خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
«أعرضُ فيما يلي وجهةَ نظري في واحدة من مفارقات السفر عبر الزمن، والتي نُشِرت للمرة الأولى في مجلة «إنترزون» في شهر أكتوبر من عام ١٩٩٠، ثم كعنوان رئيس لمجموعتي المسمَّاة باسمي. وتبدأ — بالطبع — في واقعٍ موازٍ لواقعنا، تختلف فيه الأطر الزمنية للأحداث عن أطرها الحقيقية المعروفة.»
كان مكبِّر الصوت المكعَّب هو البداية. كان ريتشي جيفريز — واسمه في شهادة الميلاد «ريتشارد»، لكنه كان من الجيل الذي يُطلق اسم ريتشي على كلِّ مَن يُسمى ريتشارد تيمنًا بعازف الطبول في فريق «البيتلز»؛ إذ كانوا قد اقتحموا المشهدَ الغنائي حين كان هو في الثامنة من عمره — في انتظار تحسين ذلك الشيء اللعين طيلة عشرين عامًا. كانت الأقراص المدمجة لا بأس بها تمامًا، لكنها كانت ضخمة الحجم ومن السهل تمامًا أن تتلَف. وفي النهاية، كان ذلك هو الوسيط المثالي لمحب الموسيقى الجاد. تخيَّل الأعمال الكاملة لفريق البيتلز الأصلي، مُعاد إنتاجها رقميًّا ومُخزَّنة في مكعَّب بحجم مكعَّب السكر. بالطبع كانت الموسيقى الجديدة لا بأس بها تمامًا، في مكانها. غير أنها كانت تفتقر إلى حيوية وروح موسيقى أعمال الروك الأصلية، ومع إعادة المعالجة الرقمية، يمكنك فعليًّا سماع سقوط دبوس في استوديوهات آبي رود. ووفقًا لجورج، الذي كان الوحيد الباقي على قيد الحياة من رباعي فريق البيتلز، كانت هناك أشياءُ هنا لم يكن بإمكانهم سماعها على أشرطة التناظر الأصلية في استوديو التسجيل نفسه، وذلك في الستينيات. وطُبقت التحسينات نفسها التي أدخلت على الكمبيوتر الذي قام بتنقية الصور الملتقطة على سطح القمر شارون على شيء عملي من أجل إحداث تغيير. وكان ذلك، بالنسبة إلى ريتشي، أفضل ما حقَّقه برنامج الفضاء على الإطلاق.
كان الفضاء آنذاك قد أصبح شيئًا قديمًا بالطبع. شيء من القرن الماضي. وكان أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا يتمركز في مجمله حول مسبار الزمن، حيث عمل ريتشي مهندسًا للاتصالات. كانت وظيفة بساعات عمل معقولة، وأجرٍ مجزٍ. ولو كان بإمكانك تحمُّل البيروقراطية، فهي وظيفة مثالية؛ إذ كانت توفِّر له الكثير من الوقت لممارسة هوايته. لكن عند سن الثالثة والخمسين، كان ريتشي على وشْك التقاعد، وكان يتوقَّع أن يمر الوقت عليه بطيئًا متثاقلًا. كان في حاجةٍ إلى مشروعٍ ينخرط فيه انخراطًا كاملًا. شيء ذي صلة بمجال الصوتيات؛ شيء يشبه العمل الذي جرى على أشرطة فريق البيتلز؛ لكن، من أين لمهندسٍ يعمل مستقلًّا بمادة قديمة جديرة بالاهتمام غير مملوكة بالفعل لإحدى مجموعات شركات الاتصال اليابانية؟
كان جزء من المشكلة يكمُن في تعريف ريتشي الضيق بعض الشيء لمصطلح «جديرة بالاهتمام». فبخلاف فريق البيتلز، كان ريتشي يعتقد جديًّا أنه لا يوجد سوى ثلاثة فنانين فحسب هم مَن يستحقون ما لديه من مهارات. وكان هؤلاء هم إلفيس، وبادي هولي، وبروس سبرينجستين. وكان هولي هو الوحيد بين الثلاثة، الذي تعاون فعليًّا مع جون لينون. تمثَّل هذا التعاون في ألبوم «دابل دايموند»، الذي كان بمثابة عودة للينون في نهاية السبعينيات، بعد أن جاء هولي إلى شقة داكوتا حاملًا الجيتار على ظهره — كما زُعِم — وجرَّ الناسك حرفيًّا مخرجًا إياه من شرنقته. وتمثَّل كذلك في الجولة الموسيقية التي قاما بها في عام ١٩٨١، التي لم يحضُرها ريتشي ثلاث مرات في الولايات المتحدة فحسب، بل ذهب وراءها أيضًا إلى لندن من أجل حضور حفل استاد ويمبلي. كان هولي ولينون وجيري أليسون يعزفون على الطبول، وكلاوس فورمان على جيتار الباص؛ وكان أفضل حفل في حِقبة الروك، حتى قبل أن ينضم إليهم أصدقاؤهم على المسرح. أضف إلى ذلك الشراكةَ في كتابة الأغاني التي ازدهرت حتى التسعينيات، حيث أسلوب هولي الأكثر عذوبة الذي خفَّف من خشونة لينون، في توليفةٍ فاقت حتى أعمال لينون المبكرة مع مكارتني. وكان نتاج ذلك اسم «هولي-لينون»؛ تلك العلامة الموثوقة التي وضعت على أسطوانات حققت نجاحات فاقت أي فريق تأليف آخر.
لكنهما رحلا، ولن يقدَّر لنا أن نرى مثيلًا لهما أبدًا. فكل الأعمال بعد عام ١٩٧٨ كانت مقيَّدة قانونيًّا كسائر أعمال البيتلز، وكانت على أي حال قد حظيت بمعالجة من قِبل الاستوديوهات الكبرى في لايبزج. إلى جانب ذلك، كان الأمر أعقدَ مما كان يرغب فيه ريتشي. فقد كان ما يريده هو — أو ما كان في حاجة إليه — تحديًا. شيء أقدم من ذلك. ربما أشرطة مفقودة منذ الخمسينيات. تحدٍّ حقيقي.
•••
راح ريتشي يتخيَّل الحِقبة التي يرغب في إعادة إنتاجها بواسطة التكنولوجيا الحديثة بتُؤدة. واستطاع تحديدها بدقة. فقد وجد ضالته في الفترة الأولى التي عمل فيها هولي منفردًا في عام ١٩٥٩. كان ذلك بعد انفصاله الأول عن فريق «كريكتس» الغنائي، قبل إعادة تشكيله مرة أخرى. «جولة حفلات الرقص الشتوية» التي شملت مينيسوتا وويسكونسن وأيوا. في هذه الجولة غنَّى هولي كلَّ شيء وأي شيء، حتى إنه كان يعزِف على الطبول لفريق «ديون». فقط لو أن أحدًا أخذ معه مسجَّل شرائط إلى إحدى تلك الحفلات، وترك الشرائط في كبسولة زمنية تُفتح بعد خمسين عامًا لاحقة. سيكون قد حان وقت اكتشافها الآن.
كان ريتشي مسترخيًا أمام لوحة التحكم الخاصة به، وعيناه شبه مغلقتين، ثم اعتدل في جِلسته فجأة، وصار منتبهًا تمامًا. «فقط لو» …
مال ريتشي إلى الأمام، وأخذ يكتب على لوحةٍ ما. «جيفريز. تسجيل خروج. سأتوجَّه إلى المنزل، لا أشعر أني بخير. سأرحل باكرًا الليلة، على أملِ أن أعاود المحاولة في الصباح.»
في منزله، فحص التواريخ الواردة في كتاب جون جولدروزن الضخم «بادي هولي، حياته وعصره». نُشر ذلك الكتاب التذكاري بعد وفاة هولي المبكرة المأساوية في عام ١٩٩٧، وهو في سن الحادية والستين (في إطار الواقع الموازي)، وتناول التاريخ الكامل لحِقبة موسيقى الروك، وكان نتاج جهدٍ تطوعي من الكاتب، بُني على لقاءات مع الجميع بداية من نيكي سوليفان — الذي كان يعزِف مع الرجل العظيم قبل الشهرة — وحتى تلاميذه في التسعينيات، الذين أعادوا أداء أغنية «دقة قلب» (هارتبيت). ولما كان هولي قد تعاون مع الجميع تقريبًا، سواء بالعزف أو بتأليف الأغاني، خلال الفترة من عام ١٩٥٧ وحتى عام ١٩٩٧، فلم يكن مستغربًا كثيرًا أن جولدروزن قد سافر أكثر من ٥٠ ألف ميل بغرض البحث وجمع المعلومات من أجل الكتاب وأمضى ثلاث سنوات في كتابته. لكن من بين نصف مليون كلمة في قاعدة البيانات، انحصر اهتمام ريتشي في ألفين منها فقط.
كان هولي قد غادر الجولة بعد حفل مورهيد بمينيسوتا يوم الثالث من فبراير عام ١٩٥٩ وهو مصاب بنزلة برد شديدة أثَّرت على غنائه خلال العرضين. وبعد أن استقل الطائرة عائدًا إلى نيويورك، ظلَّ مختفيًا عن أنظار العامة حتى الربيع، ثم ظهر بأول ألبوم له بعد انفصاله عن فريق «كريكتس»، وهو الألبوم الذي حقَّق ملايين المبيعات بعنوان «طرق الحب الحقيقي» (ترو لاف وايز). لذا كان حفل مورهيد خارج التقييم؛ إذ لم يُرِد ريتشي أشرطة لهولي يغني وهو مصاب بالبرد. لكن كل شيء كان يسير على نحو جيد — عدا الطقس — في الليلة السابقة في كلير ليك بويسكونسن. فبعد أن أمضى عدة أسابيع على الطريق، كان العرض قد بلغ ذروته من حيث قوة الأداء والحماسية. فقرَّر ريتشي أن ذلك هو التاريخ الذي عليه أن يقصده؛ فاتخذ الاحتياطات المناسبة للتدفئة وحماية نفسه من البرد؛ إذ ورد في رواية جولدروزن أن عازف الطبلة في فرقة هولي، تشارلي بانش، قد عانى لسعةَ الصقيع حين تعطَّلت حافلة الفريق وسط الجليد ذات ليلة في بداية الجولة.
كان اختيار جهاز تسجيل مشكلة ثانوية. فقد كان ريتشي يملك عدة أجهزة قديمة، لكن لم يكن أيٌّ منها مناسبًا لتلك الفترة. أضِف إلى ذلك أن جهاز تسجيل من الخمسينيات قد يكون بدائيًا أكثر مما ينبغي. فاستقر على جهازٍ من ماركة «يوهير» يعود إلى عام ١٩٦٥. لم يكن لأحد سوى محترف أن يعرف أن هذا الجهاز أكثر تطورًا بقليل من أحدث الأنواع عام ١٩٥٩؛ وكم محترفًا من المرجَّح أن يلتقيهم ريتشي في كلير ليك بويسكونسن في حفل روك في ليلة متجمِّدة من ليالي فبراير؟ كان إغراء وضع جهاز سوني كيوبيك في جيبه أكبرَ مما يمكنه تحمُّله، لكنه احترم الأشخاص الذين وضعوا قواعدَ المفارقة التاريخية. فإذا قُبِض عليه متلبسًا لكن دون وجود أدلة مادية تدينه، فقد لا يواجه شيئًا أسوأ من تقاعدٍ مبكِّر بعض الشيء عما توقَّع. لكن إذا قُبِض عليه وهو يلقي بالمفارقات التاريخية في الماضي، فسيصبح الأمر قضية فيدرالية.
ولم تكن الملابس تمثِّل مشكلة. فقد كان بإمكانه الحصول عليها عند تنفيذ المشروع. كلُّ ما سيكون في حاجة إليه إذن هو خمس دقائق تقريبًا مع «الوحش» بمفرده؛ وهو أمر ليس صعبًا للغاية بالنسبة إلى مهندس اتصالات. فلو أن كل شخص من المفترض أن يكون في مهمة المراقب حصل في الوقت ذاته على طلب تجاوز ليكون في مكان آخر، فمن سيدري بالأمر عدا المعالج المركزي؟ وبقليل من التعديل، يمكن للمعالج المركزي أن ينسى الأمر قبل حتى أن يحدث. وبما أن «خطأً» لم يشغل أيَّ حيز في الوقت الحقيقي في المكان والزمان الراهنين، فقد كان كلُّ ما عليه فقط هو أن يضبط جهاز التحكُّم عن بُعد، ويسير عبر شعاع الضوء ويخرج على الجانب الآخر. غير أن الأمر سيتطلب تقريبًا خمس ساعات من وقته الشخصي من أجل أن يسير عبر الشعاع، وسينطوي الأمر على فرصة لتسجيل أحدِ أعظم الحفلات الغنائية «المفقودة». وسيكون ذلك باستخدام شريط تناظري عتيق الطراز على آلة بدائية تعمل بواسطة بطارية. بعد ذلك يمكنه أن ينقيها رقميًّا، ويضعها في مكعَّب، وبالطبع ما كان له أن يُعلِم أحدًا بالأمر. أليس كذلك؟
هيا، لتعبُر ذلك الجسر حين تحين اللحظة. لقد صارت أمامه الآن فرصة لرؤية هولي وسماعه مباشرة مرة أخرى، وليس مجرد تسجيل غنائه فقط. قد لا يكون المكان هو ويمبلي في عام ١٩٨١، وقد يكون هو في الثالثة والخمسين من عمره وليس في الخامسة والعشرين، لكنه شعر ثانية بذلك الوخز الخفيف القديم في ظهره من مجرَّد التفكير في الأمر. غمغم في نفسه وهو يفكر قائلًا: «لنفعلها يا ريتشي، الآن، وإلا سينتابني الخوف من الفشل، ولن أفعلها أبدًا.»
•••
لم يدلِف إلى القاعة — قاعة سيرف بولروم — مبكرًا فحسب، بل دلَف إليها مجانًا، وذلك بفضل سياسةِ المدير كارول أندرسون، التي تسمح «للآباء» بالدخول كضيوف شخصيين له، ليطمئنهم على أن الأطفال لن يتعرَّضوا لأي أذًى وهم في كنَفه وتحت رعايته. أما بالنسبة إلى آلة التسجيل، فقد اندهش أندرسون من اكتنازها ومن جودة الصوت الذي تُعيد إنتاجه، كما كان سعيدًا بالسماح لريتشي بتسجيل شريط «للأطفال». لا مشكلة تمامًا.
لكن ظهرت المشكلات لاحقًا.
لا يمكن لأحد سوى محترفٍ أن يكتشف أسبقية جهاز اليوهير لوقته. بحق الجحيم، كيف له أن يعرف أن الصبي كان محترفًا؟ بالطبع، كان الصبي قد أصبح خبيرًا في أروقة الاستوديوهات في الستينيات. لكنه كان الآن في الثانية والعشرين من عمره فقط، وترعرع في الجانب الفقير من تكساس، وله لكنة تقليدية ثقيلة. لِمَ لم تخبرك السيرة الذاتية اللعينة لجولدروزن بأن هولي كان يتسكَّع في الاستوديوهات منذ كان في السابعة عشرة من عمره؟
ولم تكد تمرُّ ثلاث أغنيات من الفقرة الغنائية الأولى حتى لاحظ ريتشي أن عازف الطبول ذا النظارات ينظر باتجاهه مرارًا وتكرارًا. وبحلول الوقت الذي عاد فيه هولي ليقود فرقته الخاصة، كان اهتمام الموسيقي واضحًا بما يكفي ليمنع ريتشي من الانصهار وسط جمهور الشباب اليافع من حوله. دعا هولي ريتشي ليتقدَّم إلى وسط المسرح، حيث كان الشباب يفسِحون المجال بكل ود وسرور لأي شخص كان محلَّ اهتمام نجمهم المحبوب، وأنشدوا مقطعَين من أغنية «ريف أون» في مكبِّر الصوت الذي يمسك به ريتشي، وفي نهاية الفقرة أعلن هولي للحشد أن عرض الليلة قد جرى تسجيله لمحطةٍ إذاعية كبيرة من محطات نيويورك، وأنهم قد يتسنَّى لهم جميعًا سماعُ أنفسهم عبر المذياع إذا كانوا محظوظين بحق.
•••
لم يكن خبيرًا في الصوتيات، بل شخصية هزلية كذلك. ولدى إصرار هولي، جذبت الفرقة ريتشي المتردِّد نحو مؤخرة المسرح ليشغِّل لهم التسجيلات الموسيقية التي سجَّلها. وأوضح لهم أن جهاز اليوهير هو أحدث الأجهزة في أوروبا. وأخبرهم بأنه يدير ورشةً لتصليح أجهزة الراديو في وسط المدينة؛ وأن أخاه الأصغر الملتحِق بالجيش في ألمانيا كان قد أرسل له هذا الجهاز بمناسبة عيد ميلاده.
بدَوا مقتنعين بالقصة. وكانت المشكلة أن هولي أراد شراء الجهاز أيضًا. أو على الأقل، أراد أن يحمل ريتشي على السماح له بالحصول على أشرطة التسجيل. فقد بدت جيدة فعلًا، وبنفس جودة التسجيلات التي أجراها مع جيه إل في مرأبِ بوبي بيبلز في مدينة لوبوك. كانت رائعة. أيًّا كان ما حدث لبوبي العزيز؟
أيًّا كان ما حدث، علِم ريتشي أن عليه أن يُحكِم قبضته على المسجِّل. فالأشرطة، وكذلك هو والجهاز، سيعيدهم «الوحش» في غضون ساعة من الآن. وإذا ترك هولي يحصل عليها، ويدسُّها داخل أعماق أمتعته، فستختفي ببساطة في الصباح. ولن يكون لها أثر. لكنه لا يجرؤ أن يسمح لأي أحد يتمتَّع بأي نوع من المعرفة الفنية المتخصصة بأن يتفحَّص جهازًا لن يظهر إلا في المستقبل بعد ست سنوات من الآن.
أعلن مدير الجولة أن الحافلة مستعِدة للمغادرة. وأراد هولي أن يسمع المزيد من التسجيلات. فاستدعى كارول أندرسون. سأله عن تلك الفكرة التي ناقشاها في وقت سابق، ألا تزال مطروحة؟ هزَّ أندرسون كتفيه بالنفي. فقد أجرى بضع مكالمات هاتفية. يوجد شاب في مطار سيتي ميسون، يُدعى روجر بيترسون، يمكنه أن يطير بثلاثة منهم إلى مورهيد، إن أرادوا الذهاب فعلًا. لكن الليلة كانت قارسة البرودة؛ وظنَّ أندرسون أن هولي قد غيَّر رأيه، وأنه سيستقل الحافلة؟
لا. لا. لكنه غيَّر رأيه ثانية. كان سيستمع إلى هذه التسجيلات ربما لنصف ساعة؛ وعلى أي حال، كان يظنُّ أنه على وشْك الإصابة بنزلة برد. فهل بإمكان السيد أندرسون فضلًا أن يعيد إجراء المكالمات ويرتِّب كل شيء؟ ثم بعدها لربما أمكن السيد أندرسون أن يوصله إلى المطار؟ يمكن للحافلة أن تغادر الآن. دعهم يعانون مشقةَ رحلة ٤٠٠ ميل. وفي غضون ساعتين، سيكون هو مضطجِعًا في فراشٍ وثير دافئ.
قطَّب ريتشي جبينه محاولًا أن يظلَّ بعيدًا عن الانتباه. كان ثمَّة خطْبٌ ما هنا. كان ذلك الفتى بلا شك محتالًا لبِقًا. إنه مهذَّب كأي سيد جنوبي نبيل، لكن بطريقةٍ ما انتفض الجميع حين همس يقول «ضفدع». لكن لم تكن تلك هي المشكلة. هزَّ ريتشي رأسه محاولًا تصفيةَ ذهنه. فقد شعر بشيء غريب. تُرى ماذا في الأمر؟ أوه أجل. «لم يكن ثمَّة ذِكْر لركوب طائرة في السيرة الذاتية، ليس حتى مساء الغد، حين انسحب هولي من الجولة». وبينما كان في حَيرة أمره، لاحظ بالكاد المشاحنات التي نشبت بين عدد من مرافقي المغني، والتي حُلَّت حين بقي اثنان عرفهما ريتشي من الحفل — أحدهما يحمل اسمه نفسه، ويُدعى ريتشي فالينز، والرجل الضخم الذي يُدعى بيج بوبر — مع هولي فيما أخذ الآخرون يتدافعون على الحافلة.
«كان عليه أن يغادر المكان». لكن كيف؟ قام ريتشي بتشغيل التسجيلات لمزيدٍ من الوقت، باحثًا باستماتة عن مخرجٍ قبل أن يُعيده الوحش. وحين عاد أندرسون بالسيارة، شعر بارتياحٍ شديد حتى إنه دفع بالتسجيلات ببساطة في يد هولي وأخبره أن بإمكانه الاحتفاظَ بها، وراح فعليًّا يركض بأقصى سرعة لديه بعيدًا عن الأنظار بالقرب من موقف السيارات. كان يراوده شعور سيئ بأنه لم يكن متواريًا بالقدْر الذي كان «المشروع» يتطلَّبه. بل كان ينتابه شعورٌ سيئ حيال الأمر برمَّته. استند ريتشي إلى الجدار، ثم انهار على الأرض. شعر بشعور غريب «حقًّا».
ولم يكن ثمَّة أحد يلحظه حين تلاشى ببساطة مع جهاز اليوهير.
•••
كان مكبِّر الصوت المكعَّب هو البداية لما حدث. ففيما كان ريتشي جيفريز يستمع إلى «الأعمال الكاملة للبيتلز» في استوديو منزله، راودته أحلام يقظة عن الفنانين العظام بحقٍّ الذين لم يحظَوا مطلقًا بمزايا التكنولوجيا وفوائدها. ومن بين مجموعةِ تذكارات الروك المعلَّقة على الجدار، وقعت عينه على الصورة الفوتوغرافية المكبَّرة والمؤطَّرة التي كانت في حجم ملصق إعلاني من جريدة «ميرور ريبورتر» تعود إلى عام ١٩٥٩، وتصدر في كلير ليك بويسكونسن، وكانت تشير إلى وفاة ثلاثة من مطربي الروك آند رول في حادث تحطُّم طائرة بعد حفل في كلير ليك بويسكونسن. بادي هولي، الآن. كان بادي هولي بكل المقاييس يعرف ما عليه فعْله بأي جهاز تسجيل. يا لها من خسارة. لكنه مات، وهذا هو تفسير الأمر كله.
بالطبع، كان ثمَّة أشخاص حوله لم يكونوا قد ماتوا، لكن من حسن الحظ أنهم لم يموتوا. أو ربما ماتوا، حسبما يعلم أيُّ شخص. إنه لغز الروك الأبدي، الذي كان يقدِّم للصحفيين شيئًا يتحدثون عنه كل عام أو نحو ذلك؛ أكان جون لينون لا يزال على قيد الحياة؟ كيف كان حاله هذا الشهر؛ جريتا جاربو البوب؟ أم هيوارد هيوز الروك؟ أيًّا كان الأمر، فقد استمرت إمبراطورية الأعمال التي أنشأتها زوجته يوكو لمدة طويلة بعد وفاتها، وقال المحامون إن لينون لا يزال على قيد الحياة، رغم أنه لم يقدِّم أيَّ عروض منذ منتصف السبعينيات ولم يُرَ علانيةً منذ جنازة يوكو في العام ١٩٩٩.
فكَّر ريتشي وهو يرتشف الاسكوتش. لو أن أحدًا مثل لينون قد صنع بضعة تسجيلات ولو في الثمانينيات، وكانت تلك التسجيلات بنصف جودة التسجيلات التي صنعها من قبل، لأمكن باستخدام التكنولوجيا الحديثة تعديلها لتبدو جيدة مثل … مثل أي شيء صنعه كلابتون بكل تأكيد.
لكن كانت المشكلة أن لينون لم يسجِّل أيَّ شيء في الثمانينيات. فقط لو أن أحدهم ذهب إليه في داكوتا، ربما في أواسط عام ١٩٧٩، وتحدَّث معه قليلًا. وعاد به إلى الأستوديو.
كان ريتشي مسترخيًا أمام لوحةِ مزْج الأصوات وعيناه شبه مغلقتين، فاعتدل في جِلسته فجأة، وصار منتبِهًا تمامًا. «فقط لو» …