسة هي التي شطرَت المسلمين، في
القديم، إلى سنة وشيعة؛ فإنها تعود لتقرب بينهم في اللحظة الراهنة. والعجيب أن يكون
الاستبداد حاضرًا، وبقوة، في كلتا اللحظتَين معًا. فقد كان الاستبداد هناك في لحظة
الانقسام، حين راح الشيعة يتعالون بالسياسة إلى السماء (حيث جعلوا تعيين الإمام بالنص
من الله)؛ وذلك على سبيل «اليأس» من الناس، الذين حالوا بين أئمة آل البيت، وبين ما
يراه الشيعة حقًّا لهم في الإمامة. وبالمثل، كان حاضرًا عند أهل السُّنة، حين راحوا
يجعلون ما يقولون إنه تعيين الإمام من الناس بالبيعة والاختيار، ستارًا يُخفون وراءه
آليات «الشوكة والمغالبة» التي كانت هي الفاعل الحقيقي والأهم في مسار ممارستهم
السياسية. ولعلَّ هذا التماثل القديم هو ما يقف وراء التقارب الراهن بينهما؛ وأعني من
حيث
ما تتكشف عنه التجربة السياسية الشيعية (متجسدة في النظام السياسي الإيراني الحالي)،
والسنية (متجسدة في جماعة الإخوان المسلمين في مصر)، من السعي إلى توظيف الرأسمال
الديني المتجذر في تثبيت خطاب وصائي أبوي. ولعلَّ هذا الطابع الوصائي الأبوي للخطاب يتأكد
من خلال المركزية الطاغية لمفهوم «المرشد» في كلا النظامَين الإيراني (الشيعي)، والمصري
(الإخواني/السني)؛ وهو المفهوم الذي يتزايد تأكيد أنَّ استخدامه في النظام السياسي
الإيراني قد استعاره من نظام الإخوان. وهنا، يَلزم التنويه إلى أن هذا الخطاب الوصائي
إنما ينبني، وعلى نحوٍ جوهري، على تصوُّر العقل قاصرًا عن تدبير شأن الإنسان الذي يبقى،
لذلك، في احتياجٍ دائم إلى «مرشد» يقرر له ويختار. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك التصوُّر
هو ما
يؤسس، على مدى التاريخ، لكل أنماط السلطة المستبدة القامعة، التي تسلك بمنطق فرض
الوصاية على الناس.
وليس من شكٍّ في أن الأساس، الذي يقوم عليه هذا الدور الوصائي إنما يتمثل في الفكرة
التي دخلَت منها السياسة إلى ساحة الإسلام؛ وهي فكرةٌ شموله كل شيء. فإذ تعني هذه الفكرة
الهيمنة الشاملة للإسلام على كل شيء عبْر انتظامه له في أحكامه، فإن ذلك يئول إلى وجوب
الْتماس هذه الأحكام، التي تتسع لكل شيء. وغنيٌّ عن البيان أن الجمهور لن يكون قادرًا
على
بلوغ هذه الأحكام؛ بل يكون في حاجة إلى غيره من الأوصياء القادرين وحدهم على جعل
الإسلام شاملًا كل شيء فعلًا. وعلى العكس من هؤلاء الأوصياء، الذين يحققون للإسلام
شموله، إن «غير المسلمين، حينما أعياهم ثبات الإسلام في نفوس أتباعه، ورسوخه في قلوب
المؤمنين به، لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام، ولا مظاهره،
وشكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرةٍ ضيِّقة تذهب بكل ما فيه من نواحٍ
قوية
عملية … فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء آخر، وأن الإسلام شيء والقانون
شيء غيره، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة
العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة».
١٣٠ وإذ لا يرى البنا فيما يفعله غير المسلمين من وضع مسائل «الاجتماع،
والقانون، والاقتصاد، والثقافة، والسياسة» خارج دائرة الإسلام، إلا أنه من قبِيل التأسيس
لما يسميه «الإسلام المتضائل»؛ فإن «الإخوان» يدعون، في المقابل، إلى «الإسلام الشامل»،
الذي يتسع لكل المسائل المطروحة في هذه المجالات وغيرها؛ وبكيفية لا يجوز معها أن تنضبط
كل المسائل في هذه المجالات بشيء من خارج الدين أبدًا. فهم لا يعدُّون المسائل الخاصة
بمجالات الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، من أمور الدنيا التي رأى النبي أن
البشر هم الأعلم بها مطلَقًا؛ بل عدُّوها من الدين الذي يكون إخراجها من دائرته بمثابة
تنقيص وتبخيس له. ولسوء الحظ إن إدخالها في دائرة الدين قد كان من قبِيل التزيد الذي
يثقل على الناس ويوقعهم في الحرج، لأنه لم يكن إدخالًا لها في الدين كأصول وقواعد كلِّية؛
بل تزيدات السلف، وتراثهم النصِّي الغزير. ويا للغرابة إن شمول الإسلام لا بد من أن
يئول، بما هو آلية يستخدمها البعض لإدخال ما ليس من الدين فيه، إلى التشديد على الناس،
والتضييق عليهم؛ حيث لا يعني شمول الإسلام إلا إدخال مسائل الدنيا في القوالب الضيِّقة
لتراث السلف، الذي يجري النظر إليه على أنه دين. وعلى أي الأحوال، إن فكرة «شمول
الإسلام» التي تعد بمثابة الإضافة الكُبرى للبنا، سرعان ما ستدخل في التركيب الباطني
لمفهوم «الحاكمية الإلهية» عند سيد قطب؛ بما يستوجب ضرورة التفكيك المتأني لهذه الفكرة
المركزية الخاصة بشمول الإسلام.
(٥) الإسلام السياسي والمراوغة التأويلية: من شمول الإسلام إلى الحاكمية
لا يتوقف الإسلام السياسي عن ادِّعاء أنه التحقيق المطابق لإسلام العصر الأول السابق
على إسلام التأويل. وهو يستهدف من وراء ذلك تثبيت سلطته على النحو الذي يجعلها فوق
المساءلة والنقد، لأنه إذا كان إسلام العصر الأول هو الإسلام الذي يرجع إلى مصادر
السيادة العليا، وهم: الله، والنبي، والسلف الصالح، فإن إسلام التأويل هو الإسلام، الذي
يتنزل عليه البشر بفيوض من أهوائهم، وميولهم. بطبيعة الحال، فيما يكون إسلام العصر
الأول هو الإسلام المقدَّس، فإن إسلام التأويل هو الإسلام، الذي داخلَته شوائب المدنَّس.
لكن
يبدو أن هذا النزوع إلى تبخيس التأويل ليس، هو نفسه، أكثر من مراوغةٍ (تأويلية) يستهدف
بها الإسلام السياسي إخفاء ما ينبني عليه خطابه من التأويل المُفرط؛ إذ الحق أن تفكيكًا
للفكرتَين الأكثر مركزية في خطاب الإسلام السياسي، وهما فكرتا شمول الإسلام، والحاكمية،
يكشف عن دخول التأويل في تركيبهما إلى الحد الذي يتوقفان فيه عن الاشتغال تمامًا في حال
غيابه أو رفعه.
وهنا، يَلزم التنويه إلى أن فكرة «شمول الإسلام» تكاد تكون الفكرة الحاكمة لسيرورة
اعتبار السياسة ركنًا من الدين مع كل جماعات الإسلام السياسي في العصر الحديث. وينشأ
ذلك عن حقيقة أن الأفكار كافة، التي سوف تعمل جماعات الإسلام السياسي تحت راياتها
السوداء، من قبِيل «الحاكمية»، و«الجهاد»، و«المرجعية الدينية للدولة»، وغيرها، تكاد
تكون محض تفريعات على فكرة «شمول الإسلام»، التي تكون — والحال كذلك — هي المحدِّدة لبناء
الخطاب كله. ومن هنا احتلَّت فكرة «شمول الإسلام» موقعًا بالغ المركزية، لا في تفكير
البنا فحسب، بل في تفكير كل السلالة، التي لا تزال تقوم على مشروعه إلى الآن. وبحسب ما
مضى أحد دارسي البنا وتابعيه، تعني فكرة الشمول، عنده، «أن الإسلام يشمل الحياة كلها
بتوجيهه وتشريعه: رأسيًّا منذ يولد الإنسان حتى يتوفاه الله؛ بل من قَبل أن يُولَد، وبعد
أن يموت؛ حيث هناك أحكامٌ شرعية تتعلق بالجنين، وأحكام تتعلق بالإنسان بعد موته.
وأفقيًّا حيث يوجِّه الإسلام المسلم في حياته الفردية، والأسرية، والاجتماعية، والسياسية
من أدب الاستنجاء إلى إمامة الحكم، وعلاقات السلم والحرب».
١٣١ من جهته، إن شيئًا عند قطب لا يفلت من مجال «الحاكمية»، التي تطوي كل شيء
في جوفها الواسع؛ حيث المفهوم عنده «لا ينحصر في تلقِّي الشرائع القانونية من الله وحده،
والتحاكم إليها وحدها، والحكم بها دون سواها. فإن مدلول الشريعة في الإسلام لا ينحصر
في
التشريعات القانونية، ولا حتى في أصول الحكم، ونظامه، وأوضاعه. إن هذا المدلول الضيِّق
لا
يمثِّل مدلول «الشريعة» والتصوُّر الإسلامي. إن شريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم
الحياة البشرية … وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول
السلوك، وأصول المعرفة أيضًا. يتمثل في الاعتقاد والتصوُّر [تصوُّر حقيقة الألوهية، والكون،
والإنسان والحياة]، ويتمثل في الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأصول
التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده … ويتمثل في قواعد الأخلاق
والسلوك، في القيَم والموازين، التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص، والأشياء،
والأحداث، في الحياة الاجتماعية … ففي هذا كله لا بد من التلقِّي عن الله.»
١٣٢ وبالضبط إن ذلك هو ما سوف يتواتر، وبمفرداته نفسها، عند ورثة قطب من
الجهاديين. فإذ انشغلوا بتمييز الإسلام عن غيره من الأديان، فإنهم قد وجدوا الوجه
الرئيس الذي يتميز به الإسلام في شموله، الذي يجعله يبتلع كل شيء في جوفه. وهكذا، إنه
إذا كانت «النصرانية دينًا يقتصر على علاقة العبد بربه، فإن الإسلام غير النصرانية؛ لأن
نصوص الكتاب والسُّنة لم تقتصر على العبادة بهذا المعنى، وإنما نجد، إضافة إلى ذلك،
التشريع، والحكم، والتصرفات، والشعور، والأخلاق، والاعتقاد، والإسلام جسدًا واحدًا، من
كفرَ بآيةٍ واحدة كفر به كله».
١٣٣ ولكنهم لم يكتفوا بتثبيت شمول الإسلام لمجرَّد تمييزه عن غيره فحسب، بل إنهم
قد أحالوه إلى سلاحٍ يجاهدون به ضد «أنظمة الحكم القائمة اليوم في جميع بلاد الإسلام؛
لأنها كافرة»؛ حيث إنها «لا تعني بالإسلام هذا المنهج الكامل [أو الشامل] للحياة كما
ورد في الكتاب والسُّنة».
١٣٤ وبخصوص فكرة «المرجعية الدينية»، التي تشتغل بها بعض الأحزاب السياسية،
فإنها تكاد، بدَورها، تنبني كليًّا على الاعتقاد بشمول الإسلام؛ وبما يئول إليه ذلك من
اعتبار البنا الجسر الذي عبر عليه خطاب الإسلام السياسي من حقل «النظر» إلى مجال الحركة
و«العمل». ولعلَّ ذلك يئول إلى أن فكرة «شمول الإسلام» ليست فكرةً معرفية، بقدر ما هي
فكرةٌ
أيديولوجية بامتياز؛ إذ هي لا تكون أداة لتوسيع آفاق الإسلام، بقدر ما هي أداة تعمل
ليس، فحسب، في اتجاه تمييز الإسلام عن غيره من الأديان (باعتبار أنها أديانٌ متضائلة
في
مقابل الإسلام الشامل)؛ بل في اتجاه تمييز فئة من المسلمين عن غيرهم (من المسلمين وغير
المسلمين).
والحق أن نِقاشًا جديًّا لمشروع الإسلام السياسي إنما يستلزم قراءةً عميقة لهذه الفكرة
عن «شمول الإسلام»، وكذا لِما تفرَّع عنها من مفاهيم (كالحاكمية، والجهادية، والمرجعية)؛
وذلك على نحوٍ يستهدف تفكيك بِنيتها المنطقية من جهةٍ، واكتناه معناها ودلالتها داخل
المجال المعرفي الإسلامي من جهةٍ أخرى. ولعلَّه يمكن الانطلاق في هذه القراءة من أن فكرة
شمول الإسلام قد تبلورَت ضِمن سياقٍ سجالي؛ وأعني في مواجهة الخصوم الذين جعلوا «الشريعة
الإسلامية شريعةً روحية لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا» بحسب القول
المنسوب إلى صاحب
«الإسلام وأصول الحكم».
١٣٥ وإذا كان من الضروري تعيين الخصم، الذي تتبلور الفكرة في سياق السجال معه
(مع صرف النظر عما إذا كان حضوره فعليًّا أو افتراضيًّا) فإنَّ ما تجدر ملاحَظته أن
الخصوم، في اللحظة الإخوانية (مع البنا وقطب)، قد اختلفوا عن أولئك الذين انشغل الأستاذ
الإمام محمد عبده بمساجلتهم في السابق. فقد كان عبده يساجل خصومًا أوروبيِّين يرَون في
الإسلام انحطاطًا، وجمودًا، وقدرية، فراح يقرأ أصول «حداثتهم» في أصول الإسلام نفسه،
١٣٦ أما البنا وقطب فقد كانا يساجلان «قومًا تعودوا أن يسمعوا دائمًا نغمة
التفريق بين الإسلام والسياسة … [من] الباحثين العصريين المهزومين»؛ بتعبير قطب. ومن
هنا، إنهما قد انشغلا بتأكيد شمول الإسلام للسياسة، بكل أشكالها وصورها. ولأنهما كانا
يَرُدَّان «نغمة التفريق بين الإسلام والسياسة»، التي تعوَّد المصريون عليها، إلى تبعيتهم
للأوروبيين، فإن الخصم الأوروبي يظل حاضرًا عند قطبَي الإخوان الكبيرَين، وإنْ على نحوٍ
غير مباشر.
١٣٧ ولكن ما يلفت النظر، حقًّا، أن «قطب» يستحضر الخصم الأوروبي كصاحب تصوُّرٍ
للدين يغاير تصوُّره، وليس كصاحب تجربةٍ سياسية تاريخية، لا يمكن فهم موقفه، حتى من الدين
نفسه، خارج تحديداتها. ومن هنا، ما صار إليه «قطب» من أنه «قد غشى على أفكار الباحثين
المصريين [المهزومين] ذلك التصوُّر الغربي لطبيعة الدين، وأنه مجرَّد «عقيدة» في الضمير،
لا
شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة … ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام، فالإسلام منهج
الله للحياة البشرية، وهو منهجٌ يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية — متمثِّلة في
الحاكمية — وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية.»
١٣٨ ولعلَّه يجدر الانتباه إلى أنه إذا كان قطب قد نسب اعتبار الدين مجرَّد عقيدة
في الضمير إلى ما اعتبره «التصوُّر الغربي للدين»، فإنه لم ينسب اعتبار «الإسلام منهج
الله للحياة البشرية» إلى تصوُّره هو (كصاحب رؤية) للإسلام، بل نسبه إلى طبيعة الإسلام
ذاته؛ بما يعنيه ذلك من أنه لا يميز بين الإسلام وبين تصوُّره له؛ بل بما يماهي بينهما.
وإذَن، إنه يلغي، تمامًا، المسافة بين تأويله للإسلام، وبين الإسلام ذاته (كحقيقةٍ كلِّية
تجاوزَت تأويله لأنها تتسع له ولغيره من التأويلات الأخرى).
وفي إطار متابعتهم للرائد الكبير، فإن جيل ما بعد قطب من الحركيين، أو حتى
الانقلابيين، الجهاديين سوف يتبنَّى، على نحوٍ كامل، هذا الإلغاء للمسافة التأويلية بين
الإسلام وبين تصوُّره. فإن أحدًا منهم لا يقدر على فهم أن ما يقوله عن الإسلام ليس هو
الإسلام بقدر ما هو التصوُّر التأويلي الذي يطرحه له. كما لا يقدر، من جهةٍ أخرى، على
إنهاء قوله في مسألةٍ ما بالتعبير المأثور: «والله أعلم»؛ لأنه لا يصح أن ينطق بهذا
التعبير إلا من يصدر عن رأي نفسه، وليس عن الله. وبطبيعة الحال، إن السياسة هي التي
تدفع بهؤلاء المؤدلجين للإسلام إلى إلغاء المسافة التأويلية لما يتيحه لهم هذا الإلغاء
من المطابَقة بين «الأقوال» التي ينطقون بها وبين الإسلام ذاته، لتكتسب قداسة الانتساب
إلى مصادر السيادة العليا في الدين، على النحو الذي يخرج بها من دوائر الحوار والمساءلة
لِتصبح موضوعًا للطاعة والتسليم. ومن هنا، إذا كانوا قد جعلوا من السياسة دينًا، فإنما
ليجعلوا منها سياسة القول الواحد، وليست السياسة بما هي موضوعٌ لاختلاف الأقوال، أو حتى
تنازعها.
والجدير بالملاحَظة، هنا، ما يبدو من أن اعتبار السياسة من الدين قد اقترن بالسعي
إلى
إخراج التأويل من مجال الاشتغال على الإسلام. وينشأ ذلك عن حقيقة أنه فيما يكون التأويل
ضربًا من الاشتغال على الإسلام، فإن السياسة تكون نوعًا من الاشتغال به. وفيما يرتبط
الاشتغال على الإسلام بالقصد إلى توسيعه بالتأويل ليستوعب شتَّى «الأقوال»، فإن الاشتغال
بالإسلام لا يقبل من هذا الإسلام إلا أن يكون «قولًا» واحدًا يحتكره مراجع الإرشاد
والوصاية. لكنه يبقى، مع ذلك، أنه لا يمكن اعتبار هذا القول الواحد هو الإسلام؛ بل إنه
يظل، بدَوره، قولًا تأويليًّا. وهو، فحسب، من قبِيل «القول»، الذي يجد أنه لا سبيل أمامه؛
لتحصين سلطته المطلَقة، وإقصاء كل الأقوال الأخرى، إلا الإخفاء الكامل لحقيقته
التأويلية، ولكن من دون أن يقدر على إلغاء وجودها. ولهذا إن الأمر لا يتجاوز حدود
التبايُن بين القبول بتأويل الإسلام ليتسع لأقوال شتَّى، وبين القصد إلى إخفاء التأويل
تثبيتًا لقولٍ بعينه؛ إذ يَلزم أن يظل الوعي حاضرًا بأن هذا القول الواحد هو نتاج فعلٍ
معرفي تحضر فيه كل الآليات التأويلية من الإنطاق، والإسكات، والإظهار، والإخفاء، وتوجيه
الدلالة (توسيعًا وتضييقًا) وغيرها. ولعلَّه يَلزم التنويه إلى أن السعي إلى الإقرار
بالتأويل، أو إخفائه، إنما يرتبط بطبيعة تصوُّر السياسة. فحين تكون السياسة من فروض
الدين، فإن ذلك يدفع إلى إخفاء التأويل. أما حين تكون من ضرورات الدنيا، فإن ذلك يؤدِّي
إلى وجوب الإقرار به. وهكذا، فإنه إذا كان التأويل هو ما يقف وراء السعي لجعل الإسلام
يتجاوب مع الحداثة (مع الأستاذ الإمام)، فإنه هو ما يقف، في الآنِ نفسه، وراء سعي قطبَي
الإسلام السياسي الرائدَين (البنا وقطب) لجعله نقيضًا لها. فإنه فيما كان التأويل
صادرًا، عند عبده، عن تصوُّر السياسة من ضرورات الاجتماع، فإن التأويل عند قطبَي الإسلام
السياسي كان صادرًا عن تصوُّرها من فروض الدين. ومن هنا، إذا كانت تأويلية عبده قد ساوت
بين أصول الإسلام وبين أصول التمدن الأوروبي الحديث؛ بما يعنيه ذلك من جواز الانفتاح
على
ما في هذا التمدن من أقوال وآراء غير منطوقة في الإسلام، فإن تأويلية البنا وقطب ترتكز
على التناقض الكامل بين الإسلام وغيره؛ وعلى النحو الذي يستحيل معه إمكان القبول بأي
أقوال أو آراء من خارج الإسلام. وضِمن هذا السياق، كان يَلزم تصوُّر الإسلام شاملًا لكل
شيءٍ على نحوٍ لا يكون معه في وضع الاحتياج لغيره. ومن هنا وجوب تأكيد أن الفكرة
الجوهرية، التي يشتغل بها الإسلام السياسي؛ وهي فكرة شمول الإسلام (ومعها فكرة الحاكمية
التي تفرعَت عنها لاحقًا) هي فكرةٌ تأويلية على نحوٍ كامل.
فإذا كان قد استقر مع «هيغل»، من جهة أن القول إن «الوجود هو كل شيء» هو تجريدٌ خالص،
أو لا شيء بالمرة، وأن كل عملية تعيين داخله هي التي تهبه حقيقته، فتخرج به من دائرة
التجريد والخواء إلى الوجود والامتلاء، فإن فكرة «شمول الإسلام»، التي تساوي القول بأن
«الإسلام هو كل شيء»، ينتهي، بالمثل، إلى أن الإسلام تجريدٌ خالص، وأن كل عملية تعيين
داخله هي التي تهبه معناه، وحقيقته المتعينة. وغنيٌّ عن البيان أن هذا التعيين، الذي
يجعل
هذا الشيء أو ذاك (كطريقةٍ في الحكم، أو الإدارة، أو التنظيم) من الإسلام، هو فعلٌ من
أفعال الوعي في لحظةٍ بعينها. وحين يتعلق الأمر بوعي هو الذي يقوم بجعل هذا الشيء أو
ذاك
من الإسلام، فإن ذلك يعني أن فكرة شمول الإسلام لكل شيءٍ تفترض حضور التأويل؛ بل حتى
تقتضيه. فمن دون هذا التأويل، الذي هو حقيقة فعل التعيين الذي يقوم به الوعي داخل
التجريد الخالص الذي يشمل كل شيء، لا يمكن للإسلام أن يُوجَد في صورةٍ فعلية محددة. وهكذا،
إن القول، مثلًا، أن حكومة الفرد غير المقيدة هي من الإسلام، تمامًا، كما أن حكومة
الشورى المقيدة هي من الإسلام، أيضًا، لا يكون إلا من قبِيل التعيين، أو التأويل، الذي
يقوم به فعل الوعي في لحظةٍ بعينها.
وإذا كان يبدو، هكذا، أن فكرة شمول الإسلام تفترض أن كل ما تجري نسبته إليه إنما
يكون
بالتأويل، فإن الكافة من مؤدلِجي الإسلام، الذين جعلوا السياسة من أركان الدين، لا
يوافقون على اعتبار ما أضافوه إلى الدين من أقوال السياسة هي محض تأويلات وتصوُّرات تختص
بهم؛ بل يُصِرُّون على النظر إليها على أنها هي الإسلام ذاته.
١٣٩ وبطبيعة الحال، يَلزم تأكيد أنه لا حقيقة لما صاروا إليه من اعتبار مسألة
الحكم من فروض الدين خارج حدود وعيهم الخاص. والحق أن كل ما يفعلونه هو أنهم ينزعون عن
تصوُّراتهم طبيعتها التأويلية، التي ترتبط معها بحدود التاريخ الذي يؤطرها، ليضفوا عليها
قداسة المتعالي الذي يتعدَّى أي تحديد.
ومن جهةٍ أخرى، إن البناء المنطقي لفكرة «شمول الإسلام» يقوم على أن كل تطورٍ لاحق
إنما
يتخارج من أصلٍ سابق. وليس الأمر كذلك في الحقيقة؛ إذ الحق أنه لولا ظهور اللاحق، لما
كان السابق قد اتخذ وضعيَّته كأصلٍ له؛ بما يعنيه ذلك من أن السابق لا يكون أصلًا لما
يكون
لاحقًا عليه إلا بتأويلٍ متأخر. وبعبارةٍ أخرى، لولا الوجود المتحقق لهذا اللاحق (أولًا)،
لما كان يمكن القول باشتمال السابق عليه (ثانيًا). وإذَن، حصول اللاحق وتحقُّقه في الوجود
يكون هو الفعل الذي يقع «أولًا». أما الإضافة؛ أي إضافة هذا اللاحق إلى ما يكون سابقًا
عليه في الوقوع، فإنها تكون فعلًا «ثانيًا». وهكذا، إن اشتمال السابق على اللاحق إنما
يكون بالإضافة والإلحاق، وليس بالإحداث والإنشاء.
والغرابة أن ذلك هو ما سيؤكِّده الأستاذ المباشر للبنا، وأحد مؤسِّسي خطاب الإسلام
السياسي، رشيد رضا؛ بما يعنيه ذلك من أن فساد فكرة شمول الإسلام إنما يأتي من داخل
الخطاب ذاته. ويتجلَّى ذلك صريحًا فيما مضى إليه رضا من القول: «لا تقُل — أيها المسلم
—
إن هذا الحكم [الدستوري الحديث] أصل من أصول ديننا، [بمعنى أننا] قد استفدْناه من الكتاب
المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على سيرة
الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس، لما فكرتَ أنت وأمثالك في أن هذا
من الإسلام، ولَكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة،
وفي مصر، ومراكش؛ وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية، ويعد من
أكبر معاونيها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيِّد هم الذين عرفوا أوروبا
والأوروبيين … ألم ترَ إلى بلاد مراكش، الجاهلة بحال الأوروبيين، كيف تتخبط في ظلمات
استبدادها، ولا تسمع من أحدٍ كلمات «شورى»، مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة
الشورى، ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة، وفوض حكم السياسة إلى جماعة
أولي الأمر والرأي … [وإذَن] لولا اختلاطنا بالأوروبيين، لما تنبهْنا، من حيث نحن أمَّة،
أو
أمم، إلى هذا الأمر العظيم.»
١٤٠ وهكذا، لولا «ما حقَّقه الأوروبيون» في مجالات الحكم السياسي وغيره، لما كان
للمسلم، بتعبير رضا، أن «يفكر في أن هذا من الإسلام» أصلًا. وليس من شكٍّ في أن فِعل
التفكير، الذي ينسبه رضا إلى المسلم، في هذا السياق، ليس تفكير ابتكار وإبداع؛ بل تفكير
استتباع وإلحاق، على طريقة الفقهاء. ولسوء الحظ، يبدو أن «فعل التحقيق والإبداع» هو،
وعلى الدوام، للأوروبيين فحسب، فيما لا يعرف المسلمون إلا «فعل الاستتباع والإلحاق».
وبطبيعة الحال، لو كان للمسلمين أن يمارسوا «فعل التحقيق والإبداع»، لكان لهم أن
يجادلوا بأن إسلامهم «السابق» هو أصل إبداعهم «اللاحق». أما أن يتركوا للأوروبيين فعل
«الإبداع»، ويكتفي المسلمون بفعل «الإلحاق»، فإنه ليس لهم أن يضيفوا إبداع غيرهم
«اللاحق» إلى أصلهم «السابق»؛ أو أن هذه الإضافة إنما تكون من قبِيل قراءة اللاحق في
السابق؛ وهي القراءة التي تظل تأويليةً أبدًا. وأبدًا، إن الأمر لا يتعلق بالسعي إلى
دحض
فكرة «شمول الإسلام»، بقدر ما يتعلق بالإلحاح على ما يهيمن على بنائها من حضورٍ تأويلي
كاسح. ويظل جوهر المشكلة قائمًا في أن المسلم، عندما «يفكر في أن هذا [الشيء أو غيره]
من الإسلام» لا يعي أنه إنما يكون منه [أي الإسلام] بما يقوم به هو نفسه من فعلَي
الإضافة والتأويل، وليس من الإسلام بما هو في ذاته.
والحق أن الأمر يمكن أن يتجاوز ذلك إلى أن يكون القول بشمول الإسلام إبراءً لجرح يشقى
به الوعي المسلم، بأكثر مما هو تعبير عن حقيقة. فإذ لم يكن هذا الوعي هو الذي أنتج
التطوير اللاحق، ولم يكن قادرًا، في الآن نفسه، على العيش بعيدًا عن التأثير الطاغي
لهذه التطورات المتلاحقة، فإن الخلاص من هذا المأزق قد تبدَّى له في القول بشمول الإسلام
لكل تطوير لاحق. لكنه يتناسى أن هذا الشمول لا يكون ممكنًا حقًّا إلا إذا كان هذا
التطوير اللاحق من إنتاج من ينتمون إلى الإسلام فعلًا. أما دون ذلك، فإن القول بشمول
الإسلام، لهذا التطوير اللاحق، لن يتجاوز كونه محض ادِّعاء؛ بل إن هذا الشمول سيكون،
بصرف النظر عن حقيقته، مجرَّد حيلةٍ يسعى بها الوعي إلى الإفلات من مأزق انقسامه وشقائه.
وبطبيعة الحال إن ذلك يعني أن القول بالشمول خلاصٌ نفسي، أكثر مما هو قولٌ معرفي.
وإذا كان البناء الفلسفي والمنطقي لفكرة «شمول الإسلام»، التي هي أحد أكثر المفاهيم
مركزيةً عند كل من يسعَون إلى استدعاء الإسلام، لكي يؤدِّي دورًا سياسيًّا حاكمًا في
لحظةٍ
ما، ينكشف عن جوهرية التأويل في بنائها، فإنَّ اكْتِناه معناها ودلالتها، داخل فضاء الفكر
الإسلامي، ينكشف عن جعْل ما ليس من الدين دينًا. فإن الإصرار على إلصاق صفة «الإسلامي»
بكل ممارسةٍ إنسانية إنما ينطوي على ضرورة أن يكون ما ينبغي النظر إليه على أنه من قبِيل
«المباح»، موضوعًا لحكمٍ ديني (وجوبًا أو حظرًا). فإن إطلاق الوصف بأن ممارسةً سياسية
بعينها، هي «إسلامية»، لا بد أن يئول إلى إطلاق الوصف بلا إسلامية نقيضها؛ وبما يترتب
على ذلك من أنها تكون موضوعًا لحكم بالوجوب (الشرعي)، في مقابل نقيضها، الذي لا بد من
أن يكون موضوعًا للحكم بالحظر (الشرعي). وإذ ينتهي الأمر، على هذا النحو، إلى تحويل
المباح إلى موضوعٍ لأحكام الحظر والوجوب (الشرعيَّين)؛ فإنه لا بد من الوعي بما يعنيه
ذلك
من تقليص دائرة المباح الواسعة، في الإسلام، لحساب دائرة الإلزام الضيِّقة. ولقد كان
ذلك
ما راح يحذِّر منه ابن حزم، بوصفه إدخالًا في الدين لما ليس منه.
والحق أن الأمر يتجاوز مجرَّد ذلك إلى ما يبدو من أن الحكم بإسلامية، أو لا إسلامية،
الظواهر والممارسات السياسية يتغاير بين لحظةٍ وأخرى، وبين فريق وآخر؛ على النحو الذي
جعل مفكِّرًا بحجم السيد رشيد رضا يقرر: «أن أكثر علماء الدين في الأستانة، وفي مصر،
ومراكش، يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية، ويعد من أكبر معاونيها [بما ينطوي عليه ذلك
من الحكم بإسلامية هذا النوع من الحكومة من جانب العلماء] … وأن أكثر طلاب حكم الشورى
المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين [بما ينطوي عليه ذلك من الحكم بإسلامية هذا
النوع المغايِر من الحكومة من جانب هؤلاء العلماء].» وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن
الحالة، التي يكون عليها وعي العلماء، وما يترتب عليها من موقفٍ سياسي، تكون هي الأصل
في
قبولهم لظاهرةٍ سياسية بعينها، أو عدم قبولهم لها. وغنيٌّ عن البيان أن حكمهم بقبول ظاهرةٍ
بعينها، أو عدمه، هو مجرَّد فرع على تصوُّرهم لها؛ حيث الحكم على الشيء هو — كما يُقال
—
فرعٌ عن تصوُّره. وإذ يتحدد تصوُّر أي ظاهرة بالسياق التأويلي، الذي لا حضور لها خارجه
(وجودًا وتفسيرًا)، فإن ذلك يئول إلى أن السياق التأويلي هو الذي يحدد انتساب الظاهرة
السياسية — أو عدمه — إلى الإسلام. وهكذا، إن الأمر لا يتعلق بشمول الإسلام كل شيء
فعلًا، بقدر ما يتعلق بوعي يريد منه أن يكون شاملًا ليُضفي نوعًا من الإلزام على ما يفكر
فيه من خلال الارتقاء به إلى مقام الدين.
(٦) من اعتبار السلطة جزءًا من الإسلام إلى اعتبارها جزءًا من الألوهية
وإذا كانت فكرة «شمول الإسلام» بمثابة القلب في خطاب الإسلام السياسي، فإنها قد راحت
تتشكل في جملة مفاهيم أخرى تتحدد بطبيعة استجابات الخطاب للسياق الاجتماعي والسياسي،
الذي يتطور داخله. وضِمن هذا السياق، كان مفهوم «الحاكمية» القُطبي بمثابة إنتاج لفكرة
شمول الإسلام بعد وفاة البنا، وفي إطار التحولات التي كانت تشهدها مصر عند أواسط القرن
العشرين. ومن المفارقات أن هذا المفهوم قد تبلوَر في الهند، وفي إطار ما كانت تشهده،
أيضًا، من تحولاتٍ كُبرى ترافقَت مع استقلالها قبل انتصاف القرن ذاته. وإذَن، إنها الهند،
وهي تستكمل دورها المؤثِّر في بناء الإسلام السياسي. فبعد أن كانت قد فتحَت الباب أمام
ولادته مع الأفغاني عند أواسط القرن التاسع، فإنها، وبعد قرن من ولادته، قد قدَّمَت له
مفهوم الحاكمية، الذي يستمر في الاشتغال به حتى الآن. وهكذا، إذا كان يمكن التمييز في
خطاب الإسلام السياسي بين لحظتَين؛ ارتبطَت أولاهما باعتبار السياسة ركنًا من أركان الدين
(الأفغاني)، فيما تميزَت ثانيتهما بالتعالي بمسألة الحكم إلى حيث أصبحَت من لوازم التوحيد
(المودودي)، فإن حوض الإسلام الهندي يكون هو الذي قدَّم للإسلام السياسي الشخصيتَين الأبرز
في مسار انبعاثه وتطوره.
أقام المودودي بناء مفهوم الحاكمية، الذي هو المفهوم الأكثر مركزية في خطابه على
الإطلاق، على بعض من الأفكار، التي استعارها من مُنَظِّر السلفية الأكبر ابن تيمية؛ وهي
الأفكار التي يبدو أنها قد وصلَته عبْر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي كانت أفكاره قد
وفدت إلى شبه القارة الهندية منذ القرن التاسع عشر. وتكاد فكرة ابن تيمية، التي ميَّز
فيها بين توحيد «الألوهية» وتوحيد «الربوبية»، تكون هي الأساس الذي أقام عليه مفهوم
الحاكمية. ويترتب ذلك على حمولة المعنى التي أعطاها ابن تيمية لكل واحد من نوعَي
التوحيد؛ إذ فيما توحيد الربوبية عنده أن الله هو الحاكم وحده لعالم الكون، فإن المعنى
الذي يعطيه لتوحيد الألوهية يشير إلى أن الله هو وحده الحاكم المسيطر في عالم الإنسان.
ولعلَّه يمكن القول إن ابن تيمية قد استهدف، من وراء هذا التمييز بين ضربَين من التوحيد،
استيعابَ الآثار، التي نجمَت عن غزوات الصليبيين والتتار للمشرق الإسلامي. فقد خلقَت
هذه
الحروب أوضاعًا تلاقت فيها أقوام من الغرب (الفرنجة)، ومن الشرق (التتار) مع المسلمين؛
ما أدَّى إلى جعل المشرق الإسلامي ساحةً انصهرَت فيها العادات، والعبادات، والعقائد،
والأعراف المتباينة، التي تحملها كل هذه الأقوام المتنافرة. ومن هنا، تحديدًا، ما بدا
لابن تيمية من أن الإسلام قد داخلَته بدعٌ شركية لا بد من تطهيره منها؛ وعلى النحو، الذي
جعله يبلور التمييز بين ضربَين من التوحيد. فقد أمكنه هذا التمييز بين ضربَي التوحيد
من
الإمساك بالأداة، التي يقدر بها على إنتاج ما يبتغي من ضروب المفاصلة، والإقصاء داخل
سياقٍ اجتماعي يتشكل فيه الإسلام على نحوٍ بات فيه مطلوبًا منه أن يتَّسع لممارسات وأعراف
هؤلاء الوافدين الجدد. وحين يدرك المرء أن هؤلاء الوافدين الجدد كانوا، على الرغم مما
يخالط إسلامهم المحدث من ممارساتٍ غريبة، يتميزون بمكانة في التراتبية الاجتماعية تعلو
بهم فوق علماء الدين،
١٤١ فإن له أن يتصوَّر صراعًا يسعى فيه هؤلاء العلماء ليس فقط إلى الإعلاء من
سلطتهم؛ بل وتنزيل هؤلاء الوافدين إلى مقام ناقصي الإسلام. وبطبيعة الحال، إن التمييز
بين ضربَي التوحيد قد تبلوَر ضِمن هذا السياق الصراعي، الذي بدا لعلماء الدين (وابن تيمية
أحدهم) أنه لا يمكن حسمه لصالحهم على نحوٍ نهائي، إلا بالطعن في معتقد هؤلاء الوافدين
في
التوحيد. ومن هنا، راح يتبلور من التمييز بين ضربَين من التوحيد يتسع أحدهما، وهو «توحيد
الربوبية» لهؤلاء الوافدين الذين وضعهم ذوو السلطان في مكانةٍ أعلى من العلماء، بينما
سيكون «توحيد الألوهية» الأداة التي سيجري تنزيلهم بها إلى مقام ناقصي الإسلام لكي يصبح
تنزيلهم في الرتبة الاجتماعية واجبًا.
وهكذا، إن التمييز بين ضربَي التوحيد قد نشأ عن السعي إلى إنتاج ضرب من المفاصلة بين
من سيجري اختصاصهم بأنهم أصحاب الإسلام الصحيح، وبين من سيجري وصمهم بأن الشرك يخالط
إسلامهم، لما يصدر عنهم من ممارساتٍ شركية تتبدَّى في عدم إفرادهم الله وحده بالعبادة.
إن
ذلك يعني أن التمييز بين نوعَي التوحيد قد نشأ كجزءٍ من استراتيجيةٍ للإقصاء والعزل داخل
سياقٍ اجتماعي يشتعل فيه الصراع من أجْل المكانة، بكل ما يؤشِّر إليه ذلك من دلالةٍ سياسية
لافتة. ولعلَّ ما يؤكِّد حضور المكوِّن الاجتماعي/السياسي في هذا التمييز هو ما جرى فعلًا
من استخدام الشيخ محمد بن عبد الوهاب له كسلاحٍ للدمج والتوحيد السياسي للجزيرة العربية
في القرن الثامن عشر.
ولعلَّ ذلك ما يؤكِّده، من جهةٍ أخرى، ما جرى من استخدام المودودي لهذا التمييز ذاته
بين
ضربَي التوحيد في بناء مفهوم «الحاكمية»، الذي يستحيل فهمه، على أي نحو، خارج مجال
الاجتماع السياسي. والملاحَظ أن السياسة تدخل كمكوِّنٍ مركزي في بناء المفاهيم كافة،
التي
يشتغل بها المودودي؛ وحتى الأكثر مفارقةً وتعاليًا كالألوهية مثلًا. فإن «أصل الألوهية
وجوهرها هو السلطة … وأن كلًّا من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى، وأنه لا فرق بينهما
من حيث المعنى والروح، فالذي لا سلطة له لا يمكن أن يكون إلهًا، ولذلك لا معنى لألوهية
من لا سلطة له».
١٤٢ كما أن «كلمة الدِّين تُستعمل في كلام العرب بمعنى القهر، والسلطة، والحكم،
والأمر، والإكراه على الطاعة … ووردَت في القرآن بمعنى السلطة العليا، ثم الإذعان لتلك
السلطة العليا، وقبول إطاعتها، وعبوديتها. والمراد بإخلاص الدين لله ألا يُسلم المرء
لأحد من دون الله بالحاكمية والحكم والأمر».
١٤٣ بل إنه يبلغ حد «أن كلمة الدين لم ترِد، في روايات القرآن عن بني إسرائيل،
بمعنى النِّحلة، أو الديانة، بل أُريد بها الدولة، ونظام المدنية».
١٤٤ وهكذا، فإن السياسة تخترق مفهومَي الألوهية والدين من خلال اختزالهما، على
نحوٍ كامل، في «السلطة»، التي هي، أيضًا، قلب «الحاكمية» ومعناها؛ لأن من لا سلطة له
لا
يمكن أن يكون في موقع «الحاكمية». وجدير بالاعتبار أنه ليس من معنًى لذلك إلا أن
«الحاكمية» هي جوهر الألوهية والدين معًا. وبما هي كذلك، فإن إيمان المرء بالألوهية
والدين لا يمكن أن يتم إلا بالإيمان بالحاكمية؛ وبما سيترتب على ذلك من أن إنكارها سوف
يكون إنكارًا لهما، وكفرًا بهما.
وإذ السلطة/الحاكمية هي جوهر الألوهية، فإنه كان لا بد من تصوُّرها بما يليق بجلال
الألوهية وتعاليها المُطلَق. ومن هنا، تصوَّرها المودودي مطلَقةً وشاملة لا يُفلت شيئًا؛
أي
شيء على الإطلاق، من الخضوع لها؛ بكيفيةٍ بدا معها وكأنه الانتقال من «شمول الإسلام»،
عند البنا، إلى «شمول السلطة/الحاكمية» عند المودودي. والحق أن المودودي لم يفعل إلا
أن بلغ بالبنا إلى نهاياته، التي كان لا بد من أن يبلغها على أي حال. فإنه إذا كانت
فكرة «شمول الإسلام» هي أداة البنا (كما سبق القول) في جعل السياسة ركنًا من أركان
الإسلام، فإنَّ فكرة «شمول السلطة/الحاكمية» كانت أداة المودودي في إدخال السياسة في
تركيب الألوهية نفسها. والجدير بالاعتبار، هنا، ما يبدو من أن النزعة الشمولية (Totalitarianism) هي المآل الذي ينتهي إليه خطاب تسييس الإسلام عند كلا الرجُلَين. وإذ
تعني الشمولية أن يغيب الذاتي المتعين ليحضر الكلِّياني الصوري فحسب، فإن ذلك يعني أنه
لا
حضور للإسلام، ضِمن هذه النزعة الشمولية، إلا بما هو محض إطارٍ كلِّي مجرَّد لا مجال
فيه لأي
حياة أو تطور. وبما يرتبط بذلك من التنزيل القهري له على الواقع.
تأكيدًا لهذا الشمول، مضى المودودي إلى أنَّ «هذه السلطة غير قابلةٍ للتجزئة، فلا
يمكن
أبدًا أن السلطة في أمر الخلق بيد، وفي أمر الرزق بيدٍ أخرى … كما لا يمكن أن يكون
الإنشاء في يد، والمرض والشفاء في يدٍ أخرى، والموت والحياة بيدٍ ثالثة».
١٤٥ وهو يؤسِّس هذا الشمول على أنه «لو كان الأمر [على غير هذا الشمول] لما أمكن
لنظام هذا الكون أن تقوم له قائمة، فمما لا بد منه أن تكون السلطات والصلاحيات بيد حاكمٍ
واحد يرجع إليه كل ما في السموات والأرض».
١٤٦ وهكذا، ينبني شمول السلطة/الحاكمية على أن تجزئتها ستؤدِّي إلى الإخلال
بنظام الكون كله. وإذا كان المودودي قد اتخذ الأمثلة، التي يؤكِّد بها على شمول السلطة
من
مجال الظواهر الكونية الكُبرى (كالخلق، والرزق، والحياة، والموت، وغيرها)، فإن ذلك ما
لا
يمكن للمرء أن يرفض القول بشمول السلطة بخصوصه. لكن المشكلة تأتي من أن المودودي لا يقف
بشمول السلطة عند حد هذه الظواهر الكونية؛ بل يتجاوزها إلى غيرها من ظواهر الاجتماع
والسياسة. فإن «مما يقتضيه توحيد السلطة العليا أن يكون جميع ضروب الحكم والأمر راجعة
إلى مُسيطرٍ قاهر واحد، وألا ينتقل جزء من الحكم إلى غيره، فإنه إذا لم يكن الخَلق إلا
له،
ولم يكن له شريك فيه، وإذا كان هو الذي يرزق الناس، ولم تكن لأحد من دونه يد في الأمر،
وإذا كان هو القائم بتدبير نظام الكون وتسيير شئونه، ولم يكن له في الأمر شريك، فما
يتطلبه العقل ألا يكون الحكم والتشريع إلا بيده كذلك، ولا مبرر لأن يكون أحدٌ شريكًا
له
في هذه الناحية أيضًا».
١٤٧ وإذَن، إنه الانتقال من تدبير «نظام الكون» إلى تدبير «نظام الاجتماع
والسياسة»، ومع إسقاط أي تمايزات بين المجالَين اللذين لا يمكن التسوية بينهما أبدًا.
وهنا، فإنه إذا كان كبار فقهاء السياسة، من أهل السُّنة، كأبي بكرٍ الطرطوشي، وغيره،
قد
انتقلوا من تدبير الكون إلى تدبير الاجتماع، فإنما ليضعوا للحاكم سلطة في مجال الاجتماع
تُماثِل السلطة التي لله في المجال الكوني. فإنه «كما لا يستقيم سلطانان في بلدٍ واحد
لا
يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسْره في سلطان الله تعالى، كالبلد الواحد في يد سلطان
الأرض».
١٤٨ ولكن تمثيل سلطة الحاكم في مجال الاجتماع بسلطة الله في المجال الكوني، لا
يلغي تمايز الواحدة منهما عن الأخرى؛ بمعنى أن أحدًا من فقهاء السياسة الكلاسيكيين لم
يقُل بوحدة السلطة في مجالَي الكون والاجتماع معًا؛ بل ظلوا يمايزون بينهما، وإن قاسوا
إحداهما على الأخرى. ولعلَّ المودودي هو أول من انتقل من القول بالتماثل بين السلطة،
في
مجال الاجتماع والسياسة، وبين السلطة، في مجال الطبيعة والكون، إلى توحيد السلطة في
المجالَين معًا. وإذا كان الطرطوشي قد احتفظ، في ظل ما أقامه من التماثل، بالفارق بين
«الله» صاحب السلطة في الكون والطبيعة، وبين «سلطان الأرض» صاحب السلطة في الاجتماع
والسياسة، فإن منطق توحيد السلطة، الذي تبنَّاه المودودي، سوف يلغي أي فارق بين صاحب
السلطة في المجالَين (الكوني والاجتماعي/السياسي). وهنا، يكمن المأزق الذي سيجعل
المودودي يرتفع بغير الإلهي (وهو سلطان الأرض) إلى مقام الإلهي؛ وعلى النحو الذي يدخل
به (ويا للغرابة) إلى دائرة الممارسات الشركية، التي بلوَر خطابه كله من أجْل دحضها
وإدانتها. وينشأ ذلك عن استحالة أن يكون أحدٌ من غير بني البشر هو صاحب السلطة في
مجال الاجتماع والسياسة؛ بما يترتب على ذلك من القول بأن جعل الله هو صاحب السلطة في
هذا المجال ليس إلا نوعًا من السعي إلى إضفاء قداسة الإلهي وتعاليه على صاحب السلطة من
بني البشر. وإذ لا معنى لذلك إلا الشرك، فإن ذلك يكشف عن انتقام الدين من كل من يقومون
بتسييسه؛ حيث يلقي بهم خارج حدوده.
وعلى أي حال، إن ما يتبنَّاه المودودي من توحيد السلطة إنما يقوم على تسويته، التي
لا
تستقيم أبدًا، بين مجال الكونيات، ومجال السياسات. فإن ممارسة السلطة في كل واحد من
المجالَين لا تتحقق على الشاكلة نفسها أبدًا. فإنه، إذا كان الله يمارس سلطته في مجال
الكون
والطبيعة من خلال القوانين، والسنن الكونية، فإن هذه القوانين والسنن ذات وجود أنطولوجي
موضوعي؛ وعلى النحو الذي تكون فيها مستقلة على نحوٍ كامل عن الوعي وكل عمليات الفهم.
وبعبارةٍ أخرى، إن ما تتميز به من الوجود الأنطولوجي الموضوعي يجعلها تشتغل دومًا، على
النحو نفسه، سواء كانت موضوعًا لفهم البشر أم لم تكن. وإذا كان المودودي يتصوَّر أن الله
يمارس سلطته في مجال الاجتماع والسياسة من خلال القوانين، التي أنزلها في كُتب الوحي،
فإنه يَلزم تأكيد أن هذه القوانين لا تتميز بالوجود الموضوعي الأنطولوجي نفسه الذي تتميز
به القوانين الكونية والطبيعية؛ لأنها تتبدل بحسب أوضاع المخاطَبين بالوحي. ولهذا إن
القوانين الموحاة في الكتب المقدَّسة لا توجد أبدًا في استقلال عن الوعي؛ بل تتأثر
بعمليات الفهم البشري لها؛ التي هي عملياتٌ متحوَّلة بطبيعتها. ومن هنا تظل قوانين
الاجتماع والسياسة، حتى التي نطق بها الوحي، قابلة للتبدل والتغيير عكس القوانين
الكونية، التي لا تقبل التغيير، والتبدل أبدًا. وإذا كان وقوع قوانين الاجتماع والسياسة
في قبضة عمليات الفهم المفتوحة أبدًا هو الأصل في قبولها التغيير والتبدل، الذي يستمر
أبدًا، فإن ذلك يئول إلى استحالة الإمساك بها في حضورها الإلهي السابق على دخول الفهم
الإنساني في تركيبها. ومن حُسن الحظ أن ذلك ما يمكن الانتهاء إليه من ملاحَظة للمودودي
نفسه قطع فيها بأن «النبي قد أوضح للناس أن الله — سبحانه وتعالى — لا يؤتي قانونه
للناس مباشرة، وإنما يؤتيه لهم بواسطة أنبيائه ورسله».
١٤٩ وبطبيعة الحال إن وساطة النبي لا تقف فقط عند مجرَّد التبليغ والنقل؛ بل
تتجاوز إلى البيان، والتفسير، والشرح، والتطبيق؛ وهي، جميعًا، نوافذ يتسرب من خلالها
الشرط الإنساني (التاريخي والمعرفي) إلى بناء هذه القوانين. وغنيٌّ عن البيان أن دخول
الفهم البشري في تركيب هذه القوانين إنما يئول إلى أن سلطة الحكم بها، في مجال الاجتماع
والسياسة، لا بد من أن تكون إنسانية في جوهرها. وإذ هو الدخول اللازم — والحال كذلك —
للشرط الإنساني في تركيب السلطة في مجال الاجتماع والسياسة، فإنه ليس من معنًى للقول
بإلهيتها إلا محض السعي إلى إسباغ قداسة الإلهي على ما لا يمكن إلا أن يكون إنسانيًّا
بطبيعته. ويبقى، بطبيعة الحال، أن كل تعالٍ بالسلطة إلى مقام الإلهي إنما يقصد إلى
تحصينها ضد الرقابة والمحاسبة.
وإذا كانت مساواة المودودي الفاسدة بين السلطة في مجال الكون، وبين السلطة في مجال
الاجتماع، تنتهي إلى التعالي بالحاكم في مجال الاجتماع والسياسة (الذي يَلزم أن يكون
بشريًّا) إلى مقام الإلهي، فإنه ينتهي، من جهةٍ أخرى، إلى التنزل بالمحكومين إلى مقام
الجمادات، أو الأحياء غير العاقلة. فإن اعتبار القوانين الفاعلة في مجال الكون مساوية
للقوانين الفاعلة في مجال الاجتماع والسياسة؛ يؤدِّي إلى تنزيل الكائنات المحكومة بقوانين
الاجتماع والسياسة (وهم من البشر) إلى رتبة الجمادات والأحياء غير العاقلة نفسها، التي
تحكمها القوانين الطبيعية والكونية. وهكذا، يتبدَّى، على أجلَى ما يكون، الدور الوظيفي
الذي تؤدِّيه فكرة الحاكمية في المجال السياسي. والغريب، حقًّا، ما يبدو من أن المودودي
كان، في كل ذلك، يستأنف تقاليد أسلافه الكبار من الأشاعرة في إقامة بناء عالم الاجتماع
والسياسة على الأساس نفسه الذي يقوم عليه عالم الكون والطبيعة؛
١٥٠ بما رتَّبوه على ذلك من التعالي بالحاكم (عبر ما أقاموه من المماثلة بين الله
والسلطان) من جهةٍ، في مقابل تنزيل المحكومين، والتدني بهم (عبر تمثيلهم بالجمادات
والحيوانات) من جهةٍ أخرى.
وإذا كان المودودي هو الذي أشاع مفهوم «الحاكمية»، واستخدمه صراحةً في الحقل السياسي
الإسلامي المعاصر، فإنه يبقى أنه لم يفعل إلا أن وصل بالمقدمات الأولى الراقدة في نصوص
الأشاعرة والحنابلة إلى نهاياتها القُصوَى. وإذ راح المفهوم يرتحل، في اللاحق، إلى
العالم العربي مع الموجة الثانية من موجات ارتحال الإسلام السياسي من شبه القارة
الهندية إلى العالم العربي، فإنه يمكن للمودودي أن يحتج بأنه لم يفعل في الحقيقة إلا
أنْ
رد إلى العرب بضاعتهم بعد أن تخمَّرَت في البيئة الهندية في أواسط القرن العشرين. فقد
كان
المسلمون الهنود يعملون، آنذاك، من أجْل الانفصال عن المحيط الهندوسي الهائل، والاستقلال
بدينهم في دولةٍ يحكمها الإسلام، بعد أن تعلموا من الأفغاني أنه لا سبيل إلى إقامة «دين»
الإسلام إلا عبْر إقامة «حُكم» الإسلام. وهكذا، تبلوَر المفهوم في إطارٍ هوياتي يسوده
السعي
إلى الخروج من هويةٍ إلى أخرى. وإذ كانت الهوية، التي ينسلخ المسلمون الهنود منها، ذات
طابعٍ قومي، فإنه لم يكن أمام الهوية البديلة إلا أن تكون ذات طابعٍ ديني محض. ويعني
ذلك
أن مفهوم الحاكمية قد تبلوَر في إطار تحول الدين إلى هوية؛ وهي تجربةٌ فريدة عاشها
المسلمون الهنود، ولم يكن لها ما يماثلها في العالم العربي، الذي ارتحل إليه المفهوم.
وبطبيعة الحال، حين تقرر جماعةٌ ما أن يكون الدين بمثابة الهوية، التي تُميز بها نفسها،
فإن انشغال هذه الجماعة سوف ينصرف إلى استبعاد كل ما يهدد النقاء الخالص لهذه الهوية؛
بما يفسر أن «الإقصائية» سوف تكون هي محور تفكيرها كله.
وإذا كان مفهوم الحاكمية قد تبلوَر — والحال كذلك — ضِمن سياقٍ هوياتي إقصائي ومنغلق
كما
تبين عنه تجربة المودودي، فإن ذلك هو ما يؤسس لخطورته الهائلة، التي تتبدَّى في حقيقة
أنه
لا يقدر أن يشتغل إلا على نحوٍ دموي وقتالي. ويرتبط ذلك بأن المسكونين بهاجس الهوية
النقية لا يتوقفون عن رؤية الآخر، الذي هو كل من لا يشاركهم هويتهم، كتهديدٍ لا بد من
القضاء عليه، والتخلص منه. ومن هنا، ما سيتبنَّاه كل أصحاب هذا الهاجس الهوياتي المغلق
من
منطق المفاصلة والاستعلاء، الذي سيتطور عند سيد قطب بالذات؛ إلى الحد الذي سيكون معه
العالَم بأسْره عدوًّا لا بد من إخضاعه ومحاربته من أجْل أن ترتقي جماعته المسلمة إلى
حيث
ينعقد لها لواء الأستاذية عليه. وغنيٌّ عن البيان أن هذه هي الأيديولوجيا، التي تصطف
فيالق الجهاديين تحت بيارقها، وهم ينشرون الخراب والفوضى في سائر البقاع.
وفي إطار الاستعلاء، والمفاصلة، فإنه إذا كانت هذه الفيالق الجهادية تؤجِّج حروبها
تحت
راية «الحاكمية»، فإنها قد راحت تنحطُّ بخصومها إلى درك «الجاهلية»؛ وعلى النحو الذي
كان
لا بد معه من أن يتم تجسيد مفهومَي «الحاكمية والجاهلية» في كياناتٍ اجتماعية وسياسية.
ومن هنا، ما سيذهب إليه سيد قطب، الذي كان هو من تلقَّف الموجة الثانية لتسييس الإسلام
القادمة، أيضًا، من الهند، من أن «الإسلام لا يعرف إلا نوعَين من المجتمعات؛ مجتمع
إسلامي ومجتمع جاهلي».
١٥١ وهكذا، عاد الانقسام القديم بين «دار الإسلام» و«دار الكفر»، مرةً أخرى، من
خلال مفهومَي الحاكمية والجاهلية؛ فأصبح هناك ما يمكن القول إنه «مجتمع الحاكمية»، في
مقابل نقيضه السادر في الجاهلية. لكنه بدا أن تغييرًا قد طرأ واتسع بمقتضاه مجتمع
الجاهلية حتى شمل «العالم [الذي] يعيش اليوم كله في جاهلية».
١٥٢ وأصبح يدخل فيه حتى المجتمع الذي «لا ينكر وجود الله تعالى، ولكن يجعل له
ملكوت السموات، ويعزله عن ملكوت الأرض، فلا يطبق شريعته في نظام الحياة، ولا يُحكِّم
قيَمه التي جعلها هو قيَمًا ثابتة في حياة البشر، ويبيح للناس أن يعبدوا الله في البيَع،
والكنائس، والمساجد، ولكنه يحرِّم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في حياتهم، وهو،
بذلك، ينكر، أو يعطل ألوهية الله في الأرض».
١٥٣ وهكذا، إن مجتمع الجاهلية لم يعُد ذلك المجتمع، الذي لا يدين أهله بدين
الإسلام؛ بل الذي لا تقوم فيه حكومة الإسلام، ودولته. فقد يدين كل أعضاء المجتمع
بالإسلام، ومع ذلك، يظل مجتمعًا جاهليًّا؛ لأن أهله لا يرَون في الحكومة رُكنًا من أركان
الإسلام، التي لا يكتمل دينهم إلا بإقامتها، بحسب دُعاة الحاكمية. وفي المقابل، إن
«المجتمع الإسلامي» قد تضاءل إلى حد أنه لم يعُد يتسع إلا لدُعاة الحاكمية والعاملين
على
إخضاع الناس لسلطانها؛ وهم «عصابةٌ من أمَّة المصطفى
ﷺ تسعى، من منطلق
واجبها الشرعي، لإعادة الخلافة الإسلامية حامية هذا الدين، باذلة في ذلك أرواحها. فقامت
جماعة حسن البنا في مصر، والدكتور مصطفى السباعي في سورية، والمودودي في باكستان، وفي
إيران كان نواب صفوي، وغيرها من الحركات الإسلامية، التي كلما بدأَت تعمل أجهضتها القوى
الكافرة لتقوم غيرها لتكمل المسيرة غير عابئة بما لحق بسابقتها. وهكذا صراعٌ دائم من
أجْل
إعادة الخلافة الإسلامية».
١٥٤ وإذَن، إنه التقابل بين «أهل الحاكمية»، الذين يجمعهم السعي من الإسلاميين
الحركيين إلى إقامة حكومة الإسلام، وبين «أهل الجاهلية»، الذين لا ينحصرون في غير
المسلمين فحسب؛ بل تدخل فيهم الغالبية العظمى من المسلمين الذين لا يعملون (حكامًا
ومحكومين) من أجْل إقامة حكم الإسلام.
وهنا يَلزم التنويه إلى أن مفهوم «الجاهلية» يندرج مع مفهوم «الحاكمية» في إطار
النظرية ذاتها، التي تميز في التوحيد بين «توحيد الربوبية» و«توحيد الألوهية»؛ بمعنى
أنه إذا كانت «الحاكمية» بمثابة النتيجة القصوى، التي ينتهي إليها «توحيد الألوهية»،
فإن «الجاهلية» تنشأ عن وقوف المرء عند الإقرار بتوحيد الربوبية وحدَه. فإن ثمة الإلحاح
عند كل أصحاب هذه النظرية في التوحيد على أن الكفار من أهل الجاهلية لم يكونوا، على زمن
النبي، منكرين للتوحيد بالكلِّية؛ بل إنهم كانوا يُقرُّون بنوعٍ واحد منه فقط هو «توحيد
الربوبية». ولكن هذا الإقرار لم يكن كافيًا وحده لإدخالهم في الإسلام، ولهذا، إن النبي
قد قاتلهم، واستحل دماءهم وأموالهم. ويعني ذلك، بطبيعة الحال، أنهم لا يعدون «توحيد
الربوبية» كافيًا لإخراج القائل به من درَك «الجاهلية»، وقطعوا بأن «توحيد الألوهية»،
بكل ما يترتب عليه من النتائج والمآلات، هو المحدد الأوحد للدخول في الإسلام.
ولقد كان ذلك هو الأساس، الذي بنى عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بالذات، اعتبار
عامة المسلمين في عصره كفارًا ومشركين مرتدِّين كأهل الجاهلية الأولى. ومن المعلوم أنه
قد
رتَّب على ذلك جملة أحكام تتعلق بوجوب قتالهم، واستحلال دمائهم، وأموالهم؛ حيث إن الله
قد
شرع الجهاد من أجْل هذه المسألة بالذات وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ (الأنفال: ٣٩). فإذ هي الجاهلية والكفر، فإنه لا شيء
يقوم في مواجهتها إلا القتال والحرب، ولا سبيل، أبدًا، إلى الحوار والتعايش المشترك مع
المختلِف؛ حيث لا يحضر الفرد في هذه السردية إلا بهويته الدينية وحدها. فإما أن يكون
المرء مسلمًا فيكون دمه حرامًا، أو يكون كافرًا من أهل الجاهلية، ولا بد من دحره،
والقضاء عليه. وهنا، يَلزم التنويه إلى أن وصف المسلم لا ينطبق، عند هؤلاء، إلا على
أولئك الذين يدخلون في دائرة من سيجري الاصطلاح على أنها «الجماعة المسلمة»، التي يُقر
أفرادها بتوحيد الألوهية بكل ما يترتب عليه من مفاهيم الحاكمية، والعبودية، والجاهلية،
وغيرها من المفاهيم ذات الطبيعة التأسيسية في خطاب الجماعات الجهادية. وإذ يُحيل اختصاص
أفراد «الجماعة المسلمة» وحدها بالإسلام إلى إخراج «المسلمين» من غير أعضاء هذه الجماعة
من الملة، فإن ذلك هو ما سيؤسس لما درجَت عليه هذه الجماعات من اعتبار المجتمع
«جاهليًّا» يجب — على قول قطب — أن «نستعلي عليه … فليست مهمتنا أن نصطلح مع هذا
المجتمع الجاهلي، ولا أن ندين بالولاء له، فهو، بهذه الصفة، صفة الجاهلية، غير قابل لأن
نصطلح معه»؛ بل أن نحاربه.
وسوف يواصل ورثة قطب هذا المسار القتالي من بعده؛ «فجماعة الجهاد الإسلامي، التي
رأت
في واقع اليوم صورةً مكرورة صارخة للجاهلية الأولى، لم ترَ سوى «المفاصلة» و«الصدام»
سبيلًا للخلاص من هذا الواقع، وطريقًا إلى عودة الإسلام من جديد. وبهذا، نحن نستبعد نهج
ما يسمونه الإصلاح من خلال المؤسسات الطاغوتية؛ لأننا نرى أن هدم هذه المؤسسات هو
الطريق للخلاص، وهو طريق القُربى إلى الله».
١٥٥ وترتيبًا على ذلك، لا شيء إلا المواجهة بين أهل الحاكمية، وأهل الجاهلية؛
وهي مواجهة لا يمكن الاكتفاء فيها بالحُجة واللسان؛ بل لا بد فيها من السيف والسِّنان.
وهكذا، إذا كان «بعض المتحدثين باسم الإسلام يقصرون المواجهة [مع الجاهلية] على
المواجهة الفكرية، دون التطرق إلى المواجهة المادية، فإن هذا قصر لم نجد له مبررًا
ومسوغًا، إلا أن القائلين به لم يقرءوا سيرة نبيهم، وإنهم أقل من أن يلتزموا سنة نبيهم.»
١٥٦ وفي مواجهة هؤلاء، يحتج من ابن تيمية بأنه «إذا كان بعض الدين لله، وبعضه
لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله … [كما يورِد عنه قوله] فمن عدل عن
الكتاب قُوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف.»
١٥٧ وإذَن، إنها المواجهة الشاملة «على المستوى الفكري، حتى نقوِّض هذه الأبنية،
التي تأسسَت في مجتمعنا، حتى أصبح الإسلام غريبًا فيه. وعلى المستوى القتالي، لإيقاف
الزحف العلماني الغربي، وردع كل من تسوِّل له نفسه لإعمال مخططات التخريب في مجتمعاتنا،
وللإحاطة بالأنظمة العلمانية، التي تمثِّل أحدث صورة من صور الشيطان في الأرض، وآخر زيٍّ
تزيَّت به الجاهلية في مجتمعنا. وعلى المستوى الاجتماعي، حتى نهدم المؤسسات الاجتماعية
القائمة على حرب الإسلام، وقامت لتأسيس المجتمع على غير الإسلام».
١٥٨ وفي كل الأحوال، يَلزم تأكيد أن القصد من وراء هذه المواجهة الشاملة ليس
شيئًا إلا إقامة «الدولة» بما هي عمود الدين وأساسه.
وعلى الرغم من أن هذه المواجهة الشاملة الأبعاد قد ظلَّت محتدمة على مدى العقود
الأخيرة، بين الدولة الموسومة بالجاهلية والمروق من جهةٍ، وبين فيالق الإسلاميين
الحركيين المقاتلين من أجْل الحاكمية من جهةٍ أخرى، فإن وضع الدولة العربية قد ظل ثابتًا
حتى انفتح الباب أمام ثورات الربيع العربي، التي أحضرَت هؤلاء الإسلاميين الحركيين إلى
صدارة المشهد، بعد أن تعرضَت الدولة لهزةٍ عنيفة خلخلت ثباتها. وضِمن سياق احتلال
الإسلاميين لصدارة المشهد، فإن الأمر قد تجاوَز صعود بعضٍ منهم، في عمليةٍ سياسية، إلى
سُدة الحكم في بعض البلدان، كمصر وتونس، إلى انخراط البعض الآخر منهم (وهم الأكثر
عنفًا ودموية) في بناء دولة الإسلام في الشام والعراق (داعش). لقد بدا، إذَن، أن ثورات
العرب هي (ويا للغرابة) التي بلغَت بخطاب تسييس الإسلام ذروة نشاطه وفاعليته. وإذا كانت
الشريعة قد احتلَّت مكانةً مركزية في نقاشات الإسلاميين وحواراتهم، فإن ما تجدر ملاحَظته
هو
الإلحاح، من جانب دُعاة الخطاب وفاعليه السياسيين، على اختزال الشريعة في جانبها
الإجرائي البراني؛ أي بما هي محض أحكام وحدود. ولعلَّه يمكن الوقوف على هذا الإلحاح من
خلال متابعة ما جرى في مصر بعد صعود الإسلاميين إلى السلطة فيها. ولسوف تتحقق هذه
المتابعة، من خلال تحليل المفهوم، الذي أقامت عليه جماعة الإخوان المسلمين أيديولوجيتها
السياسية، وهو «الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية»، من جهةٍ، ومن خلال النقاشات، التي
أدارها السلفيون حول المادة الخاصة بالشريعة في الدستور، من جهةٍ أخرى.
(٧) من الحاكمية إلى المرجعية الدينية للدولة المدنية
لقد تمثَّل أهم ما طرحَته جماعةُ الإخوان في السياق، الذي رافق صعودها إلى سُدة الحكم
في
مصر بعد سقوط مبارك، فيما راحت تروِّج له من السعي إلى بناء «دولةٍ مدنية ذات مرجعية
دينية»؛ وعلى النحو الذي يمكن معه تأكيد أن مفهوم «المرجعية الدينية» للدولة قد تميز
بحضورٍ بالغ المركزية في مقاربة الجماعة لمستقبل الدولة المصرية. وضِمن هذا الحضور
المركزي، الذي تقدِّم فيه الجماعة ترتيبًا للعلاقة بين الديني والمدني على نحوٍ يكون
فيه
الديني هو المرجع المحدد للمدني، فإنه يَلزم التنويه إلى أن هذا الترتيب للعلاقة يقوم
على نوع من الافتراض المضمَر بأن الديني هو الإلهي الثابت، في مقابل المدني الذي هو
الإنساني المتغير؛ وعلى النحو الذي لا بد معه أن يدور المدني المتغير حول الديني
الثابت، أو حتى وراءه. فإذ «المرجع» هو ما يتم الرجوع إليه التماسًا لمخرَج من خلاف،
فإنه كان لا بد من تصوُّره على نحوٍ من الثبات الذي يسهل افتراضه في الديني/الإلهي،
بأكثر من المدني/الإنساني.
وإذا كان أحد لا يجادل في افتراض أن «المدني» هو الإنسان المتغير، فإن الافتراض
القائل أن «الديني» هو الثابت على النحو الذي يجعل منه مرجعًا، إنما يحتاج إلى نوعٍ من
التحديد والضبط؛ إذ الحقُّ أن تأمُّلًا، ولو أوليًّا، في الدين؛ أي دين، يكشف عن إمكان
التمييز فيه بين جانب عقَدي/تعبُّدي ينتظم علاقة الإنسان بربه (وهو ما يقال إنه يختص
بالشأن أو المجال الخاص)، وآخر تشريعي/تعاملي ينتظم علاقة الإنسان (فردًا وجماعة)
بغيره (وهو ما يقال إنه، على عكس سابقه، يخص الشأن أو المجال العام). وضِمن سياق هذا
التمييز، إن الدين يقبل (وذلك بحسب الإسلام نفسه) أن يكون، في جانبه العقَدي/التعبُّدي،
موضوعًا للاتفاق بين أهل الأديان جميعًا؛ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:
٦٤)، ولكنه، بحسب الإسلام أيضًا، يقبل أن يكون، في جانبه التشريعي/التعاملي موضوعًا
للاختلاف والتبايُن؛ حيث قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
(المائدة: ٤٨). وإذَن، لا يمكن افتراض الدين موضوعًا للثبات إلا في أحد جانبَيه (وأعني
جانب العقيدة، وليس الشريعة)، وليس، أبدًا، على نحوٍ مطلَق؛ وهو ما يكاد يكون موضوعًا
لاتفاق الكافة تقريبًا، وعلى النحو الذي لا يختلف فيه القرطبي مع محمد عبده، أو الشيخ
شلتوت؛ إذ الحق أن الجانب التشريعي للدين لا يختلف، فحسب، من دين إلى آخر، بل يختلف ضِمن
الدين نفسه من لحظة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى. والحق، أيضًا، أن حضور الاختلاف ضِمن
هذا الجانب من الدين، وضِمن الوضع الإنساني على العموم، يبلغ حدًّا من المركزية، يؤكِّده،
من جهةٍ، الإقرار الإلهي بهما، وعلى النحو الذي يستحيل معه إهمالهما أو رفعهما؛ وإلا
فإن
البناء المستقر للدين سوف ينهار تمامًا، كما يؤكِّده، من جهةٍ أخرى، ما تواضع عليه أهل
الاختصاص من أن الاختلاف رحمة في هذا المجال.
وإذ يستحيل رد هذا الاختلاف، في الجانب التشريعي من الدين، إلا إلى اختلاف الوضع
الإنساني؛ حيث «لا خلاف [حسب القرطبي] بين العقلاء، على أن شرائع الأنبياء قُصِد بها
مصالح الخلق الدينية والدنيوية … وأن العالم بذلك [القصد] إنما تتبدل خطاباته بحسب
تبدُّل المصالح؛ كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى [الله] ذلك في خليقته بمشيئته
وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل.»
١٥٩ وهكذا، يعلِّق القرطبي تبدُّل الخطاب (الإلهي) على تبدل مصالح البشر الدينية
والدنيوية (أو المدنية)؛ وعلى النحو الذي يكون معه «المدني» المتغير، أو المتبدل، هو
«المرجع» المحدد لما يراه حاصلًا من التبدل في الخطاب الإلهي إلى البشر. وبطبيعة الحال،
إن ذلك يعني أن تحولات «الديني»، الذي تريد منه جماعة الإخوان المسلمين أن يكون مرجِعًا
للدولة المدنية، تكاد هي نفسها تجد مرجعيتها في التحولات الحاصلة في المجال الإنساني/المدني.
وإذا كان القرطبي يجعل التبدل يطال الخطاب الإلهي إلى البشر العموم، فإن حضور
التبدل ضِمن الجانب التشريعي من هذا الخطاب يكون أولى لا محالة. أعني من حيث يتعلق هذا
الجانب بواقع البشر، الذي يتغير ويتبدل، وليس بعقائدهم التي يَلزم تصوُّر أنها الأكثر
ثباتًا ودوامًا. ولعلَّه يَلزم التنويه، هنا، إلى ما صار إليه القرطبي من أن عدم ربط
التبدل الحاصل في الخطاب الإلهي، بالتبدل الجاري في مصالح البشر وواقعهم سوف يؤدِّي —
لا
محالة — إلى وصْم الله ﺑ «البداء»، الذي يعني الجهل؛ وهو ما لا يمكن قبوله في حق الله
أبدًا.
ولعلَّ ما يعنيه منظِّرو الإخوان المسلمين بالدين كمرجع للدولة إنما ينصرف إلى هذا
الجانب التشريعي من الدين، الذي يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره؛ وذلك بما أنه الجانب
الأكثر اتصالًا بجوهر الدولة التي هي، بحسب النشأة، محض إطارٍ لتنظيم العلاقة نفسها
للإنسان (فردًا وجماعة) بغيره. وينبني ذلك على أنه لا يمكن تصوُّر أن تتخذ الدولة
مرجعيتها من الجانب الاعتقادي/التعبُّدي/الذي يخص علاقة الإنسان بربه؛ وذلك ابتداء من
خصوصية وفرادة تلك العلاقة على نحوٍ لا يمكن معه أن تكون مرجعًا لما تنتظم به علاقات
المجموع. وإذ لا يبقى — والحال كذلك — إلا أن الجانب التشريعي/العملي من الدين، الذي
ينتظم علاقة الإنسان بغيره، هو المقصود عند الحديث عن مرجعيةٍ دينية للدولة المدنية،
وهو
الجانب من الدين الذي يجد ما يؤسس لما فيه من الاختلاف والمغايرة، غير القابلين للإنكار
أو الدحض، في الوضع الإنساني المدني، فإن ذلك يعني — وللمفارقة — أن المدني هو المرجع
للديني، وليس العكس. ومن حُسن الحظ، أن دوران «الديني» حول «المدني» لم يغب عن ساحة
التفكير الإسلامي؛ سواء في القديم أم الحديث. ولا يقف الأمر عند مجرَّد الاحتجاج بأنه
يستحيل تفسير ضروب الاختلاف بين المدارس الفقهية، إلا من خلال تعليقه على الاختلافات
الحاصلة بين أشكال الاجتماع الإنساني المدني؛ بل يتجاوزه إلى ما يقرره بعض الفقهاء
صراحة من أن قواعد الاجتماع الإنساني أهم محددات الأحكام، التي تختص بالعلاقات بين
المكلَّفين. ومن هنا، ما صار إليه الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي من التمييز
بين «العبادات»، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من النصوص والإجماع،
١٦٠ وبين «المعاملات»، التي لا سبيل إلى ضبطها إلا باعتبار المصالح؛ التي يصل
الأمر بالرجل إلى حد القول إن العقل يكون هو الأعلم من الشرع بها.
١٦١ وبطبيعة الحال، إن ذلك يعني أن الرجل يجعل كل ما يخص المعاملات وحقوق
المكلَّفين السياسية والشرعية (أو القانونية)، هو من قبِيل «المدني»، الذي لا مدخل للديني
أو للشرع فيه.
ولعلَّ ذلك ما سيظهر، على نحوٍ جلي، عند رجل الإصلاح، وداعيته الكبير، الأستاذ الإمام
محمد عبده؛ الذي يقرر، بصراحة، أن حال الاجتماع المدني الذي يكون عليه الناس أو الأمَّة
هو (وليس الدين) المرجع للقوانين وأنظمة العقاب والجزاء. فإذ ينطلق الرجل من تصوُّر أن
«قوانين كل أمَّة تكون على نسبة درجتها في العرفان، وأنها تختلف باختلاف الأمم في الجهالة
والعلم، بحيث لا يجوز وضع قانون طائفة من الناس لطائفةٍ أخرى، تبايِنُها في درجة العرفان،
أو تزيد عليها فيه، لأنه لا يلائم حالة أفكارها، ولا ينطبق على عوائدها وأخلاقها، وإلا
لاختلَّ نظامها.»
١٦٢ فإنه يؤكِّد، بذلك، صدور القانون (من دون أن يؤثِّر مصدره في ذلك) عن الحال
التي تكون عليها الأمَّة، ودرجة ارتقائها في العلم والعرفان. ولعلَّ ما يؤكِّد وعي الإمام
بأن
حقيقة دوران القانون حول حال الأمَّة ورقيها في المدنية، لا تتأثر حتى في حال القول إن
مصدره السماء، يتبدَّى في تأكيده أن أنظمة الزجر والعقاب تدور، بدَورها، مع رُقي الأمَّة
في
المدنية؛ بمعنى أنه إذا كانت العقوبة البدنية تناسب حالة انحطاط المدنية، فإن الترقي
في
المدنية سوف يفرض نوعًا مختلفًا من العقوبة. فإن هناك «أمَّة فطرَت أفرادها على الغلظة،
ومجافاة الرقَّة، وكانت بواطنهم منطوية على الخِسَّة والسفالة، فهؤلاء لا يردعهم عن غيهم،
ولا يصدهم عن موارد بهتانهم، إلا القوانين الصارمة المؤسَّسة على الجزاءات الشديدة، فمِن
الخطأ البيِّن أن يُعامَل مذنبهم بالسجن إذا كانت نفسه تستخف ما هو أشد منه عقابًا.»
وهكذا، تتناسب صرامة العقوبة وغلظتها مع حال الانحطاط في المدنية. حين يدرك المرء أن
هذه الحال مع الغلظة والانحطاط في المدنية كانت، حسب ابن خلدون، هي حال العرب قبل الإسلام،
١٦٣ فإنه يستطيع أن يُقدِّر أن هذه الحال هي التي تقف وراء نظام العقوبة الصارم،
الذي وضعه الإسلام؛ مع ملاحَظة أن الرقي في المدنية لا بد من أن يدفع باتجاه نظامٍ أقل
صرامة في العقاب. فإن هناك «من الناس من ينفع فيهم الزجر الخفيف، ويردعهم الوعيد
بالجزاء الهين، إذا كانت طباعهم سهلة الانقياد، ونفوسهم شريفة، وحواسهم سريعة التأثر،
فهؤلاء لا يُسَن لهم من القوانين إلا ما كان منطبقًا على أحوالهم، فلا يُكلَّفون بالقوانين
الصارمة؛ لأنها تضُرُّ بهم، شأنَ من يتجاوز في استعمال الدواء الحد المخصوص.»
١٦٤
وهكذا، إن الأصل القرآني للحدود، أو نظام العقوبة، لم يمنع الأستاذ الإمام من ربطها
بحالٍ معيَّن في الاجتماع المدني؛ إلى حد ما يمكن قوله من أنها تجد مرجعيتها ونظام
معقوليتها في أحوال الاجتماع. وإذَن إنه لم يتعامل معها بما هي نظامٌ ثابت ومُطلَق يقوم
فوق أحوال الاجتماع الإنساني، ولا ترتبط صلاحيته بزمانٍ بعينه. وبذلك، يكون الأستاذ
الإمام قد حسم، قبل ما يزيد على القرن، معضلة العلاقة بين الديني والمدني؛ على النحو
الذي بدا معه أن النظام القانوني الجزائي إنما يجدان — ولو كانا حتى من أصلٍ ديني —
مرجعيتهما التفسيرية في «المدني»، وليس العكس؛ وبما يكشف عن أطروحةٍ أكثر رُقيًّا من
تلك
التي يطرحها دُعاة الإسلام السياسي الآن. فأولئك الأخيرون لا يعرفون إلا منظومةً (قانونية
وجزائية) ترتبط — على قول الإمام — بحالٍ بعينه في الاجتماع، ويريدون فرضها على حالٍ
مغايِر للحال الذي نشأَت فيه؛ متجاهلين ما قاله الأستاذ الإمام من أن وضع قانون طائفة
بعينها لطائفة أخرى مباينة لها سوف «يقلب ما يكون دواء للأولى إلى داء للأخرى»، ويعني
من حيث سيؤدِّي ذلك إلى اختلال نظام الاجتماع. وهكذا، إن العبرة، عند الأستاذ الإمام،
هي
بما يؤدِّي إلى صلاح الاجتماع البشري؛ وبما يعنيه ذلك من نزع الإطلاق والقداسة عن قواعد
الضبط السياسي والاجتماعي.
وبطبيعة الحال، حين يظل أحد يتحدث، بعد ذلك، عن «الديني» كمرجع ﻟ «المدني»، فإنه لا
يفعل إلا أن يفرض هالات الإطلاق والقداسة على ما يريد تشغيله من قواعد الضبط السياسي
والاجتماعي، التي يسعى إلى امتلاك المجال العام، والسيطرة عليه، من خلالها. أو أنه يقوم
بإخفاء رؤيته؛ التي هي «مدنية» بطبيعتها وراء ما يقول إنها مرجعية «الديني» ليُضفي عليها
حصانة تسمو بها فوق منطق الفهم والمساءلة؛ وهو المنطق الذي اشتغل به، على مدى عقود،
النظام الذي تسعى مصر إلى تجاوزه والانفلات من أحابيله. ولعلَّ ذلك يعني، بلا أي مواربة،
أن مفهوم «المرجعية» لا يشير، في هذا السياق، إلى معنى «الإطار التفسيري»، بقدر ما
يقترب من دلالة مفهوم «الحاكمية»، الذي صكه سيد قطب كأحد الآباء المؤسسين لجماعة
الإخوان المسلمين، بكل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من دلالاتٍ سلطوية قمعية. ويرتبط ذلك
بأن ما يُقال إنها «المرجعية» هي أدنى ما تكون إلى المنظومة الجاهزة المغلقة؛ التي
تشتمل على جملة قواعد للضبط السياسي والاجتماعي، التي يراد فرضها على الواقع الراهن
لقدرتها على تيسير الهيمنة عليه بسبب ما جرى من استقرار النظر إليها على أنها من الدين.
وإذَن، إن المرجعية ليست إطارًا مفتوحًا يتحرك مع جوهر التحولات الحاصلة في الواقع؛ على
النحو الذي يجعلها قادرة على استيعاب تعقيداته. ومن هنا ما لا بد من التأكيد عليه من
أن
مفهوم «المرجعية» يمثِّل تواصلًا مع مفهوم «الحاكمية» القطبي؛ بكل ما ينطوي عليه من تكريس
منهج الإذعان والتلقي ذي الطبيعة السلطوية الصارمة.
وإذا كانت جماعة الإخوان لم تُسهِب في تفصيل الكيفية، التي تتحقق بها «المرجعية
الدينية للدولة المدنية»، فإنه يمكن تصوُّرها من إسهامات السابقين ممن شاركوا في تزويد
الجماعة بالعديد من العناصر التي دخلَت في بناء الفكرة الإخوانية. وبالتحديد، يمكن
الإشارة إلى ما قدَّمه أبو الأعلى المودودي، الذي هو المصدر المباشر لأفكار المؤسِّس
الثاني
لجماعة الإخوان سيد قطب. فقد بدا أن فكرة المودودي عن «الحاكمية» قد راحت تشتغل في
باكستان الإسلامية، من خلال ما قيل إنه «مجلس العقيدة الإسلامية»، الذي كان «الغرض من
إنشائه أن القوانين الإسلامية، التي تريد الحكومة تطبيقها، يتولَّى المجلس، أولًا،
تدوينها والمصادقة عليها، ثم تحويلها إلى الحكومة لأجل صَوغها في القوالب القانونية،
ومن
ثَم تطبيقها في البلد. والمجلس يضم العلماء من جميع المذاهب الفقهية.»
١٦٥ وإذ يبدو — والحال كذلك — أن تشغيل فكرة الحاكمية قد تم في السياق
الباكستاني من خلال «مجلس العقيدة الإسلامية» الذي يتمثل دوره في تحويل الشريعة إلى
قوانين يجري تطبيقها، فإنه يمكن تصوُّر أنه لن يكون من سبيلٍ إلى تشغيل الفكرة الإخوانية
عن «المرجعية الدينية للدولة المدنية» إلا من خلال «هيئة» تقوم بالعمل نفسه تقريبًا.
وإذ يتماثل ذلك مع دور «مجلس خبراء الدستور» في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية،
الذي يتكون، بدَوره، من الفقهاء، فإن ذلك يعني أن الشريعة لا تحضر، في خطاب تسييس
الإسلام، إلا بما هي أحكام وقواعد تستخدمها «الدولة» في تثبيت النظام الاجتماعي
والسياسي القائم.
ولعلَّه يمكن القول: إن السلفيين المصريين كانوا، أثناء جولات النقاش السابقة على
تدوين
الدستور المصري في عام ٢٠١٢م، هم الأصرح في تأكيد الترابُط بين تسييس الإسلام وبين حضور
الشريعة، بما هي محض أحكام وحدود إجرائية. فقد اختزلوا كل مطالبهم من الدستور في وجوب
النص فيه على أن تكون «أحكام الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع»، بدلًا من النص القائم
بالفعل على أن «مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع». وحين لم يتمكنوا من هذا
الإبدال، فإنهم قد نجحوا في تضمين الدستور أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها
الكلِّية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المُعتبَرة في مذاهب أهل السُّنة والجماعة».
وهكذا، انتقلوا، بتضمينهم للدستور الإشارة الصريحة إلى الفقهي والمذهبي، من مجال الكلِّي
(مبادئ الشريعة) إلى مجال الجزئي (الفقهي والمذهبي). وبطبيعة الحال، إن هذا الانتقال
من
الكلِّي إلى الجزئي مؤشِّر على الانتقال من الشريعة (بما هي مبادئ تأسيسية مقاصد كلِّية)
إلى
الشريعة (بما هي أحكام وتكاليف إجرائية). وإذا كان معلومًا أن اعتبار الشريعة، من جهة
الأحكام والتكاليف، لا يجعل من بابٍ للتفكير فيها إلا «النصوص والأخبار»، فإن ذلك يتفق
مع النزوع الغالب على السلفيين عمومًا في التفكير بالنص/الخبر، الذي يحتل عندهم مكانةً
مركزية تجعلهم يلتمسون لكل مسألةٍ دليلًا من نص أو خبر. وإذ الأمر هكذا، فإن المدونة
السلفية كان لا بد من أن تتسع لفيوض من الأخبار التي يكون فيها الحكم على كل نازلة تحدث
في الوجود. ومن هنا ما هو معروف من التضخم النصِّي الهائل، الذي عرفَته هذه المدونة؛
وهو
التضخم، الذي كان السلفيون يعوِّضُون به نزوعهم إلى الإقلال من القياس في الفقه. فقد
«جاء
في كتاب [أبي بكر] الخلال عن أحمد [ابن حنبل]: سألتُ الشافعي عن القياس، فقال: «إنما
يُصار إليه عند الضرورة»، أو ما هذا معناه، ولأن القياس ما كان إلا للضرورة؛ أي للاضطرار
إلى الإفتاء، وليس ثمة نص يسعفه، ولا فتوى صحابي تعينه، فإنه كان لا يتجه إلى القياس
وعنده حديث ضعيف، أو فتوى صحابي ثابتة، بل كان أحب إليه [أي ابن حنبل] أن يفتي بالحديث
الضعيف عن أن يقيس، ويفتي برأيه.»
١٦٦ وإذا كان من الجائز أن الحديث «الضعيف» أدنى إلى أن يكون من «الموضوع»، فإن
ذلك يعني أن ابن حنبل يأخذ بالخبر، ولو كان موضوعًا، ويقدمه على الرأي؛ إلى الحد الذي
ألصق بفقهه وصف «الفقه الأثري». والجدير بالملاحَظة ما يبدو من أن هذا النزوع نحو
التفكير بالأثر قد دفع ابن حنبل إلى الأخذ بكل آثار الصحابة؛ إلى حد أنه «إذا كان
للصحابة رأيان [في مسألةٍ واحدة]، فإنه يختارهما أحيانًا، ويكون في المسألة عنده رأيان،
وكان ذلك وقوفًا عند الأثر، لأنه لا يرى لنفسه الحق في الترجيح بين آراء أولئك العلية
الأكرمين من غير نص أو قريب منه؛ إذ الترجيح يقتضي بيان نقص في أحدهما، وكمالًا في
مُقابله، وهو لا يعطي نفسه هذه الرتبة إلا بنص أو قريب منه.»
١٦٧ وهكذا، إنه، حتى في الترجيح بين أثرَين (في مسألة)، يحتاج إلى أثرٍ يرجح به
بينهما؛ بما يعنيه ذلك الحذر الكامل تجاه أي دور للعقل في الترجيح بين الآثار. وغنيٌّ
عن
البيان أن هذا الحذر الحنبلي تجاه دور للعقل في التعامل مع الآثار، هو ما سيفتح الباب
أمام قبولها جميعًا من دون أي تدقيق أو فحص. حيث الأثر ينتسب إلى «عِليةٍ أكرمين» لا
يمكن لأحد من بعدهم أن يصل إلى الرتبة التي تؤهله لأن يقوم بفحص آثارهم بعقله. ولقد كان
هذا هو الأصل الذي انفتحَت معه المنظومة السلفية أمام القبول الواسع للأخبار من دون
تمييز أو فحص.
واستنادًا إلى هذه الخلفية السلفية نفسها، إن دولة الإسلام في العراق والشام (داعش)
(وهي التجسيد المتحقق الآن لخطاب تسييس الإسلام) تمارس بأن تسند كل ما تفعل إلى حُكمٍ
ثابت بأثر، أو خبر، أو حتى فِعل لصحابي. ومن هنا ما يلحظه المرء من أن مُنتجي الفقه،
الذين يقدمون التسويغ الشرعي لكل ما يقترفه إرهابيوها من جرائم الترويع والقتل، لا
يصدرون، في فقههم، إلا عن مدونة النصوص والأخبار. وهكذا، حين جرى إحراق الطيار الأردني
الأسير لدى قتلة داعش، فإن هؤلاء، الذين يزوِّدون ماكينة الدم الداعشية بوقودها الفقهي،
قد راحوا يقذفون في وجه الجمهور الغاضب بما يئول إلى أن ما اقترفوه من فعل التحريق هو
من قبِيل الجائز شرعًا. ومن هنا، ما أصدروه من فتوى جواز التحريق، التي بدا لافتًا أنهم
لم يجدوا سندًا شرعيًّا يدعمونها به، إلا «فعل الصحابة»؛ حيث «حرق خالد بن الوليد ناسًا
من أهل الرِّدة». وهنا، يَلزم تأكيد أنهم لم يجدوا أساسًا قويًّا يسندون إليه فتواهم
بجواز الإحراق إلا في «فعل الصحابة» بالذات. ويرتبط ذلك بأنهم لم يجدوا في «فعل النبي
وقوله» ما يصلح أن يكون دليلًا شرعيًّا صريحًا على جواز التحريق. فما يوجد من «فعله»،
ما يتواتر من أنه قد «سمل [فقأ] أعيُن العُرَنيِّين بالحديد المُحمى» لا يجيز فعل الإحراق
صراحة، بل يجيزه عند «المماثلة» فحسب. لكنها تبقى مماثلةً ناقصة؛ لأن «سَمل الأعين» لا
يحمل معنى إحراق الجسد كله بالنار؛ بل هو إحراق جزء من البدن يبقى بعده المرء حيًّا،
على عكس إحراق بدنه كله الذي يودي بحياته حتمًا. وإذ يستحيل أن يكون الفعل الناقص (أي
إحراق جزء من البدن) أصلًا للفعل الكامل (أي إحراق البدن كله)، فإنه يستحيل قياس فعل
داعش على فعل النبي؛ بما جعلهم يقولون بكونه أصلًا عند مجرَّد المماثلة فحسب. وإذ يعني
ذلك أنهم يجعلونه أصلًا بالتأويل، فإن ذلك يتماثل مع ما فعلوه بخصوص ما تواتر من قوله
عليه السلام: «وإن النار لا يُعذِّب بها إلا الله.»
حيث حملوه على التأويل، أيضًا، وأوردوا قول المهلَّب: «ليس هذا النهي عن التحريم، بل
على
سبيل التواضع.» وإذ يعني ذلك أنهم لم يجدوا في فعل النبي وقوله ما يجعلونه أصلًا لفعلهم
إلا عبْر ما قاموا به من التأويل، فإن ذلك يعني أنه ليس من دليلٍ صريح يستندون إليه فيما
جاءوا به من جواز الإحراق إلا «فعل الصحابة» وحده.
وإذا كانت فتوى داعش قد اكتفت بما أوردته من أنَّ «خالد بن الوليد قد حرق ناسًا من
أهل
الردة» دليلًا من «فعل الصحابة» تسند إليه دعواها في تجويز فعل الإحراق، فإن أنصارهم
من
الجهاديين قد راحوا يمدُّونهم بالمزيد من الأخبار عن صحابة كبار فعلوا الشيء نفسه. من
ذلك
ما أوردوه من أنه «لما أتى قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري إلى علي بن أبي طالب،
رضي الله عنه، قال أحدهم: «أنت هو»، فقال لهم: «ومن هو؟» قال: أنت الله، فاستعظم رضي
الله عنه الأمر، وأمر بنار، فأُجِّجَت، وأحرقهم بالنار. وفي ذلك يقول رضي الله عنه:
لمَّا رأيتُ الأمر أمرًا مُنكرَا
أجَّجتُ نارًا ودعوتُ قنبرَا
(مولاه)، وهو الذي تولى طرحهم في النار، فهذا الخليفة الراشد رضي الله عنه أحرق
أناسًا بالنار.» ومنه، أيضًا، ما أوردوه، مما رواه ابن كثير في
«البداية والنهاية» من أن «أبا بكر الصديق حرق الفجاءة بالبقيع في
المدينة، وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم، وطلب منه أن يجهز معه جيشًا يقاتل به
أهل الردة، فجهز معه جيشًا، فلما سار جعل لا يمر بمسلم، ولا مرتد، إلا قتله، وأخذ
ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشًا فرده، فلما أمكنه بعث به إلى البقيع، فجُمعَت
يداه إلى قفاه وأُلقي في النار، فحرقه وهو مقموط.»
١٦٨
وفي مواجهة ذلك، لم تجد مؤسسات الفتوى شيئًا تردُّ به على فتوى داعش، إلا خلخلة
الروايات التي تنبني عليها. فإن الرد على داعش قد دار على تأكيد أن «رواية إحراق سيدنا
أبي بكر الصديق للفجاءة روايةٌ باطلة مدار سندها على علوان بن داود البجلي»، وهو رجلٌ
مطعون في روايته. فقد أورد الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان»:
«قال البخاري: علوان بن داود [ويُقال ابن صالح] مُنكَر الحديث.» كما علَّق
الحافظ نور الدين الهيثمي في «مجمع الزوائد» على هذه
الرواية بقوله: «رواه الطبراني، وفيه علوان بن داود البجلي، وهو ضعيف، وهذا الأثر مما
أُنكر عليه.» وروى العقيلي في «الضعفاء الكبير» عن
يحيى بن عثمان أنه سمع سعيد بن عفير يقول: «كان علوان بن داود زاقولي من الزواقيل.»
والزواقيل هم اللصوص. وهكذا، فإن جهدهم قد انصرف كله إلى تضعيف تلك الرواية، التي يلفت
النظر أن ابن كثير قد أوردها من دون تضعيف أسانيدها، على الرغم مما هو معروف عنه من
كثرة ردِّه الروايات التي يراها ضعيفة الأسانيد في كتابه «البداية
والنهاية».
وعلى الرغم مما بدا من أن الخبر عن فعل علي بن أبي طالب للإحراق لم يكن موضوعًا
للتوهين والرد؛ حيث اقتصر الأمر على توهين الأخبار الخاصة بأبي بكر، وخالد بن الوليد
بالذات، فإن المعركة قد احتدمَت بين داعش وخصومها حول مدى قوة الأخبار الواردة في ممارسة
الصحابة لفعل الإحراق. وإذَن، فلقد جاء المفهوم الأكثر مركزية في الثقافة العربية
الإسلامية؛ ليتبوأ موقعه في صدارة المشهد؛ وهو مفهوم «الخبر»؛ بما يعنيه ذلك من استمرار
المقاربة التقليدية لمسائل الخلاف، التي لا يعرف الجميع فيها إلا التنازع حول
«الرواية». ولسوء الحظ، إن استمرار التنازع حول الرواية/الخبر لا يمكن أن يؤدِّي أبدًا
إلى انبثاق أفقٍ جديد يتجاوز فيه المسلمون جمودهم الجاثم على مدى قرون.
وإذ يبدو — والحال كذلك — أن الأمر في حاجةٍ إلى مقاربة مجاوزة لتلك التي لا تعرف
إلا
التمركز حول «الخبر»؛ فإنه يمكن تصوُّر أن تقوم هذه المقاربة الجديدة على طريقةٍ أخرى
في
التعامل مع «فعل الصحابة» تتجاوز مجرَّد الخبر عنه. ويعني ذلك أنه حتى على فرض أن الصحابة
قد مارسوا فعلًا بعينه، كالتحريق وغيره، فإنه يَلزم الانشغال بالكيفية، التي تحوَّلَت
بها
هذه الممارسة إلى دين يجري التعبد به، بدلًا من التنازع حول الخبر عنها. إن ذلك، فحسب،
هو ما يفتح الباب أمام آفاق جديدة لمعالجة مسألة «فعل الصحابة»، بدلًا من الانشغال
بتصويب الأخبار عنها أو تضعيفها. وإذَن إنه الانتقال من «الخبر» عن الفعل إلى تفكيك
الكيفية التي أصبح بها هذا «الفعل» ذا سلطةٍ ملزِمة.
ولعلَّ نقطة البدء، في هذا التفكيك، تنطلق مما جرى من توسيع دلالة مفهوم الشريعة،
الذي
يبدو أنه كان بمثابة الجذر الأعمق لما حصل من النظر إلى أفعال الصحابة على أنها ذات
طابعٍ إلزامي غير قابل للتفويت. فإذ جرى القرآن على اختصاص الله وحده بالفعل «شرع»؛ بما
يعنيه ذلك من حسبان الشريعة ذات أصلٍ إلهي، فإن ذلك قد أدَّى إلى وجوب النظر إلى كل ما
يجري تنسيبه إليها على أنه من الله بدَوره. وهكذا، إن توسيع مفهوم الشريعة بحسب ما يظهر،
مثلًا، عند ابن تيمية، الذي لم يقف، على ما ذكر في
«مجموع
الفتاوى»، عند حد جعل «الشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله»، بل أدخل
فيها «ما كان عليه سلف الأمَّة في العقائد، والأصول، والعبادات، والأعمال، والسياسات،
والأحكام، والولايات، والعطيات».
١٦٩ بما يعنيه ذلك من الارتقاء بممارسات السلف إلى مقام الشرع، الذي يكون من
الله. وهنا، إن الأمر قد تجاوز مجرَّد عقائد هؤلاء السلف وعباداتهم إلى أعمالهم،
وسياساتهم، وأحكامهم، وولاياتهم، التي أصبحَت جميعًا شرعًا ملزِمًا ابتداء من تسويتها
بما
هو من الله والنبي. وغنيٌّ عن البيان أن اعتبار أعمال وأحكام وسياسات السلف، التي فرضَتها
مقتضيات العصر وآفاقه المعرفية، هي من قبِيل الشرع، الذي جعله القرآن مخصوصًا بالله
وحده، هو ما يئول إلى تركيز النزاع حول «الخبر». فإذ لا يمكن أن تكون جميع الأفعال
المنسوبة إلى السلف مقبولة مطلَقًا (ومثال ذلك فعل الإحراق نفسه) فإنه لا يبقى من سبيل
للتخلص من طابعها الملزِم إلا بتوهين الأخبار الواردة بها، وردها.
المهم هو ما يبدو من أن خطاب تسييس الإسلام قد انتهى مع «داعش» إلى الْتماس السند
الشرعي لأفعالهم من مجرَّد أن لهم سلفًا صالحًا قد أتى هذه الأفعال قبلهم، وأنهم يرَون
في
إتيان هذا السلف الصالح لهذه الأفعال ما يُعَد دليلًا، ليس على جواز إتيانها فحسب، بل
(وهو الأخطر) على كونها ذات طابعٍ إلزامي غير قابل للتفويت، باعتبارها من قبِيل الشرع
المنظور إليه بحسبانه من الله. وهكذا، يكون الخطاب قد ارتقى بما يصدر عن البشر إلى مقام
الصادر عن الله؛ بما يعنيه ذلك من أنه إذا كان خطاب تسييس الإسلام قد ابتدأ (مع
الأفغاني) من أنه لا إقامة لدين الإسلام إلا بإقامة دولته، فإنه قد انتهى (مع داعش) إلى
وضع تلك «الدولة» في مقام «الله» ذاته. وإذ لا يظهر الله في هذا الخطاب إلا كمصدر
للأمر، والنهي، والثواب، والعقاب في الآخرة، فإن الدولة، التي ستحل محله، لن يكون لها
من دورٍ تؤدِّيه على الأرض إلا أن تنوب عن الله في الأمر، والنهي، والعقاب، أيضًا، ولكن
في
الدنيا هذه المرة. إنها الدولة، التي لا تربط وجودها بدَورٍ وظيفي تؤدِّيه للناس؛ بل
تكون
تجسيدًا لفكرةٍ مطلَقة (هو الله في حالة داعش)، على غرار شموليات القرن العشرين الفاشية،
والنازية، والستالينية الغاربة. وإذ لا حضور للأفراد في إطار هذه الدولة المطلَقة، التي
تحل محل الله، إلا بما هم محض ذرَّاتٍ تافهة عليها أن تُفني نفسها في الكينونة الكلِّية
المجاوزة لفردانيتهم، فإن الشريعة لا يمكن أن تحضر في إطار هذه الدولة الإلهية (أو
الفكرية بلُغة المودودي) إلا في جانبها الإجرائي البراني المتضمن للتكاليف، والأحكام،
والحدود، ليمكن بها تحقيق الإدماج القسري لكل من يعاندون الذوبان في كليَّانيتها
المجاوزة المطلَقة.