التصور السابع: كل شيء سيُوجَد موجودٌ بالفعل
«الزمن الحاضر والزمن الماضي/كلاهما ربما حاضر في المستقبل/والماضي ربما يحتوي المستقبل.»
لم تبدأ فكرة أن المستقبل ثابت كالماضي — ومن ثَم يشكل الزمكان الرباعي الأبعاد كتلةً مصمتة وغير قابلة للتغيير — مع هيرمان مينكوفسكي وتطبيق المفاهيم الهندسية على نظرية النسبية الخاصة، ولم تظهر حتى مع إتش جي ويلز. فقد استخدم أكثر من فيلسوف من فلاسفة القرن التاسع عشر مصطلح «وحدة بنائية» في هذا السياق، إلا أن استخدامًا واضحًا ومحددًا بصفة خاصة لهذا المصطلح ورد في كتاب فرانسيس هيربرت برادلي بعنوان «مبادئ المنطق» الذي نُشِر في عام ١٨٨٣. في هذا الكتاب وصفنا هيربرت بأننا ركَّاب على متن مركب يسافر عبر نهر الزمن، وعلى ضِفة هذا النهر يقف صفٌّ من المنازل المتلاصقة، كلٌّ منها يحمل رقمًا (ربما اختار هذا الوصف ليحاكي ترقيم القرون). وفيما ننزلق عبر النهر مرورًا بالمنزل رقم ١٩، ثم رقم ٢٠، ثم رقم ٢١، وهكذا، «يمتد صف الماضي والمستقبل الثابت في وحدة واحدة أمامنا وخلفنا.»
لنفترض أن ماضي الكون ومستقبله مصوَّران في فضاء رباعي الأبعاد، وظاهران لأي كائن لديه وعي البُعد الرابع. إذا كانت ثمَّة حركة لفضائنا الثلاثي الأبعاد بالنسبة إلى البُعد الرابع، فإن كل التغيرات التي نشهدها وننسبها إلى تدفُّق الزمن ستُعزى ببساطة إلى هذه الحركة؛ إلى وجود المستقبل كله وكذلك الماضي في البُعد الرابع.
بالنسبة إلى مراقبٍ عالِم بكل شيء لن يكون ثمَّة ماضٍ سحيق — فترة من الزمن سقطت من الوجود — ولا مستقبل مبهم للأشياء لم يتكشَّف بعدُ … فالحاضر والماضي والمستقبل بلا معنى لمثل هذا المراقب … فسيرى — إن جاز التعبير — «كونًا جامدًا» يملأ المكان والزمان … وإذا كان «الماضي» يعني شيئًا، فسيعني النظرَ في اتجاه بعينه، في حين يعني «المستقبل» النظر في الاتجاه المعاكس.
«لا تخبرنا معادلات الفيزياء أيُّ الأحداث يجري الآن؛ فهي أشبه بخريطةٍ لا تحتوي على الرمز الذي يحدِّد موقعك فيها. واللحظة الراهنة لا وجود لها في هذه المعادلات؛ ومن ثَم لا وجود أيضًا لتدفُّق الزمن فيها.»
سارع كتَّاب الخيال العلمي إلى التقاط فكرةِ الكون كوحدة زمكانية رباعية الأبعاد وخطوط العالم. وكان روبرت هاينلاين أحدَ أولئك الذين عادوا مرارًا إلى موضوع إشكاليات السَّفر عبر الزمن واحتمالاته. ففي قصةٍ بعنوان «خط الحياة» نُشرت في مجلة «أستوندينج» في شهر أغسطس من عام ١٩٣٩، ذكر هاينلاين جهازًا يرسل إشارةً عبر خط العالَم لشخصٍ ما ثم يجعلها ترتد عند نهاية الخط؛ ويكشف التأخير الذي يسبق عودة صدى تلك الإشارة متى سيموت ذلك الشخص. لكن نادرًا ما تنطوي تلك القصص على أي علم حقيقي، وفي هذا المثال يهتم هاينلاين بتداعيات ذلك على شركات التأمين على الحياة أكثرَ من اهتمامه بشرح الجانب العلمي الخاص بآلية عمل ذلك الجهاز. وجاء الاستثناء لغياب التناول العلمي في مثل هذه القصص حين اتَّجه علماء حقيقيون، مثل جريجوري بينفورد، إلى الخيال العلمي، ونتناول في هذا الإطار روايةً من تأليف العالِم الفلكي البارز فريد هويل بعنوان «الأول من أكتوبر متأخر للغاية»، والتي تقدِّم حلًّا واضحًا وعلميًّا بحق لأكبر ألغاز فكرة الكون الكتلة: إذا كانت كل النقاط عبر أحد خطوط العالَم ثابتة وتقع على مستوًى واحد في الكون الذي يمثِّل وحدة زمكانية، فلماذا ندرك «لحظة راهنة» خاصة تتحرَّك بمحاذاة اتجاه الزمن؟
وبصفتي واحدًا من محبي أدب الخيال الممتزج بالعلم الحقيقي، أذهلتني الملاحظة التمهيدية للكتاب التي قال فيها هويل: «المناقشات حول مدلول الزمن ومعنى الوعي مزمع لها أن تكون جادة للغاية.» ورغم أنني كنت أصغر أعضاء المعهد وأقلهم شأنًا، وكان هويل هو مديره المؤسس وشخصية جديرة بالإعجاب والاحترام، كان هناك اختلاط بين الجميع في استراحة تناول القهوة، وبعد بضعة أسابيع قصدت الرجل العظيم وأنا أشعر بالتوتر وأخبرته عن مدى إعجابي بكتابه وسألته إن كان قد تعمَّد حقًّا أن يُؤخَذ الجانب العلمي فيها على محمل الجِد. كان هذا سؤالًا غبيًّا؛ إذ كان الرجل قد ذكر ذلك في الكتاب، لكنه كان لطيفًا بما يكفي ليجيب بالإثبات، وفي تلك اللحظة تملكتني مشاعر الخجل والتردُّد وانصرفت دون أن أحاول الاستمرار في الحديث أكثر من ذلك. لكني على الأقل أعرف أن لدي الآن مبرراتي في تقديم أفكار هويل إليك باعتبارها علمًا جادًّا.
سنطلق كلمة الحاضر على الكوة الخاصة التي يتصادف أنك تطَّلع عليها الآن. أما الكوات السالفة والتي تجد فيها عباراتٍ صحيحة إلى حد كبير، فسنطلق عليها الماضي. والكوات اللاحقة التي لا تحوي الكثير من العبارات الصحيحة سنطلق عليها المستقبل … العالم الحقيقي أشبه بهذا كثيرًا.
لقد استلهمت رؤيتي المغايرة لهذا الموضوع من رواية «وولفبين» لفريد بول وسيريل كورنبلوث، التي ظهرت في كتاب للمرة الأولى في عام ١٩٥٩ (وكانت قبل ذلك بعامين قد نُشرت في حلقات مسلسلة في مجلة «جالاكسي») لكنني قرأتها في أواخر ستينيات القرن العشرين، عقب قراءتي لرواية هويل. يظهر في تلك القصة شكل من أشكال الذكاء الفضائي يملك معلومات مختزنة على سلسلة من الحواسيب اللوحية قابعة في كومة مختلطة. ونظرًا إلى أن ذلك الذكاء يتمتَّع بما وصفه المؤلفان بأنه قدرة تنبؤية متواضعة، فإن أي حاسوب لوحي يلتقطه سيكون هو الحاسوب الذي يرغب في قراءته. وقد أوحى لي هذا (وكذا حقيقة أن زوجتي أيضًا في ذلك الوقت كانت تعمل أمينة مكتبة) بنسخة من التشبيه الذي توصَّل إليه هويل، قائمة على فكرة المكتبة.
تخيَّل مكتبةً تُوصف فيها أحداث كل سنة (أو كل أسبوع أو كل يوم أو أيًّا ما كان) في سلسلة من الكتب مرتَّبة بعناية في أرففٍ متراصة عبر جدرانها. وكما هو الحال مع كوَّات هويل، يحوي كل كتاب معلومات موثوقة حول محتويات الكتب الأدنى منه في التسلسل، ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لكن ليس بالضرورة أن تكون الكتب متراصة بعناية ونظام على الجدران. جرِّب أن تلقي بها في شكل كومة مختلطة بغير نظام على الأرض، وأيًّا كان الكتاب الذي ستلتقطه لتقرأه، ستجد أنه لا يزال يحوي معلوماتٍ موثوقة حول الكتب الأدنى منه في التسلسل ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لست في حاجةٍ حتى لأن تتمتع بقدرة تنبؤية متواضعة. فحتى لو أُزيلت كل الصفحات من الكتب وكانت متناثرة على الأرض، ستظل «القصص» صالحة للقراءة، بشرط أن تحمل كل صفحة رقمًا يشير إلى الكتاب الذي تنتمي إليه ورقمًا آخر يشير إلى موضعها في الكتاب. وكل صفحة من صفحات الكتب ستتوافق مع «لحظة راهنة».
«في واقع الأمر، نحن نظنُّ أن الوقت «يمر»، أو يتدفَّق أمامنا، لكن ماذا لو كنا نحن مَن نمضي إلى الأمام، من الماضي إلى المستقبل، في حالة اكتشاف دائم لكلِّ ما هو جديد؟ سيكون الأمر أشبه قليلًا بقراءة كتاب. إن محتوى الكتاب موجود دفعة واحدة بين دفتيه. لكنك لو أردت أن تقرأ القصة وتفهمها، ينبغي أن تبدأ بالصفحة الأولى، وتمضي قُدمًا بالترتيب دائمًا. وهكذا سيصنع الكون كتابًا غاية في الروعة، وسنكون نحن قرَّاء غاية في الضآلة.»
لا يختلف هذا في واقع الأمر عن الطريقة التي تعمل بها ذاكرة الكمبيوتر. فحين أحفظ كتلةً نصيةً ما، كهذا الفصل مثلًا، فإنها لا تُوضع داخل جهاز الكمبيوتر في شكل مجموعة مرتَّبة من الأصفار والآحاد، بل تُخزَّن في شكل كتل، قطعة هنا وقطعة هناك، في أي مساحات متاحة من الذاكرة. ويكون لكل كتلة علامة أو عنوان يحدِّد الموضع الذي تنتمي إليه تحديدًا في السردية بأكملها. والمصادفة أنني أكتب كل فصل على حدة (ليس بالضرورة بالترتيب الذي تظهر به الفصول في النهاية) وأحفظها على نحوٍ منفصل، وأراجع بعضها بين الحين والآخر، حتى أنتهي من الكتاب. ثم أجمعها في ملفٍّ واحد لأُخرِج الكتاب في صورته الكاملة. لكن حتى هذه المرحلة الأخيرة لا تقتضي أن يجمع الكمبيوتر الفصول معًا في كتلةٍ واحدة؛ إذ يُعاد تصنيفها بحيث أرى سردية مستمرة لها بداية ومتن ونهاية حين أفتح الملف على شاشة الكمبيوتر أو حين أطبعها (وهو أمر نادر الحدوث).
لكن اللحظات الراهنة أعقدُ بكثير من مجرد كونها لقطات، ويفضِّل باربور مصطلح «كبسولة الزمن» لوصف حالة العالَم فيما نُطلق عليه أي لحظة في ظل افتقارنا إلى مصطلح أفضل. كل شيء بدءًا من ملحوظةٍ تذكيرية كُتبت على قطعة من الورق إلى الأحفوريات في الطبقات الجيولوجية أو صور المجرَّات البعيدة التي سجَّلها تليسكوب هابل الفضائي يشكِّل سجلات حقيقية توجد في كبسولات زمنية؛ إلا أن كلَّ فرد منا يختبر كبسولته الزمنية الخاصة به، لا كبسولة شخص آخر. «كل هذه الوفرة المذهلة من الأدلة على الزمن والتاريخ مشفرة في شكل تكويني ثابت، في بنًى لا تزال قائمة». وعلى حد وصف باربور، فإننا «نؤمن» بفكرة الزمن فقط؛ لأننا نختبر العالم في هيئة لقطة ثلاثية الأبعاد. «لا وجود للوقت. كلُّ ما هو موجود هي أشياء تتغير». وشكل التغيير مشفَّر في تلك «الأشياء» الثابتة بالطريقةِ نفسها التي يمكن من خلالها نقل انطباع عن حركةٍ في صورة واحدة، «على سبيل المثال [القارب البخاري] «آريال» في العاصفة في لوحة تيرنر.»
يطلِق باربور اسم بلاتونيا على «أرض اللحظات الراهنة»، تيمنًا بالفيلسوف أفلاطون، الذي وجَّه إلى أن الأشياء الحقيقية الوحيدة هي أشكال أو أفكار مثالية، لا نحظى إلا بلمحة غير كاملة عنها.
في كل مكان في بلاتونيا توجد لحظات من الزمن يؤلِّف فيها فاجنر مقطوعةَ «تريستان وإيزولدا» ويصلِح فيها روَّاد الفضاء تليسكوب هابل الفضائي، وتبني الطيور الأعشاش، وأخبز أنا الخبز.