الفصل الرابع

أصول الفقه … أصول منهجية

في علم أصول الفقه جهازٌ منهجي تخلَّق بفعل الوحي المنزل/الكتاب المسطور؛ من أجل قراءته واستكشاف سُبُل تفعيله بالوصول إلى الأحكام الشرعية. وفي بحثنا عن التجديد والتحديث والانطلاق نحو المستقبل المرتهن بالتقدم العلمي، يمكن أن نجدَ فيه جذورًا وبذورًا لمنهجية قراءة الكتاب المنظور أيضًا، كتاب الكون والطبيعة والعالم والإنسان، إنها منهجية القراءَتين.

بداية يمكن القول إن مصطفى عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٤٧) أول رئيس عربي لقسم الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) قد آمن بأن علم الأصول منطلق يرتدُّ إليه العقل الفلسفي الإسلامي؛ لأنه الحامل لبدايات النظر العقلي المنهجي. وكان الحلم العظيم الذي استبد بمجامع الشيخ هو استنطاق روحه المنهجية. سار في هذا السبيل نفرٌ من تلاميذه، بالإشارة إلى أوجهِ تماثُلٍ وتشابُه أو أسبقية بين قواعد الاستدلال في علم أصول الفقه، وقواعد الاستدلال في المنهج التجريبي المقترن بالعلم الحديث، تنشغل عادة بالنموذج العلمي الكلاسيكي النيوتوني والمنهجية التجريبية مع بيكون وجون ستيورت مل.١ ومهمتنا الآن تبيان — أولًا — أن آليات البحث في منهجية أصول الفقه أقرب إلى الروح العلمية المعاصرة في تطوراتها الراهنة التي تجاوزت النموذج النيوتوني، وثانيًا والأهم أن المسألة لا تقتصر على قواعد الاستدلال، بل روح المنهجية العلمية ذاتها إنما هي منبثة في أعطاف هذا العلم الأصيل.
علم أصول الفقه في ظاهره فلسفة للقانون وتقنين استخلاص أحكام الحقوق والواجبات والحدود والجزاءات والمعاملات من مصدر مسلَّم به … من الشريعة، لكنه بهذا علمٌ لمناهج البحث وأصول الاستدلال واستخلاص تطبيق لقانون أو حكم، على أسس تمثِّل قواعد التفكير المنتج السليم، تتماهى مع قواعد المنطق. وهل جزافًا أن مصطلح القانون Law يلعب دورًا محوريًّا في كلا المجالَين: التشريعات ومنطق العلم، وأن كليهما محكومٌ بقيمة الحق/الحقيقة/الصدق Truth،٢ حيث الحق هو الصواب Right. وفي حضارة الإسلام ولغته «الحق» هو النصيب المقنن والحصة المشروعة، ثم هو قبل هذا وبعده اسمٌ من أسماء الله الحسنى التي تمثِّل جماعَ المثُل العليا للإنسان المسلم.
شَهِد القرن الأول السابق على ميلاد المسيح تجربة شيشرون الرائدة في تقنينه لأصول القانون الروماني والتشريعات المأخوذة منه، عن طريق توظيف جيد للمنطق اليوناني الأرسطي والرواقي. استفاد الإسلاميون أيضًا من المنطق. ولكن اختلفت التجربة الإسلامية عن التجربة الرومانية؛ لأنها تتعامل مع مصدر له خطورته كمرتكز للحضارة الإسلامية، هو الكتاب المنزل، فكانت المحصلة الإسلامية بصدد تقنين أصول التشريع، والتي حملَت اسم علم أصول الفقه بدورها محورية وتمثيلًا عينيًّا لفعاليات العقل المسلم المنطلق بمجامعه، فيما يتشابك مع عقائده وقِيَمه وأصوله وإطار معاملاته معًا، وتكشف عن «قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج.»٣

•••

الأصول في اللغة هي ما ينبني عليها الشيء، وكمصطلح هي القواعد الكلية. الفقه لغةً هو الفهم وإدراك المقاصد، ومصطلحًا هو الأحكام الشرعية. أصول الفقه هي قواعد بناء أو توليد الأحكام الشرعية ودلائل هذه الأحكام. هكذا يتحدد موضوع «علم أصول الفقه» بأنه الضوابط والقواعد العامة لاستنباط الأحكام الفقهية من مصادرها. عرَّفه القاضي البيضاوي (ت٦٨٥ﻫ) في «منهاج الوصول» والإمام شمس الدين الجزري (ت٧١١ﻫ) في «معراج المنهاج» بأنه: «معرفة دلائل الفقه إجمالًا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد».٤ إنه رسم الطريق المؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية من الأدلة التي نصبها الشارع.

لقد استقامت اللغة ثم كان تقعيد قواعدها، وانتظم الشعر ثم كان تنضيد بحوره، وترتكز النظرية الميثودولوجية التي تطرحها فلسفة العلم على جهود علمية استقامت ونضجَت بحيث أسفرت عن معالم منهجية. وبالمثل تواترت الجهود التشريعية كاستجابة لحاجة ملحَّة في الواقع الإسلامي، ثم بدأ علم أصول الفقه يبرز في شكل قواعد تضبط عمليات إنتاج الأحكام. وكانت البداية الناضجة مع «الرسالة» للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت٢٠٤ﻫ/٨٢٠م)، ثم تواترت الجهود وتلاقحت وتداخلت وتعارضَت وتكررت، وخلَّفَت ركامًا هائلًا يحوي الغثَّ والسمين، وباستخلاص الآليات المنهجية يمكن أن يتخفف علم أصول الفقه من أثقاله التي تَرينُ على كاهله في الكتب الصفراء؛ لكي نستصفيَ روحًا منهجية خالصة قادرة على الانطلاق صوب المستقبل.

ولد أصول الفقه عن التلاقح بين علم الفقه وعلم الكلام، واستفاد من علوم اللغة العربية، ومن المنطق الوافد الذي ساهم في أن يكتمل أصول الفقه كمنظومة ممنهجة ونسقية، يعني بالترتيب والتقديم والتأخير، وتحديد الأصول والفروع، وفي أن يبدأ بجهاز مفاهيمي يتحدد بالتعريفات الدقيقة، اللغوية والمنطقية معًا. وشبيه بهذا ما حدث في علم الكلام/علم أصول الدين،٥ وعلينا أن نسلِّم دائمًا بأواصر القربى بين العلمَين أو الأصولَين. وهنا تتجذر آلية منهجية علمية هامة، ألا وهي تحديد المصطلحات وضبط البنية المصطلحية قبل الشروع في البحث. كان مبحث الألفاظ والتعريفات أو المفاهيم هو الذي استفاد فعلًا من المنطق وتأثَّر به، أكثر من مبحث القياس؛ لأن القياس الأصولي يختلف عن القياس المنطقي مهما استفاد منه وسخره. وفي هذا لم يتعلم الإسلاميون المنهجية من المنطق الإغريقي، بل إن منهجيتهم الخاصة بهم استفادت منه، ليُلقيَ الإسلاميون درسًا في كيفية الاستفادة من الوافد وتوظيفه في إطار حضارتهم. ويمكن أن نفعل المثل فننطلق من أصوليات متوطنة في تراثنا وواقعنا لنستفيد من آليات عقلية ومنهجية تمثِّل مشتركًا إنسانيًّا أو تبلورت في نماذج وتجارب حضارية أخرى.

هذا شريطة أن يكون طريقنا مع الأصوليين المناطقة، ولا شأن لنا بالتيار المناوئ للمنطق مع ابن تيمية (٦٦١–٧٢٨ﻫ) ومن اتبعوه كابن الصلاح والسبكي … الذي كان رافضًا للوافد بعد تجلِّي الآخر المغير في هجمة التتار وسقوط بغداد وانهيار مجد الحضارة الإسلامية ودخولها عصور التراجع ثم الانحطاط. إن الصورنة شرط للروح المنهجية التي تُخاطب وتُرتجَى من لدن المعنيَين بتوطين المنهجية العلمية، وقد كان المنطق الأرسطي بقصوراته المعروفة هو وسيلة الصورنة المطروحة آنذاك؛ لذلك لا بد أن نوصد أبوابنا إزاء الأصوليين رافضي المنطق، وأيضًا إزاء تيار شيعي وإزاء الخوارج ونفر من المعتزلة وأهل الظاهر أو الظاهرية. هؤلاء هم الذين أبطلوا القياس والرأي والاستحسان والتقليد، أيضًا مؤكدين على ضرورة الاكتفاء بظاهر القرآن والسنة الذي يتبدَّى لكل مَن يتحدث العربية. نوصد الأبواب إزاءهم؛ لأنهم رافضون لمصدر منهجي أصولي نعول أساسًا عليه وهو الاجتهاد والقياس.

ذلك أن المصادر الكبرى لعلم أصول الفقه — مصادر التشريع أو دلائل الفقه — أربعة: القرآن، السنة النبوية، الإجماع، الاجتهاد والقياس.

وثمة ما يمكن أن يُسمَّى بمصادر فرعية للاجتهاد المرسل (المرسل هو الذي يفتقر إلى دليل قاطع دامغ) وفقًا للتفسير المقاصدي للشريعة. وهي مصادر تتفرع عن مقاصد الشارع ويحددها مقصد أو مصالح المُكَلف، مصادر من قبيل الاستحسان والاستصلاح والمصالح المرسلة وسد الذرائع وتحقيق المقاصد … فهي الأخرى دلائل للفقه تصدر على أساسها أحكام شرعية. الاستحسان والاستصلاح بمعنى الأخذ بالأحسن والأصلح لتحقيق المنافع، والمصالح المرسلة هي المصلحة التي لم ينصَّ عليها كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ويضرب المثل على هذا بالفتوى بضرورة جمع القرآن وتدوينه. أما الذريعة فهي كل ما كان طريقًا أو موصلًا إلى شيء، وسد الذرائع يعني منع وسائل وطرق الفساد. ونحن نرى أن هذه المصادر الفرعية جميعها يمكن أن تدخل تحت بند الاجتهاد الذي يقضي بتكامل الحجة النقلية والحجة العقلية، ومن ناحية أخرى يمكنها أن تتكامل مع بعضها ومع المصادر الأربعة الكبرى. وفي الميثودولوجيا المعاصرة تلحُّ الآن دعوى ضرورة تكامل المناهج العلمية.

وتحقيقًا للانضباط المنهجي، سوف نتوقف عند المصادر الأربعة الكبرى، مع التأكيد المشدد على المصدر الرابع؛ وهو الاجتهاد والقياس.

في هذه المصادر، القرآن أولها فهو المرتكز والمدار. السُّنة مفسِّرة وشارحة، السُّنة وليس الحديث الشريف فحسب، الحديث قول فقط، أما السنة فهي قول وفعل وإقرار. القرآن والسُّنة هما الثقلان: المصدران الأعظمان لعلم أصول الفقه.

في الثقلين اشتبك الأصوليون مع علوم القرآن والسنة، فكان أن اصطنعوا المناهج النقدية التي تكفل التحقق من وثوق الاستدلالات من هذين المصدرين الأجلين. في القرآن عُنوا بأسباب النزول التي تمثل بعدًا وضعيًّا واقعيًّا يقارب الروح العلمية، وأيضًا بقضية النسخ وهي رفع الحكم بعد ثبوته، وأركانها الأربعة: النسخ والناسخ والمنسوخ والمنسوخ منه، مع الإقرار بأنه لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وأن المتواتر لا يُنسخ بالآحاد. بحثوا النسخ في القرآن بين آياته: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦)، وأيضًا نسخ السنة بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، ونسخ الكتاب بالسنة، وهذا الأخير رفضه الشافعي لكن الجويني يقول: إنه غير ممتنع،٦ وأيضًا أقرَّه الغزالي وأشار إلى أنه لا يجوز الاستنباط من المنسوخ.٧ الجدير بالذكر أن الإجماع أيضًا يكون منسوخًا وناسخًا،٨ والقياس بدوره هكذا. ألا يقترب هذا من قضية تجسد الميثودولوجيا العلمية الراهنة، ألا وهي قابلية القضايا العلمية للنسخ، أو بتعبير كارل بوبر للتكذيب، أو بمقتضى منطق العلم التجريبي للتعديل والتطوير، الذي يجعل التقدم العلمي مستمرًّا دائمًا.٩ أقر البيضاوي والجزري وسواهما بأنه يجوز النسخ بغير بدل أو ببدل أثقل منه، وإذا كان البدل الأثقل أكثر شيوعًا في منطق العلم التجريبي، فإن الأول — أي النسخ بغير بدل — يحدث أيضًا في العلم؛ فقد تم نسخ فرض الفلوجستون وفرض الأثير مثلًا بغير بدل.
وعرف الأصوليون كيف يستقبلون السنة النبوية استقبالًا علميًّا حين وضعوا لها اسمًا آخر هو الإخبار؛ لأنها كانت تجربة مروية شفاهةً قبل التدوين، فعدُّوها خبرًا محل اختبار الصدق والكذب، كان «الكلام في الإخبار» بتعبير الرازي ميزانًا عسيرًا، والباب الثاني من المجلد الثاني في كتابه «المحصول في علم الأصول» يدور حول «الطرق الدالة على كون الخبر صدقًا»، بخلاف التواتر طبعًا. وبما يداني عناية المنهجية العلمية المعاصرة بالتفضيل بين الفروض المتنافسة وبالتجربة الحاسمة، اهتم الأصوليون بسبل الوصول إلى نتيجة عند تعارض الأدلة، فاصطنعوا للتحقق من صدْق الأخبار مناهج لبحث «التعارض والترجيح»، وحددوا سبل الترجيح الذي يرفع التعارض والاختلاف بين المرويات والأحاديث، حصرها البيضاوي في سبعة سبل، فقد يكون الترجيح بحال الراوي، أو بوقت الراوية، أو بكيفيتها، أو بوقت ورود الخبر، أو باللفظ، أو بالحكم أو بعمل أكثر السلف.١٠ واهتم الأصوليون بشروط المُخبِر وشروط المُخبَر عنه، بالراوي والسند، والقراءة الشاذة وحكمها والأحوال الراجعة إلى متن الحديث. وفرقوا بين المتواتر والآحاد؛ الأول يقيني، والثاني قد يكون يقينيًّا في العمل لكنه ظني في النظر. ويشير الرازي إلى أن الأصوليين يأخذون بحديث الآحاد إذا اشتدت الحاجة وتعذرت منهجيات دالة أخرى، بينما لا يأخذ اللغويون أبدًا بحديث الآحاد مهما كانت الأسباب؛ فاللغة محل اتفاق جمعي، أما الأصول فمحل استدلال منهجي. وزيادة في ضبط رواية الحديث الشريف وضع الأصوليون «علم الجرح والتعديل» لتقويم الرواة، الجرح يعني تقويمًا سلبيًّا للراوي، والتعديل يعني تقويمًا إيجابيًّا. على الإجمال تعامَل الأصوليون مع المصدرَين الأعظمَين: القرآن والسنة، بجلال قدرهما من حيث هما مصادر منهجية، وبما يعطينا تمثيلًا عينيًّا للجانب النقدي الضروري في المنهجية العلمية التجريبية، وقدَّموا — كما أشار حسن حنفي — مناهج للنقد التاريخي لم تتبدَّ للغربيِّين، ولم تعرفها الحضارة الغربية إلا في القرن التاسع عشر. ببساطة تعلَّمنا أصول الفقه أنه من باب الاعتبار الحقيقي للمصادر المقدسة علينا تفعيل خطوط المنهج العلمي النقدية.
أما المصدر الثالث للمنهجية الأصولية فهو الإجماع. الإجماع في اللغة: هو العزم والاتفاق، وفي المصطلح: هو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة واتفاق المجتهدين. لا يقع الإجماع إلا في مظنون، وهو طريق للعبور من الظني إلى القطعي، اليقين لا إجماع فيه بل له أسَّسه في النص أو في بداهة العقل وشهادة الواقع. والمنشود إجماع أهل الحل والعقد من الأئمة والوجهاء والعلماء المجتهدين، إجماع الخلفاء الأربعة حجة، وإجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجة. ولا عبرة بإجماع الخارجين عن الملة، وأيضًا لا عبرة بإجماع المقلدين، ولا بإجماع السوقة والدهماء، فضلًا عن المجانين والصبية. وإذا كان لا يجوز الإجماع على الكفر، فإن جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر.١١
حجية الإجماع كمصدر منهجي التي يرفعها علم أصول الفقه، إنما تُلقِي بنا في خضمِّ ميزة إجرائية يتميز بها العلم الرياضياتي التجريبي المعاصر؛ أي نظريات الإجماع والتضافر في الممارسة العلمية. نظريات الإجماع Consensus Theories تعني أن الحكم بما يُعدُّ ذا قيمة علمية يعتمد على الموافقة والإجماع، وأن الإجماع يُعدُّ خاصة مميزة للمجتمع العلمي دون سواه من مجالات الفاعلية الإبداعية. غير أن العلماء يصلون إلى الإجماع بتقديم حجج مقنعة عقليًّا لدعم فروضهم. وأيضًا ما كان الأصوليون ليُجمعوا على شيءٍ من دون حجج، «فلا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة.»١٢
أما إذا قيل: إن الإجماع في المجتمع العلمي يشمل كل العلماء والباحثين، بينما إجماع الأصوليين قاصرٌ على أهل الحلِّ والعقد، فإنه بشأن الممارسة العلمية المحدثة والمعاصرة ثمة أيضًا نظريات التضافر Conspiracy Theory، التي قد تعتبر صِيَغًا غير ديمقراطية لنظريات الإجماع، وتذهب إلى أنه في كلِّ حقل علمي هناك دائمًا قلة من الشخصيات البارزة القوية تقوم بدور حارس البوابة، وتتحكَّم في منافذ الدوريات والوظائف والاعتمادات الخاصة بتمويل البحوث العلمية،١٣ وبالتالي تنعكس رؤاها بشدة بشأن ما يتم إجماع المجتمع العلمي عليه. وعلى أية حال، فإنه كما يقول وليم جيمس إيرل: «حين ننظر في الطريقة التي تقوم عليها المؤسسة العلمية، نُدرك أنه ما من فرد أو جماعة يمكنه أو يمكنها تعزيز أو رعاية إنتاج علم «رديء» حتى لو شاء هذا الفرد أو هذه الجماعة ذلك.»١٤ وفي هذا نتذكر الحديث الشريف والقاعدة الفقهية الجميلة: «لا تجتمع أمتي على ضلالة.»

•••

أما المصدر المنهجي الرابع؛ أي الاجتهاد والقياس، فهو صُلْب ميدان الآليات المنهجية المنوط بها الفعالية المستدامة، في القراءتين معًا. لا مندوحة عن تفعيله إذا تعذَّر وجودُ نصٍّ وصَعُب الاهتداء إلى وجود إجماع على حكم في واقعة مماثلة للحادثة المعروضة. يقول إمام الحرمين الجويني: «القياس مناطُ الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع، مع انتفاء الغاية والنهاية؛ فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة ومواقع الإجماع معدودة … ونحن نعلم قطعًا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها.»١٥ ومن هنا تتمثل فاعلية القياس المنهجية في أنه المصدر الذي ترجع إليه أحكام الوقائع دون وصولٍ إلى حدٍّ، مما يجعله فاعلية مستمرة ونواتجه متتابعة متجددة بدورها بلا نهاية. وتلك شيمة المنهجية السديدة، فضلًا عن أن القياس الأصولي يوافق البداهة كشأن الأوليات المنهجية، فهو في جوهره لا يعدو أن يكون إعطاءَ المثلِ حكْمَ مثيلِه والشبيهِ حكْمَ شبيهِه.
يقول شمس الدين الجزري: «العمل بالقياس أشقُّ؛ لأنه عمل بالاجتهاد، وهو أشقُّ من العمل بالنص، فيكون أكثرَ ثوابًا من العمل بالنص.»١٦ القياس في حاجة إلى بُعْد نظر، وعمق فكري وحساسية للمعنى، وإدراك للعلل، وحركة بين الأصل والفرع لا تقوى عليها العامة.١٧ فهو فعل للعلماء وللمنهجية، فضلًا عن أنه مبتدأ خصائص الروح العلمية. وكان أروع ما في علم أصول الفقه هو خطورة موقع الاجتهاد الذي يفتح الباب أمام توليد الفعاليات المنهجية الأصولية.
منذ بداية التأسيس المعتمدة، قال الإمام الشافعي: «بالقياس فيما لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع.»١٨ ويُقصد بالقياس الأصولي رد فرع (= واقعة مستجدة) إلى أصل (= حكم سابق) لعلةٍ تجمعهما؛ فهو تقدير للحالة المطروحة (= الفرع) ومناظرتها بحالة مماثلة (= الأصل) لينسحب حكمُ الأصل على الفرع بناءً على علة تجمع بينهما. أما الاجتهاد الملازم للقياس فهو الواجهة البرَّاقة لعلم أصول الفقه، والقوة الفعالة الدافعة للنظر العقلي والعمل والإنجاز. جعله محمد إقبال «مبدأ الحركة في الإسلام والذي يناط به التجديد والتغيير والتحديث والتطور وتقدُّم المسلمين.»١٩
الجهد هو الطاقة، والاجتهاد لغويًّا هو استفراغ الوسع؛ بمعنى بذل غاية الجهد (= غاية الطاقة) في تحقيق أمر مُستلزم للكلفة والمشقة، وهو عند الأصوليين استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية. ويرى حسن حنفي أن الاجتهاد أوسع من القياس، بينما ذهب مصطفى عبد الرازق إلى أن الاجتهاد مرادفٌ للقياس ومرادف للرأي أيضًا؛ لأن «الرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية وهو مرادنا بالقياس والاجتهاد»،٢٠ ويستند في هذا قول الإمام الشافعي: «فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنًى واحد.»٢١ فما لا حكم فيه «علينا طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد القياس.»٢٢ لذلك قيل: إن كل قائس مجتهد. يتوقف الشافعي عند الحديث الشريف: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.» ويناقش المشكِّكين في إسناداته، ويؤكد أنه «ممن يُثبتها»، ويستند الشافعي إلى إثبات هذا الحديث لتجويز الاجتهاد.٢٣
ولئن كان جوهر المنهج العلمي المحاولة والخطأ وتصويب الخطأ، فها هو ذا علم أصول الفقه يهتمُّ بالاجتهاد؛ أي استفراغ غاية الوسع حين المحاولة ولا يخشى الوقوع في الخطأ، حتى شَهِد طائفة المصوبة القائلة: إنَّ كلَّ قائس مجتهد وكل مجتهد مصيب، من حيث إن فعْلَ الاجتهاد في حدِّ ذاته صوابٌ يُؤجَر ويُجازَى،٢٤ على الرغم من أنه قد يشهد اختلافًا في الرأي. يقول الشافعي: «القياس من وجهين: أحدهما أن كون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأَوْلاها به وأكثرها شبهًا فيه. وقد يختلف القايسون في هذا.»٢٥ وظهور المصوبة مع هذا الاختلاف ووجود الرأي والرأي الآخر يجسِّد دافعية منهجية حقيقية منبثة في الأعطاف.
ويحمل القياس الصرامة المنطقية للقوة المنهجية لعلم أصول الفقه، «لا يقيس إلا مَن جمع الآلة التي له القياس بها.»٢٦ إن لم يكن هو مكمن هذه القوة ذاتها. رأينا الشافعي يقول بأنه هو ذاته الاجتهاد، وكذلك يقرُّ به أساسًا للاستحسان: «يقول الرجل: استحسن بغير قياس؟ فقلت: لا يجوز هذا عندي — والله أعلم — لأحدٍ.»٢٧

القياس الأصولي يحتوي القياس المنطقي ويستوعبه ليتجاوزه؛ لأن المنطق الأصولي أوسع من المنطق الصوري وأقرب إلى منطق الميثودولوجيا العلمية. وإذا كان القياس الصوري الأرسطي تحصيل حاصل غير منتج لا يأتي بجديد؛ لأنه مجرد إدخال خصوص تحت عموم، فإن القياس الأصولي منتجٌ وحكم على واقعة جديدة؛ فإذا كان كلُّ مُسكر حرام، والنبيذ مسكر، عرفتَ أن النبيذ حرام، وهذا حكم جديد لموجود مستجد. المقدمة لم تكن مجردَ استقراء مسبق للجزئيات، بل مقدمات شرعية وتجريبية، مثالية وتنظيمية، تجمع بين الوحي المسطور والوحي المنظور، تجمع بين القراءَتين.

عرف الأصوليون الاستحسان بمعنى ترك قياس والأخذ بآخر أقوى منه؛ أي استحسان أقوى الدليلَين والعمل به، ومن دروب الاستحسان مراعاة الخلاف. وعن طريق ما أشرنا إليه من مصادر فرعية والفقه المقاصدي، يرتبط القياس الأصولي بالغرض الأساسي وهو تحقيق المصلحة. وزادوه بالقواعد الفقهية من قبيل: لا ضرر ولا ضرار … درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، لا تزر وازرة وزر أخرى، ما جعل عليكم في الدين من حرج، إنما الأعمال بالنيات … وقد اعتبرها الأصوليون من الكليات من حيث إنها منصوص عليها في الكتاب والسنة.٢٨ وضعوها كقواعد لضبط القياس والتثبت من أنه مطابق لما يقضي العقل بأنه مناسب ومحقق لمصلحة المسلمين. من ثَم فإن القياس الأصولي محصنٌ مما قد يحدث في القياس الصوري الذي إذا استوفى الشروط قد يكون صحيحًا تمامًا من الناحية المنطقية؛ أي من ناحية الصورة، بينما هو من حيث المضمون والمعنى لغو وهراء، إذا كانت مقدماته هكذا. إن القياس الأصولي ليس صوريًّا فقط بل أيضًا تجريبيٌّ يرتبط بالواقع المعاش؛ لذا يظل دائمًا ومهما استوفى الشروط ظنيًّا، بينما القياس الصوري قطعيٌّ يقينيٌّ. وقد ارتحل اليقين نهائيًّا من عالم العلم التجريبي.
أركان القياس الأصولي التي لا بد أن تتوافر فيه أربعة هي: الأصل والفرع والعلة وحكم الأصل. وقد وضع العلماء شروطًا لكلٍّ منها، تُعَدُّ في مجموعها شروطًا للقياس.٢٩ يتفاوت مدى استيفائها، وأيضًا التراجيح والاستحسان والاستصحاب؛ أي مصاحبة الدليل لواقعته وما يشبهها … مثل هذا يعني أن الأقيسة الأصولية لها أقسام ومراتب.
بعض تقسيمات الأقيسة تُشير إلى أوضاع متكافئة منطقيًّا، وبعضها الآخر يُشير إلى مراتب متفاوتة. انقسم القياس الأصولي عند الشافعي إلى قسمين متكافئين: الأول من الأدنى إلى الأعلى؛ كأن يكون حكم الأصل تحريم القليل من الشيء فيكون حكم الفرع تحريم الكثير منه، والنوع الثاني هو العكس من هذا؛ أي من الأعلى إلى الأدنى. ثم اتخذ هذا التقسيم شكلًا ثلاثيًّا؛ فقد تكون العلة في الفرع أضعف منها في الأصل، أو مساوية لها أو أقوى منها. ومن هنا ظهر فيما بعد تقسيم الأقيسة إلى مراتب متفاوتة قوةً وضعفًا في تقسيم ثلاثي إلى: قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشبه.٣٠ أقواها قياس العلة. في قياس الدلالة تختفي العلة في أصل القياس ويُستعاض عنها بما يدل عليها؛ لذلك فهو استدلال يقترب من روح الاستدلال الشائع في العقلية الإسلامية بجملتها؛ أي قياس الغائب على الشاهد. و«الدلالة قياس على المعنى دون العلة المؤثرة، وهو أضعف من سابقه. وقد يكون المعنى علة ملائمة أو علة مناسبة، وكلما ابتعدت العلةُ عن الفعل المادي ضعف القياس وأصبح بالاستصحاب. أما قياس الشبه فهو حكم على الفرع بمجرد مشابهة الأصل، والشبه أقل من العلة والمعنى معًا، وهو أقرب إلى الاستحسان والمصالح المرسلة.»٣١ العلة في قياس الشبه غامضة، تكتنفها أشباهٌ كثيرة ويأخذها القائس بالشبه. وثمة تقسيمٌ ثلاثي ثالث للقياس حسب معناه الذي يكون إما لائحًا؛ أي ظاهرًا أو غامضًا أو مشتبهًا. ويأتي القياس ذو المعنى اللائح في صورة قياس العلة الذي يظل دائمًا هو الأقوى والأمتن والأصل وسواه بدائل، أو «هو على التحقيق بحرُ الفقه ومجموعُه، وفيه تنافس النظار.»٣٢ وهو الذي أدَّى إلى اجتهاد الأصوليين في مباحث العلة التي حملَت أخطر إنجازاتهم المنهجية.

•••

إن العلةَ كيانٌ منهجي جليل، طويلًا ما اعتلى عروش النماذج الإرشادية العلمية، وممالك التفكير العقلاني إجمالًا تتجلَّى الآن ركنًا من أركان القياس، وما لا يُعقل له علة يمتنع القياس فيه.٣٣ راموا أن تكون العلة مؤثرة؛ أي فاعلة، وظاهرة؛ أي محسوسة، ومنضبطة؛ أي لا اختلاف حولها، وسالمة؛ أي لا ينقضها نصٌّ أو إجماع، فلا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها، وأن تكون مطردة؛ أي متتابعة كلما وُجدت وُجد الحكم، ومنعكسة؛ أي بغيابها يغيب الحكم. الطرد مع الانعكاس يجعل العلة جامعة مانعة، يدور معها المعلول وجودًا وعدمًا. هذه بمثابة شروط اشترطوها في العلة، ولا يستطيع العلماء التجريبيون المحدثون الاستغناء عن أيها.
وقد تم رصْد أكثر من عشرة تقسيمات وضعها الأصوليون للعلة، اختلفت بين الشافعية والحنفية. لعل أهمها تمييزهم بين العلة البسيطة والعلة المركبة، وبين العلة القاصرة والعلة المتعدية. والعلة الشرعية قد تكون منصوصة وقد تكون مستنبطة، قد تكون نقلية ولكنها أيضًا قد تكون عقلية كالمناسبة والمصلحة. ولا يفرقون كثيرًا بين العلة النقلية والعلة العقلية، اللهم إلا في أن الأولى قبلية وقد تتعدد والثانية بعدية وغير جائز فيها التعدد؛ لأنه من الممكن تعليل الحكم بعلتَين نقليَّتَين أو أكثر، لكن حكم العقل والمصلحة يكون حاسمًا واضحًا؛ أي واحدًا.٣٤ وهكذا تبدو العلة النقلية والعلة العقلية متكاملتَين.
ثم كانت عنايةُ الأصوليين بالغةً بتحديد مناهج الاستدلال على العلة والوصول إليها، أسموها المسالك. ولا بأس، فالمنهج في اللغة وفي المصطلح كما ذكرنا هو الطريقة وهو الطريق وهو المسلك. اختلفوا في عدد المسالك أو الطرق أو المناهج المؤدية للعلة، رآها البيضاوي تسعة والآمدي عشرة والشوكاني أحد عشر. وحددها فخر الدين الرازي بالطرق العشر الأساسية: النص، والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والشَّبه، والدوران، والسَّبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط … ولم يُنكر مسالك أخرى اعتبرها البعض، ولكنه رآها ضعيفة.٣٥
العلة هي مناط الحكم. المناط هو التعليق؛ أي إبداء ما نِيطَ به الحكم، ما تعلَّق الحكم عليه. العلة هي مبرر الحكم أو مناطه، وباعتبارها هكذا يأتي تحديدها بتكامل ثلاثة طرق أو مناهج أو مسالك، هي التخريج والتحقيق والتنقيح: تخريج المناط بتعيين الأوصاف أو العوامل المؤثرة في حكم الأصل، وتحقيق المناط بألَّا يكون فيه خلاف ولا ممانعة ولا طعن، أما التنقيح فهو في اللغة التشذيب: تشذيب جذع الشجرة حتى يخلص من الشوائب والعوالق، وهو التهذيب والتمييز، وكلام منقح: كلام لا حشو فيه، وتنقيح المناط يكون بحذف ما يقترن به من أوصاف لا مدخل لها؛٣٦ أي حذف كلِّ ما يمكن حذفه من أوصاف العلية وتعيين الباقي الذي لا يمكن حذفه بوصفه مناطَ الحكم، مما يذكِّرنا بقاعدة «نصل أوكام» وعناية برتراند رسل بإحيائها وتفعيلها. «نصل أوكام» قاعدة منهجية تعني التقليل قدرَ المستطاع من الفروض والكيانات التي لا تدعو الحاجة إليها، وحذفها تحقيقًا لمبدأ الاقتصاد في التفكير، فيقضي «نصل أوكام» بحذف كلِّ كيان أو عنصر يمكن حذفه دون التأثير على سلامة الحجة.

ويتبدَّى الاستدلال الأصولي العلي كفعل منهجي متكامل في الطرد والانعكاس مع السبر والتقسيم ثم المناسبة، وتلك أهم المسالك طرًّا.

الطرد والانعكاس يعني التلازم المنطقي بين العلة والمعلول سلبًا وإيجابًا. الطرد هو الجريان أو الدوران، فيعني جريان الحكم مع العلة ليتبعها في كلِّ موضع وُجدت فيه، فتُصبح العلة مدارَ الحكم حقًّا، ويصبح الحكمُ دائرًا دورانًا مع وجود العلة. أما الانعكاس فهو انتفاء الحكم حين انتفاء العلة؛ لذا أسماه بعضُهم الدوران العدمي، لتدور العلةُ مع معلولها وجودًا وعدمًا. «إذا كان الحكم حاصلًا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، فهذا هو المراد من الاطراد والجريان. ومنهم مَنْ بالغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلًا مع الوصف في صورة واحدة.»٣٧ الصورة الواحدة مبالغة كما قال الرازي نفسه، لكن الشواهد التجريبية الأولية في أصول الفقه بشكل عام من نوع الاستقراء الناقص الذي هو أقرب إلى الاستقراء العلمي حيث يُكتفَى برصد عدة حالات دالة وليس من الضروري ولا من الممكن رصد الحالات جميعها. على أية حال، كانت «التجربة في علم أصول الفقه إنسانية وليست طبيعية؛ فهي تجريب الشريعة على الواقع الإنساني حتى تتم صياغتها طبقًا لقدرات البشر وإمكانيات الفعل، وكان العقل والتجربة في علم أصول الفقه وجهَين لعملة واحدة».٣٨ كما أنه إذا كان علم أصول ذا منزع تجريبي أو استقرائي بشكل ما، فإن الاستدلالية في القياس الأصولي هي أساسًا التمثيل، بمعنى الانتقال من حالة جزئية إلى حالة جزئية أخرى تبدو مماثلة بفعل العلة. بعبارة أخرى: استفاد الأصوليون من أشكال الاستدلال المنطقي الثلاثة: الاستنباط أو الانتقال من الكل إلى الجزء، والاستقراء أو الانتقال من الجزء إلى الكل، والتمثيل أو الانتقال من الجزء إلى الجزء.

وقد سلَّم الرازي مع البيضاوي وسواهما من كبار الأئمة بأن الطرد حجة صالحة وقاطعة لثبوت الحكم، لكن الطرد ككل المقولات الأصولية تقريبًا يظل مجالًا لرأي آخر، ليختلف الأئمة رحمةً بالأمة؛ لذا فالطرد له رافضون أو بالأحرى متحفظون. رآه البعض الآخر شرطًا لصحة العلية وليس دليلًا عليها، واعتبره الغزالي قائمًا في كل علة. وقد بحثوا أيضًا العلاقة التبادلية بين العلة ومعلولها، بمعنى أن كليهما دالٌّ على الآخر، فهناك قياس العلة وهو استدلال بالعلة على المعلول، وهناك قياس الدلالة — الأضعف — وهو استدلال بالمعلول على العلة.

ومهما يكن الأمر، فإن المعول الأساسي في العلية هو الطرد؛ أي التلازم ووجود الحكم لوجود العلة دائمًا، كلما تحقَّق وجود العلة تحقَّق وجود الحكم، بمعنى يماثل التلازم في الثبوت بين العلة والمعلول، الذي جعل مبدأ العلية في الميثودولوجيا العلمية الحديثة في مرحلتها الكلاسيكية له وجهٌ آخر هو مبدأ الإطراد Uniformity: إطراد الطبيعة وسريانها على وتيرة واحدة؛ فالقانون العلمي يكشف عن علية بقدر ما يكشف عن إطراد، فكلما كانت العلة حدث معلولها، وإذا غابت غاب المعلول، كما يحدث في الانعكاس الأصولي حين اقتران الطرد بالعكس تأكيدًا للدوران، وأنه يترتب على انتفاء العلة دائمًا انتفاء الحكم، أو المعلول. وهذه العناية بغياب العلة وانتفائها في مسلك الانعكاس الأصولي تستحضر أمامنا الميثودولوجيا العلمية التي لا تكتفي أبدًا بحالاتِ الإثبات وتحقُّقِ المعلول بحدوث العلة، بل أيضًا غيابه بغيابها. وفي هذا لم تكن نظريات المنهج العلمي الكلاسيكية حتى نهايات القرن التاسع عشر إلا تأكيدًا لدوران العلة مع المعلول وجودًا وعدمًا، منذ بيكون الذي وضع قائمة الغياب بجوار قائمة الحضور وقائمة التفاوت في الدرجة، حتى جون ستيوارت مل الذي وضع منهج الاتفاق؛ أي اتفاق العلة مع معلولها بجوار منهج الاختلاف؛ أي اختلاف وضع العلة أو غيابها بغياب معلولها، فضلًا عن المنهج الثالث من مناهج مل الخمسة وهو منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف.٣٩ وتطور الأمر حتى أصبحت الأمثلة النافية أو الشاذة أو المكذبة تقوم بالدور الأكبر في الميثودولوجيا العلمية المعاصرة، وأصبح منطق التكذيب البوبري من أبلغ تمثيلات منطق العلم التجريبي بعد ثورة النسبية والكوانتم.

تبقى آية الدقة المنهجية في مسلك «السبر والتقسيم»، المقترن بتنقيح المناط الذي هو في حدِّ ذاته مسلكٌ ذو اعتبار. التقسيم إما أن يكون منحصرًا حاصرًا لكل الأوصاف وتقسيمها إلى أوصاف إيجابية وأخرى سلبية، وإما أن يكون منتشرًا أقل حسمًا. وهو على الإجمال ذكرُ كلِّ الأوصاف التي يتصف بها الأصل وصفًا وصفًا أو قسمًا قسمًا، كل وصف يمثِّل قسمًا تتم دراسته على حدة، فهل كانت قوائم فرنسيس بيكون التي وضعها لتسجيل نتائج التجريب، قائمة الحضور وقائمة الغياب وقائمة التفاوت في الدرجة، هي حقًّا أول محاولة في التاريخ لتصنيف معطيات البحث كما يقال في كتب المنهجية العلمية؟!

عن طريق السبر؛ أي الاختبار وقياس الغور، يتم استبعاد الأوصاف أو الأقسام واحدًا تلو الآخر، فلا يبقى إلا الوصف الذي هو مناط العلة حقًّا. حدَّد الأصوليون طرُقَ وأسانيد حذْف الأوصاف المستبعدة. هنا يلتقي السبر مع تنقيح المناط، فيعتبرهما الرازي شيئًا واحدًا، وبعض الأصوليين يرفضون هذا؛ لأن السبر حذفٌ فقط، أما تنقيح المناط فحذف وتعيين أيضًا. المهم الآن أنه من ناحية الإجرائية المنهجية، نلاحظ أن التقسيم يحدث أولًا ثم يتلوه السبر، ولكن المصطلح «السبر والتقسيم» يضع السبرَ قبل التقسيم؛ لأن السبر أهم فهو الفاعلية المنتجة. ويا لَها من حصافة منهجية في إعلاء قيمة السبر؛ أي الاختبار. إن التجريبية العلمية في جوهرها هي الاختبارية، هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، وروح الاختبارية التجريبية الأصولية تنزع إلى السبر، وسوف نرى أنها لا تقتصر عليه. وفوق كلِّ هذا لا تفوتهم قيمُ البحث العلمي وهم أهل الدين، فأكدوا على ضرورة أن يتحلَّى الباحث المؤمن أو الفقيه، بالصدق مع النفس ومع الواقع، بالموضوعية في السبر والتجرُّد من الهوى كمبرر لاستبعادِ قسمٍ أو أحد الأوصاف.

تعلو نبرةُ الاختبارية وروح العلم التجريبي النقدية مع الأصوليين وهم يبحثون فساد العلة، في الأصل أو في الفرع أو في انتفاء الدليل على صحتها؛ فالمسألة ككل فاعليات الإنسان والعقل البشري يمكن أن تقع في الخطأ، وباستثناء الأنبياء والصحابة الأولين وأئمة الشيعة الرافضين للقياس أصلًا، لا معصومية للبشر في الفقه الأصولي وفي التفكير العلمي وفي كل تفكير عقلاني مستنير. ومثلما تبحث الميثودولوجيا العلمية المعاصرة فيما يُسمَّى بالأمثلة الشاذة أو مكذبات النظرية، عُنيَ الأصوليون عنايةً بالغة بالبحث فيما يُبطل الحكم العلي أصلًا فيما أسمَوه بمبحث القوادح؛ أي إبطال العلل، حيث تتجلَّى الاختبارية الأصولية في أقوى صِوَرها.

القدح في اللغة هو الطعن في النسب، وفي أصول الفقه هو الطعن في صحة الاستدلال؛ أي الاعتراض عليه، على الدليل الدال على العلية؛ وذلك إما بالممانعة وإما بالمعارضة. الممانعة هي عدم قبول الحكم؛ لأنه لا يحمل دليلًا واضحًا على العلة أو على الحكم ذاته في الأصل أو على نسبته إلى الفرع، والمعارضة هي إبطال العلة بعلة أخرى. يحمل مبحث القوادح منهجية المناظرة بين الرأي والرأي الآخر، فهو اعتراض معترض على الاستدلال بناءً على حجة. البعض ذكر ثلاثين نوعًا من الاعتراضات، والبعض قصرَها على خمسة أنواع فقط. الاعتراضات لها أساليب منهجية مجدية، لعل أبسطها الاستفسار وهو إن لم يؤدِّ إلى إسقاط الحكم فسوف يؤدي إلى فهمه وتعميقه، ومنها فساد الاعتبار بمعنى إثبات أن ما هو مذكور لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه.

القوادح منهجية اختبارية لا تني ولا تكلُّ، فتختبر ذاتها بذاتها، وفي هذا فرَّق الأصوليون بين القوادح الفعالة؛ أي الاعتراضات الصحيحة والقوادح الباطلة؛ أي الاعتراضات الفاسدة التي لا قيمة لها.٤٠ حددوا مناهج للقوادح الفعالة؛ أي أهم ما يُبطل الاستدلال العلي؛ كالنقض والكسر وعدم التأثير والقلب المبطل.٤١ النقض هو ردُّ العلة بناء على لفظها والكسر هو ردُّها بناءً على معناها؛ لذا فهو أقوى من النقض، أما القلب المبطل فهو إمكانية الانتهاء بالقياس إلى عكس الحكم المطروح، وهو منتهى النقض للعلية؛ لأنه بيان أن الحكم الذي تعلَّق بها ليس له تعلقٌ بها.

•••

وقد كان الهدف من كل هذا الجهاز المنهجي والآليات الاستدلالية والجهود المبذولة لخدمة العلية هو الوصول إلى الأحكام الشرعية للأفعال الإنسانية، كمناظرة للقوانين التي ينتهي إليها البحث العلمي. الحكم الشرعي هو الثمرة من جهود الأصوليين، بتعبيرهم البليغ، والمجتهد هو المستثمر. وبالروح المنهجية التي تهيمن على عالمهم، عُنيَ الأصوليون بتقسيمات الأحكام. وفي هذا لم يكن المنطق الأصولي مقتصرًا على ثنائية القِيَم، بل كان في جوهره وفي حدود عصره منطقًا متعدِّد القِيَم، أو بالأدق خماسي القِيَم: من الواجب إلى المحظور والمباح والمندوب والمكروه. الواجب ما يُذم تاركه والمحظور ما يُذم فاعله والمباح ما لا يتعلق بفعله أو تركه مدح ولا ذم، والمندوب ما يُحمد فاعله ولا يُذم تاركه والمكروه ما يُمدح تاركه ولا يُذم فاعله.٤٢ وبخلافها جميعًا يتحدث الإمام الشاطبي عن مرتبة العفو التي تناظر مواطن الغموض وعدم التحدد.

كم نظلم أنفسنا حين نجد أقرب تهمة تُوجَّه للفكر الإسلامي أنه سوف يحصرنا بين ثنائية الحلال والحرام. ومن قبل كان الظلم الأكبر الذي يبدو لي أننا سوف نُدان عليه يوم الدينونة حين تصوَّرنا أن قراءة القرآن لا تُفضي إلا إلى مشاعر إيمانية وخلجات تهجدية، وشيئًا من الإشباع النفسي والالتزام السلوكي والضبط المجتمعي، أما توطين الأصوليات المنهجية العلمية فيعني استيرادها بقضِّها وقضيضها من النموذج الغربي، ليظلَّ العلمُ غربيًّا وغريبًا عن العالم العربي والإسلامي.

بدَا واضحًا كيف كان علمُ أصول الفقه قراءةً للنص الديني من أجل تفعيله في الواقع سدًّا لحاجات الأمة آنذاك، فأسفر الجهد الحاد ذو الدوافع المتوهجة عن جهاز منهجي مهيب يبدو ناضجًا قابلًا للتطوير ومد النطاق والتنقيح والتزويد؛ فيُلقي أسُسًا منهجية علمية لقراءة الكتاب المنظور/الكون والعالم، أصيلة غير مجلوبة أو مستوردة، وكانت عنايتهم الفائقة بالعلة واستقصاؤهم جوانبها وتحديد مسالكها من العوامل التي تَشِي بقوة إلى كفاءة علم أصول الفقه كأساس لتوطين روح المنهجية العلمية.

١  الرائد في هذا الدكتور علي سامي النشار، بكتابه «مناهج البحث عند مفكِّري الإسلام»، كان رسالته للماجيستير، نُوقشت في مايو ١٩٤٢، وظهرَت في كتاب طبعته الأولى العام ١٩٤٧. وهو عمل يستوجب مناقشات مستفيضة لا يتَّسع لها المجال الآن.
٢  المصطلح الإنجليزي Truth يحمل هذه البدائل العربية الثلاثة: الحقيقة/الحق/الصدق بالكفاءة نفسها. وهي لا تخلو من ترادف وتراوح يشمل مجالات الفلسفة الأساسية: الحقيقة للوجود أو الأنطولوجيا، والحق للقيمة أو الأكسيولوجيا، والصدق للمعرفة أو الإبستمولوجيا. وهل لأسبقة القيم في نموذجنا، كان الحق اسمًا من أسماء الله الحسنى.
٣  د. حسني حنفي، دراسات إسلامية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١، ص٩٤.
٤  هذا التعريف وارد في الصفحة الأولى من متن كتاب البيضاوي (منهاج الوصول، طبعة المكتبة التجارية، القاهرة) وهو هكذا في متن كتاب شارحه: شمس الدين محمد بن يوسف الجزري، معراج المنهاج: شرح كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، القاهرة ١٩٩٣، ص٣٦–٣٧.
٥  انظر مثلًا كتاب أصول الدين لفخر الدين الرازي، الذي استفدنا كثيرًا من عمله المحصول في علم أصول الفقه (طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٨)، لتجد الباب الأول من «أصول الدين»: في المباحث المتعلقة بالعلم والنظر كي يحمل الأسس المنطقية لعلم الكلام فيبدأ بالتصور والتصديق ثمت الفلسفة البديهيات والمقدمات الظنية … إلخ، قبل أن يدخل في مسائل علم الكلام من قبيل الذات والصفات والجبر والاختيار.
٦  تفاصيل معالجة الجويني لقضية النسخ في المجلد الثاني من كتابه: البرهان في أصول الفقه، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة، ط٣، ١٩٩٩، ص٥٧–٨٤٢.
في: «المحصول في علم الأصول» لمحمد بن عمر بن الحسين فخر الدين الرازي، نجد نسخ الإجماع المسألة الرابعة من مسائل الكلام في الناسخ والمنسوخ، ونسخ القياس المسألة الخامسة.
٧  أبو حامد الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط٢، ١٩٨٠، ص٣٠٢.
٨  على أن القاضي البيضاوي وشمس الدين الجزري قالَا: إن الإجماع لا يُنسخ ولا يُنسخ به (معراج المنهاج، مج١، ص٤٤٤).
٩  من ناحية أخرى جديرة بالذكر يذهب د. علي مبروك إلى أنه على أساس أطروحة النسخ يمكن التمييز بين الإجرائي والتأسيسي في النص الديني، وهو تمييز يمكن أن يفيد في الخطاب التحديثي.
١٠  الجزري، معراج المنهاج، مج٢، ص٢٦٣–٢٧٢.
١١  الرازي، المحصول في علم الأصول، مج٢، ص٧٣ وما بعدها.
١٢  السابق، ص٨١.
١٣  وليم جيمس إيرل، مدخل إلى الفلسفة: مزود بمعجم فلسفي معاصر، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. يمنى طريف الخولي، الطبعة الثانية، دار رؤية، القاهرة، ٢٠١١، ص٧–٩٦.
١٤  المرجع السابق، ص٩٧.
١٥  إمام الحرمين الجويني، البرهان في أصول الفقه، المجلد الثاني، ص٤٨٥.
١٦  معراج المنهاج، مج٢، ص٢٨٦.
١٧  د. حسن حنفي، هموم الفكر والوطن: التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ط٢، ١٩٩٨، ص٢٦٠.
١٨  الرسالة للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار الكتب الجامعية، بيروت، د.ت، ص٤٦٧، مادة ١٣٢١.
١٩  د. حسن حنفي، دراسات إسلامية، ص٧٦.
٢٠  مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، طبعة مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ٢٠٠٧، ص١٤٥.
٢١  الشافعي، الرسالة، ص٤٧٧، مادة ١٣٢٣–١٣٢٤.
٢٢  المصدر السابق، الصفحة نفسها، مادة ١٣٢٦.
٢٣  نفسه، ص٤٩٤–٤٩٥.
٢٤  انظر الرؤى المختلفة لطائفة المصوبة: إمام الحرمين الجويني، البرهان، ج٢، ص٨٥٩–٨٦٨. وكان هناك بطبيعة الحال طائفة المخطئة التي تواجههم، انظر في أدلة الفريقَين المتناحرَين: أبو حامد الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، م. س. ص٤٥٣–٤٥٤. ويذهب الغزالي نفسه إلى أن «المختار عندنا: أن كل مجتهد مصيب في عمله قطعًا.» ص٤٥٥. وإذا كان ثمة فريق من المعتزلة في طائفة المصوبة فهم بالتأكيد ليسوا من معتزلة بغداد الذين رفضوا القياس والاجتهاد أصلًا.
٢٥  الجويني، البرهان، ص٤٨٠، مادة ١٣٣٤.
٢٦  الشافعي، الرسالة، ص٥٠٩.
٢٧  الشافعي، الرسالة، ص٥٠٤ (١٤٥٦–٥٧).
٢٨  الإمام أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق وتقديم عبد الله دراز، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت، ج١، ﻫ. ص٢٩.
٢٩  د. محمد عبد اللطيف جمال الدين، قياس الأصوليين، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٨٥، ص٤٧–٤٨.
٣٠  قارن في مراتب الأقيسة: البرهان للجويني، ج٢، ص٥٧٣ وما بعدها.
٣١  د. حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، ص٢٥٣.
٣٢  الجويني، البرهان في أصول الفقه، ج٢، ص٥١٧.
٣٣  ويجمل بنا أن نذكر أيضًا أن الأصوليين، من ناحية أخرى، سمَّوا الحكمة من التشريع المعين: علة هذا التشريع، مصدقين على أن التعليل دائمًا تعقل.
٣٤  انظر: عبد الحكيم عبد الرحمن أسعد السعدي، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط١، ١٩٨٦.
٣٥  فخر الدين الرازي، المحصول في علم الأصول، ج٢، ص٢٧٥. وانظر حصرًا شاملًا لسائر مسالك العلة على سائر المذاهب في: عبد الحكيم السعدي، مباحث العلة في القياس، الباب الثاني، ص٣٣٥–٥٢٤.
٣٦  تنقيح المناط عند الرازي وشارحه البيضاوي يَصِل إلى أصفى صِوَره أو بتعبير الأصوليين صورته القطعية فيما يسمَّى «قياس لا فارق»، فيقول البيضاوي: إن التنقيح هو إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، بمعنى تنقيح أو حذف كلِّ الفوارق بين الأصل والفرع، فيلزم ثبوت حكم الأول على الثاني، أو يُثبت القائس أنه لا فارق بينهما إلا كذا الذي لا دخل له في الحكم، وبالتالي يسري الحكم قطعيًّا. وبطبيعة حال علم الأصول كان هناك معترضون على هذا ومتحفظون وأيضًا منقحون.
٣٧  الرازي، المحصول، ج٢، ص٣١٢.
٣٨  د. حسن حنفي، من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، الجزء الثاني، ص٢٤.
٣٩  المنهجان الرابع والخامس هما منهج التلازم في التغيُّر الذي يكشف عن العلاقة الكمية بين العلة ومعلولها، ومنهج البواقي الذي هو فرض لتفتيت العلية، فإذا ثبت أن بعض عناصرها مسببة لبعض عناصر المعلول، كان ما بقيَ من عناصرها مسببًا لما بقيَ من عناصر المعلول. انظر: يمنى الخولي، محاضرات في منهج العلم، دار الثقافة العربية، ط٦، ٢٠١٠. ص١١٦–١٢٣. ولمزيد من التفاصيل:
J. S. Mill, System of Logic (1843), ed. by J. M. Robson, Routledge & Kegan Paul, London, 1973, pp. 249–302.
٤٠  إمام الحرم الجويني، البرهان، الباب الرابع، ج٢، ص٦٢٧ وما بعدها.
٤١  الجزري، معراج المنهاج، ج٢، ص١٧٨–١٩٤.
٤٢  الغزالي، المستصفى، ج١، ص٢١٠ وما بعدها. وثمة في تقسيم الحكم في: معراج المنهاج للجزري، ص٥١ وما بعدها، وانظر تحليلات لغوية مسهبة لهذه الأحكام في: المحصول، للرازي، ص٢٠١ وما بعدها. وقارن «الأحكام التكليفية» في الموافقات للشاطبي، ج١، ص١٠٩ وما بعدها، حيث يعقبها الشاطبيُّ بقسم آخر هو الأحكام الوضعية؛ أي النصوص التي تحدِّد وضعَ الشيء من حيث كونُه سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو مرخصًا. والوضعيات تُجاري العقليات في إفادتها للعلم القطعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤