الفصل الثاني

المنهجية العلمية في الإطار الإسلامي

الفحوى والدور

ننشد مجتمعًا فعَّالًا من العلماء، عساه أن يكون قادرًا على الانتقال بمشاركاتنا العلمية من الاقتصار على استهلاكِ العلم ونقْلِه إلى إنتاج العلم والإبداع فيه. فليس المقصود أن يرتهنَ الفعل المعرفي بالموقع الإسلامي والعقائد الإسلامية، بل المقصود تفعيلهما للانطلاق وتحقيق العالمية والإنجاز، والتشارك مع الآخرين الفاعلين في ملحمة التقدم العلمي.

من ناحية تشتبك قضية توطين المنهجية العلمية بالإسلام من حيث هو واقع أنثروبولوجي معيش، ودائرة حضارية لها موقعها الذي يتوسط خريطة العالم الثقافية، ومن الناحية الأخرى اختلف الإسلام عن الأديان الأخرى في أن جوهره ليس عقائدَ لاهوتية مفارقة، بل منظومة قيمية وهوية فاعلة تميَّزت بتأثير حاسم في محيطها الحضاري. فلم يكن عقيدة دينية فحسب بل أيضًا حضارة وثقافة توالَت قدمًا في صيرورة التاريخ نحو الصعود والتألق المشهود، ثم الهبوط الذي بدأ بغزو التتار لحاضرة الدولة الإسلامية بغداد، وتوالَت أشكالٌ شتى من الغزو والاستلاب، وبلغ نموذجها المعرفي والحضاري هرمًا وشيخوخة، وقبع في أغوار التاريخ منذ القرن الثاني عشر الميلادي. ويتجلَّى العزم للعود إلى مدارج الصعود. وفي سياق هذا العزم، ومن أجل تمكينه وتوجيهه وتفعيله يتقدم الوعي المنهجي وحديث المنهجية العلمية الخاصة بالإطار الإسلامي.

المنهجية من المداخل الإسلامية، بالمفهوم الشامل للمنهجية، تحمل فلسفة كامنة وراء الفكر العلمي المنتج والبحوث العلمية، أو ما قبل مناهجها، مثلما تمتلك قِيَمًا وعناصر موجهة للبحث العلمي في حضارتنا، ومساهمة في تحديد غاياته. ويُناط بها دور رأْب الصَّدْع بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين الماضي والمستقبل، بين الإنساني والطبيعي، بين القيمي والعقلي، بين الدين والعلم. إنها سبيل لتوطين الظاهرة العلمية وتأطيرها ومأسستها في العالم الإسلامي تحديدًا، تستطيع استقطاب عناصر جوهرية تداركَتها فلسفة العلم في تطوراتها التي أشرنا إليها؛ أي تستقطب عناصر ثقافة المجتمع وقِيَمه وسمات رؤيته الحضارية والكونية، فتحمل عناصر تميُّزِه وخصوصيته، ومرتكزه العقائدي ورصيده الإيماني.

ولئن كانت مهمة العلم هي «قراءة كتاب الطبيعة»، وكان التسليم بالكتاب المنزل، القرآن الكريم، هو المعلم المميز للعالم الإسلامي من حيث هو إسلامي، فإنه يمكن اعتبار القراءَتين: قراءة كتاب الطبيعة وقراءة الكتاب المنزل، منطلق المنهجية الإسلامية، مقابل القراءة الواحدة التي هي منطلق المنهجية الغربية، ومَعلم الحضارة الغربية.

أدَّت سيادة الكتاب المقدس على أجواء أوروبا القروسطية إلى تنحية الطبيعة وتنحية البحث فيها. وكانت الحداثة الأوروبية قطيعة مع الكتاب المقدس وإقصائه تمامًا عن النضال العقلي والمعرفي فيما سُمِّيَ بالعلمانية، واستبدال الطبيعة به كمصدر للمعرفة.١ ربما كان الكتاب المقدس بعقائده اللاهوتية المسيحية المجافية للطبيعة، والتي ترى الطبيعة مصدرَ الإثم والدنس والخطيئة، وربما كانت غربة الدين عن الغرب أصلًا، حتى رآه البعض منهم فكرًا مستوردًا — إن جاز التعبير — فكانت العصور القروسطية الدينية المظلمة فاصلًا غريبًا ومغتربًا في تاريخ الثقافة الغربية. أيًّا كان التفسير، يشهد تاريخ العقل الغربي على أن بنية الحضارة الغربية وطبيعة كتابها المقدس جعلَاها دائمًا بإزاء خيار استبعادي: إما … أو … إما قراءة الكتاب المقدس، وإما قراءة كتاب الطبيعة، الواحدة منهما تستبعد الأخرى. فكان الانتقال من قراءة لكتاب واحد: الكتاب المقدس، إلى قراءة لكتاب واحد: الطبيعة، هو عنوان الحضارة الغربية وعنوان الحداثة والعصر الحديث. الجمع بين القراءَتين هنالك مستحيل منطقيًّا، أو على الأقل لم يحدث. ثمة صراعٌ بين القراءَتين، تفوز واحدة وتستبعد الأخرى.

في قصة نجاح العلم الغربي، التي بدأت في إيطاليا ثم انتقلت إلى غرب أوروبا ووسطها، وبلغت درجة مبهرة من النضج والاكتمال مع نظرية نيوتن وما تلاها، لم يكن العلم الحديث في بداياته الأوروبية يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، ومعلوم تمامًا تفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية. وكانت آنذاك لا تزال في يد رجال الكنيسة بكهنوتهم الثقيل الذي لا تعرفه الحضارة الإسلامية. وعلى مشارف العصر الحديث اشتعلت في أوروبا المواجهات الدامية بين رجال العلم ورجال الكنيسة ذوي السلطة المعرفية آنذاك، ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، أصرَّ العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر طرًّا على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة، ولا دلالة على قدرة الرب وبديع صنعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد. وأصبح تعبير «قراءة كتاب الطبيعة المجيد» شائعًا في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء، خصوصًا بعد أن استعمله جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢) قائلًا: إنه مكتوب بلغة الرياضيات، وهذه فكرة فيثاغورية أفلاطونية قديمة، لكنها مع جاليليو أصبحت أساس علم طبيعي ناضج وواعد. استطاع العلماء في النهاية الاستقلال عن الكنيسة وعن قراءة الكتاب المقدس، وانتزاع السلطة المعرفية تمامًا من يد الكهنوت الكنسي. ووصل الإقصاء للبُعْد الديني ولدور الكتاب المقدس إلى غايته، والقطيعة النهائية معه بمجيء عصر التنوير. إنه استبدال كتاب بكتاب وقراءة بقراءة، اكتفاء بقراءة واحدة ووحيدة.

وفي مقابل هذه التفاضلية نجد فاتحة المنهجية المعاصرة من المداخل الإسلامية تكاملية، فهي الجمع بين القراءَتين، قراءة الكتاب المنزل وقراءة كتاب الطبيعة. إن القرآن لا يجافي الطبيعة، وليس من الضروري المصادرة على تنحيته، ولا تُطرح في العالم الإسلامي مفاضلة بين الطرفَين أو بين الكتابَين أو بين القراءَتين. وفي مرحلتنا الراهنة بشكل عام، حيث أصبحت آليات القراءة والفهم والتأويل من أعقد وأخصب المهام التي يقوم بها العقل البشري، سيطرح الجمع بين القراءَتين قواعده وإشكاليته وآلياته، ومن أصوله: «أن نقرأ الجزئي ضمن الكلي، أو نحوِّل الكلي إلى إجرائي، أو نسكن الإجرائي في الكلي.»٢ وسواها من آليات يُسفر عنها النظر وتتطور بفعل الممارسة. وكما يقول عبد الحميد أبو سليمان: لم يكن القرآن الحكيم خطابَ خوارق وإعجازات بقدر ما هو خطابُ كتاب وقراءة، وتفكُّر وتدبر، وخطاب عقل وحجة وإقناع وهداية، بعبارة أخرى: هو خطاب رؤية كونية وحضارية مواتية تمامًا لانبثاقِ منهاج ومنهجية، خليقة بتوليدِ فكرٍ إسلامي واقعي علمي، وبحث منجز فعَّال في مختلف المجالات. وهكذا يكون الذكر والفرقان والهدى.٣
القرآن بيانٌ وخطاب. البيان يحمل رسالة، لكنها تأتَّت في سياق خطابي. الخطاب فاعلية مستمرة، تواصل وديمومة، تستدعي استجابة من المخاطَب. وكما تؤكِّد منى أبو الفضل، من الضروري استحضار حيوية الخطاب القرآني التي تأتَّت بأساليب عديدة من قبيل استخدام صيغة المضارع وأساليب النداء، وهو قوة فاعلة في واقع المدركات المعاصرة التي تتفاوت في هذا من حيث تتفاوت القدرة على استيعاب أبعاد النظرة الكلية، وذو أبعاد توجيهية اعتقادية وعملية، فيمكن لهذا المصدر المُنشئ «أن يكون له دلالات عملية ونحن نترسم خُطَى منهجية بديلة».٤ بقراءة القرآن الكريم في كليَّتِه، وبالتأكيد على الصيرورة والتفاعل والمنطق التاريخي للمتغيرات، نستطيع أن ندخل إلى قراءة الكتاب المنزل أو الوحي المسطور بمنهجية واضحة، ويخرج منها إلى منهجية أوضح لقراءة الوحي المنظور؛ أي العالم الذي نحيَا فيه ونريده موضوعًا للبحث والعلم والمعرفة، نشدانًا للتقدم والتمكين في الأرض. ولا شيءَ يلزمنا بشريعة الغرب التي تحكم بإقصاء العوامل الدينية اكتفاءً بقراءة واحدة. الإطار الإسلامي يحمل إيجابيات يمكن تفعيلها.

•••

وننتقل إلى المرتكز الإسلامي الأول وهو عقيدة التوحيد: وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة المعرفة. إن التوحيد دعامة الإسلام الكبرى التي يقوم عليها الدين، كأصل وكفروع، ككل وكأجزاء.

لقد انطلقَت المنهجية الغربية الوضعية، منهجية القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة فقط، من مبدأ ميتافيزيقي عميق وضروري لكي يكون العلم ممكنًا، مفادُه أن هذا الكون الذي نحيَا فيه — عالم الشهادة بالتعبير الإسلامي — ليس كايوس Chaos، بل هو كوزموس Cosmos؛ أي ليس هاوية من الفوضى والعماء، بل هو عالم منتظم مطرد؛ وبالتالي قابل للفهم العلمي. ولو لم يكن الكون كوزموس لمَا كان قابلًا لممارسة البحث العلمي ومحاولة الوصول إلى نسق القوانين الحاكمة إياه، بل لمَا كان قابلًا لممارسة تجربة الحياة أصلًا. تُسلِّم المنهجية الغربية بهذا المبدأ كمبدأ ميتافيزيقي أو أنطولوجي فقط لا علاقة له بالقِيَم أو المعايير. وتوطن هذا الفصل بين المعرفي والقِيَمي في الغرب بفعل العقيدة المسيحية التي حكمت إطاره الثقافي في العصر الوسيط، لتحمل القيم على أساس من الخوارق ومناقضة القانون الطبيعي، فضلًا عن اعتبار عالم الطبيعة هو عالم السقوط والخطيئة. عضَّد هذا من وضع المنظور الديني كمضاد للمنظور العلمي، واستقراء الطبيعة كطريق مناوئ لطريق قراءة الكتاب المقدس.

فكان أن قام العلم الطبيعي في العالم الغربي على أساس تنحية الكتاب المقدس جانبًا، والاقتصار على قراءة كتاب الطبيعة فقط. والخلاصة: أن انطلقت إمكانية العلم في المنهجية الغربية من مبدأ ميتافيزيقي: العالم كوزموس، وهو مبدأ أنطولوجي خالص مجرد من القيم والمعايير، فكان الخلل الذي تحاول فلسفة العلوم الراهنة تجاوره حين تُعنى بالإطار الثقافي للظاهرة العلمية، وبأخلاقيات العلم وقِيَمه، إلى آخر ما ذكرناه.

التوحيد كمرتكز منهجي يختصر الطريق ويأتينا بالحسنَين، فهو مبدأ نظامية الكون، ومبدأ الأخلاقيات معًا. وليس هذا خلط بين الطبيعي واللاهوتي بقدر ما هو ربط — أصبح منشودًا الآن — بين المعرفي والقيمي. إن التوحيد يصادر قبلًا على أن الكونَ منظومةٌ ونسَق ونظام، محكوم بسنن أو قوانين. الطبيعة في الإسلام ليست مقترنةً بالسقوط والخطيئة، بل هي «العالَم»؛ أي العلامة الدالة على وجود الله. كان المتكلمون هم أول مَنِ استخدم لفظة «العالَم» من أجل هذا الغرض، ولا غروَ فعلم الكلام هو علم التوحيد. «إنما سُمي (العَلَم) عَلَمًا؛ لأنه علامة منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك (العَالَم) بجواهره وأعراضه، وأجزائه وأبعاضه، دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»٥ كلمة «عالَم» مشتقة أصلًا من العلَم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العُلام؛ أي الحِنَّاء لما يترك من أثر باللون. والعلامة ما تترك في الشيء مما يُعرف به. ومن هذا العَلَم: لما يُعرف به الشيء أو الشخص، كعَلَم الطريق، وعَلَم الجيش (الراية)، وسُميَ الجبل علَمًا لذلك. ومنه: علمت الشيء؛ أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل. وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية للعلم. ولم تَرِد لفظة العالم في القرآن الكريم أبدًا. وردَت فقط في صيغة الجمع: العالمين — ربما على سبيل التأكيد — ثلاثًا وسبعين مرة. هذا غير العالِمين، (بكسر اللام)، من العلم بالشيء، التي وردت ثلاث مرات.٦ وردت مشتقات الجذر «علم» في أكثر من سبعمائة وخمسين آية. وها هي نفحة كلامية تكشف عن عبقرية اللغة العربية، حيث العلم والعالم مردودان لنفس الأصل اللغوي، ومن المرتكز التوحيدي يمكن أن تعمل المنهجية الإسلامية على استثمارها لتوطين المنهج العلمي التجريبي في عالمنا. علم الكلام هو علم العقائد وعلم التوحيد، دفعت قراءته للكتاب المنزل إلى النظر في كتاب الطبيعة ووضع عنوان لهذا الكتاب هو «العالم». إنه التأكيد على أن الحضارة الإسلامية هي حضارة القراءَتين: القرآن والعالم الطبيعي، في مقابل الحضارة الغربية حضارة القراءة الواحدة والمفاضلة بين طرفَين يستبعد إحداهما الآخر.

التوحيد مبدأ يُضفي على الكون نظاميته التي تجعل العلم التجريبي ممكنًا، وتجعل إعمال العقل أمرًا واعدًا. يؤدي الإيمان بوحدانية الله واتساق وشمول واستمرار القانون الطبيعي إلى إمكانية العلم.

ليس التوحيد مبدأً ميتافيزيقيًّا فحسب يضفي على الكون نظاميته، بل هو أيضًا وقبلًا مبدأ قِيَمي يُضفي على البحث العلمي — وعلى سواه — أخلاقيات ومعايير. وحين يُضفي التوحيد على الكون نظاميته، يحدد للمسلم ماهيته ودوره وقِيَمه، وشبكة العلاقات مع الكون والحياة والزمان.

لعل التوحيد في جوهره هو الإيمان الخالص، على أن آيات القرآن الكريم ترتبط ربطًا عبقريًّا بين الإيمان والعمل، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البينة: ٧)، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ (فصلت: ٨)، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر: ١–٣). إن العمل ثمرةٌ لعقيدة التوحيد، وليكن على رأسه العمل المعرفي أو الجهاد في البحث العلمي.

وفي هذا الإطار الإسلامي يحقُّ اعتبار مفهوم التوحيد بمثابة النواة التي تنتظم حولها سائر المفاهيم الأخرى في منظومة المفاهيم والقِيَم الإسلامية المنهجية. تستتبع عقيدة التوحيد الضوابط والموجهات التي يمكن اعتبارها مقاصد المنهجية الإسلامية، وفي مقدمتها الاستخلاف والتزكية والعمران … تقوم بين أطرافها علاقات تبادلية، وتحمل جميعُها طابعَ الإسلام ذاته من حيث هو دين الفطرة والبداهة. وإذا كان التوحيد في جوهره هو الرؤية الإسلامية للوجود وللإله المدبِّر للكون، فإن هذه القِيَم الثلاث إطار الرؤية الإسلامية للإنسان ودوره في هذا الكون؛ فتُمثِّل جميعها إطارًا نسقيًّا لمنظومة من القِيَم كفيلة بتوجيه الجهد العقلي المسلم، وترشيد البحث العلمي من حيث هو عمل وفاعلية إنسانية منتجة، إنها «منظومة مقاصدية كاملة يمكن الاستناد إليها لتصحيح مسار العلوم النقلية، إضافة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتسديد مسيرة العلوم الطبيعية باتجاه الغائية والقيم والمقاصد؛ لتحقيق غاية الحق من الخَلْق، والنأي بها عن العدمية والعبثية.»٧
الاستخلاف يعني قدرة الإنسان على التصرف في عالمه الدنيوي،٨ وما يستتبعه هذا من مسئولية حمل أمانة التصرف، وهي مسئولية تقتضي العدل والاعتدال، وتجعل الإنسان فردًا ومجتمعًا وجنسًا يتمتع بالروح وبالضمير الإنساني وبالنفس اللوامة، وبنزعة طلب العلم وطلب المعرفة. الاستخلاف طبعٌ وإرادة تحمل تكريمًا للإنسان، وهو جوهر الحياة الإنسانية وغايتها في العمل الخيِّر وفي الإبداع وفي الإعمار.٩ إن الاستخلاف هو الحضارة، هو الوعي والحضور الإعماري، مرتكز مسئولية الإنسان ودوره في هذا الوجود، ومنزلة للإنسان تحديدًا لوضعه في المنظومة الكونية الشاملة، تجعله أرقى الكائنات؛ لأنه وحده المستخلف، يتميز عنها جميعًا بالعقل والعلم والنشاط المعرفي وبناء الحضارة الإنسانية.
والاستخلاف في النهاية يعني أداء الأمانة المنوطة بالإنسان، والقيام بواجب العمران. والعمران بدوره لا يعدو أن يكون توظيف الطاقات في إعمار الأرض والارتقاء بحياة البشر وإثرائها وإعلاء شأن حضارة الإنسان، باختصار تزكيتها، من حيث إن التزكية هي التطهير والترقية والتنمية للنفس وللواقع وللعلاقات الاجتماعية، وهذا هدف العمران ووسيلته. ولا يعدو أن يكون تطويرًا للهدف المجمع عليه من كل الأطراف، شرقية وغربية، إسلامية وغير إسلامية؛ أي التنمية. والتنمية في هذا المنظور الإسلامي التكاملي تغدو أكثر من مجرد تصاعد في الأرقام والمعدلات. ولا بد أن نهدف إلى التوظيف المنهاجي لقيمة التزكية، مما يجعلها ضوابط موجَّهة لمسالك الباحثين والدارسين، وهذا يحول دون أن تظلَّ مسألة مشاعر إيمانية فردية، بل تغدو عنصرًا فعالًا يتدخل في خطة العمل، في منظومة المنهج؛ لكي يوظف الباحث «طاقاته العلمية والعملية في إعمار الأرض، وترقية الحياة البشرية عليها، وهو بذلك يحقق مقصد التزكية: تطهيرًا وتنمية.»١٠ مما يبدو بمثابة هدف مثالي للبحث العلمي.

والخلاصة: أن التوحيد منطلق قيم منهجية لتقويم جهود البحث العلمي والعطاء العقلي للأمة الإسلامية، والهدف المرتجَى من هذا جميعه، من حيث إن العالِم إمامٌ من أئمة أداء أمانة الاستخلاف، والاضطلاع بمهام عمران الأرض وصون قيمة الحياة فيها، أو بالأحرى تزكيتها. وبهذه المنظومة القيمية تتمايز المنهجية الإسلامية عن سواها من منهجيات علمية.

١  هذه أطروحة معروفة وتواتَرَ الحديث فيها كثيرًا، ومع هذا يمكن الرجوع إلى مزيد من التفاصيل، مثلًا، في:
  • R. G. Collingwood, The Idea of Nature, Clarendon Press, Oxford, 1945.
  • E. A. Burtt, The Metaphysical Foundations of Modern Science, Routledge & Kegan Paul, London, 1980.
وأيضًا: فرانكلين ل. باومر، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: الاتصال والتغير في الأفكار، الجزء الأول (القرن السابع عشر)، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٨.
٢  د. سيف الدين عبد الفتاح، المنهجية وأدواتها من منظور إسلامي، في: المنهجية الإسلامية، الجزء الثاني، م. س، ص٦٣٩–٧٤٧، ص٦٤٦.
٣  تجدر الإشارة إلى أن عبد الحميد أبو سليمان برفقة طه جابر العلواني وإسماعيل الفاروقي، من مؤسِّسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا، وفروعه العديدة في العواصم المختلفة. وهنا نجد قضيةَ القراءتَين من الناحية المعرفية، هي القضية الأم التي يجدون بشأنها، لا سيما من ناحية العناية البالغة بقضية المنهجية التي أخرجوا فيها حصادًا طيبًا ووافرًا شَهِد إنجازاتٍ علميةً رصينة حقًّا، أضاءَت الطريق، من قبيل المرجع المذكور في الهامش السابق «المنهجية الإسلامية»، وسواه.
٤  د. منى أبو الفضل، ود. طه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية، دار السلام، القاهرة، ٢٠٠٩، ص٨٦.
٥  أمين الخولي (مُعد)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الجزء الرابع، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ١٩٦٨، ص٢٤٠–٢٤١.
٦  المرجع السابق، ص٢٤٨، ٢٤٥. وراجع: يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، ط٣، دار رؤية، ٢٠١٠. ص٧٨–٧٩.
٧  د. منى أبو الفضل ود. طه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة، ص١٨.
٨  من أجل قيمة الاستخلاف وتفعيلها بأبعادها، أنشأت الجامعة الإسلامية بماليزيا معهد أبحاث «خليفة» أو الاستخلاف، من إصداراته هذا الكتاب الصغير المتَّسم بالبساطة والعمق والعذوبة، وكان في أصله محاضرة أُلقيت على المتدربين:
Prof. Dr. Muhammad al’Mahdi, On Being Khalifah of Allah, Khalifah Serious No. 2, “Toward a fully and Truly Islamic World”, The Khalifa Institute, Kuala Lampur, 2004.
٩  د. عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الحضارية الكونية الإسلامية، في: المنهجية الإسلامية، ج١، م. س، ص٢١٢–٢١٣.
١٠  انظر: فتحي حسن ملكاوي، التزكية في منظومة القيم الحاكمة، في: مجلة المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأردن، العدد ٥٧، ٢٠٠٩م/١٤٣٠ﻫ. ص٥–١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤