الفصل السادس

معالم نموذج إرشادي علمي إسلامي

دعائم النموذج الإرشادي الإسلامي العلمي هي الوحي والعقل والطبيعة، فيتساوق مع الواقع الثقافي في العالم الإسلامي ويتكافأ مع تطلعاته المعرفية. يحتوي تلقِّي علمائه لنظريات وتطورات العلوم المحدثة والمعاصرة من أجل تفاعل عميق معها، يحفِّز إمكانات الإضافة إليها والإسهام المأمول في مسيرة تقدُّمِها. ويرسم القرآن معالم منهجية من حيث يحمل قوة موجَّهة للممارسة العلمية. بدأ بكلمة «اقرأ»: فاتحة الانفتاح على النشاط المعرفي، وجعل الإنسان مسئولًا عن حواسِّه، واحتوى على أكثر من خمسين آية تدعو إلى إعمال الفكر والبحث والنظر في ظواهر الطبيعة أو آيات الكون، تحمل ما أسماه محمد إقبال «الاتجاه التجريبي العام للقرآن».١ إنها ديناميات دافعة محركة للبحث العلمي، ثاوية في الآيات البينات، تتجه أو تُوجَّه مباشرة صوبَ الطبيعة والعلم الطبيعي.

ومكونات النموذج الإرشادي الفاعلة المتفاعلة، هي أولًا الرصيد العلمي العالمي والنظريات المعمول بها في المجال المعنِي، وثانيًا التفكير وآلياته وإجراءات البحث وخطواته، وثالثًا قيم الممارسة العلمية أو السلوك العلمي فضلًا عن دوافعه وموجهاته. يحمل العنصران الأوَّلان مشتركًا إنسانيًّا عامًّا، ويحمل العنصر الأخير الخصوصية أو الوضع في الإطار الحضاري.

وتميز نموذجنا القائم على التوحيد بأسبقية القيم، وبالدور المحوري لقيم الاستخلاف والعمران والتزكية. نضيف إليها هنا تفعيل قيمٍ أخرى فرعية من تراثنا، من قبيل قيمة العلم النافع والعياذ بالله من علم لا ينفع، وقيمة الصلاحية وقيمة الاستقامة وقيمة الجهاد؛ بمعنى بذل غاية الجهد … إلخ. ومن المنظومة القيمية الإسلامية يسهل كثيرًا استنباط معايير السلوك الأخلاقي في البحث العلمي،٢ من قبيل الأمانة وعدم اختلاق معطيات أو نتائج، وقيمة الحذر واليقظة لتجنُّب الأخطاء قدر المستطاع، وبالمثل تجنُّب خداع الذات والتعصب وصراع المصالح، وقيمة الانفتاحية كمعيار يُوجب تشارُكَ العلماء في النتائج وفي المعطيات والأفكار والتقنيات والأدوات، ومراجعة أعمال بعضهم البعض، ويكونون منفتحين دائمًا للنقد وللأفكار الجديدة، وقيمة الحرص الدائم على التعلم، وليتحمل العلماء مسئوليتهم في إعداد الأجيال الجديدة من العلماء في إطار الالتزام بأخلاقيات العالم الناصح والباحث متلقِّي النصح، وقيمة الشرعية والمشروعية والقانونية، فيطيعوا القوانين والشرائع الخاصة بمجال بحثهم، وقيمة تحمل المسئولية الاجتماعية ليكون العلماء مسئولين عن تحقيق المصلحة والمنافع الاجتماعية ومسئولين عن عواقب بحوثهم وعن إبلاغ العامة بها. بالإضافة إلى معايير أو قيم الاعتراف بفضل صاحب الفضل وبالتقدير لمن يستحقه، وإتاحة فُرَص متكافئة للباحثين وألَّا يهدروا عن ظلم أية فرصة في استخدام المصادر العلمية أو في التقدم في المسار المهني العلمي. وتبرز هنا قيمة الفعالية بمعنى وجوب استخدام الإمكانيات والأجهزة بفعاليةٍ تتجنَّب أيَّ هدر في الموارد، والفعالية تستتبع قيمة المشاركة في الموارد والحفاظ عليها. وثمة أيضًا قيمُ الاحترام المتبادل بين العلماء، واحترام الذات الإنسانية فلا ينتهكون كرامة الإنسان عندما يكون موضوعًا للبحث والتجريب، وأيضًا الرفق بالحيوان في هذا الصدد.
هذه القيم أوردها ديفيد رزنيك — وهو أستاذ فلسفة متخصص في قيم وأخلاقيات العلوم الطبية — كمعايير للسلوك الأخلاقي في العلم. حصرت الفقرة السابقة ما أورده باستثناء قيمة معيارية واحدة هي «الحرية»؛ وذلك لأن النظرة العجلى أو المهاجمة، قد ترى في قيمة «الحرية»، ما لا يتوافق تمامًا مع المقدمة التي وضعناها للفقرة: سهولة الاستنباط من المنظومة القيمية الإسلامية، مما قد يُحيلها إلى مقدمة إنشائية خطابية وليست شريعة منهجية. وليس الأمر هكذا؛ فقد وضع رزنيك لمعيار «الحرية» منطوقًا هو: «ينبغي أن يكون العلماء أحرارًا في أن يقوموا بالبحث في أية مشكلة أو أيِّ فرض. ينبغي عليهم أن يتتبَّعوا الأفكار الجديدة وينتقدوا الأفكار القديمة.»٣ فهل تحرم منظومتنا القيمية بحثًا في مجال ما؟ أما عن حثِّ القرآن على نقد الأفكار القديمة، و«ما وجدنا عليه آباءنا» فهو مذكور ومتكرر، وتجسد تطبيق هذا علميًّا مع ابن الهيثم مثلًا وهو يُطيح بأسس الإقليدية البطلمية للبصريات، وخُطًى تقدمية أخرى مماثلة أحرزها العلماء العرب. لا شك أن أخلاقيات البحث العلمي الإسلامية تنتظر معالجات مستفيضة ومتعددة المناحي والزوايا والمداخل، فضلًا عن أن أخلاقيات البحث العلمي أصلًا مفتوحة الآن لبحث موار، تخصص لها مجامع وجمعيات ومؤتمرات ودوريات … كل الأطراف باتَت تنشد «علمًا أكثر أخلاقية.»٤ على أن هذه الأخلاقيات في النموذج الإرشادي الإسلامي تنبع بطبيعة الحال من الركيزة الكبرى: عقيدة التوحيد.

•••

إن التوحيد يعني رؤية للحقيقة وللكون، العلم متضمن فيها ومتكامل معها، الوحي مصدرٌ دافع للمعرفة التوحيدية عن العالم التي تحتاج للأدوات البحثية والمناهج العلمية الإجرائية، و«المسألة تتعلق بتوظيف الأبنية الفكرية العامة التي يقوم عليها التكامل في فهم الظواهر أو القضايا موضوع الدراسة.»٥ وتتآزر العلوم الطبيعية والإنسانية في تعبيرها عن الاتصال والتداخل والتكامل ضمن الوحدة الكلية للخلق الإلهي، ويتسق العلم مع الروح الإسلامية وهو يسعى إلى تكامل الجزئيات ضمن الكل الواحد. ويبدو التكامل — كما يؤكد فتحي ملكاوي — من ضرورات الاستخلاف والتمكين في الكون والعمران البشري.

إن التوحيدَ أساسُ رؤية تكاملية تستقطب مصادر المعرفة وأبعاد الوجود ليغدوَ البحث العلمي تجربةً شاملة ينغمس فيها الباحث بمجامع قدراته وملكاته. وهي بدورها — مع ما تستلزمه طبعًا من شروط تعليمية وبحثية، مادية وعقلية — تجربة تستغل طاقة الأبعاد العقائدية المتولدة في النفوس والجياشة في الصدور استغلالًا رشيدًا. ويستطيع الباحث المسلم قراءة الكون الطبيعي والاجتماعي والإنساني بعقله وحواسه ونفسه جميعًا. وفي إطار رؤية ركيزتها توطين العلم، سوف يسهل توظيف هذه القراءة في بناء أسس حضارة راشدة متميزة بهذا التكامل الذي يجمع بين المادة والروح، الدنيا والآخرة، المسئولية والجزاء، الحق والواجب، الأنا والآخر … ويصنع وسطية تَحُول دون التطرف إلى أيٍّ من الجانبَين. التوحيد مضاد للتطرف الحدِّي، ومضاد للرؤية الواحدية الاستبعادية التي لا ترى الحق إلا في جانب واحد أو في مدرسة بعينها.

على أنها جميعًا تنبعث من أصول أعمق تُمثِّل ما وراء المنهج، وتُجسِّد منطلق المنهجية الإسلامية المؤهلة للقضاء على اغتراب العلم وغربته عن العالم الإسلامي. فإذا كانت دافعية الممارسة العلمية أصلًا ثاوية في القرآن الكريم، كموجهات ودوافع للبحث العلمي نابعة من منظومتنا العقائدية، فليس يتناقض معها مثول الغيب كأفُق شعوري، وليس من الضروري إقصاؤه تمامًا على طريقة العلم الوضعي. لعل الغيب المطلق خاصٌّ بالتجربة الدينية، وقد أشار سيف الدين عبد الفتاح إلى أن ثمة أيضًا الغيب النسبي أو الأصغر الذي يُعدُّ من أهم موجهات ودافعيات المعرفة والعلم والتحصيل، ومن هنا تأتي الآيات: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه: ١١٤)، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: ٨٥)، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (النساء: ١١٣)، للتعبير عن النسق المفتوح من المعرفة والعلم في إطار إدراك القصور واستمرار التحصيل وضرورات الاجتهاد، وإحداث التراكم، وحدوث الحوادث وتجدد الوقائع والأقضية، هذا كلُّه يعني النسق المعرفي المفتوح وعملية إحسان القراءة،٦ أو ما يُسمَّى بالتقدم العلمي المستمر.
وتبقى دائمًا وأبدًا دعوة القرآن إلى إعمال الفكر والحواس والبحث في ظواهر الطبيعة أو آيات الكون، والآيات التي تدعو إلى إعمال العقل، وإلى التفكير العميق المتبصر المسئول في الظواهر والموجودات والأشياء. وقد سبقَت الإشارة إلى فرض أو فريضة «النظر العقلي» التي كانت منطلق العقل الإسلامي، وقد كانت تكليفًا؛ لأن النظر واجب إجماعًا، والتكليف بالنظر تكليف بالعمل، وكمال النظر بتوليد العلم الطبيعي.٧ فضلًا عن هذا يُحمل القرآن حملًا على أسلوب البرهان والحجة والجدال الحسن للوصول إلى النتيجة الصحيحة استنادًا إلى المعطيات الخارجية المتفق عليها والقدرات العقلية أو المنطقية لأطراف الحوار.
في مثل هذا نجد دلائل القرآن الكريم إلى تجذير البُعد الطبيعي العلمي، وتوجيه العقل المسلم نحو الطبيعة لكي يثبتَ دوره في الكون وتحمله لمسئولية الاستخلاف. وبقدر ما يتأسس هذا بقدر ما تتحقق رسالة الوحي الإسلامي كخاتمة الأديان، من حيث هو وحيٌ طبيعيٌّ لا كهنوتي. إنه التوحيد كرؤية موجَّهة للذهن نحو الطبيعة، بتعبير حسن حنفي الأصولي/الفيلسوف الذي يواصل مسار التوحيد ليلفت الأنظار إلى قيمة التوظيف العلمي لمفهوم التنزيه الذي يمكن أن يُصبح أقوى موجهات الوحي للعلوم العقلية الخالصة كالرياضيات والطبيعيات، من حيث يجعل الألوهية مبدأً عقليًّا شاملًا؛ لأن التنزيه يعني أن الله ليس موضوعًا للرؤية أو العلم، إنما العلم موضوعه كلام الله في الكتابَين، أي الوحي كقصد نحو العالم وكنظام له.٨ هكذا يصبح التنزيه مثالًا معرفيًّا هو المثل الأعلى كتعالٍ وتجاوز ومفارقة، التنزيه هو التعالي والتقدم المستمر ورفض الصيغ الجاهزة والقطعية والمذهبية والتوقف،٩ إنه بناء شعوري يدفع إلى البحث المستمر عن الحقيقة القصوى وتقدم العلم يبلور مثلًا معرفية دافعة للبحث العلمي المستقبلي.
النموذجُ الإرشادي العلمي الإسلامي في جوهره نموذجُ ممارسة أو ممارسة نموذج، مفادُه إعادةُ قراءة لمنطلقاتنا العقائدية في ضوءِ وعْيِ العصر والسقف المعرفي له، وإعادة صياغة منظومة القيم والمدركات المعاصرة، متجاوزين مواقع الاستهلاك والاجترار والتقليد والتبعية الفكرية.١٠ وهو ليس دعوةً للانعزال أو الانغلاق المستحيلَين فضلًا عن أن يكونَا مجديَّين، بل هو دعوة لتوطين العلم وللتمكين المنهجي من أجل تجذير لفاعليات البحث العلمي ونمائها في أجواء أليفة غير مغتربة، تؤدي استدامة وتجويد الحصائل المعرفية؛ لنقدم إسهامًا — طال انتظاره — في ملحمة التقدم العلمي العالمي. إنها مسئولية عالمية ملقاة على عاتق الباحث العلمي المسلم في الوضع الثقافي الراهن إبان القرن الحادي والعشرين، الذي أقبل بعقده الأول وما تلاه، محتفلًا بالتعددية الثقافية، فهل نتوانى عن توطين البحث العلمي وإمكانات التقدم العلمي الخاصة بنا في ثقافتنا نحن.
١  محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط٢، ١٩٦٨، ص٢١.
٢  عرضُ هذه المعايير مأخوذٌ من: ديفيد ب. رزنيك، أخلاقيات العلم: مدخل، ترجمة د. عبد النور عبد المنعم، مراجعة وتقديم د. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد ٣١٦، يونيو ٢٠٠٥، ص٨٥–١٠٦.
٣  المرجع السابق، ص٩٤.
٤  المرجع السابق، ص٢٤٩ وما بعدها.
٥  فتحي ملكاوي، منهجية التكامل المعرفي، ص٢٧–٢٨.
٦  د. سيف الدين عبد الفتاح، المنهجية وأدواتها من منظور إسلامي، في: المنهجية الإسلامية، م. س، ص٦٤١.
٧  د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول: المقدمات النظري، ص٢٣٤، ٣٢٢.
٨  د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني: التوحيد، ص٢٩٧.
٩  السابق، ص٢٣٢.
١٠  د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ٢٠٠٥، ص٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤