خاتمة

بيت القصيد

إنها محاولة لاقتحام العقدة المنهجية، لاستنطاق مكونات الحضارة الإسلامية وثقافتها وتراثها بمعالم نموذج قياسي إرشادي إسلامي؛ ليبدوَ كفيلًا بتوطين المنهجية العلمية في بيئتنا، مُلبِّيًا لاحتياجاتها، وعاكسًا لحضارتنا بنموذجها المعرفي ورؤيتها للعالم، بمخزونها العقائدي ونسيجها الشعوري ومنظومتها القيمية ومنظورها الأنطولوجي أو رؤيتها للوجود؛ فيكون تجسيرًا للهوَّة بين الواقع الراهن والواقع المأمول … بين منطلقاتنا العتيدة الوطيدة وثورة التقدم العلمي والتقاني الجياشة الموارة … بين الماضي والمستقبل … بين الأصالة والمعاصرة … بين الخصوصية والكونية.

•••

توطين المنهجية العلمية صلْبٌ من أصلاب مقاربة إشكالية الأصالة والمعاصرة، فلا غروَ أن يتوازى الخطَّان عبر الصفحات السابقة، والآن يلتقيان ليتمخض تزاوجهما عن النتائج الآتية:
  • (١)

    تمثل نشدان المعاصرة في أن نبدأ من حيث انتهَت تطورات راهنة لفلسفة العلوم في معاقلها في الغرب. بيَّنَّا كيف تجاوزَت الاقتصار على الطرح الوضعي البسيط المؤَمثَل الذي يكتفي بردِّ العلم إلى الأسس المنطقية والتجريبية. وبات واضحًا أن الطرح المتكامل للظاهرة العلمية ومنهجيتها يتأتَّى في إطار حضاري متعين. ليس العلم قصة غربية خالصة أو نسقًا واحدًا ووحيدًا، بل هو أنساق متعاقبة ومتجاورة ومتلاحقة وفعالية مستمرة منطلقة دومًا. يتزامن هذا مع عصر ما بعد الاستعمار ونقض المركزية الغربية، والترحيب بالتعددية؛ لتتحمل كلُّ ثقافة مسئوليتها إزاء توطين العلم. وفي ساحة الجهاد العلمي المباركة، بدلًا من الانسحاق والتبعية بين مركز سائد وهوامش مغيبة تنقل وتردد ثمة التثاقف والتحاور بين أطراف مستطيعة، وإن تفاوتَت استطاعاتها. إنه التشارك والتلاقح دون طمس الخصوصيات الحضارية. وإذ نسلِّم بأن العلم لا ينطلق بمجامعه إلا في إطار حضاري مُواتٍ، لا بد من تحمُّل هذه المسئولية والعمل على توطين المنهجية العلمية في الإطار الحضاري الإسلامي، باعتبار الثوابت الإسلامية أحد المكونات الأساسية لثقافات دائرة من الدوائر الحضارية في العالم، هي دائرتنا.

  • (٢)

    وبتعيين الفحوى والدور للإطار الإسلامي ونموذج إرشادي إسلامي، أوجبَت المهمة المطروحة أن نتجاوز العود إلى الماضي، سواء بتمجيدِه أو لومِه … بمدحه أو ذمِّه. وأمكن العمل على استنطاق وتفعيل ممكنات إيجابية في مكونات خصوصيتنا الحضارية قادرة على القيام بدور في إطلاق طاقات البحث العلمي.

  • (٣)

    ولئن حكمت خصوصية الحضارة الغربية بنَبْذ كتابها المقدس من أجل الانتقال إلى قراءة كتاب الطبيعة والاقتصار عليه في مرحلة العلم الحديث، التي استوجبت بداياتها الكلاسيكية واحدية مادية، فإن خصوصيتنا الحضارية تنطلق من قراءة الكتابَين معًا؛ لأن القرآن يحمل قوة دافعة وقِيَمًا موجَّهة للبحث العلمي أو لقراءة كتاب الطبيعة والكون والإنسان. وتلك هي القيمة المنهجية للجمع بين القراءَتين وإعمال مبدأ التوحيد. فضلًا عن أن البحث العلمي لا يعود نشاطًا مجلوبًا أو مغتربًا عن بنية الإنسان المسلم. يزخر النموذج الإسلامي بقِيَم وموجهات السلوك العلمي من المنطلق التوحيدي.

  • (٤)

    وكما رأينا في المنهجية الغربية ونموذجها الإرشادي، أرسيت قواعد المنهج أولًا، بوصفها متحررة تمامًا من القيم والأخلاقيات. وكنتيجة لتطورات معرفية وحضارية عرضنا لأهم ملامحها، استبينت مؤخرًا حاجة العلم الملحَّة إلى القيم والأخلاقيات. وبالخوض في الإطار إسلامي لا غروَ أن يحدث العكس؛ فقد تحددت آنفًا المنظومة القيمية المميزة للمنهجية الإسلامية قبل الخوض في المنهج ذاته. يمكن اعتبار أسبقية القيم وأولويتها من معالم النموذج الإسلامي، ثمة ترابط متجذر بين المعرفي والقيمي.

  • (٥)

    ويظل المنهج آية العلم والعلم آيته. وقبل التماس المنهجية العلمية تحديدًا وفي عموميتها، طُرح السؤال: هل المنهج ذاته أصلًا سلعة غربية خالصة، ولا بديل أمامنا سوى الاستيراد، أم أن الأمر يتطلب تطويرًا وتنمية لممكنات متوطنة، مطروحة وماثلة لتسير نحو استيعاب المنجزات الراهنة والرائعة حول المنهج العلمي وآلياته؟ أسفر بحث وضعية المنهج في تراثنا عن ترجيح البديل الثاني. وبدَا واضحًا أن إنجازات تراثنا في مرحلته التاريخية قد تأتَّت على أساس العناية بقضية المنهج والمناهج في المجالات الشتى، وامتلك رصيدًا منهجيًّا هائلًا في مسيرته التاريخية.

  • (٦)

    ومن أجل توطين المنهجية العلمية تحديدًا، كان البحث عمَّا هو أعمق من سرد ماضي المناهج العلمية وإجرائياتها … البحث عن جذر للعقلية المنهجية ذاتها وأصول روحها المنبعثة في أعطاف حضارة أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها. وفي هذا تقدم علم أصول الفقه كعلم منهجي بامتياز. وعن طريق بحث واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأُسِّس لها، كشف عن منهجيات مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطن الروح المنهجية في ثقافتنا. ونذكر في هذا الصدد المهمة الجليلة التي اضطلع بها فلاسفةُ المنهج في الحضارة الغربية إبان القرن السابع عشر، مسلِّمين بأن الشقة بين أصول الفقه وبين الميثودولوجيا العلمية المعاصرة، لا تقلُّ عن الشقة بينها وبين رُؤَى فلاسفة منهج الأوروبيِّين في القرن السابع عشر، ومع هذا لا يملك أحد إلا الإقرار بدورهم العظيم في تأصيل روح المنهجية العلمية في قصة الحداثة الغربية. ويمكن أن يقوم الأصوليون في ثقافتنا بدور توطيني مشابهٍ لدور فلاسفة المنهج؛ أي التأصيل لمنهجية حضارة. ولعل هذه أبرز نتائج البحث.

  • (٧)

    قام علم أصوله الفقه بدوره في إثبات أن الروح المنهجية ليست غريبةً عنَّا، أو منقولة عن الآخرين. وهذه مقدمة أولية لتوطين المنهجية العلمية. وقد نتج عن البحث فيها حصادٌ منهجي وفير؛ فقد كان المنطق الأصولي أوسع من المنطق الصوري الوافد وأقرب إلى منطق الميثودولوجيا العلمية. احتوى القياسُ الأصوليُّ القياسَ المنطقيَّ وتجاوزَه. ألقَت منهجيَّتُه درسًا في الاستفادة من الوافد وتوظيفه، ورأينا آلية البدء بجهاز مفاهيمي وضبط البنية المصطلحية، وتجلِّي الروح المنهجية في التعامل مع المصادر، وعلى رأسها الثقلان؛ أي القرآن والسنة، واصطناع مناهج نقدية اختبارية للتحقق من وثوق الاستدلالات، والعناية بقضية النسخ التي تَعني التطوير والتعديل، والطرق الدالة على كون الخبر صدْقًا أو كذبًا، ومناهج «الجرح والتعديل» و«التعارض والترجيح»، وسواها من آليات منهجية لإحكام البحث. وكأنه من باب الاعتبار الحقيقي للمصادر المقدسة علينا تفعيل خطوط المنهج العلمي النقدية. ثم كانت حجية الإجماع كمصدر ثالث، تحمل قبسًا من روح مميزة للمجتمع العلمي.

  • (٨)

    على أن التعويل الأكبر في التماس جذور المنهجية المنتجة وتوطينها إنما هو على الاجتهاد والقياس، وطويلًا ما كان «المجتهد» صفةً عُلْيَا ينالُها الإمام، ونرنو إلى أن تنسحبَ في عصرنا إلى العالِم الطبيعي والاجتماعي أيضًا. هنا أتَت واسطة العقد المنهجي وهي مناهج الاستدلال على العلة، فضلًا عن المنهجية الاختبارية في «السبر والتقسيم» وفي مبحث القوادح، والآلية التقنينية في تقسيمات الأحكام، التي جعلَت المنطق الأصولي في جوهره وفي حدود عصره منطقًا متعددَ القيم.

  • (٩)

    يتكامل الأصولان؛ علم أصول الفقه وعلم أصول الدين (= علم الكلام)، في تبيئة الظاهرة العلمية وتوطين المنهجية العلمية، والتأصيل لنموذج إرشادي. في علم الكلام القديم احتلَّت الطبيعة موقعًا متميزًا، لكنها كانت مشكلةً أنطولوجية، ولا بد أن تتحول إلى مشكلة إبستمولوجية في علم الكلام الجديد لتغدوَ مهمتُه هي تنضيد العقائد الدافعة إلى قراءة كتاب الطبيعة؛ أي إلى البحث العلمي. أصول الدين باشتباكه مع العقائد والتصورات، يتَّصل بتصور حدود حلبة عالم العلم، بأنطولوجيا العلم وإبستمولوجيته، فيشتبك بفلسفة الطبيعة، مقابل اشتباك أصول الفقه بفلسفة المنهج أو الميثودولوجيا.

  • (١٠)

    محصلةُ كلِّ هذا أن خيارَ الواحدية المادية وقصف الأبعاد الثقافية للعقائديات هو خيار للحضارة الأوروبية، وليس شرطًا مطلقًا للمنهجية العلمية. ومن منطلق القراءَتين يمكن تحديد معالم ودعائم نموذج إرشادي، يؤسس لعمل العلماء الباحثين والدارسين في العالم الإسلامي لاستقبال الرصيد العلمي العالمي على أساس رؤية توحيدية تكاملية تستقطب مصادر المعرفة وأبعاد الوجود، ليغدوَ البحث العلمي تجربةً شاملة ينغمس فيها الباحث بمجامع قدراته وملكاته، فيكون أقدرَ على الإبداع والإضافة المأمولة.

  • (١١)

    إنه نموذج يمثِّل استمراريةً وتجديدًا وتطويرًا لتراثنا، يشتجر مع المنظومة الثقافية والعقائدية، ليعتمل في أعطافه المستجد من نظريات العلم وآليات منهج العلم وأصوليات البحث العلمي، اعتمالًا متوطنًا، يزعم تواصلًا غير ذي غربة. إنه بمثابة الوقوف على أرض نملكها وتملكنا، إن تكاملَت شروطه وعوامله واحتياجاته وآلياته ومؤسساته، قد يشحذ العزائم ويفجر الطاقة البحثية.

  • (١٢)

    والمنشود أخيرًا أن تُفضيَ هذه النتائج في مجموعها إلى القضية الأولية، والتي هي هدفٌ مرتجًى من هذا البحث أصلًا، ألا وهي نقض وإبطال الزعم بغربة العلم وبغياب روح المنهجية العلمية عن تراثنا وعن ثوابت ثقافتنا. فذلكم هو ألف باء توطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي، لينفتح الباب نحو الجهاد الأكبر، وهو التأهل بما يلزم من حصائل الحداثة التي تجعل هذه المنهجية متطورة منطلقة صوب المستقبل، قادرة على الإضافة إلى العلم وإلى عطاء العصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤