مفتتح

شهدَت العقود الأخيرة من القرن العشرين ما بعديات جمة، مؤذنةً بضرورة النقد الشامل وطَرْح الجديد؛ فكان ما بعد الحداثة وما بعد الوضعية، عصر ما بعد الاستعمارية وما بعد المركزية الغربية. وأقبل القرن الحادي والعشرون بتعدُّد المراكز الحضارية ليبدوَ محتفلًا بالتعددية الثقافية التي تزيد العالم خصوبةً وتنوعًا، فيغدو الواقع الحضاري الخاص والعالم الإنساني المشترك العام، كلاهما معًا، أفضل وأكثر رحابةً وثراء. على أن التعددية الثقافية في الآن نفسه تزيد من إلحاح ومسئوليات إشكالية الأصالة والمعاصرة التي طال الانشغال بها. إن توطينَ المنهجية العلمية صُلْبٌ من أصلاب هذه الإشكالية العنيدة.

هذا الكتاب هو محاولة لاقتحام العقدة المنهجية؛ لاستنطاق مكونات الحضارة الإسلامية وثقافتها وتاريخها وتراثها بمعالم نموذج يبدو كفيلًا بتوطين المنهجية العلمية في بيئتنا، وعاكسًا لحضارتنا برؤيتها للعالم، بمخزونها العقائدي ونسيجها الشعوري ومنظومتها القيمية ومنظورها الأنطولوجي أو رؤيتها للوجود، فيكون تجسيرًا للهُوَّة بين الواقع الراهن والواقع المأمول، بين منطلقاتنا العتيدة وثورة التقدم العلمي والتقاني الجياشة الموارة، بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والمعاصرة، بين الخصوصية والكونية. إنه التشارك والتلاقح دون طمس الخصوصيات الثقافية.

المنشود نقضٌ وإبطال الزعم بغربة العلم، وبغياب روح المنهجية العلمية عن تراثنا وعن ثوابت ثقافتنا؛ فذلكم هو ألف باء توطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي؛ لينفتح الباب نحو التأهل بما يلزم من حصائل الحداثة التي تجعل هذه المنهجية متطورة منطلقة صوب المستقبل، قادرة على الإضافة إلى العلم وإلى عطاء العصر.

إنها رؤية فلسفية يعرضها الباب الأول، ثم تدعمها رؤيةٌ تاريخية يعرضها الباب الثاني، ألا وهي شهادة تاريخ العلوم على وضع الرياضيات والمنهجية الرياضية في الحضارة الإسلامية، ومكانة الحضارة الإسلامية في تاريخ الرياضيات التي هي أعلى مدارج العقل العلمي وأرقى أشكال التفكير المنطقي الممنهج. ثم كان العود في الباب الثالث لرؤية، أو بالأحرى رُؤَى فلسفية مستقبلية، هي في جوهرها مقاربات منهجية، ترنو إلى مقبل الفاعليات الآتية. في فصله الأول، منظور إبستمولوجي متعمق وموجز ينطلق من مقولة «الاجتهاد» باعتبارها مقولةً مفروضة مبتدأً وقبلًا وبعدًا، ومطلوب ها هنا توظيفها وتفعيلها توطينًا للظاهرة العلمية في حضارتنا. أما الفصل الثاني فقد توقَّف مجددًا بإزاء المعامل المساهم في هذا، وفي تأصيل المنهجية العلمية في ثقافتنا؛ أي الإمكانات الميثودولوجية التي حملها علم أصول الفقه والتي سبق تعيينها في الباب الأول، في فصله الموسوم باسم «أصول الفقه … أصول منهجية»؛ وذلك من أجل تفعيل هذه الإمكانات كتواصل منتج حاملًا معالمَ الشخصية الحضارية. وها هنا تنضيد واستشراف لآفاق منهجيات أصول الفقه، وتبيان كيف يمكن أن تتفاعل مع المناهج العاملة في مجالات الإنسانيات تفاعلًا تآزريًّا مجديًا. ولعل هذا تأكيدٌ لمسلَّمة أولية أسبق تُفيد أن هذا التناول الفلسفي المعرفي لخطوط التواصل التراثية المنهجية لا يشتبك بمقدس أو مطلق، بل هو فقط بالنسبة لشخصية حضارية، بحثًا عن تأكيدها وتزكية حضور إنسانها في مرحلته التاريخية الراهنة. وهذا ما تأكَّد في الفصل الثالث الذي يعمل على توظيفها في مضمار العلوم الإنسانية تحديدًا، وهي التي تحتاج أكثر من سواها إلى دفعة منهجية تُضاعف من شحناتها التقدمية وأدائها لوظائفها المعرفية.

ثم حمل الفصل الرابع من الباب الثالث إشارةً إلى أن هذا جميعه لا يعدو أن يكون انعكاسًا لمهمة عصر ووعي أمة ومطامح جيل يروم ارتيادَ وثبةٍ حضارية أعلى؛ وذلك عن طريق العروج على مثال شاخص وماثل تُمثِّله الدكتورة منى أبو الفضل، صاحبة مصطلح «اقتحام العقدة المنهجية» قولًا وفعلًا. وقد رأيناها في طليعة البنائين العظام لمفهوم منهجية علمية فعالة ومنتجة في العالم الإسلامي تعيينًا وتحديدًا. وفي النهاية يحمل الفصل الخامس مداخلة فلسفية ثقافية، بعنوان «فلسفة العلم تحريرًا للشعوب»، تطرح رصيدًا قدَّمَته عبر العقود الأخيرة من السنين فلسفة العلوم — وهي المبحث التخصصي المتطور — ليُعينَ على التحرر من القوى الباطشة بحرية الشعوب، والمتمثلة في الظلم والاستبداد من الداخل ثم الاستعمار والتبعية من الخارج. إنها من ناحية أخرى مداخلة تُفيد ضمنًا — لكن باستفاضة — أول قضية بل أول عبارة طرحها الكتاب، وهي أن تطورات فلسفة العلوم الراهنة ومستجداتها تُملي على المعنيِّين بأمرها الاضطلاع بما يحاول هذا الكتاب جاهدًا الاضطلاع بشيء منه.

وكل هذه الخطوط الواردة عبر الأبواب الثلاثة يمكن أن تُعَدَّ مواصلةً وتأكيدًا للقضية الكبرى التي عُولجَت معالجةً مستوفية وشاملة ومتكاملة في كتابي الذي استغرق جهدًا ضافيًا عبر سنوات، وهو كتاب «نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا». وقد تفضَّلَت المؤسسة العربية للفكر والإبداع بإصداره في بيروت، العام ٢٠١٧.١ والآن تتفضل دار نيوبوك الناهضة المنجزة بإصدار هذا الكتاب الذي يواصل المسيرة والرسالة والأمانة. وفَّقنا الله جميعًا لخدمة ثقافتنا العربية الإسلامية، وفي العمل على توطين آيات العلم ومنهجه في أعطافها.
١  وفي العام نفسه ظهر في القوائم المرشحة لنَيل جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع التنمية وبناء الدولة، في دورتها الثانية عشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤