تمهيد

الإشكالية المطروحة وحدودها

باتَت فلسفةُ العلم في تطوراتها الراهنة تُلقي همًّا مضاعفًا على المعنيِّين بأمرها، فضلًا عن أمر توظيفها وتفعيلها في الواقع الحضاري لتوطين العلم وتبيئة البحث العلمي في الثقافة المعنية؛ إذ اتضح أن هذا لم يَعُد يكفيه البتة ما دأَبْنا عليه من تنقيب في صحائفنا الفلسفية القديمة عن مسوح عقلانية وممارسات تجريبية كانت في زمانها، ولا بد من تجاوز هذا العود إلى الماضي، وتفعيل ممكنات أعمق وأشمل تتَّجه صوب المستقبل.

ذلك أن فلسفة العلوم قد تجاوزَت الطرح الوضعي البسيط المؤمثل — فضلًا عن الواحدية المادية والحتمية الميكانيكية — الذي يعني الاقتصار على فحص الأسس المنطقية والميثودولوجية، أو باختصار العقلانية والتجريبية. ومع التسليم بخطورة هذه الأسس فإنها ببساطة علةٌ ضرورية، ولكنها ليست كافية؛ لأن العلم الرياضياتي والتجريبي ذاته لا يهبط من السماء ولا يسبح في الفراغ، بل ينشأ في إطار حضاري هيَّأ له السبيل، وطرح عليه التساؤلات، وصبغَه بالأصول والتوجُّهات. العلم باختصار ظاهرة من ظواهر الحضارة الإنسانية؛ فيشتبك بعلاقات مع بقية مكونات الحضارة الإنسانية من قِيَم ومفاهيم، ومن مؤسسات وكيانات ثقافية. وسوف نوضح كيف قطعَت فلسفةُ العلم في العالم الغربي طريقًا طويلًا وشاقًّا أفضى إلى التسليم بأن العلم ظاهرة إنسانية أكثر تعقيدًا وأكثر حيوية، والمعالجة الفلسفية لها لا بد أن تكون أكثر تكاملًا، وأكثر مسئولية إزاء واقعها الثقافي والحضاري.

تفضح هذه التطورات زيفَ الأغلوطة المقترنة بواحدية العلم الوضعي التي تزعم أن العلم بمنهجيته لا وطنَ له ولا هوية، وكأنَّ ممارسي البحث العلمي من العلماء ليسوا بشرًا ينشئون ويتواجدون ويعملون ويُبدعون ويُنجزون بالضرورة في إطار إنساني متعين … وكأن البحثَ العلميَّ يدور في سديم وخلاء، ولا علاقة له بالقِيَم والمُثُل والتوجهات والغايات وسائر عناصر المنظومات الحضارية والاجتماعية التي تُشكِّل في تنوُّعِها وتقابُلِها عالمَ الإنسان. إنها أغلوطة صريحة تنقض ذاتها بذاتها لتمثِّل مفارقة paradox؛ فالذين يزعمون أن العلم لا وطنَ ولا هوية له إنما يقصدون بالضرورة العلمَ الغربيَّ ذا الهوية الغربية، وفقًا للوضعية التي كانت. وتعمل هذه الأغلوطة على تكريس الواقع المتخلف، فيظل العلم حيث هو في عالمه المتقدم زاعمًا عموميةً بادَت، ولا ينعم بها إلا أهلوه وما يجودون به على الآخرين الذين لا حظَّ لهم من الإسهام في التقدم العلمي.
ولا مندوحة عن الاعتراف بتواضع الإسهام في التقدم العلمي من قِبَلِ العالم الإسلامي المعاصر، وعالمنا العربي الذي يقبع في سُوَيدائه وأرومته. أجل، لدينا علماء مجتهدون ومبدعون، لدينا جامعات ذات ريادة وعراقة وموقع ما في التصنيفات العالمية، لدينا مؤسسات علمية تُنجز، لكن الجهود العلمية مشتتة. ما زلنا في مرحلة النقل والاستهلاك المشتق من الهلاك، لم نحقِّق بعدُ الذات الحضارية في عالم العلم وتطبيقاته التقانية مثلما فعلَت أممٌ أخرى على رأسها اليابان١ ولحقَت بها الصين، وانضم آخرون من ثقافات لم تساهم في الحداثة، ولكنها تمكَّنت من الاستيعاب والإسهام في التقدم العلمي المعاصر.
يستبدُّ بنا العزم لتجاوُز الواقع المأزوم بآفاق فكر نهضوي يستدرك ما فاتنا بالتمكين لعوامل التقدم وعلى رأسها توطين المنهجية العلمية توطينًا أصيلًا غير مجلوب أو مستورد. العلم غير قابل للاستيراد، قد نستورد بعضَ نواتجه من نظريات نتعلمها أو من تطبيقات تقانية نستعملها. وفي هذا لا علمَ لدينا ولا نصيب لثقافتنا من الإسهام فيه. وكما يقول رشدي راشد — الحجة في تاريخ العلوم والرياضيات: إن مجموعة من العلماء مهما كان عددها ومهما كان عدد المؤسسات التي يتواجدون فيها، لا تُشكِّل مجتمعًا علميًّا، وذلك إذا أردنا تكتُّلًا متماسكًا وليس مجردَ حشدٍ من الدارسين.٢ وبنصِّ تعبير رشدي راشد: «المجتمع العلمي يكون موجودًا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهِّد لوجود هذا المجتمع العلمي وتُقدِّم له الخصائص التي تميِّزه، وإذا انعدمَت التقاليد الوطنية في البحوث لا يبقى سوى كميةٍ من المعلِّمين وتجمُّعٍ من التقنيِّين.»٣

ولا بد أن يصحَّ منَّا العزم لتكوين المجتمع العلمي ذي التقاليد الوطنية؛ أي أن يكون العلم والبحث العلمي في ثقافتنا مؤسسة لها حيثياتها وأصولها ومنطلقاتها وتوجُّهاتها وقِيَمها، وليست نشاطًا مبعثرًا في هذا المنحَى أو ذاك. على الإجمال لها نموذجُها الإرشادي. ولدينا من أجل هذا القِيَم والنواميس والمنطلقات الإسلامية بقدراتها الفريدة — حين نُحسِن استيعابها وتفعيلها — على شَحْذ النفوس وتوجيه السلوك، إعمالًا للجهود وللعقول، لإنتاج الفكر والعلم والمعرفة.

لا بد أن تنبعَ أصولٌ منهجية علمية من ثقافتنا، وإثبات شرف مواطنة متبادل بين الطرفين. ولئن كان صُلْبُ الفعالية العلمية المنتجة هو المنهج والمنهجية، فإنه من الضروري التمييز بينهما، بين ما هو methodological وما هو methodic. التمييز بين مستويَين هما المنهج والمنهجية بمثابة اقتحام ما أسمَته منى أبو الفضل (١٩٤٥–٢٠٠٨) «العقدة المنهجية»،٤ ورأَتها الوجه الآخر للوثبة الحضارية. أبانَت د. منى كيف أن العقدة المنهجية هي القدرة على التمييز بين عمليَّتَين أو مستويَين في التنظير لبناء أدوات التخصص العلمي ومجاله، وهما بناء المفاهيم ثم بناء الإطار المرجعي الذي تنتظم فيه هذه المفاهيم.
المنهجية أطروحة أبعد من المنهج Method، ومن مجرد سَرْد مناهج البحث العلمي التي تُوصف بأنها مشترك إنساني عام؛ فهي تحتويها وتتجاوزها. مناهج البحث بمفهومها الواسع هي آليات العقل البشري عمومًا في البحث والاستدلال والإنشاء، وبمفهومها المحدَّد طرقٌ علمية تُعنَى بالوسائل والإجراءات والخطوات التي يتبعها الباحث في انتقاله من المقدمات إلى النتائج، وفي وصوله إلى الغاية المنشودة من البحث. أما المنهجية فهي أوسع وأشمل من مجرد المناهج، إنها نظرة شمولية تستوعب التصورَ العام لمبادئ وحدود وخصائص ومعالم فاعلية إعمال العقل المنتج في توليد الفكر وإنتاج البحث العلمي، تُمثِّل صلْبَ النموذج العلمي الإرشادي الذي يشمل التلاقح بين آليات البحث وبين رؤية العالم والمنظومة القيمية، ويُثبت أن العلم ذاته لا ينفصل عن إطاره الثقافي والحضاري.
إن المنهجيةَ بمفهومها الشامل لا تنفصلُ عن الهوية الحضارية، وهي تمثيلٌ للإطار الثقافي المعنِيِّ، تضمُّ المشتركَ الإنسانيَّ العام من أدوات منطقية وآليات عقلية ووسائل ذهنية وإجراءات تقنينية ومهارات التفكير التحليلي الناقد الذي يتصف بالاستقلالية والإبداع … ولكنها لا تقتصر على هذا؛ لأن العقول في واقعها الفعلي المنتج «ليست «أشياء» يمكن أن تُصَبَّ في قوالب محددة، وإنما هي قدراتٌ يجري تفعيلُها وإعمالها في اتجاهات مختلفة، ونريد لها اختيارَ اتجاهاتٍ محددة»؛٥ لذا تُجسِّد المنهجيةُ أيضًا عناصرَ الخصوصية الحضارية من قِيَم وتوجُّهات ومنطلقات حتى يمكنَ اعتبارُ المنهجية بمفهومها الشامل تمثيلًا لطابع الحضارة المعنية.

هكذا نجد المنهجية العلمية الغربية منذ بيكون وديكارت قد نمَت وتطوَّرَت وتألَّقَت تعبيرًا عن الثقافة المادية والرؤية الوضعية. بل وأكثر من هذا؛ فحين نقول — مثلًا — المنهجية الإنجليزية تقفز إلى الأذهان التجريبية الكلاسيكية، وحين نقول المنهجية الألمانية يتبدَّى طابع الدقة والاستدلال المحكم، وحين نقول المنهجية اليابانية يتصدر الحديث روح الجماعة ونَبْذ الفردية المطلقة … إلخ. والسؤال الذي تلحُّ الإجابة عليه: ماذا حين نقول المنهجية الإسلامية؟ كيف يمكن أن يستخدم الباحثون المناهجَ الإجرائية والأدوات المنطقية بصورة تنسجم مع المنطلقات والقِيَم والمعايير والأهداف الإسلامية؟ ماذا عن إنتاج العلوم والمعارف في إطار متسق مع عناصر الثقافة الإسلامية ومقاصدها؟ هكذا يدخل حديث المنهجية في إطار حاجة الأمة إلى التجديد لتطوير الثقافة الإسلامية والعقلية الإسلامية المعاصرة.

المنهجية العلمية جهدٌ إنساني؛ أي موضوع للمحاولة والاجتهاد، وككل اجتهاد إنساني ليست معصومةً من الخطأ، وقابلة دومًا للتطوير والتعديل والتصويب. إنه اجتهاد يفتح الباب لاجتهادات متواصلة في تفعيل الفكر وتوطين البحث العلمي. من حق، أو بالأحرى من واجب، الحضارة المعنية أن تجتهد لخلق منهجيتها، وأن تقبل وترفض، وأن تُنقح وتُطور … المنهجية المتجذرة هي عنوان توطين العلم والبحث العلمي، والمنهجية العلمية الكفيلة بهذا في ثقافتنا لا يتأتَّى نقلها عن الغرب، ولن تكون معطًى جاهزًا في التراث يُراد فرضه على الواقع، بل لا بد من بذل الجهد التحديثي من أجل الاستنطاق والتشييد والتفعيل.

إنها قضية الأصالة والمعاصرة الشهيرة التي يزداد إلحاحها؛ ففي توطين العلم بمنهجية متكاملة، كما هو الوضع في محاور حضارية عديدة، لدينا نموذجان: النموذج الإسلامي الموروث، والنموذج الغربي المعاصر، والمطلوب استيعابُ وتجاوُز هذا وذاك بمنهجية علمية إسلامية معاصرة كسبيل إلى توطين الظاهرة العلمية في الحضارة الإسلامية المعاصرة.

قد يبدو هذا الطرحُ غيرَ مألوف؛ إذ يراد عادةً من الرؤية الفلسفية أن تنحوَ باللائمة على عوامل للتخلف كامنة في ثقافتنا وفي تراثنا على العموم والأشعري منه على الخصوص، وأن تُعينَ فيه ما يتحمل مسئوليةَ أو جريرةَ تخلُّفِنا العلمي. ومن أجل العلم الحديث والبحث العلمي علينا أن نُوليَ ظهورنا لتراثنا وثقافتنا، وننطلق صوب الغرب ليظلَّ العلمُ غربيًّا وغريبًا ومغتربًا، أو مستوردًا. وتلك على وجه التحديد الإشكالية التي نريد فضَّها الآن؛ لأن العلمَ مرة أخرى غيرُ قابل للاستيراد، ولا ينطلق ويتوهج إلا في الإطار الحضاري المواتي … فلماذا لا نعمل على توطين المنهجية العلمية في الإطار الحضاري الإسلامي. إنه خطاب يقع على النقطة الحرجة، أو الخط الفاصل بين التحديث والتغريب. وهو خطٌّ قد لا يعترف به جمهرةٌ من حاملي لواء التقدم والعصرنة والتنوير والعقلانية، وكل ما يرتبط بالحداثة أو يتقاطع معها … وقد يُسرفون في تقديس العلم وتنزيهه عن كلِّ ما هو إنساني، عجزًا عن التخلص من إسار المرحلة الوضعية السابقة. نتوقع منهم رفضًا، وربما استنكارًا بل تحريمًا وتجريمًا لطرح قضية توطين المنهجية العلمية في إطار حضاري معين، إسلامي أو غير إسلامي.

وفي هذا نحتكم إلى تطورات فلسفة العلوم ذاتها التي هي المعقل الرسمي والشرعي لحديث المنهجية العلمية، لنرى كيف أزاحت عقبات وأفسحَت الميدان، حتى أصبحت فلسفة الظاهرة العلمية في الإطارِ الحضاري المعنيِّ حقًّا وواجبًا. وننتقل بعد ذلك إلى واجب توطين المنهجية العلمية في الإطار الحضاري الإسلامي، ليبدأ هذا الحديث من حيث انتهَت تطورات فلسفة العلم في العالم الغربي ذاته، إصرارًا على توجيه بوصلة المباحث الإسلامية من الماضي إلى المستقبل.

١  انظر موازنة بين تجربتَي التحديث اليابانية والعربية في مقاربة فلسفة العلم ونظرية المنهج العلمي:
Yomna T. Elkholy, The Beginning of the Philosophy of Science in Japan and in the Arab World: A Comparative Approach, In: International Symposium (2006), ed. by IKEUCHI Satoshi, International Research Center for Japanese Studies, Kyoto, December 2007. pp. 35–58.
٢  د. رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب، العدد ١٢، بيروت، ٢٠١١، ص٤٣٣.
٣  نفسه، ص٤٣٤.
٤  د. منى عبد المنعم أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ١٩٩٦، ص١١.
٥  د. فتحي ملكاوي، المنهاج والمنهجية: طبيعة المفهوم وأهميته والمفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة، في: المنهجية الإسلامية، لفيف من المؤلفين، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار السلام، القاهرة، ٢٠١٠، الجزء الأول، ص٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤