الفصل السابع

ابن الهيثم وترييض الفيزياء

مع أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم (٣٥٤–٤٣٣ﻫ/٩٦٥–١٠٤٢م) نتوقف عند زاوية أخرى وأخيرة لها أهمية خاصة، من حيث إن أخطر أسرار نجاح العلم الحديث إنما تكمن في التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب، وهذه واحدة من تجليات القيمة الإيجابية العظمى للمنهجية الرياضية. وتبدو في تاريخ الرياضيات الإسلامية تجلِّيًا لعبقرية الحسن بن الهيثم الفذة، التي تجعل رفقته مسك ختام، كجزء أخير في طرحنا هذا. وابن الهيثم بجهده في ترييض الفيزياء، فتح طريقها للخروج من النموذج الأرسطي إلى نموذج الفيزياء الحديثة. في النموذج الأرسطي الرياضيات والفيزياء منفصلتان تمامًا، طالما أن الرياضيات هي علم المبرهنات المثبتة، بينما الفيزياء هي علم التغير والحركة. وسوف تنهار هذه القسمة على يدي ابن الهيثم.

إنه العالم الذي أتى في ذروة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، ليكون خيرَ تمثيل لقمة عطائها في العلم الرياضياتي والفيزيائي، وما يُعرف بتاريخ «العلوم الدقيقة exact sciences». ونتفق مع عبد الحميد صبرة على أن كتابه المناظر «أنفس ما أنتج العلماء العرب في مجال الفيزياء».^١

عُرف الحسن بن الهيثم بوصفه البصري/المصري، نسبةً إلى البصرة التي وُلد فيها وشبَّ عن الطَّوق، وتلقَّى العلم ومارس البحث، وذاعَ صيتُه كمهندس ورياضياتي وعالم تجريبي لا يُشقُّ له غبار، وتبوَّأ منصب وزير؛ ثم مصر التي انتقل إليها في عهد الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي وبدعوة منه، على أملِ تشييدِ سدٍّ أعالي النيل في أسوان يحكم فيضانه الجامح. تراجع ابن الهيثم عن تنفيذ هذا الحلم، ولكنه قضى عقودًا من القرن الحادي عشر في القاهرة بجوار الأزهر الشريف، الجامع والجامعة. كان يتكسَّب عيشه من التدريس ومن نسخ الكتب الرياضية والفيزيائية، وألَّف العشرات من رسائله الرياضية والفيزيائية وسواها، وفي المقدمة كتابه الفذ «المناظر»، الذي حقَّقه وترجمَه إلى الإنجليزية عبد الحميد صبرة، كما صدَّرنا. كان قد تُرجم إلى اللاتينية في العام ١٢٧٠، ليكون من أهم النصوص الدافعة للبحث العلمي، وأيضًا الكتاب العربي الأول من حيث عددُ نسخِه التي يتداولها الدارسون في أوروبا آنذاك.^٢ وفي العام ٢٠١٥، الذي جعلَته اليونيسكو العام الدولي لعلوم الضوء وتقنياتها، وفي سياق فعالياته، انتشر في أركان الأرض الاحتفالات بألفية هذا المخطوط الفذ، وبالحسن بن الهيثم كواحد من أهم رواد علوم الضوء والبصريات عبر التاريخ.

مجمل القول: أن ابن الهيثم هو الفيزيائي/الرياضياتي معًا بطريقة جعلَت كثيرين من مؤرِّخي العلم يرونه أول علماء الفيزياء النظرية في التاريخ.^٣ ويأتي مصطفى نظيف (١٨٩٣–١٩٧١)، الرائد في اهتمامنا الأكاديمي بابن الهيثم، وصاحب الكتاب الذي قال عنه عبد الحميد صبرة إنه من أفضل وأشمل ما كُتب عن ابن الهيثم،^٤ يرى نظيف أن ابن الهيثم كعالم فيزيائي هو تطبيقي وتجريبي ونظري معًا، وأنه في طليعة رجالات الفيزياء البحتة؛ ويؤكد علي مصطفى مشرفة «تضلُّعه في الرياضيات البحتة وعلو كعبه فيها»، وأنه عالم رياضيات بحتة من طراز رفيع، على أساس أن الرياضيات البحتة مقصود بها «البحث في العلاقات المكانية والمقادير الكمية من ناحية كونها علاقات أو مقادير، وبغير نظر إلى ما يمكن أن تدل عليه من موجودات.»^٥ قام ابن الهيثم بدور كبير في تطوير مفاهيم العلم الرياضياتي والفيزيائي. وفي بحث مفصل لي أثبت أن ابن الهيثم بهذا التطوير للمفاهيم وللآليات شقَّ الطريق إلى الخروج من النموذج أو البارديم الأرسطي إلى الباراديم النيوتوني، مستشهدةً بتطور مفهوم المكان بالذات على يدَيه بحيث خرجَت أول صياغة ﻟ «المكان» كمفهوم رياضياتي فيزيائي،^٦ أشار مشرفة إلى أنه من مفاهيم الرياضة البحتة، وقد أشار أحمد فؤاد باشا في تحقيقه لرسالة ابن الهيثم «عن المكان»، إلى أنه استبق لمفهوم المكان المطلق عند نيوتن.^٧

هكذا تتلاقى خطوط الرياضيات البحتة والتطبيقية والفيزياء التجريبية، ويكشف ابن الهيثم عن أن أخطر ما في رياضيات الحضارة الإسلامية أنها أبانَت عن ضرورة تأسيس علاقات جديدة بينها وبين الفيزياء، كمكون منهجي من مكونات البرهان، فيما يَشِي بتآزُر قطبَي المنهج العلمي، ويمكن أن نسمِّيَه الإسهام في تقنين منهجية التجريب المتريض أو ترييض الفيزياء.

وهذا ما أثبتَته دراسات لرشدي راشد أهمها «علم المناظر والرياضيات، ١٩٩٢» و«الهندسة وعلم انكسار الضوء في القرن العاشر: ابن سهل، القوهي، ابن الهيثم، ١٩٩٦»، و«بين الرياضيات والمناظر، من علم الانكسار إلى الهندسة: ابن سهل، ابن الهيثم، ديكارت، ٢٠١١». أوضح راشد أن الحسن بن الهيثم أول عالم يرفض اعتبار المفاهيم وحدها كافية لمعرفة الأشياء المادية، ورأى أن إمكانية معرفتها الحقيقية تكمن في رياضياتها، فيتجلَّى دوره الخطير في إعلان الترافق بين الرياضيات والفيزياء. وعلى هذا نستطيع أن نضع ابن الهيثم مع سابقه أرشميدس ولاحقه جاليليو بوصفهم أئمةً عظامًا في ملحمة ترييض الفيزياء، وإعلان التزاوج المثمر الولود بين دقة الرياضيات وصلابة التجريب.

كان التجريب آنذاك لا يزال مفهومًا مبهمًا إلى حدٍّ ما، مثلما كان مع فرنسيس بيكون مثلًا. اتخذ التجريب المسترشد بالرياضيات عند ابن الهيثم فحوًى مختلفًا تمامًا عن مجرد الرصد أو حتى القياسات الفلكية والتكميميات المعتادة. تعددت معاني التجريب ووظائفه عنده بقدر تعدد العلاقات بين الرياضيات والفيزياء. وهو يؤسس لتلك العلاقات بمناهج متباينة، لم يعالجها كموضوع قائم بذاته، إلا أنها منبثة في أعماله، فاستطاع رشدي راشد تقنينها وتحليلها.

المساهمة الأساسية لابن الهيثم في مجال البصريات هي علم المناظر الهندسي. لقد انشغل بإصلاح علم البصريات ومراجعة مجالاته المختلفة: المناظر والظواهر الضوئية وانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها والمرايا المحرقة وعلم البصريات الفيزيائي، ثم الجوانب السيكولوجية والفيزيولوجية للبصريات، مستخدمًا الأساليب الهندسية والتجريب في كل المجالات. أنهى التقليد القديم مع إقليدس وبطليموس، حيث كانت الرؤية هي إضاءة الشيء المرئي، فلا فرق بين شروط الرؤية وشروط انتشار الضوء. أما ابن الهيثم فقد وضع تمييزًا قاطعًا بين فيزياء الضوء وبين فيزيولوجيا وسيكولوجيا الإبصار، الإبصار يخضع لقوانين الضوء وليس العكس. يحمل علم الانكسار أو دراسة الأشعة المنكسرة أمضى تطبيق للرياضيات على الفيزياء، الذي اتخذ عند ابن الهيثم «مناحي مختلفة تتفق ونضوج المفاهيم في كل فرع من فروع العلم التي عالجها في عمله الضخم من جهة، كما يتوقف على إمكانية إخضاع الظاهرة إلى التجربة من جهة أخرى.»^٨ من هذه المناحي ما هو متعلق بتماثل البنيات، كما هو عليه الأمر في المناظر الهندسية بعد إصلاحها من قِبَلِه. وثمة منحًى آخر هو تطبيق الرياضيات بواسطة علم آخر وُضع على شكل رياضي: «استخدام ترسيمة ميكانيكية في دراسة المناظر على سبيل المثال».^٩ وفي علم البصريات الفيزيائي نجد علاقة مع الرياضيات، عن طريق التماثل بين الرسومات الهندسية لحركة جسم ثقيل والرسومات الهندسية للانعكاس والانكسار. وتأدَّت رؤية ابن الهيثم إلى نوع آخر من التجريب المسترشد بالرياضيات مارسَه كمال الدين الفارسي (ت ٧١٠ﻫ) «حيث تنحو العلاقة بين الرياضيات والفيزياء نحو بناء مزدوج، بحيث يُختزل الضوء داخل وسط طبيعي — عن طريق الهندسة — إلى انتشاره داخل أداة مصنوعة؛ مما يعني أننا بصدد تعريف تناظر رياضي تمثيلي بين الطبيعي والأداة المصنوعة. مثال ذلك الكرة المملوءة بالماء لدراسة القوس قزح. ووظيفة التجريب هنا هي التعبير عن الشروط الفيزيائية لظاهرة ليس لدينا طريقة أخرى لدراستها مباشرة.»^١٠ تكمن حداثة مشروع ابن الهيثم في هذه الأشكال من التجريب المتريض، إن جاز التعبير. لقد كانت آليات ضبط ومستويات وجود لمفاهيم وتصورات، هذا فضلًا عن استهدافه الحصول على نتائج كمية، وأنه ابتدع من أجل ذلك أجهزة وتدابير معقَّدة. لقد أرسى ابن الهيثم دعائم اعتبار التجريب جزءًا لا يتجزَّأ من البرهان الرياضي في الفيزياء، «والتسلسل الذي يبدأ بابن الهيثم ليصلَ إلى كبلر وغيره من علماء القرن السابع عشر ثابت؛ لهذا كانت المعرفة بالعلم العربي ضرورية حتى نتفهَّم الحداثة الكلاسيكية.»^١١

•••

هكذا كانت الرياضيات مضمار العطاء الأوفى للحضارة الإسلامية والعلوم الإسلامية. وفاض العطاء الرياضياتي درسًا وتدريسًا وتحليلًا وتمحيصًا وتنقيحًا وإبداعًا وابتكارًا وخلقًا وإضافة، ومن قبل ومن بعد ترجمة إلى العربية في البدايات، ثم ترجمة عن العربية في النهايات المفضية تاريخيًّا وجغرافيًّا ومنطقيًّا إلى ثورة العلم الحديث في القرن السابع عشر.

^١ كتاب المناظر للحسن بن الهيثم، الكويت، ١٩٨٣. من تصدير المحقق عبد الحميد صبرة، ص٨.

^٢ Bradley Steffens, Ibn al-Haytham: First Scientist, Morgan Reynolds Publishing, North Carolina, 2007. p. 99.

^٣ Bradley Steffens, Ibn al-Haytham: First Scientist.
ونلاحظ أن برادلي ستيفن اختار لابن الهيثم لقبَ «العالم الأول»، وجعل هذا عنوان كتابه الذي يستعرض الجهود العلمية لابن الهيثم، تأكيدًا على أنه أول عالم فيزياء بحتة في التاريخ.

^٤ المقصود كتاب مصطفى نظيف، الحسن بن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية (١٩٤٢–١٩٤٣)، تقديم د. رشدي راشد، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب (٨)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ٢٠٠٨. ويبدو لي أن أفضل ما خرج عن رياضيات ابن الهيثم هو بلا مراء كتاب راشد المذكور في الهامش الأخير:
Roshdi Rashed, Ibn al-Haytham and Analytical Mathematics: A History of Arabic Science and Mathematics, Routledge, London, 2013.
وقد وازنت بين معالجتَي راشد وصبرة في: د. يمنى طريف الخولي، الحسن بن الهيثم بين عبد الحميد صبرة ورشدي راشد، المجلة العربية، المملكة العربية السعودية، الرياض، العدد ٤٥٧، ديسمبر ٢٠١٤، ص٤–٨.

^٥ د. علي مصطفى مشرفة، ابن الهيثم كعالم رياضي، في: أعمال الاجتماع التخليدي لذكرى الحسن بن الهيثم الذي عقدَته جامعة فؤاد الأول (= جامعة القاهرة الآن) في ٢١ ديسمبر ١٩٣٩، مطبعة مصر، ١٩٤٠، ص٣٢–٣٥.

^٦ See: Yomna T. Elkholy, Ibn Al-Haytham from the Place to the Space: A Comparative Approach, in: Philosophy East and West, University of Hawaii Press, USA, In Press to be in Volume 69, number I, January 2019.

^٧ قول للحسن بن الحسن بن الهيثم في الضوء، في: رسائل المكان والضوء وأضواء الكواكب، تأليف: أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، تحقيق ودراسة د. أحمد فؤاد باشا، سلسلة تراثنا العلمي: كتب وعروض (٢)، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ٢٠١٤، ص١٢٥–١٤٩.

^٨ د. رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٣٠٦.

^٩ المرجع نفسه والصفحة نفسها.

^١٠ السابق، ص٦٣.

^١١ المرجع نفسه والصفحة نفسها. وهذا التسلسل الذي يبدأ من ابن الهيثم ليصلَ إلى كبلر تحديدًا، عاد رشدي راشد إلى المصادرة عليه وإثباته مجددًا من زاوية أخرى، هي زاوية الرياضيات التحليلية وحسابات اللامتناهي في الصغر. وذلك في كتابه الذي يشمل دراسات مقارنة لرياضيات ابن الهيثم وترجمات لبعض نصوصه الرياضية:
Roshdi Rashed, Ibn al-Haytham and Analytical Mathematics: A History of Arabic Science and Mathematics Vol. 2, trans. by Susan Glynn & Roger Wareham, Routledge, London and New York—Center for Arab Unity Studies, Beirut, 2013.
وقارن: الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس، الجزء الرابع الحسن بن الهيثم: المناهج الهندسية، التحويلات النقطية، فلسفة الرياضيات. حققه وقدم له رشدي راشد، سلسلة نصوص ودراسات من التراث العلمي في الحضارة الإسلامية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ١٤٢٢ﻫ/٢٠٠٢.