التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء
«التنوير كالأنفاق الكمومية؛ حين يرى الجميع أسوارًا وحواجزَ،
يرى المستنير إمكاناتٍ لا نهائية.»
أميت راي، «التنوير خطوة بخطوة»
تتوقَّف قدرة الضوء على السفر أسرعَ من الضوء على ظاهرةٍ تُعرف باسم
النفق الكمومي.
١ وينبغي لنا ألا نندهش من تداخل فيزياء الكم مع قصة السفر
عبر الزمن؛ لأن كليهما يُعد غريبًا مقارنةً بتجاربنا اليومية. والنفق
الكمومي هو أحد أغرب جوانب فيزياء الكم.
ترتبط ظاهرة النفق الكمومي بظاهرة اللايقين الكمومي، لكن من الأبسط
أن نتعرَّض إليها في إطار الاحتمالات، التي يمكن حسابها بدقة باستخدام
معادلات فيزياء الكم. تخبرنا المعادلات باحتمال إيجاد جسيمٍ ما
كالإلكترون أو البروتون في أي مكان بعينه. فإن كانت ثمَّة تجربة تقيس
موضعَ جسيمٍ ما، فإننا نعرف مكانه في تلك اللحظة. لكن بمجرد أن نتوقَّف
عن النظر إلى الجسيم، فإننا لا نعرف مكانه. وتخبرنا قواعد الكم بأن من
المحتمل إلى حدٍّ كبير أن يكون الجسيم في البداية في موضع قريب من
الموضع الذي رأيناه فيه، لكن بمرور الوقت تتزايد احتمالية أن يكون
الجسيم في مكانٍ مختلف تمامًا؛ بل قد يكون حتى، من حيث المبدأ، على
الجانب الآخر من الكون، وإن كانت احتمالية ذلك ضئيلة إلى أقصى حد. وحين
ننظر ثانيةً (أي نأخذ قياسًا آخر)، نجد الجسيم في موضعٍ جديد. لكن جوهر
ميكانيكا الكم يقول إن الجسيم لا يتحرَّك عبر المكان من موقعٍ إلى آخر.
فهو في البداية هنا، ثم بعد ذلك يكون هناك، من دون أن يعبر المسافةَ
بين الموضعين. وما نظنُّ أنها مسارات الجسيمات عبر الفضاء هي في واقع
الأمر خطوط ذات احتمالية عالية، وكأننا نأخذ قياسات كل جزء من الثانية
لكي نمنعها من أن تهيم في أركان الكون المترامية.
٢
تخيَّل بروتونًا على مسارٍ يحمله إلى جدارٍ منيع لا سبيل إلى النفاذ
منه. أغلب الظن أنه إما سيُمتَص أو سيرتد عن الجدار. لكن حين يكون على
مسافة قريبة جدًّا من الجدار، يكون ثمة احتمالية ضئيلة أنه سيظهر في
اللحظة التالية على الجانب الآخر من الجدار، وكأنه مرَّ عبره من خلال
نفق. يظهر هنا الرابطُ بين هذا ومبدأ اللايقين الكمومي؛ لأن موضع
الجسيم في أي لحظة من الزمن يكون غير محدَّد، وهو ما تصفه حرفيًّا
معادلات دقيقة. قد يكون الجسيم عند النقطة (أ)، أو قد يكون في أي موضع
آخر بين عدة مواضع بعيدة بعض الشيء عن النقطة (أ). وإن كانت النقطة (أ)
تقع بجوار الحاجز في لحظةٍ ما، فثمة احتمال قابل للقياس الكمي أن
الجسيم في اللحظة التالية سيكون على الجانب الآخر من الحاجز. ولا
يمكننا التأكُّد من أن الحاجز سيوقف حركة الجسيم. لكن ما هو أهم أن
الجسيم لا يمكن أن يكون محل يقين. فمبدأ اللايقين الكمومي هذا ليس
ناشئًا عن عجزنا البشري عن قياس الأشياء بالدقة الكافية؛ بل هو سمة من
سمات الكون نفسه.
وقد اختُبِر هذا بالتجارب، لكن أفضل مثال على نشاط النفق الكمومي
يأتينا من الشمس. يعرف علماء الفلك كتلة الشمس من دراساتِ مدارات
الكواكب، وبواسطة هذه المعلومات يكون من السهل حسابُ مدى الحرارة التي
ينبغي أن يكون عليها قلب الشمس لكي تتمكَّن من الصمود أمام الضغط
الداخلي الناشئ عن وزنها. والطاقة التي تحافظ على حرارتها تأتي من
اندماج نووي، يتم في الأساس عن طريق دمج البروتونات (أنوية الهيدروجين)
لإنتاج جسيمات ألفا (أنوية الهيليوم)، مع «فقدان» بعضٍ من كتلتها في
أثناء ذلك وإطلاقها في شكلِ طاقة. لكن ثمَّة عقبة — أو بدا أن ثمة
عقبةً حين طُرحت هذه الفكرة للنقاش أولَ مرة بين علماء الفيزياء في
مطلع عشرينيات القرن العشرين. وتحديثًا للقصة بالمصطلحات الحديثة، فإن
هذه العملية تبدأ حين يقترب بروتونان أحدهما من الآخر إلى حدٍّ كبير
ويندمجان معًا. يستحثُّ هذه العمليةَ تأثيرُ قوة جذب قوية (يُطلِق
عليها علماء الفيزياء اسمًا يخلو من أي خيال، وهو «القوة القوية»)
تجذبهما أحدهما إلى الآخر. لكن هذه القوة القوية تتسم بمدًى قصير
للغاية؛ لذا ينبغي أن تكون البروتونات على مقربة شديدة بعضها من بعض
قبل حدوث هذه العملية. تكمُن المشكلة في أن كلَّ بروتون يحمل شحنةً
كهربائية موجبة؛ ومن ثَم يحدث بينهما تنافر. ودفع كل منهما في اتجاه
الآخر أشبهُ بمحاولةِ دفع القطبين الشماليين لقضيبين مغناطيسيين أحدهما
إلى الآخر. وكلما زادت سرعة حركة البروتونين، استطاعا الاقترابَ أكثرَ
أحدهما من الآخر في تصادمٍ مباشر وجهًا لوجه قبل أن يباعد بينهما
التنافر، وتعتمد سرعة حركتهما على درجة الحرارة. ودرجة حرارة قلب الشمس
وفقًا لحسابات علماء الفلك أدنى كثيرًا من أن تتيح للبروتونين
الاقترابَ أحدهما من الآخر بما يكفي لسريان مفعول القوة القوية وقهر
التنافر. إذن كيف تستمر الشمس في السطوع؟
لا بد أنك خمَّنت أن سطوع الشمس يرجع إلى ظاهرة النفق الكمومي أو
المرور النفقي. في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كان عالِم الفيزياء
الروسي المَوْلد، جورج جاموف، يطبِّق قوانين ميكانيكا الكم المكتشَفة
حديثًا على الفيزياء النووية، وأدرك أهمية النفق الكمومي في التفاعلات
النووية. وبتطبيق هذه القوانين على الظروف القائمة في قلب الشمس،
تبيَّن أن درجة الحرارة في قلب الشمس مناسبةٌ تمامًا للبروتونات بحيث
يقترب بعضها من بعض، بما يسمح لها بالمرور في نفقٍ كمومي عبر الحاجز
الفاصل بينها. وهكذا فإن العبور النفقي الكمومي هو ما يسمح باستمرار
الاندماج النووي في قلب الشمس.
وأفضلُ تمثيل لذلك يكون بدحرجةِ كرةٍ صعودًا عبر الجزء الخارجي من
جبلٍ تعلوه فوهة بركان. إذا كانت الكرة تتحرك بسرعةٍ كافية، فستصل إلى
قمة الحافة وستتدحرج وينتهي بها الحال داخل الفوهة. أما إن كانت تتحرك
أبطأ مما ينبغي، فستقطع جزءًا من المسافة صعودًا إلى المنحدر ثم تنحدر
إلى أسفلَ عائدةً عبر الجزء الخارجي من الجبل. لكن النفق الكمومي يعني
أن الكرة إن قطعت شوطًا كافيًا على الجزء الخارجي من الجبل صعودًا،
يمكن أن تظهر فجأةً على الجانب الآخر من الحافة وتنحدر إلى داخل
الفوهة. واختيار مصطلح «العبور النفقي» ليس موفقًا؛ ذلك أن الجسيم لا
يتحرك فعليًّا عبر الحاجز؛ بل ينتقل في الحال من أحد جانبَي الحاجز إلى
الجانب الآخر. وهكذا يمكن للضوء أن يسافر بأسرعَ من الضوء.
«تبرُز مسألة السفر عبر الزمن في الواجهة بين اثنتين من
أكثر نظرياتنا الفيزيائية نجاحًا وإن كانتا غير متوافقتين؛
وهما نظرية أينشتاين عن النسبية العامة، ونظرية ميكانيكا
الكم. تصف نظرية أينشتاين العالَم في إطار المجرَّات
والنجوم الواسع جدًّا، في حين تُعَد نظرية ميكانيكا الكم
وصفًا ممتازًا للعالم على مستوى الذرَّات والجزيئات
المحدود للغاية.»
مارتن رينجباور، جامعة إنسبروك
ثمَّة شيء إضافي علينا أن نستوعبه من فيزياء الكم أولًا. على المستوى
الكمومي، لا يصح فعليًّا الحديث عن «الجسيمات» و«الموجات» باعتبارهما
شيئين منفصلين. فكل جسيم كمومي يمكن معاملته باعتباره موجةً أيضًا، وكل
موجة كمومية يمكن أن تُعامل معاملةَ الجسيم. إنما هي مسمياتٌ وتصنيفاتٌ
نستخدمها لإخفاء جهلنا بما يحدُث فعلًا، لكن بيت القصيد أن الحسابات
الخاصة بأشياءَ كالأنفاق الكمومية تقدِّم الإجاباتِ نفسها، بغض النظر
عن الصورة الذهنية التي تفضِّلها.
٣ وهذا أمر مهم؛ لأن الضوء (وأعني به أيَّ نوع من الإشعاع
الكهرومغناطيسي) ليس مجرد موجة فحسب، بل يمكن اعتباره دفقًا من جسيمات،
تُسمى الفوتونات. وهذا من شأنه أن يسهِّل علينا أن نفهم كيف يمكن للضوء
أن يشق نفقًا عبر أحد الحواجز. وسألتزم بالسيناريو الأبسط، وإن كان
بإمكاننا فهم هذه الظاهرة في إطار الموجات أيضًا.
كان ثمَّة فريقان مختلفان يدرسان ظاهرة العبور النفقي الكمومي
للفوتونات في تسعينيات القرن العشرين، حين أتى كلُّ فريق منهما على
اكتشافٍ مدهش. هناك عدة طرائق مختلفة لصنع حواجز تمرُّ عبرها الفوتونات
في أنفاق، لكن الطريقة المفضَّلة لديَّ تنطوي على اكتشافٍ لإسحاق نيوتن
في القرن السابع عشر الميلادي، واستخدمها علماء الفيزياء لاحقًا بعد
مضيِّ ثلاثة قرون من اكتشافها. أثار اهتمامَ نيوتن الطريقةُ التي يمكن
بها تحليلُ شعاعِ ضوء من خلال منشور زجاجي مثلثي الشكل لإنتاج طيفٍ
ضوئي من ألوان قوس قزح، وفي إحدى تجاربه البالغة الأهمية، أوضح أن
بالإمكان استخدام منشور آخر لإعادة تجميع طيف قوس قزح في شعاع واحد من
الضوء الأبيض. وكان هذا دليلًا على أن الضوء الأبيض هو مزيجٌ من جميع
ألوان قوس قزح، وأن الألوان لم تُضَف إلى الضوء بفعل الزجاج بينما يمر
عبره، وهو الأمر الذي كان الناس يعتقدون في صحته حتى مجيء نيوتن.
اشتملت تلك التجارب على وضع مناشيرَ زجاجية بعضها بالقرب من بعض بحيث
تكون جوانبها المسطَّحة موازية بعضها لبعض، مع وجود فرجة بسيطة بينها،
ولاحظ نيوتن ظاهرةً مثيرةً للفضول. لقد لاحظ أن شعاعًا من الضوء (والذي
يمكن أن نراه الآن باعتباره دفقًا من الفوتونات) يمرُّ عبر أحد جوانب
المنشور المثلثي بزاوية معيَّنة، وحين يصل إلى الجانب الآخر من
المنشور، فإنه ينعكس بدلًا من أن يخرج من الزجاج ببساطة، ثم يبرُز من
الجانب الثالث للمنشور المثلَّث الشكل. ولهذا الانعكاس الداخلي الكثيرُ
من أوجه الاستفادة العملية في أشياءَ كالمجهر الثنائي العينين ومنظار
الأفق، لكن ما يهم هنا هو أن الجانب الثاني من المنشور في هذه الظروف
يُعدُّ حاجزًا منيعًا ترتد عنه الفوتونات. لكن ليس الحال هكذا دائمًا!
فقد كان الاكتشاف المذهل الذي أتى عليه نيوتن أنه لو كان ثمة منشور آخر
بجوار السطح العاكس ومحاذيًا له مع وجود فرجة ضئيلة بينهما، فإن بعضًا
من الضوء يمر إلى المنشور الثاني ويستمر في طريقه. وقد وضعه ذلك في
حَيرة شديدة.
٤ وبعد ثلاثمائة عام، أصبح واضحًا أن الفوتونات في هذه
الظروف تشق نفقًا عبر الفرجة من أحد المنشورين إلى الآخر. وبما أن
العبور النفقي عمليةٌ لحظية، فهذا يعني أن الضوء «يسافر» عبر الفرجة
بأسرعَ من الضوء. وهذا هو ما قاسته التجارب في واقع الأمر في تسعينيات
القرن الماضي.
تنطوي طريقةُ القياس المطبَّقة على بعض التكنولوجيا المعقَّدة، لكن
المفهوم بسيط بحيث يمكن شرحه. تسافر الفوتونات المنطلقة من مصدرٍ ما
عبر فراغٍ لمسافةٍ معلومة حتى تصل إلى حاجز، يمكنك أن تتخيله في صورة
مرآتين موضوعتين إحداهما وراء الأخرى، مع وجود فرجةٍ بينهما معلوم
حجمها. تشق بعض الفوتونات نفقًا للمرور عبر الحاجز، بدلًا من أن تنعكس،
و«تخرج» من فورها من الجانب الآخر (وكأنها تخرج من المرآة الثانية)، ثم
تسافر مسافةً معلومة عبر الفراغ وحتى أحد أجهزة الكشف. وعلى سبيل
التبسيط، تخيَّل أن المراحل الثلاث للرحلة كلها ذات طول واحد. بالنسبة
إلى مرحلتين من الرحلة، يسافر أحد الفوتونات بسرعة الضوء، التي يُرمز
لها بالرمز
في معادلة أينشتاين. أما بالنسبة إلى المرحلة
الوسطى، فلا يستغرق الفوتون أيَّ وقت على الإطلاق. وهكذا يسافر الضوء
عبر ثلاث وحدات من المسافة في الوقت الذي يستغرقه في العادة ليقطع
وحدتين منها. لقد قطع الرحلة بأكملها في ضِعف سرعة الضوء بمرة
ونصف
1.5c وبهذا يكون قد عاد في
الزمن إلى الوراء بمقدار جزء ضئيل للغاية من الثانية.
كانت ثمَّة فتاة تُدعى برايت
بأسرعَ من البرق تأتي مسرعة؛
انطلقت ذات يوم
بصورة نسبية
وعادت في الليلة السالفة.
مجلة «بانش»، ١٩ ديسمبر ١٩٢٣
في تسعينيات القرن المنصرم، أجرى رايموند تشياو وزملاؤه تجاربَ على
هذه الشاكلة بجامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، قاسوا خلالها الضوءَ
وهو يسافر بضعف سرعته بمقدار 1.7c، إلا
أنهم لم يجدوا في ذلك ما يمكن الاسترشاد به لمعرفة طريقة عملية للسفر
عبر الزمن، أو حتى إرسال رسائل إلى الماضي، على غرار أشعات بينفورد
التاكيونية الخيالية. تكمُن المشكلة في أنه عند وصول شعاع من الفوتونات
إلى حاجزٍ ما، يستحيل تحديدُ أيٍّ من هذه الفوتونات سيشق نفقًا لعبور
الحاجز وأيها لن يفعل. فأي رسالة فعلية تحمل الكثير من الفوتونات،
وستضطرب هذه الفوتونات وتتداخل في طريقها خلال التجربة.
لكن الفريق الآخر الذي أجرى تجاربَ مشابهة مستقلًّا، وكان يرأسه
جونتر نيمتز من جامعة كولونيا، برهن على إمكانية نقل المعلومات إلى
الماضي بأسرعَ من الضوء. ففي عام ١٩٩٤، وفي تجاربَ استخدمت إشعاع
الموجات الميكروية (كما ذكرت آنفًا، لا فرق بين وصف الأشياء كموجات أو
وصفها كجسيمات)، أعدَّ الفريق تسجيلًا لافتتاحية السيمفونية الأربعين
لموتسارت وأرسلوه لاسلكيًّا في تجربة مرور نفقي قبل أن يعيدوا تسجيلها
ثانية على الجانب الآخر. وتبيَّن أنه قد انتقل بسرعة تعادل ضعف سرعة
الضوء بمقدار 4.7c. وكانت النتيجة قطعة
موسيقية منخفضة الدقة نوعًا ما، إلا إنها كانت لا تزال قابلة للتمييز،
انتقلت عبر التجربة بأكثرَ من سرعة الضوء بأربعة أضعاف. لا شك أنها
كانت تحتوي على معلومات، وإن لم تكن بنفس القدْر الذي تحمله النسخة
العالية الدقة. وقد سافرت عبر الزمن إلى الماضي.
سبَّب هذا الأمر حالةَ ذعرٍ واستنكار حين قام نيمتز بتشغيل التسجيل
في اجتماعٍ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكما وصف الأمر في كتابه مع
أستريد هايبل:
٥ كان الحضور «عاجزين عن الكلام للحظة؛ إذ استمعوا إلى
موسيقى أسرع من الضوء؛ أي إلى «إشارة» [التأكيد من وضع المؤلفين]،
لكنهم وجدوا صعوبة في تقبُّل ذلك.» ومنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي،
أصبحت التجارب أكثرَ تعقيدًا وتستخدم الآن فوتونًا واحدًا فقط، لكن
دائمًا ما تنتهي إلى النتيجة نفسها. وكما يوضِّح نيمتز: «عملية العبور
النفقي هي جزء من ميكانيكا الكم ولا يمكن وصفه باستخدام نظرية النسبية
الخاصة.»
تكمُن العقبة، بالنسبة إلى الراغبين في العمل في مجال الإشارات، في
أن الفواصل الزمنية التي تنطوي عليها هذه الإشارات محدودة للغاية. فقد
وصل تسجيل موسيقى موتسارت إلى الجانب الأبعد من التجربة قبل موعده
المفترض، لكن الفارق كان أقل بكثير من طرفة عين أو نبضة قلب. يشير
نيمتز أيضًا إلى مشكلةٍ أخرى. للإشارات مدةٌ محدَّدة. في التجارب، يمكن
أن تصل بداية الإشارة في مخرج التجربة قبل أن تكون قد وصلت إلى المدخل
— لكن على نهاية الإشارة اللَّحاق بها حتى يمكن قراءة الرسالة. والأمر
المثير للاهتمام حقًّا هو التوسع في نطاق التجربة حتى تصل الإشارة
بأكملها قبل إرسالها. ربما يبدو هذا كحُلم العالِم المجنون الذي يُضرب
به المثل. وقد قدَّم لنا أحد العلماء، الذي لم يكن مجنونًا لكنه كان
يتمتع بمخيلة خصبة، إشارةً تتعلق بكيفية القيام بذلك في قصة نُشرت قبل
نصف قرن من التجارب التي أجراها تشياو ونيمتز. كان هذا العالِم هو
إسحاق أسيموف، واشتملت قصته على خواصِّ مركَّب كيميائي خيالي يُدعى
الثيوتيمولين.
وُلِد أسيموف في روسيا إما في أواخر عام ١٩١٩ أو في أوائل عام ١٩٢٠،
لكنه انتقل مع أسرته إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٢٣، وفُقِدت سجلات
ميلاده الأصلية؛ فاختار أن يحتفل بمولده يوم الثاني من شهر يناير. بدأ
أسيموف كتابة القصص القصيرة عام ١٩٣٩. وبعد مسيرة تعليمية قطعتها
الخدمة العسكرية، عكف أسيموف، في النصف الثاني من أربعينيات القرن
العشرين على إعداد رسالة دكتوراه في جامعة كولومبيا، وكانت الرسالة
تشتمل على تجارب باستخدام الكاتيكول، وهو مادة تتكون طبيعيًّا وتشكِّل
بلورات بيضاء خفيفة تتحلل في الماء بسرعة كبيرة. تذكَّر أسيموف لاحقًا
أنه وبينما كان يضيف تلك البلورات إلى الماء ذات يوم، خطر له أن تلك
البلورات لو تحلَّلت بأسرعَ مما هي عليه، فإنها ستتحلل قبل أن تلامس
الماء. وعلى سبيل الاستراحة من إنهاء رسالة الدكتوراه قبل مناقشتها،
كتب أسيموف ورقة علمية ساخرة بعنوان «خواص الذوبان المزمن للثيوتيمولين
المعاد تصعيده»
٦ تدور حول هذه المادة الخيالية التي كانت تفعل ذلك تمامًا؛
إذ كانت تتحلل في الماء «قبل» إضافته إلى البلورات بمدة مقدارها ١٫١٢
ثانية. وكان من البديهي أن يعرض ما كتبه على جون دبليو كامبل، محرِّر
مجلَّة «أستوندينج» كما كان اسمها حينها. أبدى كامبل سعادته وترحيبه
بنشر هذه الورقة، لكن أسيموف كان قلقًا من أن ممتحنيه قد يعترضون على
مثل هذا العبث؛ لذا اتُّفِق على أن تُنشر تحت اسمٍ مستعار. ولكن في
واقع الأمر، نُشرت الورقة في عدد المجلة لشهر مارس من عام ١٩٤٨ باسمه.
وكما اعترف أسيموف لاحقًا، كان كامبل يعرف أكثر. فلم يشعر أحدٌ بالغضب
أو الإهانة، وحصل أسيموف على درجة الدكتوراه، وذاع صيت «أسيموف» على
نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية وكذا عند محبي الخيال العلمي.
فيما يلي فقرة رئيسية في «المقال» تسلِّط الضوء على أهمية هذا المركب:
إن حقيقة أن المركَّب الكيميائي قد تحلَّل قبل إضافة الماء
جعلت من الطبيعي محاولة سحب الماء بعد التحلُّل وقبل إضافته.
ولحسن حظ قانون حفظ الكتلة والطاقة، لم ينجح هذا قط؛ لأن عملية
التحلل لم تحدث إلا عند إضافة الماء في النهاية. والسؤال الذي
يطرح نفسه في الحال بالطبع هو كيف يمكن لمركَّب الثيوتيمولين
أن «يعرف» مسبقًا إن كان الماء سيُضاف في النهاية أم
لا.
من الواضح أن الأمر هنا يتطلب نوعًا من أنواع التواصل العكسي في
الزمن.
لكن كانت هذه مجرد بداية فقط لملحمة مركَّب الثيوتيمولين. فقد ظهر
«مقال» آخر في العام ١٩٥٣ وأُدرج كلاهما في المجموعة القصصية بعنوان
«تريليون واحد فقط» (عام ١٩٥٧)، حيث تعرضت لهما لأول مرة. لكن القصة
ذات الصلة هنا هي قصته الثالثة عن مركَّب الثيوتيمولين بعنوان
«الثيوتيمولين وعصر الفضاء». يصف أسيموف هذه المرة «بطارية اتصال طويل
الأمد»، وهي مجموعة من الأجهزة يتصل بعضها ببعض، ومن خلال إضافة الماء
لتحليل الثيوتيمولين في إحدى الحجيرات، تُفعَّل إضافة الماء في
الحجيرات التالية في سلسلة تتكوَّن من ٧٧ ألف جهاز «كرونومتر داخلي»،
بحيث تتحلل عينة من الثيوتيمولين في نهاية الخط قبل يوم من إضافة الماء
في الحجيرة الأولى. ويؤدي هذا إلى تعقيدات حين يحاول الباحثون خداع
الآلة عن طريق عدم إضافة الماء إطلاقًا، لكن في كل حالة كانت تقع حادثة
عارضة أو كارثة طبيعية (؟) (بلغت ذروتها في شكل إعصار)، ما يؤدي إلى
دخول الماء إلى النظام. وفي قصةٍ أخيرة له بعنوان «ثيوتيمولين إلى
النجوم» المنشورة عام ١٩٧٣ وتدور أحداثها في المستقبل البعيد،
«يُوضِّح» أن الماء إذا «لم» يُضف إلى جهازٍ يقوم على أساس عينة متحللة
من الثيوتيمولين، فإنه سيسافر في المستقبل بحثًا عن الماء.
يمكنك أن ترى تداعيات هذا السيناريو الخيالي على التجارب التي أجراها
تشياو ونيمتز. إن بنية مركبة من الحواجز متعدِّدة الطبقات، كالمرايا
الموضوع بعضها وراء بعض التي ذكرتها آنفًا، لن تكون مختلفة تمامًا عن
سلسلة أجهزة «الكرونومتر الداخلي» لدى أسيموف والبالغ عددها ٧٧ ألف
جهاز، ومن ثمَّ ستضاعف تلك الحواجز العنصر المسئول عن العبور النفقي
الفوتوني في السفر عبر الزمن. غير أن هذا ليس اقتراحًا عمليًّا. لكن
ليس هناك في قوانين الفيزياء ما يمكن أن يمنع ذلك، وكما يلخِّص كلٌّ من
نيمتز وهايبل، فمن الحقائق المعروفة «أن هناك مساحات قابلة للتحقق منها
… لا يوجد بها زمن رغم إمكانية السفر عبرها.»
يثير هذا من جديد مسألةَ ما إن كانت «خطوط العالم» لمخروط الضوء
المستقبلي مجمَّدة في الزمكان كتلك الخطوط الخاصة بالمخروط الضوئي
الماضي، لكن وقبل أن أسهب في الحديث عن تلك التداعيات، أريد أن أتناول
مجددًا إمكانية قلب مخاريط الزمكان الضوئية حتى يصبح الوقت بُعدًا
مكانيًّا. قد لا يكون هذا شيئًا يمكن أن نقوم به في مختبر هنا على كوكب
الأرض؛ لكن لربما يمكن للكون أن يفعلها نيابة عنا.
هوامش