التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
«تنشأ الثقوب السوداء من زمان منثنٍ ومكان منثنٍ. لا شيء آخر، أيًّا ما كان.»
يشتمل النوع الثاني من آلات السفر عبر الزمن على أكثرِ الأجسام تطرفًا في الكون، وهي الثقوب السوداء. معظم التصورات الوصفية للثقوب السوداء تصورها كثقوب في الفضاء؛ بوابات هلاك تقدِّم رحلة بلا رجعة نحو الانقراض. وتقترح بعض السيناريوهات الأكثر تعقيدًا بعض الشيء أن هذه الثقوب تعمل بمثابة أنفاق عبر الفضاء، ما يسمح للمسافرين البواسل بالتحايل على حاجز سرعة الضوء، وذلك من خلال سَلْك طريق مختصر عبر «الفضاء الفائق». لكن نظرية أينشتاين هي نظرية عن الزمان والمكان، ولا عجب أنها تقدِّم — من حيث المبدأ — طريقةً للسفر عبرهما كليهما.
لكن في تطوُّر تاريخي غريب وغير متوقع، بحث أنصار النسبية في واقع الأمر فيما يُعرف الآن بالثقوب الدودية في الزمكان، وذلك قبل فترة طويلة للغاية من إقدام أحد على أخذ فكرة الثقوب السوداء الفيزيائية على محمل الجِد. ففي مطلع عام ١٩١٦ — أي قبل أقل من عام من نشر أينشتاين لنظرية النسبية — وجد الألماني كارل شفارتسشيلد حلًّا لمعادلات أينشتاين يصفُ ما نطلق عليه اليوم ثقبًا أسود، وسرعان ما أشار العالِم النمساوي لودفيج فلام إلى أن الحل الذي توصَّل إليه شفارتسشيلد لمعادلات أينشتاين يعمل أيضًا بالعكس، ما يشير ضمنيًّا إلى احتمالية وجود ثقب دودي يربط بين منطقتين من نسيج الزمكان المنبسط، قد تكون هاتان المنطقتان كونين مختلفين أو جزأين مختلفين من الكون نفسه. واستمر التخمين والتنظير بشأن طبيعة الثقوب الدودية على فترات متقطعة طيلة عقود، كما وضع أينشتاين نفسه — بالاشتراك مع زميله ناثان روزين — وصفًا رياضيًّا حاسمًا لمثل هذا الطريق المختصر عبر الفضاء، الذي صار يُعرف باسم جسر أينشتاين-روزين. لكن بالرغم من أن الرياضيات تضع في الاعتبار وجود مثل هذه الجسور، فإن أنصار النسبية برهنوا في وقت مبكِّر للغاية على أن ثقوب شفارتسشيلد الدودية لا توفِّر طريقةً للانتقال من أحد أجزاء الكون إلى جزء آخر.
تكمُن المشكلة الأولى في أن المسافر عبر الفضاء سيكون عليه أن يتحرَّك بأسرعَ من الضوء في مرحلةٍ ما من الرحلة من أجل اجتياز جسر أينشتاين-روزين من طرفه إلى طرفه الآخر. ثمة مشكلة أخرى أيضًا مع هذا النوع من الثقوب الدودية، وهي أنه غير مستقر. فهذا النفق المفتوح (والذي يُطلق عليه في بعض الأحيان «حَلْق») يوجَد فقط لجزء ضئيل للغاية من الثانية قبل أن ينغلق بسرعة. ولا يُوجد الثقب الدودي نفسه طويلًا بما يكفي لعبور الضوء من أحد طرفيه إلى طرفه الآخر.
لكن ليست هذه نهاية القصة. إن ثقب شفارتسشيلد الأسود البسيط ليس له شحنة كهربائية كلية، ولا يدور كذلك. والمثير في الأمر أن إضافة شحنة كهربائية أو دوران إلى الثقب الأسود تغيِّر طبيعةَ المتفرِّدة، مما يفتح بوابة إلى أكوان أخرى، ويجعل الرحلة ممكنة عند السفر بسرعاتٍ أقل من سرعة الضوء. فالشحنة الكهربائية تمد الثقب الأسود بقوة ثانية، إضافة إلى قوة الجاذبية. ونظرًا إلى أن الشحنات التي تحمل الإشارةَ نفسها تتنافر، تحاول هذه الشحنة تدميرَ الثقب الأسود. والدوران يؤتي الأثر نفسَه إلى حد كبير. ففي كلتا الحالتين توجد قوة تقاوم الجاذبية.
في ستينيات القرن العشرين، أثبت روجر بينروز أنه وفقًا لنظرية النسبية العامة، فإن أي شيء يسقط في ثقب أسود بسيط تكوَّن من كتلة من مادة غير دوَّارة لا بد أن يُسحَب إلى داخل المتفرِّدة وينسحق من الوجود، الأمر الذي لا يبشِّر بخير للراغبين في السفر عبر الزمن أو عبر المكان. لكن في الوقت نفسه تقريبًا، وجد روي كير — وهو عالِم رياضي نيوزيلندي — أن الأمور تختلف حالَ كان الثقب الأسود يدور. ستتشكَّل المتفرِّدة، ولكن في شكل حلقة، كحبة سكاكر النعناع المثقوبة. يمكنك، من حيث المبدأ، أن تغوص في مثل هذا النوع من الثقوب السوداء وعبر الحلقة وتخرج في مكان وزمان آخرين. وإن اصطدمت بالحلقة فستنسحق من الوجود؛ لكن مَن يسقط عبر الحلقة سيعبر جسر أينشتاين-روزين وينتهي به المآل في جزء آخر من الزمكان. ولكن هذا سيكون بمثابةِ نفق ذي اتجاه واحد؛ إذ لا يمكنك العودة من حيث انطلقت. والالتفاف للعودة عبر النفق من شأنه أن يأخذك إلى منطقة أخرى من الزمكان. كان «حل كير» هذا هو المثال الرياضي الأول لآلة زمن، لكنَّ أحدًا لم يأخذه على محمل الجِد في ذلك الوقت.
«على مدار حياتي العلمية كلها الممتدة لأكثر من خمسة وأربعين عامًا، كانت أكثر التجارب إثارةً هي إدراكي أن حلًّا دقيقًا لمعادلات أينشتاين في النسبية العامة — والذي اكتشفه عالِم الرياضيات النيوزيلندي روي كير — يقدِّم التمثيل الدقيق تمامًا لأعداد لا تُوصف للثقوب السوداء الضخمة التي يعجُّ بها الكون.»
أقنع العلماء البارزون أنفسَهم من خلال الخيال العلمي — وربما بصورة حتمية — بإمكانية تفعيل السفر عبر الزمن وإنجاحه، وذلك من خلال حضارة متقدِّمة على المستوى التقني. كان رائد الفضاء الأمريكي كارل ساجان يعكف على كتابة روايةٍ استخدم فيها جهازًا يصنع ممرًّا عبر ثقب أسود يسمح لشخصيات روايته بالسفر من نقطة بالقرب من الأرض إلى نقطةٍ بالقرب من نجم النسر الواقع. كان ساجان يعلم علمَ اليقين أنه يلوي قوانين الفيزياء، ولكنه أراد أن يكون العلم في روايته دقيقًا قدْر الإمكان؛ لذا سأل كيب ثورن بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا — وهو خبير في النسبية — كيف يمكن إدخال بعض ترَّهات العلم الزائف في حبكة القصة ليجعلها تبدو معقولة ومستساغة ظاهريًّا. وحين اطَّلع ثورن على المعادلات بعناية (أو بالأحرى حين أوكل إلى اثنين من طلبة الدكتوراه لديه، وهما مايكل موريس وأولفي يورتسيفر، مهمةَ الإتيان ببعض التفاصيل عن السلوك الفيزيائي للثقوب الدودية) أدرك أن بالإمكان جعلَ جسر أينشتاين-روزين مستقرًّا باستخدام الفيزياء الغريبة (لكن ليست المحظورة)، وسأشرح ذلك بعد قليل. حقَّق كلٌّ من موريس ويورتسيفر تقدمًا بالبدء من الطرف الرياضي للمشكلة، على غرار الطريقة التي استخدمها تيبلر في دراسة آلات الزمن الدوَّارة. فبدلًا من التفكير في الكيفية التي يمكن أن تتشكَّل بها الثقوب السوداء ثم التحقق رياضيًّا مما إن كانت تلك الثقوب السوداء يمكنها أن تشكِّل جسور أينشتاين-روزين، استخدما معادلات النظرية العامة بهدف «إنشاء» هندسةٍ للزمكان تتوافق مع الشرط الذي وضعه ساجان للثقب الدودي حتى يمكن للكائنات البشرية عبوره وسلوكه ماديًّا. ثم بعد ذلك اتجها للبحث في الفيزياء، ليريا إن كان ثمَّة طريقة يمكن لقوانين الفيزياء المعروفة العمل من خلالها لإنتاج الشكل الهندسي المطلوب. وقد كان. سُرَّ ساجان كثيرًا، وظهر نفقُ الزمكان في الرواية، وهي رواية «اتصال» (كونتاكت)، التي نُشِرت في عام ١٩٨٥، وفي الفيلم الذي أُنتج لاحقًا بطولة جودي فوستر. لكن كان هذا لا يزال يُقدَّم باعتباره طريقًا مختصرًا عبر الفضاء.
ويبدو أن ثورن لم يدرك مباشرةً أن الحيلة التي وجدها فريقه فتحت البابَ أيضًا أمام إمكانية السفر عبر الزمن. لكن في شهر ديسمبر من عام ١٩٨٦، ذهب ثورن مع مايك موريس لحضور اجتماعٍ علمي في شيكاغو، حيث أشار أحد المشاركين الآخرين على موريس على نحوٍ عرَضي بأن الثقوب الدودية يمكن استخدامها أيضًا في السفر عكسيًّا عبر الزمن. وقد روى ثورن قصةَ ما حدث آنذاك في كتابه «الثقوب السوداء والتواء الزمن». فقد أدرك أن أيَّ ثقب دودي طبيعي المنشأ سيربط على الأرجح بين زمنين مختلفين. وبمجرد أن أجاز ثورن فكرةَ السفر عبر الزمن وأيَّدها — وهو من الرواد المشهود لهم في مجال دراسة نظرية النسبية العامة — بدأ فيزيائيون آخرون في إدخال مزيد من التطوير عليها.
خلاصة كلِّ هذا العمل أنه في حين يكون من الصعب إدراك كيف يمكن لأي حضارة تشييد آلة زمن من ثقب دودي من نقطة الصفر، يكون من الأسهل كثيرًا تخيُّل إمكانية تطويع ثقب دودي طبيعي المنشأ ليلائم متطلبات السفر عبر الزمن لدى أي حضارة متقدِّمة بما يكفي. وعبارة «متقدِّمة بما يكفي» هنا تعني القدرة على السفر عبر الفضاء بالوسائل التقليدية، وتحديد مواقع الثقوب السوداء وتطويعها بالسهولة التي نطوِّع بها سطح الأرض في مشروعاتٍ مثل نفق المانش.
استخدم فريق ثورن معادلاتِ النظرية العامة لمعرفة نوعيات المادة والطاقة التي يمكن أن تُبقي ثقبًا دوديًّا مفتوحًا. وينبغي عدم الاندهاش مما اكتشفوه. فالجاذبية تجذب أجزاءَ المادة معًا، ما يُنشئ متفرِّدات ويضغط حلق الثقب الدودي مغلقًا إياه. ولكي يبقى الثقب الدودي مفتوحًا، ينبغي أن يُمرَّر عبره شكل من أشكال مادة غريبة غير مألوفة، أو مجال ما، يُنتِج ضغطًا سالبًا ومن ثَم يكون له مقاومة للجاذبية. قد تظنُّ أن هذا يجعل من إنشاء ثقوب دودية يمكن السفر عبرها واجتيازها أمرًا مستحيلًا. فالضغط السالب أشبه بنفخ بالون ورؤيته وهو ينكمش ويفرغ منه الهواء. فهل من المؤكَّد حقًّا أن مادةً كهذه لا يمكن أن توجد في الكون الحقيقي؟ لكن ربما تكون موجودة بالفعل.
«إن كنت شديد التفاؤل، فالفكرة الأساسية أنك إذا ما تلاعبت بفتحات الثقب الدودي، فلا يمكنك أن تجعله طريقًا مختصرًا من نقطة إلى أخرى في الفضاء، بل طريقًا مختصرًا من لحظة إلى أخرى في الزمن.»
وُجِد السبيل إلى هذا النوع من مقاومة الجاذبية منذ زمن طويل على يد الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير في عام ١٩٤٨. عمِل كازيمير في مختبرات الأبحاث لعملاق الكهرباء فيليبس، حيث توصَّل إلى اقتراحٍ لما صار يُعرف بعد ذلك بتأثير كازيمير. من الطرق البسيطة لفهم تأثير كازيمير تمثيلُها بلوحين معدنيين متوازيين، متقاربين جدًّا أحدهما من الآخر وبينهما فراغ. لكن فيزياء الكم تخبِرنا بأن الفراغ — أو المساحة الفارغة — ليس خاويًّا بالفعل. بل يعجُّ بالنشاط، إلى جانب الجسيمات الكهرومغناطيسية، أو الفوتونات، من بين أشياء أخرى، التي تظهر من العدم لبرهة قصيرة جدًّا قبل أن تختفي ثانية. تسمَّى هذه الفوتونات بالفوتونات «الافتراضية»، لكنها موجودة بالفعل. كلُّ هذا يعود إلى ظاهرة اللايقين الكمومي، التي تخبرنا بأننا لا يمكن أبدًا أن نكون واثقين كلَّ الثقة مما إذا كانت الفوتونات موجودة بالفعل أم لا.
ترتبط الفوتونات على اختلاف مستوياتها من الطاقة بموجاتٍ كهرومغناطيسية ذات أطوال موجية المختلفة، بحيث تتوافق الأطوال الموجية الأقصر مع مستويات الطاقة الأعلى؛ لذا فإن من الطرق الأخرى لتخيُّل ذلك تصوُّر أن الفراغ يعجُّ ببحر من الموجات الكهرومغناطيسية الدائمة التغيُّر. وفي أعماق الفراغ، توجَد كل الأطوال الموجيَّة في هذا البحر. لكن بين لوحين معدنيين موصَّلين للكهرباء، لا يمكن للموجات الكهرومغناطيسية إلا أن تشكِّل أنماطًا مستقرة بعينها، حتى حين لا تكون الألواح مزودةً بشحنةٍ كهربية. والموجات النشطة بين اللوحين المعدنيين تشبه في سلوكها الموجات الموجودة على وتر جيتار منقور عليه. فوتر الجيتار المنقور لا يمكن أن يهتزَّ إلا بطرقٍ معيَّنة، ليخرِج نغماتٍ بعينها؛ تلك النغمات التي تتوافق فيها اهتزازات الوتر مع طوله. تلك هي النغمات الأساسية لوترٍ بعينه، وموجاته التوافقية. بالمثل، ثمَّة أطوال موجية معيَّنة لإشعاعٍ ما هي التي يمكن أن تتوافق مع الفرجة بين اللوحين المعدنيين من تجربة كازيمير. ولا يمكن لأي فوتون يتلاءم مع طولٍ موجي أكبر من الفرجة بين اللوحين المعدنيين أن يتناسب مع تلك الفرجة. لذا فإن في كل سنتيمتر مكعَّب من الفراغ بين اللوحين المعدنيين تنشط فوتونات افتراضية أقل من الفوتونات الموجودة خارج الفراغ بين اللوحين، ومن ثَم يشعر اللوحان وكأن قوَّة تدفعهما أحدهما نحو الآخر. هذا التأثير حقيقي. فقد قاست التجارب مدى قوة كازيمير بين لوحين معدنيين باستخدام ألواح مسطَّحة ومقوَّسة مصنوعة من أنواع مختلفة من المواد لنطاقٍ من الفرجات بين الألواح يتراوح بين ١.٤ نانومتر إلى ١٥ نانومترًا (حيث النانومتر الواحد يساوي واحدًا على مليار من المتر)، وتتَّفق النتائج مع تنبؤ كازيمير تمامًا.
في عام ١٩٨٧، نشر كلٌّ من موريس وثورن ورقة بحثية تسلِّط الضوء على إمكانية استخدام شكل مختلف من هذا التأثير للإبقاء على ثقب دودي مفتوحًا (على النطاق المجهري على الأقل)، وأشارا إلى أن حتى مجالًا كهربائيًّا أو مغناطيسيًّا عاديًّا يتخلل ثقبًا دوديًّا «يكون قاب قوسين أو أدنى من أن يكون مجالًا دخيلًا؛ فإن كان توتره أكبرَ بشكل متناهي الصِّغر … فمن شأنه أن يلبي احتياجاتنا اللازمة إلى إنشاء ثقب دودي». وخلُصا إلى أنه «ينبغي ألا نفترض دون تفكيرٍ استحالةَ وجودِ المادة الغريبة اللازمة لحلق ثقب دودي قابل للسفر عبره».
ثمَّة طريقة أخرى ممكنة لإبقاء نفق زمني مفتوحًا؛ وذلك باستخدام الوتر الكوني الذي استعان به تيبلر ليبقي آلته الزمنية الدوَّارة الافتراضية صامدة في مواجهة السَّحب الداخلي للجاذبية. وأحد الخيارات لتنفيذ ذلك سيتمثل في أخذِ ثقب دودي مجهري طبيعي المنشأ وتمديده حتى الوصول إلى الحجم المطلوب باستخدام الوتر الكوني. حينها سيكون ثمة ثقبان أسودان عند الطرفين المتقابلين لثقب دودي عبر الفراغ الفائق. ويمكن للثقبين ألا يُوجدا فقط في أماكن مختلفة، بل في أزمنةٍ مختلفة أيضًا، أو حتى في المكان نفسه ولكن في أزمنة مختلفة. اقفز في ثقب من الثقبين وستخرج فجأةً من الآخر في وقت مختلف، إما في الماضي أو في المستقبل. اقفز عائدًا إلى الثقب الذي خرجت منه وستعود إلى النقطة التي انطلقت منها في المكان والزمان.
أشار الباحثان بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أيضًا إلى معاناة معظم الفيزيائيين من فشلٍ في التخيُّل حين يتعلَّق الأمر بدراسة المعادلات التي تصف المادة والطاقة في ظل ظروفٍ أكثرَ تطرفًا بكثير من تلك التي نواجهها هنا على الأرض. ففي برنامج دراسي للمبتدئين في النظرية العامة دُرِّس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عام ١٩٨٥، لم يُخبَر الطلاب بأي شيء محدَّد حول الثقوب الدودية، لكنهم تعلَّموا استكشاف المعنى الفيزيائي للمعادلات، المعروف بمقاييس الزمكان. وفي اختبارهم، وُضع لهم سؤال قادهم خطوةً بخطوة عبر الوصف الرياضي للمقياس الموافق لثقب دودي. وعن ذلك قال موريس وثورن: «كان من المذهل أن ترى كيف كانت مخيلة الطلاب مقيَّدة وضيقة. لقد تمكَّن معظمهم من فك شفرة الخصائص التفصيلية للمقاييس، لكنَّ قلةً قليلة منهم فحسب هي مَن تمكنت فعليًّا من إدراك أنها تمثِّل ثقبًا دوديًّا قابلًا للسفر عبره.» غير أن ثورن وطالبَيه هنا يعيبون على غيرهم في شيء هم أنفسهم قد وقعوا فيه؛ ذلك أنهم لم يدركوا أن المقاييس التي كانوا يعملون عليها بطلب من ساجان تشير ضمنيًّا إلى السفر عبر الزمن إلا حين لفت أحدهم انتباههم إلى ذلك.
[إنها] تتكوَّن من حجيرتين، تحتوي كل واحدة على لوحين معدنيين متوازيين. تقوم المجالات الكهربائية الكثيفة الناشئة بين كل زوج من الألواح (أكبر من أي شيء ممكن في ظل تكنولوجيا اليوم) بتمزيق نسيج الزمكان، ما يُحدِث ثقبًا في الفضاء يربط بين الحجيرتين.
بالاستفادة من نظرية أينشتاين عن النسبية الخاصة التي تنصُّ على أن الوقت يمر بطيئًا على جسمٍ متحرِّك، يمكن لنا إذن أخذُ إحدى الحجيرتين في رحلة طويلة وسريعة والعودة بها. سيمر الوقت ببطءٍ أكثرَ على الحجيرة المسافرة عبر الزمن؛ لذا ستعود إلى نقطة انطلاقها مع وجود فارق زمني بين طرَفي الثقب الدودي. وكما أشرت، يمكن تطبيق الحيلةِ نفسها على زوج من الثقوب السوداء متصلين بثقب دودي، وإن كان من الأصعب كثيرًا تخيُّل كيف ستشرع في أخذ ثقب أسود ذي كتلة تساوي عشرة أضعاف كتلة الشمس في رحلة بسرعةٍ، لنقُل إنها تبلغ نصف سرعة الضوء والعودة به ثانية. ربما كان من الأيسر استخدام مقصورات كازيمير — كما وصف كاكو — ثم توسيع الثقب الدودي بالوتر الكوني إلى الحد اللازم.
ثمَّة نفق داخلي في حل كير لمعادلات أينشتاين للمجال، لكنه غير مستقر. وأقل اضطراب فيه من شأنه أن يوصده ويحوِّل النفق إلى متفرِّدة فيزيائية لا يمكن لأي شيء أن يمرَّ عبره. وقد حاولت تخيُّل حضارةٍ متفوقة من شأنها أن تتحكم في البنية الداخلية لنجمٍ متهاوٍ بهدف الإبقاء على النفق الداخلي مستقرًّا. لكن هذا أمر في غاية الصعوبة. فسوف يتعيَّن على تلك الحضارة مراقبة النفق والعمل على استقراره إلى الأبد.
يمكن لتلك الحيلة أن تسري من خلال التغذية الراجعة السلبية، التي يُحدِث فيها أيُّ اضطرابٍ اضطرابًا آخر يلغي الأول. وهذا هو نقيض تأثير التغذية الراجعة الإيجابية المألوف، الذي يتسبَّب في صوت الطنين الذي يخرج من مكبرات الصوت إذا ما وُصِّل ميكروفون بتلك المكبرات عبر مُضخِّم صوت ووُضع هذا الميكروفون أمامها. فحينئذٍ تدخل الضوضاء الخارجة من مكبرات الصوت إلى الميكروفون، فتتضخم، وتخرج من مكبرات الصوت أعلى مما كانت عليه من قبل، فيلتقطها الميكروفون ويضخِّمها … وهكذا. لكن إذا حَلَّلت تلك الضوضاء الخارجة من مكبرات الصوت بواسطة جهاز كمبيوتر يُصدر موجةً صوتية لها الخصائص المضادة تمامًا، فإن كلتا الموجتين تُلغي إحداهما الأخرى، لينتج عن ذلك صمت. يمكن تنفيذ هذه الحيلة بسهولة، وهي تُستخدم على نحو روتيني في سماعات الرأس العازلة تمامًا للضوضاء، التي قد تملك واحدة منها. لذا ليس من المستبعَد أن نتخيَّل «الحضارة المتفوِّقة» التي يتحدث عنها ساجان تُنشِئ نظام إرسال واستقبال لموجات الجاذبية يقبع في حلق ثقب دودي ويستطيع تسجيل الاضطرابات التي يسبِّبها مرور سفينة الفضاء عبر الثقب الدودي، ثم يقوم هذا النظام «بإعادة إصدار» مجموعة من موجات الجاذبية من شأنها إلغاء تلك الاضطرابات تمامًا، قبل أن تتمكن من تدمير النفق.
لكن بغض النظر عن الطريقة التي سيجري بها الأمر، فإن التأثيرات الناجمة عن إنشاء ثقبٍ دودي قابل للسفر عبره يمكن أن تكون مثيرة. على سبيل المثال، إن كانت الفوهة الثابتة للثقب تبلغ من العمر ١٠٠ عام، فقد لا تعاصر الفوهة المتحرِّكة سوى عام واحد فقط. فإذا ما بدأت التجربة في عام ٢٠٣٠، فإنها ستنتهي في عام ٢١٣٠ بالنسبة إلى الفوهة الثابتة على الأرض، إلا أنها ستنتهي في عام ٢٠٣١ بالنسبة إلى الفوهة المسافرة عبر الزمن. والمسافر الذي يدخل إلى الفوهة الثابتة في العام ٢١٣٠ سيخرج من الفوهة المتحركة في عام ٢٠٣١، رغم أن الفُوَّهتين الآن متجاورتان في الفضاء. وهذا الفارق الزمني ثابت الآن. وما دامت الفُوَّهتان في مكانيهما، فسيكون بالإمكان دائمًا القفزُ إلى الماضي مسافة ٩٩ عامًا أو القفز إلى المستقبل مسافة ٩٩ عامًا باستخدام هذا النفق الزمني. ويمكنك ضبط مدة الفارق الزمني بأي شكل تريد، باستخدام تأثير التمدد الزمني، لكن لا يمكنك أبدًا العودة إلى الماضي إلى وقت أسبق من اللحظة التي انتهيت فيها من إنشاء آلة الزمن.
«من الاعتراضات التي كثيرًا ما أُثيرت بخصوص السفر بالزمن إلى الماضي، أننا لم نلتقِ أحدًا من المستقبل. فلو كان من الممكن زيارة الماضي، فقد نتوقَّع أن أحفادنا — ربما بعد آلاف السنين من الآن — سيبتكرون آلةَ زمن وسيعودون ليشاهدونا أو حتى ليحدِّثونا عن أنفسهم … ولحسن الحظ أن هذا الاعتراض يسهُل الرد عليه في حالة الثقوب الدودية كآلات للسفر عبر الزمن. فعلى الرغم من إمكانية استخدام الثقوب الدودية للسفر عبر الزمن جيئة وذهابًا، فمن غير الممكن استخدامُ أحدها للانتقال إلى زمنٍ يسبق إنشاء الثقب الدودي. فإذا أنشأنا ثقبًا دوديًّا الآن … فلن يمكنك استخدامه للعودة ومشاهدة الديناصورات. فقط إذا كان الثقب الدودي موجودًا بالفعل في الطبيعة — أو إذا أُنشِئ على يد حضارةٍ فضائية منذ زمن بعيد — يمكننا حينها زيارةُ عصورِ ما قبل الوقت الراهن. لذا، إذا أُنشئت أول آلة زمن من ثقب دودي في العام ٣٠٠٠، فلا يمكن أن يكون هناك أي مسافر عبر الزمن من عام ٢٠٠٠.»
وبمناسبة الحديث عن السفر عبر الزمن، ثمَّة فكرة ذات صلة لا تنطوي على أي سفر عكسي عبر الزمن، لكنها تستخدم الأفكار نفسها التي تستخدمها الثقوب الدودية إلى حدٍّ كبير. في عام ١٩٩٤، اقترح ميجيل ألكوبيير، وهو فيزيائي مكسيكي يعمل في جامعة كارديف، طريقةً تتسق ومعادلات أينشتاين لتمديد وضغط نسيج الزمكان في شكل موجة من شأنها أن تجعل الفضاء الكائن أمام جسمٍ ما (كسفينة فضاء مثلًا) يتقلَّص فيما يتمدَّد الفضاء خلفه. وبداخل الموجة، تُحمل سفينة الفضاء في «فقاعة ملتوية» من الفضاء المنبسط، فتتزلج على الموجة بسرعة أكبر من سرعة الضوء بالنسبة إلى أي مراقب من خارج الفقاعة. ويُعد «محرِّك ألكوبيير المعوج» هذا هو أقرب شيء إلى محرِّك الالتواء الأثير في قصص الخيال العلمي، مثل «ستار تريك»، توصَّلت إليه الفيزياء، لكن الطاقات الداخلة هنا ستكون شبه مساوية لتلك الداخلة في إنشاء ثقب أسود قابل للمرور عبره، وستكون هناك المشكلة نفسها المتمثلة في منع الفقاعة من الانغلاق.
لكن حتى لو كانت آلات الزمن المبنية على ثقوب سوداء كبيرة بما يكفي لنعبر خلالها ليس لها وجود، يمكن للسفر عبر الزمن أن يكون ذا أهمية كونية بالمعنى الحرفي للكلمة. وبعيدًا تمامًا عن الثقوب السوداء الكبيرة التي سنكون في حاجةٍ إليها لإنشاء آلة زمن ناجعة، تنص المعادلات على أن الكون قد يكون مليئًا بثقوب سوداء متناهية الصغر؛ إذ يكون كلٌّ منها أصغر بكثير من الذرة. وقد تشكِّل هذه الثقوب السوداء بِنيةَ نسيج «الفضاء الفارغ» نفسه. ونظرًا إلى ضآلتها الشديدة، لا يمكن لشيء مادي أبدًا أن يسقط في مثل هذه الثقوب السوداء «المجهرية»؛ فإن كان فمك أصغرَ من إلكترون، فلن يكون لديك سوى أشياء قليلة جدًّا لتتغذى عليها. لكن إن كانت النظرية على حق، فقد توفِّر هذه الثقوب الدودية المجهرية شبكةَ اتصالات في الفراغ الفائق تربط كلَّ نقطة في المكان والزمان بكل نقطة أخرى فيهما.
يمكن لهذا أن يكون مفيدًا للغاية؛ لأن أحد ألغاز الكون العميقة يكمُن في كيفية معرفة كل جزء ضئيل منه بقوانين الفيزياء. لننظر إلى الإلكترون كمثال. لكل الإلكترونات الكتلة نفسها تمامًا، والشحنة الكهربية نفسها. وهذا ينطبق على الإلكترونات هنا على الأرض، وتظهر الدراسات على طيف الضوء الآتي من النجوم البعيدة أنه يسري كذلك على الإلكترونات الموجودة في المجرَّات التي تقع على بُعد مليارات السنين الضوئية منا، على الجانب الآخر من الكون. لكن كيف «تعرف» كل هذه الإلكترونات الشحنة الكهربية والكتلة اللتين ينبغي أن تحظى بهما؟ إن لم يكن هناك إشارة تستطيع السفر أسرعَ من الضوء، فكيف تتصل الإلكترونات الموجودة هنا على الأرض وتلك الموجودة في المجرات البعيدة بعضها ببعض وتتأكد جميعها أن لها الخصائص والسمات نفسها؟
قد تكمُن الإجابة في تلك الكموم الهائلة من الثقوب السوداء المجهرية والوصلات الدقيقة بين الثقوب الدودية عبر الفراغ الفائق. لا يمكن لشيء مادي أن يسافر عبر ثقب دودي مجهري؛ لكن قد يمكن للمعلومات (قوانين الفيزياء) أن تتسرَّب من خلال الثقوب الدودية، فتنتشر على الفور في كل جزء من أجزاء الكون وكل نقطة في الزمن لضمان أن كل الإلكترونات وكل الذرات وكل شيء تتكوَّن منه وتنشئه يتبع القوانين الفيزيائية نفسها.
وإليك أقصى درجات الإطناب والتكرار. قد يكون الأمر أننا نحظى بقوانين فيزياء عالمية فقط لأن السفر عبر الزمن ممكن في واقع الأمر. وفي تلك الحالة، لن يكون من المدهش أن قوانين الفيزياء تسمح بالسفر بالزمن. لكن هل يعني «السفر» عبر الزمن أن بإمكاننا تغيير الطريقة التي يمضي بها الزمن؟ ليس بالضرورة.