الفصل الخامس

الجبر … على مفترق الطرق

على مفترق الطرق بين الجبر والهندسة صانت الحضارة الإسلامية للبشرية هذا السفر الثمين «القطوع المخروطية» لأبولونيوس. وفي مكتبة آيا صوفيا، إحدى مخطوطات الترجمة العربية لهذا السِّفر، يحمل غلافها صورة جميلة تجمع بين الرياضيات والتجريب من حيث تجمع بين ابن الهيثم حاملًا مخطوطات لبراهين هندسية وجاليليو حاملًا تلسكوبه.

على أن مفترق الطرق الأخطر والأكثر حسمًا، كان بين الحساب والجبر حين تقدَّمت الرياضيات الإسلامية بنشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسًا.

تظل المأثرة الكبرى للرياضيات الإسلامية هي تأسيس علم الجبر في «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة» الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامَي ٨١٣–٨٣٣م؛ أي في عهد الخليفة المأمون. و«لأول مرة في التاريخ صِيغت كلمة «جبر» وظهرت تحت عنوان يُدل به على علم لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خصَّ به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصور لمفردات تقنية جديدة معدَّة للدلالة على الأشياء والعمليات.»١ ويحتفظ علم «الجبر» حتى الآن باسمه العربي في اللغات الشتى، منذ أن ترجم المستعرب الإنجليزي روبرت أوف تشستر Robert of Chester كتاب الخوارزمي في عام ١٢٤٥ ناقلًا المصطلح العربي كما هو إلى اللغة اللاتينية؛ لأنه ليس له مقابل عرفوه من قبل. ويُذكر عن روبرت أوف تشستر أنه ترجم أيضًا أعمالًا لجابر بن حيان، وكان أول مَن حاول ترجمة معاني القرآن إلى اللغة اللاتينية.
بطبيعة الحال تباشير الجبر كائنة منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، وجميعها مجرد إرهاصات، وأهمها كتاب «المسائل العددية» لديوفانطس السكندري، وهو أول رياضياتي يعترف بالكسور كالأعداد، وأول مَن تناول المعادلات البسيطة من الدرجة الأولى ومعادلات الدرجة الثانية ومعادلات من رتبة أعلى، على أن أسلوبه كان غير فعال وطرقه غير دقيقة، فلم يكن إلا مبشرًا.٢ أما «الجبر والمقابلة» فيُلقى أسس العلم بصورة منهجية ناضجة قابلة للنماء، يعرض المنهج المنظم لحل معادلات الدرجة الثانية وسواها. الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات بحيث يستبعد منها العدد السالب، بينما تمثل المقابلة طريقة لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كميات متساوية. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم «الجذر» إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيًا تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسمَ «المال». انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه لا شرقي ولا غربي؛ فقطع شوطًا يفصله كثيرًا عن ديوفانطس، ويحق له القول: إن كل ما يتعلق بالجبر «لا بد أن يُخرجَك إلى أحد الأبواب الستة التي وضعتها في كتابي هذا.»٣
لم يتوانَ المعاصرون للخوارزمي والتالون له عن شرح وتفسير كتابه، خصوصًا أبا كامل شجاع بن أسلم الذي أضاف فصلًا، وثابت بن قرة وأبو نصر منصور بن عراق وأبا الوفا البوزجاني وسنان بن الفتح الصيداني … وسواهم. شهد الجبر قفزة تالية مع عمر الخيام الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة. وتدافعت أفواجُ الرياضيِّين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري. و«راحوا يطبِّقون الجبر على الحساب، والحساب على الجبر، وكليهما على حساب المثلثات. وكذلك طبقوا الجبر على نظرية الأعداد لإقليدس، وعلى الهندسة، كما طبقوا الهندسة على الجبر. وضعت هذه التطبيقات أسس فروع أو على الأقل مباحث جديدة.»٤ لم تَرِد من قبل للإغريق أو لسواهم، تغيَّرت معها الرياضيات في لغتها وتقنياتها ومعاييرها، واتسع أفقها.
لم يكن تأسيسُ علم الجبر مجردَ إضافة علم إلى العلوم، بل تأسيسًا لمنهجية متكاملة ونموذج ثوري بكل معنًى قصدَه توماس كون في فلسفته للثورات العلمية. من حيث تكامل هذا النموذج مع الإطار المعرفي، فيما يَشِي بتوطن المنهجية العلمية وامتداد جذورها، بيَّن رشدي راشد في تحقيقه لكتاب الخوارزمي ما تدين به نشأة هذا العلم الجديد إلى علم اللغة وإلى حساب الفرائض في الفقه الحنفي، بخلاف العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها. ومن حيث تاريخ تطور المنهجية العلمية، حدث ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية، لم تنتقل إلى العلم الحديث فحسب، بل ميَّزته تمييزًا، «تأسَّست في الفترة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر على يد علماء عاشوا في بقاع متباعدة، من إسبانيا المسلمة حتى الصين، وكتبوا جميعًا باللغة العربية.»٥ كان الجبر هو النواة العقلية لتلك الحداثة،٦ أتاح نشأة استراتيجيات ذهنية جديدة أدَّت للعقلانية الجديدة، التي كانت مقدمةً شرطية لما سُميَ بعقلانية العلم الحديث.

وتبقى الإشارة إلى أن هذه الفعالية العقلية المتوهجة قد بلغ بها الأمر أن اقتحمت حدودَ فلسفة الرياضيات.

١  د. رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية: بين الجبر والحساب، ترجمة د. حسين زين الدين، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب (١)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٩، ص٧.
٢  توبياز دانزج، العدد لغة العلم، ترجمة د. أحمد أبو العباس، مكتبة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص٨٢.
٣  نقلًا عن: رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية، ترجمة د. حسين الزين، ص٢٧.
٤  د. رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٥٣.
٥  المرجع السابق، ص٦٤.
٦  السابق، ص٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤