التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
«أعرف من أين أتيتُ أنا — لكن من أين أتيتم أنتم أيها الموتى الأحياء؟»
تنطوي ما تُسمى بمفارقات السفر عبر الزمن جميعها على السفر في الماضي لإحداث تغييرات تؤثِّر على الوقت الراهن. وتُعَد هذه أرضًا خصبةً لقصص الخيال، لكن إن كنا نعيش في كونٍ واحد يمثِّل وحدةً زمكانية، فليس بالإمكان «تغيير» الماضي، وإن كان من الممكن «التأثير» فيه. فخطوط العالم رُسِمت بالفعل، واللعنة، إن كانت هناك لعنة، قد حلَّت. وقد أُدرك هذا في قصص الخيال العلمي منذ عام ١٩٥١ على الأقل، على يد كاتب قصص الخيال العلمي الأمريكي والتر كوبيليوس، الذي لم يحظَ بالكثير من الشهرة والأهمية. في قصة بعنوان «إلى الوراء أيها الزمن» نُشرت في مجلة «ساينس فيكشن كوارترلي» في مايو من ذلك العام، تختار إحدى الشخصيات أيَّ حِقَب الماضي يريد زيارتها، ويسأل عامل آلة الزمن عن المفارقات. تقول الشخصية: «إن كان باستطاعتي اختيار أيِّ حِقبة، فإن هذا يعني أن بإمكاني تغييرَ المستقبل كيفما أشاء، ما يُفترض معه أن بالإمكان أيضًا تغيير الحاضر.» ويوضِّح العامل أن «قرارك في التحليل النهائي، يكون باختيار حِقبة زمنية بعينها قد اتُّخذ بالفعل، والأشياء التي ستفعلها محدَّدة سلفًا». أو كما قال جيفري تشوسر في قصيدته «ترويلوس وكريسيد»:
لقد سُبِرت أغوارُ هذه الفكرة في الكثير من القصص، لكن النسخة التامة والواضحة منها نجدها لدى مايكل موركوك في روايته «ها هو ذا الإنسان». المسافر في هذه القصة شخص مضطرب ذو ميول مازوخية، وأمارات هوس ديني، يزور زمن المسيح من أجل أن يشهد الأحداث التي أدَّت إلى صَلبه. في أثناء ذلك تُدمَّر آلته الزمنية، وما يثير حَيرته هو عدم وجود أيِّ أثرٍ للمسيح الذي يعرفه من الكتاب المقدَّس. وبينما كان الرجل هائمًا على وجهه، يسأل الناس عن القصص التي قرأها، ويؤلِّف مجموعة من الأتباع، ويدرك في النهاية أنه أصبح الرجل الذي يبحث عنه. ويتكشَّف كل شيء تمامًا كما في القصة التي يتذكَّرها، مما يقدِّم له تجربة مباشرة عن عملية الصلب، ويُحفظ نسيج التاريخ.
هذه الرؤية لخطٍّ زمني واحد وثابت تسحب البِساط أيضًا من تحت أكثرِ الألغاز المألوفة حول السفر عبر الزمن، وهي «مفارقة الجَد». تطرح المفارقةُ في صيغتها الأصلية سؤالًا حول ما يحدُث إذا ما عاد شخصٌ إلى الماضي وقَتَل جَده قبل أن يكون له أبناء. فإذا لم يُولد للجَد أبناء، فلن يكون هناك أحفاد، ولا قاتل، ومن ثَم يعيش الجَد. لكن في تلك الحالة …
الرد الحاسم والمفضَّل لدي على هذه المفارقة يأتي من رواية ستيفن كينج «١١ / ٢٢ / ٦٣»:
لكن الحقيقة الأوقع والأبسط هي أنك لا تستطيع العودة بالزمن في كونٍ يمثِّل كتلة زمكانية واحدة لقتل جَدك؛ لأنك لم تفعل. وحقيقة أنك موجود هنا متجمِّدة في الخط الزمني. لكن بإمكانك التأثير في الماضي، ما دام أن الماضي متسق مع التاريخ، كما في مثال رواية «ها هو ذا الإنسان». وهذا ما يفعله مارتي ماكفلاي تقريبًا في أول قصة من سلسلة «العودة إلى المستقبل». فبعودته عبر الزمن، يحرص مارتي على أن يلتقي والداه ويتزوجا، ويُولد هو. لا بأس بهذا حتى الآن. فمن المفترض أن يعني هذا أنه يعود إلى المستقبل الذي بدأ منه. لكن مارتي في أحداث القصة يغيِّر المستقبل في واقع الأمر بتغييره الماضي، وبطرائقَ ليست بمنطقيةٍ فيما يتعلق بعلم السفر عبر الزمن، رغم أنها تساعد في وضع نهاية مسليَّة للفيلم. وسأتحدَّث أكثرَ عن هذا لاحقًا. لكن ربما ما كان صناع الفيلم يتحسَّسون طريقهم نحوه هو نسخة من التواريخ البديلة التي أوجزتها قصة «لئلا يحلَّ الظلام» التي ألَّفها إل سبراج دي كامب.
يرجع ظهور التناقضات هنا إلى أن مارتي يعود بالفعل إلى المستقبل، لكن ليس إلى المستقبل الذي انطلق منه. لو أن كلَّ ما فعله هو التأكُّد من التقاء والديه، لعاد ببساطة إلى المستقبل الذي انطلق منه. لكن تغيير مارتي للماضي في القصة ترتَّب عليه تغيير المستقبل أيضًا. وإذا تقبَّلنا التفصيلة غير المنطقية تمامًا من أن والديه في هذه النسخة من التاريخ لديهما أطفال مماثلون تمامًا للأطفال الموجودين في خط مارتي الزمني الأصلي، فينبغي أن يكون هناك مارتي آخر (قد يكون أو قد لا يكون مسافرًا عبر الزمن) موجودٌ بالفعل حين يصل إلى منزلهم. عوضًا عن ذلك، وعلى نحوٍ أكثرَ معقولية، سيكون ثمة مجموعة مختلفة من الأطفال، وسيصل مارتي كشخص غريب عنهم تمامًا يزعم أنه أخوهم.
بذل صنَّاع الفيلم محاولةً غير مكتملة لمعالجة بعض هذه الإشكاليات في الفيلم الثاني من الثلاثية، بالإشارة إلى أكوانٍ متوازية تنقسم بطريقة مشابهة للصورة التي وصفها دي كامب. غير أن هذا يثير المسألة التي أزعجت ديفيد دانييلز في قصة «فروع الزمن». في خط مارتي العالمي الذي نتَّبعه، ثمَّة نهاية سعيدة (أو بالأحرى نهاية درامية مشوِّقة تشير إلى الفيلم التالي). لكن حتى في إطار معايير القصة ذات الصلة بنا، يستمر كل شيء كما كان في السابق في الواقع البديل الكئيب الذي زاره. فكلُّ ما فعله هو تبديل المسارات الزمنية.
كان روبرت هاينلاين هو صاحب أكثر المحاولات الأدبية المُرضية لإنشاء مثل هذه الحلقات، وجاءت أبرز هذه المحاولات في قصتَيه «بالجهد الذاتي»، و««—أنتم أيها الموتى الأحياء—»». ظهرت القصة الأولى في عدد شهر أكتوبر من مجلة «أستوندينج» لعام ١٩٤١، تحت اسم أنسون ماكدونالد؛ فقد كان هاينلاين، واسمه الأوسط أنسون، يكتب الكثيرَ من الأعمال في تلك الفترة حتى إنه كان يُضطر إلى استخدام اسم آخر لبعض من أعماله؛ حتى العدد ذاته من مجلة «أستوندينج» نُشرت فيه قصة أخرى حملت اسمه الحقيقي.
يسافر بطل هذه القصة — واسمه بوب — إلى المستقبل عبر بوابة زمنية دائرية تظهر على نحوٍ غامض في غرفته. وهناك يقابل عجوزًا أشيبَ الشعر يخبره بأنه قد انتقل ٣٠ ألف عام في المستقبل، ويوضِّح له أن البوابة تركها عِرق فضائي لم يَعُد له وجود الآن (مقدِّمًا بذلك سببًا دقيقًا لعدمِ شرح الكاتب لكيفية عمل البوابة) وأن الجنس البشري قد آل إلى حالةٍ من الانصياع من شأنها أن تمكِّن رجلًا مثل بوب من أن يعيش ملكًا في جنة ذكورية شوفينية تكتمل بوجودِ إماءٍ. وباستخدام البوابة، يوطِّن بوب نفسَه في زمنٍ يسبق ذلك الذي عاش فيه راعيه العجوز، مسلَّحًا بقاموس مكتوب بخط اليد في مفكرة كان قد وجدها، ليترجم بين الإنجليزية واللغة التي يستخدمها مَن هم الآن عبيده. وبعد سنوات، يستخدم بوب — الذي أصبح عجوزًا الآن — بوابة الزمن لينظر إلى نفسه في الماضي، ويبدأ في تشغيل الأحداث التي أودعته في المستقبل. تكاد تكون هذه هي القصة الكاملة للحلقة الزمنية، لكن لا يبدو أن بإمكان هاينلاين تفادي وجود إحدى المفارقات. فبعد أن أمضى بوب سنوات في المستقبل، يبدأ قاموسه في الاهتراء؛ لذا ينسخه في مفكرة جديدة. ويُصبح هذا هو الكتاب «الأصلي» الذي تجده ذاته الأولى فيما بعد، ما يقدِّم تفسيرًا لأصل القاموس كجسم مادي. لكن (وفيها هنا من الاستدراك الكثير) لا يفسِّر هذا مصدرَ المعلومات الواردة في القاموس. مَن الذي وضع الترجمة الأصلية؟ ثم نعود إلى مفارقةِ المطوية الأولى/شكسبير لسيناريو الكون الأوحد. فالقصة في النهاية لا تشكِّل حلقةً زمنية تامة. غير أن من الصعب إيجاد تدفُّق مشابه في المنطق المستخدم في قصة ««— أنتم أيها الموتى الأحياء —»».
نُشِرت تلك القصة لأول مرة في عدد شهر مارس لعام ١٩٥٩ من مجلة «فانتازي آند ساينس فيكشن» بعد أن رفضتها مجلة «بلاي بوي» (وذلك وفقًا لما ورد عن هاينلاين). والحلقات الزمنية المتداخلة لهذه القصة (التي أنصحك بقراءتها بشدة إن لم تكن قرأتها) أعقدُ من أن أستطيع الخوض فيها هنا، ولكن إيجازًا تدور القصة حول شابةٍ يافعة يُغرَّر بها وينتج عن ذلك حملها بطفل، لكن في أثناء الولادة، التي كانت متعسِّرة، يُكتشف أن «الفتاة» تملك أعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية على حد سواء، وبسببِ ما تعرَّضت له الأخيرة من تلفٍ على إثر الولادة، يُجرى لها إعادة تعديل (إن كان هذا هو المصطلح الصحيح) لتصبح رجلًا. ثم يُختطف الطفل منها ولا تراه الأمُّ أبدًا بعد ذلك. ترتبط الأم — التي أصبحت الآن رجلًا — لاحقًا بعلاقةِ صداقة مع مسافرٍ عبر الزمن يعرض «العودة به» عبر الزمن لمواجهة المعتدي، لكنه بالطبع يكون «هو» نفسه المعتدي. تتكشَّف الأحداث كما حدثت من قبل، ويُختطَف الطفل على يد المسافر عبر الزمن ويُودَع دارًا للأيتام قبل تسعة عشر عامًا من الولادة. يقوم المسافر عبر الزمن الآن بتجنيد الشاب — الذي صار يجسِّد الأم والأب في الآن نفسه — في مركز الخدمة العسكرية السرية للسفر عبر الزمن، ويودعه مكتب التجنيد العسكري الزمني لتلقي التدريب. ويأتي المنعطف الأخير في القصة حين يصبح المسافر عبر الزمن نسخةً أكبر سنًّا من الشاب نفسه. فكل شخصية مهمة في القصة هي الشخص نفسه! وهكذا نترك البطل وهو يفكِّر: أعرف من أين أتيتُ «أنا» — لكن من «أين أتيتم جميعًا أنتم أيها الموتى الأحياء؟»
«لا يمكن لشيء أن يسير على نحوٍ خاطئ؛ لأن شيئًا لم يَسِر على نحوٍ خاطئ … وقد كنت أعني أن «لا شيء سيسير على نحوٍ خاطئ.» لا — بعدها توقَّفت عن محاولة صياغةِ ما قصدت؛ إذ أدركت أن السفر عبر الزمن إذا أصبح واسعَ الانتشار، فسيتحتَّم على القواعد النحوية للغة الإنجليزية أن تضيف مجموعةً جديدة تمامًا من الأزمنة لوصف المواقف الانعكاسية؛ تصريفات أفعال من شأنها أن تجعل الأزمنة الأدبية في اللغة الفرنسية والأزمنة التاريخية في اللاتينية تبدو مبسطة.»
هذا هو أقربُ ما رأيت إلى قصةٍ مثالية ومكتملة عن السفر عبر الزمن. غير أنها تظل خيالية، ولا تحوي شيئًا من العلم الحقيقي. ولكن يمكن للعلم الحقيقي أن يصفَ مواقفَ تشبه إلى حدٍّ كبير موقف تلك الأم العزباء في قصة هاينلاين. لا يروق علماء الفيزياء التعاملُ مع الناس؛ لأن لكلٍّ منهم فكره الخاص ولا يمكن التنبؤ بأفعالهم؛ هب مثلًا أن تلك النسخة الذكورية من الشخصية قرَّرت ألا تغرِّر بشخصيته الأنثوية اليافعة. إن علماء الفيزياء يسعدون أكثر بكثير بالتعامل مع أشياء من قبيل الأجسام الكروية المكتملة الاستدارة، وابتكروا نسخة من مفارقة الجَد تشتمل على كراتِ بلياردو تمر عبْر حلقة زمنية، ويمكن حلها باستخدام قواعد ميكانيكا الكم.
تخيَّل نفقًا زمنيًّا — كالذي وصفته في تصوري السادس — مُقامًا بحيث تكون كلتا فُوَّهتيه قريبة إحداهما من الأخرى. وقد أجرى مجموعة من العلماء بقيادة كيب ثورن وإيجور نوفيكوف (وهو عالِم كونيات روسي الأصل انتقل لاحقًا إلى الدنمارك) — ويطلقون على أنفسهم اسم «الاتحاد» — دراسةً تفصيلية للمعادلات التي تصفُ ما يحدث لجسمٍ ما يسافر عبر نفق كهذا.
إن كانت الفُوَّهتان متقاربتين في المكان، وفي الزمان كذلك، مع وجود فارقٍ زمني ضئيل بينهما، فيمكن إطلاق كرة بلياردو في الفوهة المناسبة للنفق الزمني على النحو الذي يجعلها تخرج من الفوهة الأخرى (تلك التي لم تسافر عبرها) في الماضي، وتحظى بالوقت الكافي للسفر عبر المساحة الفاصلة بين الفُوَّهتين لتصطدم بنفسها قبل أن تدخل النسخةُ الأولى منها إلى الفوهة الأخرى، مُزيحةً تلك النسخة الأولى من طريقها. وهكذا لا تسافر كرة البلياردو عبر الزمن مطلقًا، ولا يحدث التصادم أبدًا، وبذا تدخل النسخة الأولى من كرة البلياردو النفق الزمني … وهكذا دواليك. ويُعتبر هذا نظيرَ مفارقة الجَد لدى هؤلاء الفيزيائيين، والذي يشيرون إليه بأنه الحل غير المتسق ذاتيًّا للمشكلة، ويذهبون إلى حتمية رفضه؛ لأن الكون لا يمكن أن يسير على هذا النحو.
ولعل السببَ وراء ثقتهم في مقبولية رفض الحل غير المتسق ذاتيًّا أنهم وجدوا أنه دائمًا ما يكون هناك حل واحد آخر على الأقل للمعادلات، يقدِّم صورةً متسقة ذاتيًّا انطلاقًا من الظروف المبدئية نفسها. فاتحاد العلماء لا يقبل إلا بالحلول المتسقة ذاتيًّا لإشكاليات السفر عبر الزمن فحسب، ويتجاهلون ما عداها من حلول.
ومن أمثلة الحلول المتسقة ذاتيًّا عندما تقترب الكرة من النفق الزمني وتتلقى ضربةً سريعة خاطفة من كرة بلياردو مماثلة لها خرجت لتوها من إحدى فُوَّهتي النفق الزمني، فتصطدم بالكرة الأولى وتُدخِلها إلى فوهة النفق الآخر. وعندما تخرج الكرة الأولى من فوهة النفق، تصطدم بالنسخة الأصغر سنًّا من نفسها، فتُدخِل نفسها إلى النفق؛ في فروق طفيفة مع قصة ««— أنتم أيها الموتى الأحياء —»». اكتشف ثورن ونوفيكوف وزملاؤهما أنه لا توجد مشكلاتٌ لكرات البلياردو من هذا النوع، والتي ليس لها حل واحد على الأقل متسق ذاتيًّا، ووجدوا أيضًا أن لكل مشكلة من هذا النوع يمكن أن يخطُر لهم «عددٌ لا نهائيٌّ» من الحلول المتسقة ذاتيًّا.
في أحدِ الأمثلة، لدينا كرةٌ تسير بدقةٍ في خطٍّ مستقيم بين فُوَهتي النفق الزمني. أيمكن هذا؟ هبْ أن الكرة حين تصل إلى منتصف الطريق بين الفُوَّهتين تتلقى ضربةً عنيفة من كرة سريعة الحركةِ تخرج من الفوهة الثابتة. تتلقى الكرة «الأصلية» ضربةً قوية تطيح بها جانبًا، وتسافر عبر النفق وتصبح هي الكرة «الثانية» — لكن أثناء الاصطدام تحيد وتعود إلى الطريق — أو المسار — نفسه تمامًا الذي كانت تسير عليه قبل التصادم. لا يزال الأمر يبدو بالنسبة إلى أي مراقبٍ بعيدٍ وكأن كرةً واحدة مرَّت بسلاسة في خطٍّ مستقيم بين الفُوَّهتين؛ يمكنك أن تتخيَّل (كما يمكن لاتحاد العلماء أن يحسب) أنماطًا مشابهة تتضمَّن دورتين أو ثلاث دورات أو أكثر تقطعها الكرة عبر النفق الزمني. فالكرات جميعها تبدو من مسافة بعيدة وكأنها كرة واحدة تتدحرج بِحُرية وانسيابية في طريقها. يبدو أن هناك أكثر من طريقة مقبولة لوصف سلوك الكرة.
كل ذلك يعيد إلى أذهاننا الطريقةَ التي يعمل بها الكون على المستوى الكمومي. ثمة مجموعة من الوقائع، تمامًا كما في مثال قطة شرودنجر. إن كرة البلياردو تبدو طبيعية تمامًا قبل أن تقترب من النفق الزمني، ثم تتفاعل مع نظام النفق بطرائقَ مختلفة ومتعدِّدة، فتشكِّل تراكبًا من الحالات قبل أن تظهر عند الجانب الآخر من النفق، مُعاوِدةً التصرُّف مجددًا بطريقةٍ طبيعية تمامًا. وما يُطلق عليه ثورن «وفرة» من الحلول المتسقة ذاتيًّا للإشكالية ذاتها كان ليصبح أمرًا مزعجًا للغاية، لولا حقيقة أن المنظِّرين الكموميين قد أدركوا بالفعل كيفيةَ التعامل مع مثل تلك الوقائع المتعددة.
كان ريتشارد فاينمان أول مَن وضع الأسلوب الذي يستخدمونه، وذلك في أربعينيات القرن العشرين، ويُعرف بأسلوب «حاصل جمع التواريخ». في الفيزياء الكلاسيكية — أو فيزياء نيوتن — يعتبر الجسيم (أو كرة البلياردو) مسافرًا عبْر مسارٍ أو خط عالمي فريد، أو «تاريخ» محدَّد. لكن ميكانيكا الكم لا تتعاطى إلا مع الاحتمالات كما رأينا، وتخبرنا — بدرجةٍ عالية من الدقة — بمدى احتمالية أن يسافر جسيمٌ من مكان إلى آخر. أما عن كيفية انتقال الجسيم من مكان إلى آخر — كما في مثال النفق الكمومي — فهذه مسألة مختلفة؛ إذ يمكن حساب الاحتمالية التي تخبرنا بالموضع التالي الذي يحتمل أن يظهر فيه الجسيم عن طريق جمع مساهمات الاحتمالات من كل المسارات الممكنة بين موضع البدء وموضع الانتهاء، لكن لا يخبرنا هذا أين كان الجسيم بين هذين الموضعين. يبدو الأمر وكأن الجسيم على وعي بكل المسارات الممكنة التي يمكن أن يسلكها (أي كل الوقائع الكمومية)، ويقرِّر إلى أين سيتجه على هذا الأساس. وبما أنَّ كل مسار يُعرف بأنه «تاريخ»، فإن هذا الأسلوب القائم على حساب سلوك الجسيمات من خلال جمع حاصل المساهمات من كل مسار، يُعرف باسم «حاصل مجموع التواريخ».
عادةً ما يُعد كلُّ هذا ساريًا على المستوى الكمومي فحسب؛ أي على مستوى الذرَّات وما دونها. وتأثير ذلك على عالَمنا اليومي لا يكاد يُذكر؛ لذا يبدو سلوك كرات البلياردو الحقيقية وكأنها تتبع مسارات كلاسيكية لا أكثر. لكن وجود نفق زمني قابل للمرور عبره يخلق نوعًا جديدًا من اللايقين — في المنطقة بين فُوَّهتي النفق — يعمل على نطاق أكبر بكثير. وقد وجد اتحاد العلماء أن نهج حاصل مجموع التواريخ صالحٌ للعمل بامتياز في هذا الوضع الجديد؛ فهو يقدِّم حلولًا لإشكاليات تتضمن كرات تسافر عبر أنفاق زمنية.
إذا بدأت بحالة أولية للكرة فيما تقترب من النفق الزمني من بعيد، فإن نهج حاصل مجموع التواريخ يقدِّم لك مجموعة مميزة من الاحتمالات تخبرك بالتوقيت والموضع المحتملين لظهور الكرة على الجانب الآخر من النفق، بعيدًا عن المنطقة التي تحوي حلقاتٍ مغلقة شبيهة بالزمن. لا يخبرك هذا النهج كيف تنتقل الكرة من مكانٍ إلى آخر مثلما لا تخبرك ميكانيكا الكم كيف يتحرَّك الإلكترون بداخل الذرة، أو كيف ينتقل الفوتون عبر الأنفاق الكمومية. لكنه يخبرك بدقة بقيمة احتمالية العثور على كرة البلياردو في مكانٍ بعينه، وهي تتحرَّك في اتجاه بعينه، وذلك بعد التقائها بالنفق الزمني.
ثمة سمةُ أخرى أشدُّ غرابة لكل هذا. فنظرًا إلى أن كرة البلياردو، بطريقةٍ ما، «تعي» كل المسارات الممكنة — كل التواريخ المستقبلية الممكنة — ومنفتحة عليها، فإن سلوكها في أي مكان على طول خط عالمها يعتمد إلى حدٍّ ما على المسارات المفتوحة أمامها في المستقبل. ونظرًا إلى وجودِ عدة مسارات مختلفة يمكن لكرة كتلك أن تسلكَها عبر نفق زمني، بل إن المسارات المتاحة تكون أقلَّ بكثير إن لم يكن ثمَّة نفق لتمرَّ عبره، فإن هذا يعني أن سلوك الكرة سيختلف في حال وجود نفق زمني لتمر عبره عمَّا سيكون في حال عدم وجود نفق زمني. وبرغم أنه سيكون من الصعوبة بمكانٍ قياسُ مثل هذا التأثير فعليًّا، فإن هذا يعني، وفقًا لثورن، أنه ينبغي أن يكون بالإمكان — مبدئيًّا — إجراءُ مجموعة من القياسات على سلوك كرات البلياردو «قبل» الإتيان على أي محاولةٍ لإنشاء آلة زمنية كهذه، واستنتاج ما إن كان سيتم إجراء محاولة ناجحة في المستقبل لإنشاء نفق زمني يشتمل على حلقاتٍ مغلقة شبيهة بالزمن، بناء على نتائج هذه القياسات. قد يكون من الممكن، عن طريق التجربة، إثبات أن السفر عبر الزمن ممكن، من دون السفر فعليًّا عبر الزمن. فيقول ثورن إن هذه «سمة عامة إلى حد كبير من سمات ميكانيكا الكم فيما يتعلق بآلات الزمن.»
يعلِّق ثورن، في معرض تلخيصه لما قام به اتحاد العلماء، قائلًا إن سلوك قوانين الفيزياء في وجود آلات زمن يبدو معقولًا بما يكفي «ليسمح للفيزيائيين بمواصلة مغامرتهم الفكرية دون التعرُّض لاختلال شديد»، بالرغم مما يبدو من أن آلات الزمن تمنح الكون «سماتٍ سيجدها معظم علماء الفيزياء بغيضة». فوفقًا لقوانين الفيزياء، من الممكن إنشاء آلات زمن، ومن الممكن أيضًا أن نسافر عبر الزمن دون انتهاك مبدأ السببية. وعلى حدِّ تعبير نوفيكوف في مناقشةٍ له حضرتها في جامعة ساسكس في عام ١٩٨٩، «حال وجود حل غير متسق ذاتيًّا وآخر متسق ذاتيًّا للمشكلة، ستختار الطبيعة الاتساقَ الذاتي.»
«حين يقول عالِم بارز ولكنه متقدِّم في السن إن شيئًا ما ممكن، فهو محق على نحوٍ شبه مؤكَّد. وحين يقول إن شيئًا ما مستحيل، فأغلب الظن أنه مخطئ.»
تكاد تكون هذه الكلمات هي الأخيرة عن السفر عبر الزمن. لكنني أريد أن أتركك مع أغرب الآثار المترتبة على مفهوم الكون المتعدد.
قطعًا حان الوقت للتوقُّف.
«رباه، هذا يمضي بي إلى الوراء … أو إلى الأمام. تلك هي مشكلة السفر عبر الزمن، لا يمكنك أبدًا أن تتذكَّر.»