الفصل الثالث

معالم قصة الرياضيات الإسلامية

أما عن تاريخ الرياضيات الإسلامية أو نشأتها ومسار تطورها، فإنه يعطينا تمثيلًا لتاريخ العلم العربي أو لقصة العلم في الحضارة الإسلامية ككل، صورة مطابقة أو عينة بينة، أو شهادة الجزء على الكل. ذلك أنه لم يكن للعرب قبل الإسلام باعٌ في العلوم الرياضية. الرياضيات ليست كالشعر، بل هي كالفلسفة؛ أي نتيجة لمعلول مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثَها الإسلام ونزول الوحي في المجتمع الجاهلي، ثم تعاظمَت بفعل ما أشرنا إليه من عوامل سوسيولوجية خاصة بالحضارة الإسلامية، وبالمجتمع العربي الذي هو الأرومة والأصل والمنشأ لها.

وقد شَهِدت الرياضيات في الحضارة الإسلامية المرحلتَين التاريخيتَين اللتين مرَّت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية؛ أي مرحلة الترجمة والنقل ومرحلة الإسهام والإبداع.

ولم تكن الترجمة والإبداع مرحلتَين منفصلتَين متعاقبتَين آليًّا، بل بالأحرى قوتَين علميَّتَين متفاعلتَين، فيما أسماه رشدي راشد: جدلية الترجمة والبحث، موضِّحًا كيف مثَّل النموذج الإسلامي درسًا منهجيًّا في التفاعل الخلَّاق المبدع حين نقل المشترك الإنساني العام. إنه الترحيب بالعلم استحسانًا للحق حيثما كان، أو كما يقول الكندي: «من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة.» أما رفض «الآخر» مثل رفض بعض الأصوليين للمنطق واعتبار العلم دخيلًا، فقد أتى في فترات الانهيار تحت وطأة غزو الآخر ومثوله كقوة باغية وسقوط بغداد العام ٦٥٦ﻫ. وفي طلب الحق دأب الإسلاميون على ترجمة النص الواحد الهام مرة واثنتين وثلاثًا: تنقيحًا وتجويدًا وتطويرًا لمفردات اللغة العلمية. المترجمون الأوائل هم الذين قاموا ببناء اللغة العلمية العربية. كانت الترجمة إلى العربية تتقصَّى نقْلَ أكثرِ الأبحاث تقدُّمًا في ذلك العصر، وكما يؤكد رشدي راشد، لم يكن هذا «نقل نسخ وتقليد واستيعاب، لكنه كان نقلَ إصلاح وتجديد، أدَّى إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر»، كانت أُسُسه العقائدية واللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية قد ترسَّخَت. سرعان ما أصبحت الترجمة مهنة علمية ومؤسسة، شهدت المترجم الهاوي والمترجم المحترف والمترجم العالم، ثم العالم المترجم. إنها «جدلية البحث والترجمة»، فكان ثمة ترجمة مرافقة للبحث وفي عين حقله، والترجمة التي لحقت بالبحث مع مثول مسافة زمنية بينهما وتنتهي إلى دمج النص المترجم في تقليد مختلف عن مجاله الأساسي، مثل دمج ترجمة «كتاب المسائل لديوفانطس السكندري» بمصطلحات الخوارزمي الجبرية. بدأ التخصص وزاد عدد المتخصصين، مما أدَّى إلى تكوين مجتمع من العلماء والمثقفين في حاجة إلى معارف جديدة في الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك وعلوم الهندسة والزراعة. ترافَقَ مع هذا توحيدُ وتعريب وأسلمة الإمبراطورية وأجهزتها الإدارية منذ عصر الخليفة الأموي القرشي هشام بن عبد الملك (٧١–١٢٥ﻫ/٦٩١–٧٤٣م) عاشر خلفاء بني أمية. في عهده (١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤٣م) بلغَت الإمبراطورية الإسلامية أقصى اتساعها، وقد أنهى العمل باللغة البيزنطية كلغة دولة وقام بتعريب الديوان، وصكِّ العملة العربية بدلًا من العملة اليونانية. وولَّدت متطلبات إدارة السلطة وظائف الكاتب والمحتسب وغيرهما التي تتطلب ثقافة عامة. تزايد الطلب على علوم الأوائل، تتقدمها الرياضيات، وتزايدت الحاجة إلى الترجمة.١

هكذا دفع الواقع الموار إلى ترجمة النصوص المعرفية النخبوية، وكانت في طليعتها نصوصُ الرياضيات وأصولها النظرية ككتُب الحساب والأعداد الهندية وكتُب الهندسة الإغريقية، وأيضًا إلى ترجمة ما يتصل بالجوانب التطبيقية والتقانية أو فروع الهندسة العملية والتقنيات الزراعية مما يحمل في طيَّاته رياضيات تطبيقية أسماها الإسلاميون: علوم التعاليم العملية.

هكذا نجد الواقع المشرق للترجمة العلمية في الحضارة الإسلامية، الذي شمل العلوم النظرية والعلوم العملية، يتجلَّى أول ما يتجلَّى في ترجمة النصوص الرياضياتية. ويتجلَّى الحضور المبجل للرياضيات في رحاب الحضارة الإسلامية من وضعية السبق الزماني؛ فقد كانت الرياضيات في طليعة ما تُرجم إلى اللغة العربية. وكانت «أصول الهندسة» لإقليدس هي أول ما نقلَته الحضارة الإسلامية من تراث الإغريق إلى العربية. وأيضًا البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة وتفكير الحجة البرهاني، وإلى منهجية الاستدلال الاستنباطي الرياضياتي، وهو مأثرة الإغريق العظمى، والذي صنع نهرًا دافقًا في الحضارة الإسلامية.

•••

على أن قصة الرياضيات العربية قد بدأت تحديدًا حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات»؛ أي «مقالة الأفلاك» التي عرفَها العرب باسم «السندهند»، وهي موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، وتتألف من جزأين، أحدهما عن الأزياج؛ أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول. حملها إلى بغداد عام ١٥٣ﻫ/٧٧٠م العالِم الهندي كنكه، فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت ٧٩٦م) وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت ٧٧٧م). كانت «السدهانات» أو «السندهند» فاتحةَ الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية. تنامَت فيما بعدُ عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصًا على يد اثنين من أكبر الرياضيِّين في الحضارة العربية الإسلامية هما الخوارزمي والبيروني. كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية، وزار الهند.

وهذه البداية التي أتَت من الهند تُبيِّن أن العقل المعرفي العربي والرياضيات الإسلامية لم يكونَا محضَ نتيجة آلية أو محصلة منطقية للتراث الإغريقي أو الهلينستي، بل تضمَّن أيضًا عناصر فرعونية وسوريانية وبابلية وفارسية وسنسكريتية. تبيِّن الرياضيات العربية كيف كان العلم العربي في الحضارة الإسلامية استيعابًا وتمثلًا لروافد العلم القديم الهندية والإغريقية، أو الشرقية والغربية معًا، ثم دفعًا لمسيرة التقدم العلمي، وإلى الدرجة التي تضع الرياضيات العربية على مفترق الطرق كما أشرنا، وتجعلها العطاء الأوفى كما صدَّرنا.

لقد ترامَت الإمبراطورية الإسلامية الناهضة وضمَّت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس وجيرانها الآسيويين. وحتى الصين التي لم يفتحتها العرب ولم يطأها جندي مسلم واحد، تكفَّلَت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب. وكما لاحظ هَل، فإن «العرب في هذا التفتح الواعد لم يرتدُّوا عن إيمانهم بالله، أو تهاونوا في أخذ الدين مأخذَ الجد، بيدَ أن تعصُّبَهم انحسر بينما تنامَى إحساسهم بمغزى التناسب. فشرعوا في تفهُّم واستيعاب فضائل النزعة الإنسانية.»٢ لقد أصبح في متناول أيديهم كل التراث العلمي السابق عليهم تقريبًا، بفرعَيه الماثلَين: في الحضارات الشرقية القديمة وفي التراث الإغريقي والسكندري. تفاعل هذا الرصيد الهائل مع تفتُّحهم الذهني وتسامحهم العقلي، وما رآه هل نزعة إنسانية، ومع عوامل شتى في الحضارة الإسلامية التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملل والأجناس الشتى، فتشكَّلَت أهم مراحل العلم القديم وغايته وقمته بإبداعاتهم الرائعة، مثلما تشكَّلت واحدة من أخطر وأخصب السمات المميزة للعلم بما هو علم، والتي سوف تسوده فيما بعد لتحْملَه إلى الآفاق الإنسانية العليا. إنها عالمية العلم العربي في الحضارة الإسلامية. يقول ج. كراوثر: «وقفَت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة لهم على قدَمِ المساواة، وكانت من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسِّسِين الحقيقيِّين لمفهوم العالمية في المعرفة، أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات البالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث.»٣ والمحصلة أن كان العلم العربي في الحضارة الإسلامية «عالميًّا بمنابعه ومصادره، عالميًّا بتطوراته وامتداداته.»٤

هكذا احتلَّت الرياضيات العربية مكانًا فسيحًا على مسرح العلم في الحضارة الإسلامية حين كان نشطًا فعالًا منتجًا، يعرض لأول مرة في تاريخ البشر مفهوم عالمية العلم؛ فتتشارك في صنعِه الملل والنحل والأجناس والقوميات الشتى، ليأتي حصاد إنتاجهم الرياضياتي والعلمي جميعًا باللغة العربية، وهنا يقدِّم العلم الإسلامي أول لغة علمية عالمية: اللغة العربية، التي أصبحت الآن الإنجليزية.

وفي هذا الإطار قامت الرياضيات الإسلامية بدورها التاريخي في الفرعَين الأساسيَّين: الهندسة والجبر.

١  د. رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب (١٢)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ٢٠١١، ص٦٨–٧٥، ص٩٨ وما بعدها، ومواضع متفرقة.
٢  L. W. Hull, History and Philosophy of Science, Longman, London, 1965. p. 114.
٣  ج. ج. كراوثر، قصة العلم، ترجمة د. يمنى الخولي ود. بدوي عبد الفتاح، ط٢ عن مكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٩، ص٥٧.
٤  رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤