الفصل الأول

فلسفةُ العلم ومنهجيتُه في الإطار الحضاري

كانت فلسفة العلوم تقتصر على النظرة إلى العلم من الداخل، لتتمثل فقط في آليات منهجه وقواعد منطقه، ولا شأن لها بأية مقولة تتجاوز الإطار الإبستمولوجي لنسق العلم، من قبيل التصور والرؤية والبراديم أو النموذج الإرشادي المعين بما يتضمنه من أخلاقيات ومعياريات وقِيَم وموجهات. وظل الأمر هكذا حتى الثلث أو الربع الأخير من القرن العشرين، حين تدفَّقت في النهر مياهٌ جديدة، جعلَت فلسفةَ العلم تتحرر من مرحلة الافتتان والانبهار بالعلم والدوران في فلكِ سرِّ نجاحِه وتقدُّمِه المطرد، وأدركَت أن العلم ليس نسقًا واحدًا ووحيدًا، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر التاريخ الإنساني، ويتدخل في هذا العواملُ الخارجية؛ الثقافية والحضارية والاجتماعية والأيديولوجية؛١ لأن العلمَ التجريبيَّ ذاته لا ينفصل عن أيديولوجيا خاصة به نشأ في إطارها، ولا يستغني البتة عن منظومة قيمية تُوجه ممارساته ومساره. وقد باتَت أخلاقيات العلم والبحث العلمي وقِيَم التطبيقات العلمية في العقود الأخيرة من الأولويات الجديرة بالاهتمام. بعبارة أخرى موجزة، وكما تذهب البنائية الاجتماعية — وسنفصلها في حينها — بات واضحًا أن: «الدليل التجريبي الذي نملكه لنظرياتنا إنما يمثِّل تحديدًا ناقصًا لها. إننا في حاجة إلى الإتيان بقِيَم أخرى لتُلقيَ بثقلها في الحكم على نظرياتنا العلمية، قِيَم من قبيل الاتساق الداخلي والبساطة والتساوق مع معتقداتنا وقِيَمنا الأخرى.»٢

•••

وفي هذا نجد أن الوضعية الفرنسية والنزعة الاستقرائية Inductivisim الإنجليزية٣ في القرن التاسع عشر، وسليلتهما في القرن العشرين؛ أي الوضعية المنطقية Logical Positivism، أو التجريبية المنطقية Logical Empiricism،٤ كما تُسمَّى أحيانًا، قد وصلَت جميعها إلى طريق مسدود، وانقشعَت سطوتُها على أجواء فلسفة العلم. كانت الوضعية المنطقية ترى أن فلسفة العلم تقتصر على اللغة البعدية المعنيَّة بالتحليل المنطقي لهيكل النظريات العلمية دون مضمونها، فتنحصر في تقنيات المنطق الصوري وأساليبه، وقطعَت كلَّ علاقة لها بالعلم كنشاطٍ حيٍّ وممارسة فعلية؛ أي العلم في تعيُّنه الواقعي المتدفق النابض بالحياة في مجرى التاريخ وسياق الحضارة الإنسانية. هكذا أمعنوا في تنزيه العلم من التوجهات الاجتماعية وقِيَمها ومبادئها، وفي إنكار الدور الذي يلعبه تاريخ العلم والواقع الحضاري في فهم ظاهرة العلم فهمًا أعمق، يسهم في دفعها إلى الأمام وتسريع معاملاتِ تقدُّمِها.
رأى هؤلاء الوضعيون أن التجربة والإمبيريقيات قادرةٌ على تفسيرِ كلِّ شيء، ويجب أن يرتدَّ إليها كلُّ شيء، فتكاد ترتفع التجربة إلى مستوى بديهيات المنطق وتُلامس حدود المطلق الذي يعلو على الزمان والمكان، ودَعْ عنك القِيَم والتوجُّهات الحضارية! إن الوضعيةَ المنطقية مغالاةٌ وتشدُّد في المنزع الوضعي الذي صبغ العلم في الحضارة الغربية، مستعينةً بأساليب المنطق الرياضي الدقيق لتأكيد هذا التشدد وتقنينه وفرضه، وذلك عبرَ ما أسمَوه بالتحققية Verificationism؛ أي معيار التحقق من أن العبارة الإخبارية مردودة بجملتها إلى الواقع التجريبي، وإلا كانت لغوًا بغير معنًى. وهذا المعيار يجسِّد مجمل فلسفة الوضعية المنطقية من أن كلَّ ما يُسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، أما المعرفة ذاتها فلا تُستمد إلا من الخبرة الحسية والتجربة، وما عدا ذلك لغوٌ بغير معنًى، فكانت صياغة هذا المعيار مع ألفرد آير كالآتي: «يكون للجملة معنًى حرفيٌّ فقط إذا كانت تعبِّر عن قضية تحليلية، أو قضية ممكنة التحقق تجريبيًّا.»٥ ثمة أيضًا معيار آخر وضعوه وهو لغة العلم الموحد التي تردُّ العلومَ جميعها إلى الفيزياء باعتبارها العلم الشامل لعالمنا التجريبي، وما يخرج عن حدودها يُعدُّ لغوًا. فكرة العلم الموحَّد ذاتها التي شاعَت وذاعَت تعود أصولُها إلى الموسوعيِّين الفرنسيِّين في القرن الثامن عشر.٦ وبلغَت أوجهًا حين طرح الوضعيون المناطقة فكرةَ لغة العلم الموحَّد خصوصًا على يد رودلف كارناب R. Carnap (١٨٩١–١٩٧٠) الذي عَمِل على صياغة البناء المنطقي للغة العلم، على أساس أن العلم يتعامل فقط مع وصْفِ الخصائص البنائية للأشياء في الزمان والمكان والعلاقات التي تربطها ببعضها. ووضع كارناب قواعد هذه اللغة وهي قواعد تشكيل وصياغة الجمل والتعبيرات الفيزيائية ثم قواعد استنباط جملة من أخرى.٧ تعمل هذه القواعد على أن تكون دقيقة؛ فتستوعب كلَّ التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تمامًا ما سواها، وأي فرع آخر من فروع العلم الحق يمكن صياغته في حدود هذه اللغة، وإلا كان علمًا زائفًا.
لقد كانت الوضعية المنطقية فلسفة متطرفة متعصبة، مارسَت نوعًا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم والميثودولوجيا، فمَن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلف الغارق في الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية. وبدا سدنة الوضعية المنطقية في عكوفهم على تبرير المعرفة العلمية وطرائقها وكأنهم حراسُ الكهنوت العلمي. وتباروا في إقامة السدود المنيعة بين فلسفة العلم وبين تاريخه وقِيَمه وواقعه الاجتماعي والحضاري. ونظرًا لسطوة الوضعية المنطقية على أجواء فلسفة العلم، ساد هذا الموقف المحاط بسياج مكينة هي المواقف الحدية للوضعية المنطقية وتطرُّفها الذي بات مضربَ الأمثال للموقف الفكري المستبد.٨
ولم يكن هذا في حدِّ ذاته منفصلًا عن المعياريات والأيديولوجيات؛ لأن العلم غير قابل لهذا الانفصال المزعوم؛ فقد كانت الوضعية من الزاوية الإبستمولوجية بلورة مستصفاة ومكثفة لقِيَم التنوير الحداثي ومثالياته، وأرادَتْها أن تنفرد بالميدان باعتبارها التقدم الذي يلغي كلَّ ما سبقه من تخلُّف، وما حوله من آيات الجهل. ومن أجل استبعاد وتهميش كلِّ الأطراف الحضارية الأخرى، «كانت فلسفات التنوير مسكونة بهاجس مسبق هو استبعاد المحلية من العمليات العلمية، وبهذا نظفر بدعاوى معرفية عابرة للثقافات وذات صحة كونية.»٩ تؤكد المركزية الأوروبية. ووفقًا لهذه المركزية قد تملك الثقافات الأخرى أنساقًا معرفية، ولكن العلم الغربي الحديث، العلم الوضعي هو فقط الذي يُنتج دعاوى ذات صحة كونية تلزم العالم أجمع.١٠ وأنكرت الوضعية المنطقية أيَّ دور للمراحل الأسبق من تاريخ العلم، وأصرَّت على قطْع العلاقة بين فلسفة العلم وتاريخه. وبهذا استطاعت أن تُقوِّس وتُؤَمثل العلم الحديث الذي تشكَّل في الغرب، وأن تفرضه بوصفه صلْبَ الروح العلمية. وبقدراتهم المنطقية العالية استطاعوا ردَّ العلم أولًا وأخيرًا إلى الأسس المنطقية والتجريبية لتتكفل هذه الأسس بتبرير المعرفة العلمية وتسويغها ووَضْع محكاتها ومعاييرها، مجردين ظاهرة العلم من أية أبعاد حضارية أو ثقافية أو اجتماعية أو قيمية، فليس يقترب من تفسيره إلا المحكات المنطقية والتجريبية. هكذا أصبح العلم الغربي هو العلم الواحد والوحيد، أو مطلق العقل العلمي الذي يعلو على حدود الزمان والمكان. وبالتالي أصبح العلم هو الحضارة الغربية، والغرب هو الحضارة العلمية في عصرٍ العلمُ هو فارس حلبته المعرفية وأقوى العوامل الفاعلة في الفكر وفي الواقع. وبدَت معارضة أو مناقشة هذا رومانتيكية عاجزة أو إظلامية ورِدَّة تقهقرية وتخلُّف ورجعية وخروج من عصر العلم الذي هو غربي. فهل ينفصل هذا عن الاستعمارية والمركزية الغربية التي تعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق، فتمثل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى؛ ليكون تقدُّمُها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي: المثل الأعلى المتوَّج بالعلم الحديث الذي هو صنيعة الغرب وحده؟!

علينا أن نتعلم العلم من الغرب جملةً وتفصيلًا منذ أصوله المنهجية مع فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) وديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠). هذه هي الميثودولوجيا (أي نظرية المنهج العلمي) المزيفة للوعي التي تشيع في جامعاتنا ومعاهدنا، وربما لا مانع من أن تُرافقَها قِيَمٌ ووجدانيات من تراثنا مع مثول مسافة فاصلة تفصلها عن محراب العلم المقدس الذي هو غربي خالص … ذلكم هو ما يترسخ أو يُراد له أن يترسخ في الوعي الجمعي في العالَمَين العربي والإسلامي، وكل عالم لم يشارك في صنع الحداثة الغربية.

لكن العلم مصحح لذاته، والغرب بروحه العلمية هكذا، وفلسفة العلم من قبل ومن بعد هكذا، فأمكنها أن تصحِّح بدورها ذلك الخطأ. وبفعل عوامل عديدة بعضها راجع إلى طبيعة المذهب الوضعي المنطقي ذاته، وبعضها الآخر راجع إلى تطورات العلم الثورية، وعوامل أخرى راجعة إلى تطورات معرفية وثقافية وفلسفية بشكل عام، وصلَت الوضعية إلى طريق مسدود وتجاوزها تطورُ التفكير العلمي وفلسفة العلم الراهنة التي هي مقصدنا الآن.

•••

كلُّ فعل له ردُّ فعلٍ مساوٍ؛ لذا أثار استبداد الوضعية المنطقية روح التمرد والعصيان والثورة عليها، وتعرَّضَت لموجات نقد كثيرة من داخل فلسفة العلم ومن خارجها، كانت مقدمةً لموجات النقد الذاتي التي توهَّجت في الفكر الغربي إبان العقود الأخيرة من القرن العشرين، لا سيما في إطار فلسفات ما بعد الاستعمارية وما بعد الحداثة، وما سُمي في فلسفة العلم بالفلسفات بعد الوضعية Post-Positivism وبعد التنويرية Post-Enlightenment، وسواها مما بعديات تزيد من السيولة والغيوم المعرفية، وتحتِّم الحاجة إلى نماذج إرشادية متعينة ومُعينة … متلاقحة ومتحاورة. إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن تعددية ثقافية؛ أي علم نتاج لثقافات متعددة، وذلك عن طريق تنضيد المعقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرر والتطور في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم كونية العلم.١١ وقد كانت الوضعية المنطقية أقوى تجسيد له، والهجوم عليها زعزعة لذلك جميعه.
على رأس الهجمات التي تعرَّضَت لها الوضعية المنطقية ذلك النقد الحاسم من جانب فيلسوف المنهج العلمي الأول كارل بوبر K. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤).١٢ أكَّد بوبر أن فلسفة العلم ليست محضَ تحليلات منطقية، بل هي فلسفة الفعالية الحية والهَم المعرفي للإنسان، والعلم أكثر حيوية من أي منشط آخر، قضاياه قابلة دومًا للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلَّاق والعبقرية المبدعة دورًا أساسيًّا في رسم قصة العلم المثيرة التي علَّمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم، فجعل بوبر فلسفة العلم هي فلسفة التقدم، وأصرَّ على أن كلَّ وأيَّ تقدُّمٍ علمي هو ثورة.
ثم كانت النقلة المحورية بفعل توماس كون T. Kuhn (١٩٢٢–١٩٩٦)، الذي التقط أيقونة الثورة من كارل بوبر، وأخرج كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» (١٩٦٢)؛ حيث أوضح أن تفهُّمَ ظاهرة العلم وفلسفته وتقدُّمه المستمر لا يكون إلا من خلال «البراديم»؛ أي النموذج القياسي الإرشادي، حيث تترسم معالم الانتقال من العلم العادي إلى العلم الثوري.
النموذج القياسي الإرشادي مفهوم ينبغي أن نتوقف إزاءَه مليًّا لخطورته وخطورة دوره. وفي أولِ طرحٍ له على يدِ كون نجده يقوم على النظرية العلمية العامة المعمول بها؛ كنظرية بطليموس مثلًا أو نظرية كوبرنيقوس أو سواهما من نظريات يلتزم بها المجتمع العلمي في مرحلة ما، ووجب التسليم بمسلَّماتها ومناهجها ومفاهيمها وخلفياتها الميتافيزيقية، فتحدد مدلول الوقائع التجريبية، وتطرح معايير الاختبار والتقويم والتنقيح، والتعديل إذا لزم الأمر. النموذج الإرشادي يطرح المشاكل التي يجب دراستها وأنماط الحلول المطلوبة. إن مشكلات البحث العلمي مختلفة، والنموذج القياسي الإرشادي لا يُثير منها إلا الألغاز Puzzles؛ أي «مشكلات يمكن الوصول إلى حلٍّ لها طالما نسلِّم بهذا النموذج».١٣ العلم العادي لا يقوم باختبار النموذج ذاته أو تعديله أو الاعتراض عليه؛ فالعلم ينمو ويتقدم في مراحله العادية من خلال حلِّ الألغاز التي يُثيرها النموذج الإرشادي المعمول به، والمعرفة هنا تزداد دقةً واتساعًا وتُواصل إحراز أهدافها، لكنها تخلو من الابتكارات الجوهرية والإبداع العظيم. وعلى هذا النحو تنمو المعرفة العلمية في إطار العلم العادي بصورة مطردة — صورة تراكمية.
ويظل الحال على هذا المنوال التراكمي حتى تظهر حالات شاذة؛ أي ظاهرة لا يتوقعها النموذج المعمول به، لا يتنبأ بها ولا يهيئ الباحث للتعامل معها، فيبدأ الخروج عن أُطُرِه ومحاولات تعديله. وهذا عادة ما يلقَى مقاومة ما في البداية. ولكن لنلاحظ مبدئيًّا كيف أن النموذج الإرشادي ذاته هو الذي يفتح الطريق للخروج منه والبحث عن نموذج جديد. وهذه هي صياغة توماس كون لخاصية التصحيح-الذاتي Self-Correction، التي تُعَدُّ من خواص المعرفة العلمية التجريبية تكفل تقدُّمَها المستمر إلى غير نهاية.

ظهور الشذوذ تتلوه محاولةٌ لاستكشاف مجاله، والمواءَمة بينه وبين النموذج الإرشادي، ومحاولة تعديل أدوات النموذج. ولكن إذا بدَا إسرافٌ في هذا التعديل فها هنا أزمة. الأزمة تعني أنه قد آنَ الأوان للخروج من سياق العلم العادي وتعديل النموذج. المعرفة هنا ليست تراكمية بل ثورية، تمامًا كما تحدث الثورة السياسية حين يشعر أفراد المجتمع أن المؤسسات القائمة لم تَعُدْ كافية لحل المشكلات، أو قادرة على هذا. الثورة العلمية تحدث نتيجة تغيرات لاستيعاب ظاهرة من نوع جديد من قبيل الأكسجين أو الأشعة السينية، ظاهرة خلقَت أزمة. عن الأزمات تنبثق النظرية العلمية الجديدة التي تغيِّر تقاليد البحث وأبعاد الرؤية الميتافيزيقية ومدلولات المفاهيم العلمية والوقائع التجريبية؛ فإن تغلَّبَت النظرية الجديدة على منافساتها، وأثبتَت ذاتَها، يتم التسليم بها كنموذج قياسي إرشادي جديد، يطرح ألغازًا تحتاج لمهارة الباحثين … وهكذا دواليك.

وما ينتج عن الأزمة من انتقال إلى نموذج قياسي إرشادي جديد هو الثورة العلمية، التي تعني تغييرًا في النظرة إلى العالم. والثورات العلمية هي معالم التقدم الكبرى في مسار العلم أو عبر تاريخه. وعلى هذا لا يعود تاريخ العلم أو مسار التقدم العلمي سلسلة من الإنجازات المتوالية وقصص نجاح الأفراد، بل يتكوَّن من مراحل أو وحدات كبرى. لم يُعْنَ كون كثيرًا — كما فعل كارل بوبر مثلًا — بدور العبقرية الفردية في خلق قصة العلم، وانصبَّ اهتمامُه على المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية أو بالأحرى المؤسسة العلمية، التي تعمل في إطار النموذج الإرشادي المطروح، حتى نعتَت فلسفته للعلم بأنها «عقلانية مؤسساتية Institutionalized Rationality».١٤

إذن يمثل النموذج القياسي الإرشادي أيديولوجيا المجتمع العلمي المعنيِّ أو المؤسسة العلمية، التي لا تقتصر على خلْقِ نوع من الانسجام بين أفراد المجتمع أو الجماعة كما تفعل أية أيديولوجيا، بل يتَّسم المجتمع العلمي بدرجة فريدة من التآزر والتضافر والتكاتف.

من هنا يرى توماس كون أن تفسير التقدم العلمي لا بد وأن يرسوَ في نهاية المطاف على عوامل اجتماعية وسيكولوجية، وعلى توصيف لنسق القيم أو الأيديولوجيا، بمعية تحليل وتوصيف المؤسسات التي يتقدم العلم من خلالها. وإذا عرفنا قِيَم العلماء يمكن أن نتفهم المشاكل التي يضطلعون بها والحلول التي يرسون عليها. وينكر كون إمكانية طرح هذه العوامل الاجتماعية والنفسية والقيمية والتنظيمية من أية إجابة عن سؤال التقدم العلمي.١٥
النموذج الإرشادي تمثيلٌ عينيٌّ للمجتمع العلمي في الحقبة المعنية، وكان بمثابة قنبلة انفجرَت في عالم فلسفة العلم؛ فقد أثبت أن تفهُّمَ ظاهرة العلم لا يكون فقط في الإطار الإبستمولوجي ومطلق العقل المنطقي المسلح بالتجريبية كما تزعم الوضعية، بل في هذه النظرة المجتمعية التي مثَّلت علامة فارقة في مسار فلسفة العلم قسمتها إلى فلسفة العلم القبل كُونية والبعد كُونية Post-Kuhnian Philosophy of Science. حدث أخيرًا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى، وقد حرص كون على إبراز أنه لا يوجد خلافٌ جوهري بين التطور في الفنون والآداب والنظم السياسية والإنسانيات، والتطور في العلم. وأخرج دراسة حول العلاقة أو التشابه والتماثل بين هذا وذاك.١٦ إن العلم مثلها لا يُفهَم إلا في ضوءِ تطوُّرِه عبر التاريخ.
تأكد الربط بين فلسفة العلم وتاريخه مع إمري لاكاتوش I. Lakatos (١٩٢٢–١٩٧٤) ومبدئِه النافذ: فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء. ويأتي بول فييرآبند P. Feyerabend (١٩٢٤–١٩٩٤) الذي يمكن اعتباره رائدًا لما بعد الحداثة في فلسفة العلم ليُبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم، وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية المنهجية والنسبوية relativism، وأن كل نظرية لها مكانها، ولكل مرحلة دورها في تاريخ العلم. والعلم الحديث ذاته ليس نظامًا مقدَّسًا يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني وجب أن ينموَ ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، وهو ليس ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووَأْد الثقافات الأخرى، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدُّد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر.

هكذا تدفَّقت مياه جديدة في نهر فلسفة العلم ونظريته المنهجية. لقد بات واضحًا الآن أن العلم ظاهرةٌ إنسانية ونشاط إنساني، ينمو ويتطور عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والثقافية بأبعادها الشتى. وهذه بديهية غابَت تمامًا عن العلم النيوتوني الحتمي الميكانيكي، ولم تتبدَّ بشائرُها إلا مع ثورة العلم في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم والاقتحام المظفر لعالم الذرة وما دون الذرة. أعقب هذه الثورة تطورات في التفكير العلمي، سارَت قدمًا بطيئة ثم متسارعة في طريق تأكيد أن العلم ببساطة ظاهرة إنسانية وإبداع إنساني، تفهُّمُها ودَفْعُها يتم كلاهما على هذا الأساس الإنساني والحضاري والمجتمعي الذي يستلزم رؤيةً وتصورًا ومنظورًا مشبعًا بالعناصر القيمية والحضارية والمجتمعية، أو بعبارة موجزة: نموذج قياسي إرشادي.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التطورات في فلسفة العلم ونظريته المنهجية إنما هي في جوهرها مراجعة نقدية للرؤية الوضعية، بدَا واضحًا كيف تضاعف شأنها بفعل ما تزامن معها من صعود تيارات في الحضارة الغربية تحمل لواءَ النقد الذاتي والمراجعة الذاتية لمسلَّمات الحضارة الغربية بجملتها ووضعيات الثقافة الغربية في عمومها، أو في ادِّعائها العمومية الكونية والعالمية والمركزية. إنها تيارات ما بعد الحداثة المقترنة بما بعد الاستعمارية. انطلقَت في النصف الثاني من القرن العشرين، لتُصادر على أن قِيَم الحداثة والتنوير من عقلانية شاملة ووضعية راسخة وواحدية مادية وحتمية ميكانيكية وعلمانية فجَّة،١٧ ترسم طريق التقدم المطرد، وهي تعتبر العلم الحديث أيقونتها وتاجها، قد استنفدت مقتضياتها، وباتَت مستحقة للنقد تمهيدًا لإغلاق دائرتها والصعود إلى مرحلة حضارية أرحب وأثرى، تتجاوز قصورات مرحلة الحداثة، فضلًا عن جرائمها المتمثلة في استغلال العلم ذاته من أجل تأكيد الاستعمار والسيطرة على الآخرين والمركزية الغربية، وقهر ثقافات الشعوب الأخرى، وتدمير البيئة واستنفاد مواردها. على هذا النحو حملَت تيارات ما بعد الحداثة نزعةً نقدية عارمة تجاه الحداثة الأوروبية والمركزية الغربية، وشهدت ما سُمِّيَ بالنقد بعد الاستعماري والنقد العنصري للعلم، وكان هذا دفاعًا عن التعدد الثقافي وعن النظرة الإنسانية الأرحب والأجدى والأكثر خصوبة للعلم وللبحث العلمي ذاته، كما تؤكد فلسفات العلم بعد الوضعية وبعد التنويرية، التي تبحث عن علمٍ أكثر ديمقراطية وأكثر مسئولية إزاء الأطراف الأخرى.
لقد حطَّمت فلسفةُ العلم في العالم الغربي قبل سواه جدرانَ القوقعة الإبستمولوجية، المقتصرة على منهج العلم ومنطقه. أجل ترتكز عليهما دائمًا، لكن أيضًا تستوعبهما وتتجاوزهما إلى معالجة حضارية شاملة للعلم، بوصفه ظاهرةً إنسانية لها متطلبات وشروط واحتياجات الظاهرة الإنسانية وعلى رأسها النسق القيمي والمنظومة الخلقية، ولها إشكالياتها ومنزلقاتها وحيوداتها، فتحتاج لعناصر توجيهية هادية. ليس العلم الرياضياتي والفيزيائي والحيوي والاجتماعي والإنساني على السواء — أو بالأحرى بدرجات متفاوتة — كيانًا مفارقًا تتبتَّل إليه الإبستمولوجيا في عليائه، بل هو ظاهرة إنسانية متدفقة في السياق الحضاري المتعين، كل العلوم نشاط إنساني أنجزه الإنسان، «فلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية، والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية».١٨ وحتى العلوم الفيزيائية ذاتها هي مشاريع ومغامرات إنسانية، وإذا كانت تفترض وجودَ عالم فيزيقي مستقل، فإنها أولًا وأخيرًا تقبع داخل تساؤلات باحثين من البشر المثقلين بالأبعاد الثقافية.١٩ ومهما أحرزَت من نجاح فريد لا عهدَ للبشر بمثله من قبل، تظل مستحقةً للمساءَلة وحُسْن التوجيه والتطويع والتشغيل. العلم ككل فعالية إنسانية يمكن دائمًا بذل الجهد لجعلها أفضل.

والخلاصة أن فلسفة العلم ونظريته المنهجية الآن لا تنفصل عن تاريخ العلم وتطوُّره عبر تفاعله مع الأنساق الحضارية والقيمية، ولا عن أخلاقيات العلم وأخلاقيات الممارسة العلمية وقِيَم المجتمع العلمي الكائنة وما ينبغي أن تكون، وعلاقة العلم بالأُطُر الأيديولوجية وبالأنظمة السياسية وبالمعتقدات، والأشكال المختلفة لعلاقة العلم بالمجتمع. لم تَعُد العلاقة تنافرية استبعادية بين فلسفة العلم وعلم اجتماع العلم، فلسفة العلم لا بد أن تأخذ في اعتبارها عناصرَ شتى بغية المعالجة الأشمل للمعرفة العلمية. ويتمخض عن كلِّ هذا أن نسق العلم ليس واحدًا ووحيدًا هو العلم الغربي أو سواه، بل هو أنساق متتالية على مدى التاريخ، ثم هي متقابلة في الحقبة الواحدة، تتحاور وتتلاقى جميعها نشدانًا لإثراء المعارف وحصائل البحث العلمي.

•••

واللافت حقًّا أننا يمكن أن نَصِل إلى هذا التطور الحادث في فلسفة العلم والميثودولوجيا من منظور أشمل، ألا وهو مبحث الإبستمولوجيا؛ أي نظرية المعرفة بشكل عام، التي نتَّجه نحو المعرفة العلمية التجريبية بشكل خاص، بوصفها نموذجًا مثاليًّا للمعرفة الناجحة، حتى إن مصطلح الإبستمولوجيا في الثقافة الفرنسية يُوضَع مرادفًا لنظرية المعرفة العلمية وفلسفة العلوم. والإبستمولوجيا بدورها تشهد الآن ما يُسمَّى بالإبستمولوجيا الاجتماعية للعلم، هذا من حيث إن النزعة الأسسية في الإبستمولوجيا التي كانت الوضعية بشكل ما درتها يبدو أنها وصلَت هي الأخرى إلى طريق مسدود.

النزعة الأسسية Foundationalism في نظرية المعرفة هي الفكرة القائلة إن هناك بعض المبادئ الأولية يمكن تأسيسها لتكون بمنأًى عن الشك، وتتكفل بتبريرِ كلِّ ما يمكن أن نسمِّيَه معرفة، إنها أسس المعرفة. هذه الأسس عقلية خالصة، منطقية أو تجريبية أو كلتاهما معًا، يُدركها الفيلسوف أو المفكِّر كفردٍ متفرِّد، مما يعني أن المجتمع بقِيَمه وأعرافه لا يمكنه أن يتدخَّل في أيِّ تبرير للمعرفة، على الرغم من أننا نتعلم أولًا ثم نكتشف ما نحن بسبيله من معارف فقط في قلب المجتمع. حكمَت النزعة الأسسية الفلسفة الغربية الحديثة عامةً، وتحكُم الإبستمولوجيا تحديدًا منذ ديكارت أبي الفلسفة الحديثة. وبدَت الأسسية تبريرًا للمعارف التي نعتقد فيها وإثباتًا لصدقها، وعلى رأسها المعرفة العلمية. وفي تساوق زماني وموضوعي مع هذا التطور الذي شهدناه في فلسفة العلم، كان ثمة تطورٌ موازٍ في الإبستمولوجيا أدَّى هو الآخر إلى تداعي أركان النزعة الأسسية وظهور تيارات ترى أن مهمة الإبستمولوجيا ليست فقط في البحث عن الأسس المنطقية لمعارفنا، بل أيضًا في العمليات المعرفية التي تجري في أذهاننا، أو في كيفية نقْل الأشخاص للمعارف داخل الثقافات المختلفة وعبرها، أو في تأثير هذه الثقافات في العملية المعرفية.٢٠
وفي هذا نلاحظ قياسًا على العلاقة الوثيقة بين الإبستمولوجيا وفلسفة العلم، أن المقصود من النزعة الأسسية وما يوضع تحت بندها إنما ينتمي بشكل ما إلى النظرة لطبيعة المعرفة التجريبية والعقلانية العلمية، وهو ما يُعرف في بعض أدبيات فلسفة العلم بأنه منطق المعرفة العلمية، حيث البحث في معايير الموضوعية والعقلانية والمنهج الجيد، والمقولات الجوهرية في منطق العلم، مثل: قيم الصدق والبساطة والمواءمة التجريبية والتساوق. والذي حدث في تطور الإبستمولوجيا أن أتَت بعد تقويض أركان الأسسية، النظرة البنائية الاجتماعية Social Constructivism، التي تَعنِي إضافة القيم الثقافية والاجتماعية لتقنين العملية المعرفية، فتؤكد تعددية الأنساق المعرفية، وقيمة التعددية الثقافية Multiculturalism ودورها في الممارسة العلمية.
وقد كانت الوضعية المنطقية أهم نظرية أسسية في الإبستمولوجيا وفلسفة العلم إبَّان النصف الأول من القرن العشرين. وكما أشرنا تمسَّك الوضعيون بأن أساس معرفتنا نجده في الخبرة الحسية التي يمكن تحليلها تحليلًا صارمًا يستبعد أية عناصر مشكوك فيها أو منحازة. وقد رأينا فيما سبق معيارَ التحقق وقطب الوضعية المنطقية رودولف كارناب يحاول بناءَ لغة العلم الموحَّد، حيث حمل هامش (رقم ٢٧) إشارة إلى كتابه «التركيب المنطقي للغة The Logical Syntax of Language». وكان قد أخرج في العام ١٩٢٨ كتابه «البناء المنطقي للعالم The Logical Construction of the World»؛ حيث يقدِّم منهجًا للشرعة الوضعية؛ أي لإقامة النظريات العلمية على أساس منطقي هو معطيات الإدراك الحسي التي ترتدُّ إلى ما أسماه «جمل البروتوكول»، وهي الوحدات الأولية للأسس التجريبية؛ لأن الحديث العلمي المشروع يمكن ردُّه إلى حديث عن الخبرات الحسية والبناءات المنطقية من هذه الخبرات كما ينص مبدأ التحقق. ونلاحظ أن خصم كارناب الخصيم كارل بوبر تحدَّث هو الآخر عن «العبارات الأساسية»٢١ التي هي المرتكزات النهائية للاختبار التجريبي، أو بمصطلحاته محاولات تكذيب النظرية.

وتبدو النزعة الأسسية تفسيرًا لعقلانية النظريات العلمية، حيث المنهج التجريبي والمنطقي كفيلٌ بتأييد أو دَحْض الفروض والنظريات العلمية، وليس للقيم الأخلاقية والاجتماعية أن تلعب أيَّ دور في هذا.

وفي أواسط القرن العشرين واجهَت نظريات النزعة الأسسية للمعرفة التجريبية صعوباتٍ خطيرة، كشفَت عنها بضعة إسهامات في الإبستمولوجيا أهمها إسهامات كواين في مقاله الشهير «عقيدتان جازمتان للتجريبية».٢٢ هاتان العقيدتان هما؛ أولًا: التمييز القاطع بين العبارات التحليلية والعبارات التركيبية؛ الذي يعني وجود نوعين مختلفين من الجمل، أحدهما تحليلي تكون معاني الكلمات فحسب هي التي تجعل الجملة صادقة أو كاذبة، والنوع الآخر من الجمل: تركيبي تعتمد شروط صدقه على الوقائع التجريبية. أما العقيدة الجازمة الثانية فهي الردية reductionism؛ أي الفكرة القائلة: إن النظريات العلمية كالفيزياء يمكن ردُّها إلى عبارات الملاحظة والمبادئ التي تربط بين تقارير الملاحظة وبين الكيانات النظرية أو القوانين. وهذا بالضبط جوهرُ فكرة العلم الموحد، وهو مشروع كارناب في كتابَيه المذكورَين «البناء المنطقي للعالم» (١٩٢٨)، و«التركيب المنطقي للغة» (١٩٣٤).

معنى هذا أن ثمة مُكوِّنًا من اللغة (= الأسس المنطقية) ومُكوِّنًا من الواقع (= الأسس التجريبية) يتكفَّلان بتحديد صدْقِ الجمل جميعها، ويكون المكون الواقعي صفريًّا في الجمل التحليلية. وما فعله كواين أنه قد بيَّن عدمَ وجود طريقة دقيقة لرسم الخط الفاصل بينهما. وبالتالي خلص إلى أن التمييز بين التحليلي والتركيبي في الجمل مقولة ميتافيزيقية اعتقادية.

أما عن العقيدة الجازمة الثانية؛ أي الردية، فإن كواين يقدِّم لنقدها أطروحة يتشارك فيها مع بيير دوهيم P. M. Duhem (١٨٦١–١٩١٦) الذي سبقه في طَرْحها، تُعرَف باسم أطروحة دوهيم-كواين Duhem-Quine Thesis، وتعني نظرةً كلية لدلالة الخبرة التجريبية، وخلاصتها: أنَّ أيَّ اختبار أو حكم على قضية لا يخص القضية بمفردها، بل ينطبق على النسق الذي تنتمي إليه القضية بأَسْره، ولا تؤخذ دلالة التجربة من الجملة أو القضية أو الحد، بل من الخبرة ككل، بالتالي لا تنفرد الملاءَمة التجريبية بفصل القول في صدْق النظرية المطروحة للاختبار. يوضح كواين أن تَيْنك العقيدتَين الجازمتَين مترابطتان ومتطابقتان في جذورهما؛ لأن كلتيهما تعتمد على أن صدْقَ العبارة بجملته يقبل التحليل إلى مكون واقعي ومكون لغوي. ولكن في ضوء هذه النظرة الكلية لا تأتينا المعطيات الحسية كمادة خام، بل تأتي محمَّلة بالنظريات والفرضيات. إن تفسير المعطيات على أنها بينة في صالح أو ضد نظرية معينة تتدخل فيه بعض الفرضيات الكائنة في خلفيات الممارسة العلمية. وتفسير الخبرة بشكل عام يتأتَّى في ضوء النسق المعرفي المعمول به ككل. وعلى هذا، لا خبرة منفردة تقدِّم في حدِّ ذاتها تقريرًا ضد نظرية أو في صالحها من دونِ كلِّ أنماط الفرضيات في خلفياتنا، التي تتضمن القِيَم، بعضُها قِيَم نظرية مثل البساطة والتساوق يتمسك بها العلماء عن وعيٍ يزيد أو يقل، وبعضها قِيَم تتوارَى عن أعين العلماء.
هكذا لم تُعدَّ الأسسية كافية للإحاطة بالمعرفة العلمية وكيفية تشكيلها وتبريرها، ولا بد أن تتكامل معها مقاربات أخرى، تهتمُّ بها فلسفة العلم بعد-الوضعية، تُحيط بتلك الخلفيات وما تضمُّه من قِيَم وفرضيات شكَّلَتها الثقافة وتساعد العلماء في تحديدِ طُرُقِ جمْعِهم وتأويلهم الدليلَ وتقويم النظريات فتساهم في تحديد النشاط المعرفي. وتحاول الإبستمولوجيا بعد-الأسسية، ومن أبرز مذاهبها البنائية الاجتماعية، أن تبرِّرَ الثقة في ذلك كمصدر للمعرفة. ترى البنائية الاجتماعية أن المعرفة في جوهرها بناءٌ اجتماعي؛ لأن إنتاج المعرفة محكومٌ بمحكات اجتماعية لها ما يُبرِّرُها داخل المجتمع العلمي أو مجتمع العارفين، وقد لا يمكن تبريرُها خارجه، وبالتالي المعرفة نسبوية؛ أي بالنسبة للمجتمع الذي أُنتجت وأُجيزت فيه. والمعرفة العلمية أيضًا هكذا؛ أي بالنسبة لمعتقدات المجتمع العلمي، التي هي بدورها متأثرة بالمجتمع الأوسع.٢٣ العلم محكوم بمحكات المجتمع العلمي أو نموذجه الإرشادي، فلا يكون الحكم على النظرية العلمية إلا بالنسبة لإطارها وعصرها ونموذجه. وتلك هي النسبوية التي أكَّدها فييرآبند في فلسفته للعلم. لا تتخلى هذه الاتجاهات عن مطلب الموضوعية، على أن الموضوعية الحقيقية — أو «الموضوعية القوية»٢٤ بتعبير ساندرا هاردنج — تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل التاريخية والمجتمعية والحضارية والتعددية الثقافية بما تحمله من قِيَم. «إن التحرُّرَ من القِيَم لا يجعل العلم موضوعيًّا أبدًا، بل كلما كان العلمُ محمَّلًا بالقِيَم، كلما كان أكثرَ موضوعية.»٢٥
لقد انتهى العصر الوضعي والنموذج الغربي الأوحد الذي هو بحذافيره مطلقُ العقل العلمي. ومع هذا لا يزال البعضُ منَّا غارقين فيه حتى الثمالة، لا باعتباره مناهج بحثية قابلة للمراجعة والتطوير، بل باعتباره مسلَّمات العقل العلمي، افتتانًا بالتجربة الرائعة للحداثة الغربية حتى رأوها حلًّا جاهزًا غير آبهين بخصوصياتها، ولا بما أسفرَت عنه موجات مراجعاتها من زعزعة المادي والعلماني واللاقيمي، والخروج إلى فضاء التعددية الثقافية وتعدُّد المنظورات والتوجهات النظرية. فهل تُفيد إشارة حسن حنفي البارعة إلى أن صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» وأيضًا ابن مسكويه في «تجارب الأمم» حرصًا على التعددية وإعطاءِ كلِّ شعب حقَّه والاعتراف بدوره في الحضارة البشرية العامة دونما استثناء أو أثرة،٢٦ أو إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في مؤتمرها المنعقد بتاريخ ٤ نوفمبر ١٩٦٦، الذي تنصُّ مادتُه الأولى على أن «لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، ومن حقِّ كلِّ شعب ومن واجبه أن ينمِّيَ ثقافته، وأن جميع الثقافات بما فيها من تنوُّع وخصب، وبما بينها من تبايُن وتأثير متبادل، تُشكِّل جزءًا من التراث الذي يشترك في ملكيته البشرُ جميعًا؟!»

وعلى أية حال، الذي يعنينا الآن أن أسفرَت العناية الفلسفية بمنطق التقدم العلمي، وبدفعه عن الترحيب بالتعددية المنهجية والنماذج القياسية الإرشادية المتتابعة والمتقابلة والمتحاورة. فهل نواصل الركون والسكون والتواني عن الإسهام في هذا المعمعان الظافر، أم تشرَئِبُّ أنظارُنا صوبَ إسهام ثقافتنا في فاعلية علمية خلَّاقة ومنتجة في إطار نموذج إرشادي علمي يَنبُع من معالم في واقعنا الثقافي؛ أي ينبُع من منهجية إسلامية؟ وما هي ممكنات هذا الطرح؟

١  مصطلح «أيديولوجيا» محاطٌ بالشبهات والالتباسات، والمقصود به هنا: منظومة الأفكار والقِيَم والمفاهيم والمصالح والتجارب والأهداف المشتركة، التي تصنع جمعية الجماعة.
٢  آن كد، التعددية الثقافية كفضيلة معرفية للممارسة العلمية، في: ساندرا هاردنج وأوماناريان (محررتان)، نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي، ترجمة يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الجزء الثاني، العدد ٣٩٦، يناير ٢٠١٣. ص٢٠٧–٢٣٤، ص٢١٦.
هذا الكتاب من أثْرَى أدبيات تيار النسوية الأمريكية الذي يحوي العديد من الاتجاهات والمدارس والاهتمامات، تختلف في بعض الأحيان أكثر مما تلتقي، يبدو للوهلة الأولى أن بعضَ دعاويه تَبْعد عن أيِّ توجُّهٍ إسلامي بُعْدَ المشرق عن المغرب، ولكن تبيِّن السطور الواردة في المتن كيف أن نقض المركزية Decentering الغربية مقدمة أولية فاعلة لتعبيد الطريق وتمهيده أمام طرح منهجية علمية إسلامية، وتوطين العلم في العالم الإسلامي، وخصوصًا وأن هذا الكتاب ذاته في موضع آخر منه ينصُّ على «التسليم بالحضور المكثف للثقافة الإسلامية في العصور الوسطى الأوروبية وبواكير عصرها الحديث، والاستعارات التي تمَّت في العلوم الحديثة المبكرة من الفكر الصوفي المصري»، ج٢، ص١٢٣، وكانت آخر عبارة في تقديم الترجمة العربية أن توطين البحث العلمي في ثقافتنا على أساس منهجية إسلامية معاصرة هو «الترجمة الحقيقية لنقض مركزية المركز».
٣  الاستقراء induction هو الصورة التقليدية لمنهج العلم التجريبي التي تَعني أنه البدءُ بملاحظة جزئيات تجريبية، ثم تعميمها في قانون كلي عام. أما النزعة الاستقرائية فترى أن كل محتويات الذهن البشري في جوهرها عملية تعميم لوقائع تجريبية جزئية، حتى قوانين الرياضة هكذا وكل القوانين الأخرى، بل حتى العواطف والمشاعر والاتجاهات النفسية هي الأخرى تعميمات لخبرات جزئية تجريبية. اقترنَت النزعة الاستقرائية بالتجريبية الإنجليزية في القرن التاسع عشر، وخصوصًا باسم جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣).
٤  كما هو معروف ارتبطت الوضعية المنطقية بدائرة فيينا، وهي دائرة من الفلاسفة والمناطقة والعلماء ذوي الميول الفلسفية، تحلَّقوا حول العالِم/الفيلسوف موريتس شليك M. Schlick (١٨٨٢–١٩٣٦) فور أن استدعَته جامعة فيينا العام ١٩٢٢ من وطنه ألمانيا ليتبوَّأَ كرسيَّ فلسفة العلوم في جامعة فيينا. لا ينفصل مصطلح التجريبية المنطقية عن هانز رايشنباخ H. Reichenbach (١٨٩١–١٩٥٣)، وهو فيلسوف علم ألماني ليس من دائرة فيينا، لكن يتشارك معهم في الميول، وفي أعقاب تعيينه بجامعة برلين العام ١٩٢٦ تحلَّقت حوله جماعةُ برلين أو مدرسة برلين الموازية للوضعية المنطقية، فهي الأخرى جماعة للفلسفة العلمية التجريبية المتطرفة. انظر د. حسين علي، فلسفة العلم عند هانز رايشنباخ، الدار المصرية السعودية، القاهرة، ٢٠٠٥. وقارن: هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ط١، دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٨.
٥  A. J. Ayer, Language, Truth and Logic, Penguin Books, London, 1973. p. 7.
مذهب الوضعية المنطقية شديدُ الاتساق مع التوجُّه الغالب على الفلسفة الإنجليزية، لكنه ظهر في النمسا مع رجع لصداه في ألمانيا كما ذكرنا. ومؤرخ الفلسفة الإنجليزية الشهير جون باسمور يرى أن هذا الفيلسوف الإنجليزي المذكور ألفرد جوليوس آير قد اضطلع بمهمة نقل المذهب وتوطينه فيها. انظر:
J. Passmore, A Hundred Years of Philosophy, Penguin Books, London, 1975. p. 365 et seq.
٦  وقارن:
International Encyclopedia of Unified Science, O. Neurath & R. Carnap & C. Morris (eds.), Vol. I & II, University of Chicago Press. 1939.
٧  R. Carnap, The Logical Syntax of Language, Routledge & Kegan Paul, London, 1951. p. 318.
٨  د. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول … الحصاد … الآفاق المستقبلية. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد ٢٦٤، ديسمبر ٢٠٠٠، ص٣٩٧.
٩  ساندرا هاردنغ، الجنوسة والتنمية وفلسفات العلم بعد-التنويرية، في: نقض مركزية المركز، الجزء الثاني، م. س، ص١٢٣–١٥٠، ص١٤٦. وهاردنغ S. Harding من أنشط فلاسفة الإبستمولوجيا النسوية، وأعلاهم قامة وأغزرهم عطاء (نعم هم وليس هن، فثمة أيضًا رجال تندرج رُؤاهم في سياق المنطلقات النسوية وتفعيل إيجابياتها). وهي أيضًا من أهم فلاسفة العلم المعاصرين وأنبلهم قصدًا. تحرص على تأكيد فلسفة للعلم في إطار التعددية الثقافية بدلًا من الوضعية التي تُفلسِفه على أساس المركزية الغربية ومن أجلها.
١٠  السابق، ص١٣٧.
١١  Sandra Harding, Is Science Multicultural?: Postcolonialisms, Feminisms, and Epistemologies, Indiana University Press, 1998. p. 12 et seq.
١٢  في تفصيل فلسفته للعلم: د. يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر: منطق العلم … منهج العلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط٢، ٢٠٠٣. والباب الثاني من هذا الكتاب مكرس لنقد بوبر للوضعية المنطقية، ص٢٢١–٣٣١. وقارن: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص٢٦٤ وما بعدها.
١٣  Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, The University of Chicago Press, 2nd enlarged ed., 1970, p. 36–37.
١٤  W. H. Newton Smith, The Rationality of Science, Routledge & Kegan Paul, London, 1981. p. 102.
١٥  T. Kuhn, Logic of Discovery or Psychology of Research, in: I. Lakatos & Allan Musgrave (eds.), Criticism and Growth of Knowledge, Cambridge University Press, 1979. pp. 1: 23. p. 21.
١٦  Thomas Kuhn, Comment on The Relation of Science and Arts, in: Comparative Studies in Philosophy and History, N. XI, 1969. pp. 403–412.
١٧  في تفاصيل انقلاب العلم الحديث على الحتمية الميكانيكية: د. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠.
١٨  Joseph Margolis, Science without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences, Basil Blackwell, Oxford, 1987. p. 23.
١٩  Ibid. p. 17.
٢٠  لمزيد من التفاصيل انظر: آن كد، التعددية الثقافية كفضيلة معرفية للممارسة العلمية، في: نقض مركزية المركز، ج٢، ص٢٠٨–٢١٦.
٢١  Karl R. Popper, Logic of Scientific Discovery, 8th impression, Hutchinson, London, 1976. p. 42 et seq.
وقارن الفصل الثاني من الباب الثالث «العبارات الأساسية»، في: فلسفة كارل بوبر، مرجع مذكور، ص٣٧٧–٤٠٠.
٢٢  W. V. O. Quine, Two Dogmas of Empiricism, In: From a Logical Point of View. Cambridge: Harvard University Press, 1980.
صدر هذا المقال الهام أول مرة العام ١٩٥٣، ثم توالَى ظهورُه في طبعات مختلفة.
٢٣  المصدر السابق، ص٢١٧. وانظر:
Helen Longino, Science as Social Knowledge: Values and Objectivity in Scientific Inquiry. Princeton: Princeton University Press. 1990.
وتؤكد لنجينو (في ص١٨٧ من كتابها هذا) أن الطريق لا يمرُّ من الحجة إلى القضية المثبتة مقتصرًا على هذا اقتصارًا، بل هناك عوامل في الخلفية، وأن الخاصة الاجتماعية للمعرفة العلمية تكفل لها الموضوعية. وتأكيدًا لتكامل العقلاني والاجتماعي في تفسير طبيعة العلم والمعرفة العلمية، أخرجت فيما بعد كتابها:
The Fate of Knowledge, Princeton: Princeton University Press. 2002.
وقارن:
Miriam Solomon, Social Empiricism, Bradford Books, Massachusetts, 2001.
وهي تؤكد الأطروحة نفسها من زاوية مختلفة، وفي ص١٤٣–١٤٤ تناقش لنجينو.
٢٤  اهتمَّت هاردنج بتقديم مفهوم «الموضوعية القوية» التي تأخذ في اعتبارها دورَ الذات العارفة، وأيضًا وضع الأقليات والمهمشين، وذلك وعالجته في أكثر من موضوع في كتاباتها الغزيرة خصوصًا فصل بعنوان «استعادة مصادر معرفية: الموضوعية القوية»، في المرجع المذكور: Sandra Harding, Is Science Multicultural?, pp. 124–145. قارن: Richard Bernstein, Beyond Objectivism and Relativism, University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1983.
٢٥  Sandra Harding, The Science Question in Feminism, Cornell University Press, Ithaca & London, 1986. p. 27.
٢٦  د. حسن حنفي، من النقل إلى الإبداع، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٠٠٠، المجلد الأول، الجزء الأول، ص٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤