الفصل الثاني

علم أصول الفقه كرسالة منهجية

استشراف آفاق تفاعل منهجي١

وفقًا لديباجة هذا الملتقى الموقَّر وقضاياه ومحاوره، نتفق على ضرورة تقنين وتطوير وتفعيل مناهج العلوم الإسلامية لتلبِّيَ متطلبات وتحديات معاصرة، دافعين لقدرتها على التفاعل مع واقع متحول، وهادفين إلى تطوير رؤية علمية موضوعية لواقعنا. وما دام ثمة عناية بتبيان تعاطي العلوم الإسلامية للواقع، وكيفية استمرار مناهج العلوم الإسلامية في عملية التأصيل لقضايا الواقع وظواهره، فقد طُرح السؤال: ما هي المشاريع الفكرية والعلمية التي عُنيت بدراسة العلاقة بين العلوم الإسلامية والواقع؟ وكيف يمكن الاستفادة من تقويم هذه الجهود لاستشراف أفق جديد للعلوم الإسلامية في السياق المعاصر؟

وبناء على هذه الأطر والمحددات من ناحية، ومن الناحية الأخرى أن الفلسفة نظرة شمولية تحاول الوقوف على الأصول الأولى وفي الآن نفسه استشراف الآفاق الممتدة، تنطلق ورقتنا من الوقوف بإزاء علم أصول الفقه بوصفه رسالة منهجية. وسوف يُتيح هذا المنظور المنهجي للأصول استشراف آفاق مشاريع فكرية وعلمية راهنة عُنيت بالمنهجية وبالأصولية، لتمثِّل تفاعلًا بين العلوم الإسلامية وبين الدراسات الإنسانية على اتساع مداها فيما يتعلق بمقاربة الواقع المعاصر ومتطلباته والحضارية.

وفي هذا الإطار تتأتى معالجة فلسفية لمتسلسلة القضايا الآتية:
  • (١)

    المنهج كمفهوم وكمصطلح شديد المثول في العلوم الإسلامية وفي التراث الإسلامي قولًا وفعلًا، حتى يمكن إرجاع الدور الكبير الذي لعبته الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي إلى متانة وثراء عطائها المنهجي. وتتعدد توجهات وأشكال المناهج في تراث الحضارة الإسلامية. على أن علم أصول الفقه تحديدًا يتصدر الساحة باقتدار وامتياز، إنه العلم المنهجي على الأصالة الذي ينبغي أن يُخاطب ويُرتجى حين طرح سؤال المنهج والمنهجية في التراث الإسلامي.

  • (٢)

    أصول الفقه ينطلق من المرتكز الإسلامي الأكبر ومناط العلوم الإسلامية: النص القرآني، بمعية معاملات أخرى تمثِّل مصادر الفقه (السنة والإجماع والاجتهاد …) وذلك من أجل استنباط ما يطابق أحداث ومستجدات الواقع. وفي هذا تشكَّلت أصول الفقه كعلم منهجي مهيب، وتخلَّقت أجهزة منهجية مكينة تتعامل مع الطرفَين: الركائز الإسلامية والواقع. بعبارة أخرى موجزة: يعطينا علم أصول الفقه أنموذجًا مثاليًّا للعلم المنهجي ولمناهج البحث التي تبزُّ في تأكيد الهوية الإسلامية، وفي الآن نفسه يعطينا نموذجًا مثاليًّا لتعاطي مناهج العلوم الإسلامية مع الواقع.

  • (٣)

    الاشتباك مع الواقع هَمٌّ واحد من أهم وجوهه اشتباك بقضية العلوم الإنسانية وإشكالية مناهجها. وهنا يجمل بنا أن ننتقل في أصول الفقه من المصادر الكبرى إلى مصادر الاجتهاد الفرعي، حيث المصلحة والمناسبة وفقًا للتفسير المقاصدي للشريعة مقولات تفرض ذاتها وتستدعي التوقف بإزائها. ونجد في هذا ساحة أصولية منهجية شديدة الالتحام بالواقع وبمرامي العلوم الإنسانية.

  • (٤)

    وما دام علم أصول الفقه قد امتلك ذلك الرصيد المنهجي الهائل، فلا غرو أن كان محطَّ انتباه وعناية كوكبة من الإصلاحيِّين والمفكِّرين والباحثين، فاحتلَّ موقعًا في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر المهموم بتنهيض الواقع. وتمثَّل هذا في مشاريع ومحاولات عديدة، تُومئ بآفاق مستجدة للعلوم الإسلامية في السياق المعاصر، مثلما تكشف عن آفاق للتفاعل المنهجي بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية على اتساع مداها. ويمكن أن نُشيرَ إلى أمثلة ثلاثة كاشفة من هذه المشاريع، وهي: «المنهجية العلمية الإسلامية» و«التراث والتجديد» و«المنظور الحضاري البديل» للعلوم الاجتماعية السياسية.

  • (٥)

    وكاتبة هذه السطور متخصصة في مناهج البحث العلمي (الميثودولوجيا) من ناحية، ومهمومة بواقع الحضارة العربية الإسلامية من ناحية أخرى. وقد أسفر التلاقح بين هاتين الناحيتَين عن اهتمام على مدار سنوات ماضية بقضية المنهجية العلمية الإسلامية. مبدئيًّا، وقبل كل شيء، ثمة قضية منهجية تفرض نفسها، مفادها: أن المنهج العلمي أنجع السبل في الإحاطة بالواقع والوقائع، وقد بلغ أَوجَهُ في عملاق العصر الحديث: العلم الحديث، الطبيعي والإنساني معًا. وقضيتنا أن العلم ليس قصة غربية خالصة، بل حصيلة عصور متتالية وحضارات شتى. وقد كان العلم في الحضارة الإسلامية إبان مرحلتها التاريخية المتألقة بمثابة المقدمة المفضية منطقيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا. قامت الحضارة الإسلامية بدورها في تطور العلم، وتنضيد ممارسات المنهج العلمي؛ على أنه من الضروري تجاوز سرد ماضي المناهج العلمية والإجراءات والآليات. لا بد من البحث عما هو أعمق من هذا، إنه البحث عن جذر للعقلية المنهجية ذاتها وأصول روحها المنبعثة في أعطاف حضارة أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها. وفي هذا تقدَّم علم أصول الفقه كعلم منهجي بامتياز. وكانت محاولتنا للإسهام في تنضيد منهجية علمية إسلامية بدورها كاشفة عما يحويه أصول الفقه من منهجيات مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطُّن روح المنهجية العلمية في ثقافتنا. إذن المنهجية العلمية ليست سلعةً مستوردة من الغرب، بل تطويرٌ لفعاليات ماثلة. والعلم ليس غربيًّا وغريبًا ومغتربًا عن الحضارة الإسلامية وعلومها ومناهجها. وهذه مقدمة ضرورية كي نخلص منها إلى توطين المنهجية العلمية والبحث العلمي في الطبيعيات والإنسانيات على السواء في الثقافة الإسلامية.

  • (٦)

    يتآزر مع هذا أن تطورات فلسفة العلم ونظريته المنهجية الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية ونقض المركزية الغربية والترحيب بالتعددية الثقافية، باتَت ترى العلم لا ينفصل عن إطاره الثقافي والحضاري، ومن الضروري العناية بتوطين العلم والمنهجية العلمية في الإطار الثقافي الإسلامي. وعن طريق بحث واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسَّس لها علم أصول الفقه، يبدو أن الأصوليين في الثقافة الإسلامية يقومون بدور توطيني وتأصيلي لمنهجية حضارة، مشابه لدور فلاسفة المنهج في الحضارة الغربية إبان القرن السابع عشر، خصوصًا بيكون وديكارت، ودورهم في التوطين لمنهجية العلم التجريبي بوصفها منهجية حضارة وتأصيلًا لروح المنهجية العلمية في قصة الحداثة الغربية. هكذا في تلمسنا لمعالم منهجية إسلامية تبدو منهجية علم أصول الفقه قادرة على إثبات أن المنهجية العلمية الفعالة ليست غريبة عنَّا، أو منقولة عن الآخرين، وإبطال الزعم بغربة العلم وبغياب روح المنهجية العلمية عن تراثنا وعن ثوابت الثقافة الإسلامية. إنها محاولة لتنضيد جذر عميق أو أساس عريض هو المنهجية العلمية الإسلامية، أو توطين المنهجية العلمية في الواقع الإسلامي، عن طريق الاستعانة بالدور المنهجي العظيم الذي لعبه علم أصول الفقه.

  • (٧)

    من هذا ننتقل إلى مشروعَين متميزَين يمكن أن يمثِّلَا قوسَين للمشاريع الفكرية والعلمية التي عُنيت بدراسة العلاقة بين العلوم الإسلامية والواقع وتفاعَل فيها هذا مع مناهج الإنسانيات. كلاهما تجاوز مرحلة التجديد أو تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة، إلى مرحلة إعادة بناء العلوم، التي تمثِّل خطوة أبعد. إنهما مشروع «التراث والتجديد» ومشروع «المنظور الحضاري البديل».

  • (٨)

    المشروع الأول شاملٌ يضمُّ أفقَ الإنسانيات جميعها من حيث هو مشروع فلسفي يضطلع بالتنظير للمرحلة التاريخية والحضارية الراهنة للعالم الإسلامي وعلومه ومناهجه وواقعه وتحدياته. إنه مشروع «التراث والتجديد» للفيلسوف الأصولي حسن حنفي. وهو مشروع ضخم ثلاثي الجبهات، يعني في جبهته الأولى بإعادة بناء علوم تراثنا جميعها، بهدف تحويلها إلى علوم إنسانية بدايتُها الوحي وغايتها الأيديولوجيا. والأيديولوجيا عند حنفي مسألة نظرية وعملية معًا. والوحي علمُ المبادئ العامة التي يمكنها تأسيسَ العلم ذاته، وهو منطق الوجود المميز لحضارتنا. ومهمتنا تحويله إلى علم شامل/أيديولوجيا شاملة، فيتحول إلى حضارة لها بناؤها الإنساني المطابق لحاجات العصر. وفي هذا السياق تتأتَّى محاولة حنفي لإعادة بناء علم أصول الفقه، وتجديد مصطلحاته ومنهجه ومادته، رابطًا مقاصد الشريعة بمصالح الأمة، فيصبح أصول الفقه علمًا إنسانيًّا عاملًا في مسارات التحديث والتنمية. لقد هدف حسن حنفي إلى تحويل علم أصول الفقه إلى علم فلسفي إنساني عام، من خلال إعادة بناء العلم فينومينولوجيًّا؛ أي باعتباره تجربة حية في الوعي. وذلك في بنية ثلاثية تجمع الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي. الوعيُ التاريخي وعيٌ بالمصادر الأربعة لعلم الأصول (القرآن والسنة والإجماع ثم الاجتهاد والقياس) والوعي النظري بالمباحث والمناهج والوعي العملي وعيٌ بالمقاصد والأحكام، جاعلًا القرآن هو التجربة العامة، والحديث الشريف هو التجربة النموذجية، والإجماع هو التجربة المشتركة للجماعة وتأمن الانفراد بالرأي، والاجتهاد هو التجربة الفردية، على أن تكون الأولوية في المصادر الفقهية للواقع، وهكذا تكون الأنسنة والتنهيض والتحديث.

  • (٩)

    وفي مقابل هذا المشروع العمومي الشامل لمجال الإنسانيات ثمة مشروعٌ متعين منصبٌّ على علم السياسة، تتجسد فيها تقنية مناهج العلوم الإنسانية حين تتفاعل تفاعلًا عميقًا مع العلوم الإسلامية ومنطلقاتها ومناهجها. إنه محاولة الدكتورة منى أبو الفضل، التي جاهدَت في تقديم «منظور حضاري إسلامي» للعلوم السياسية، بديل للمنظور الغربي، كيما يكون أكفأ في الإحاطة العلمية بالواقع السياسي في العالم الإسلامي، ويَعِد بتقدم مأمول في مسيرة العلوم الإنسانية.

  • (١٠)

    المنهجية العلمية الإسلامية أساسٌ عريض. ويمثِّل مشروعُ «التراث والتجديد» لحسن حنفي عمقًا فلسفيًّا واقتدارًا نظريًّا وشمولية حضارية ومعرفية. إنه مشروع لتجديد التراث على العموم، وتجديد علم أصول الفقه بدوره، ويُبرز مدى قدرة العلوم الإسلامية على التفاعل مع واقع متحول. بينما يمثِّل مشروع «المنظور الحضاري البديل» للعلوم الاجتماعية مهنية علمية وحِرَفية منهجية عالية الدقة والإنجاز، ويُبرز قيمة العلوم الإسلامية وفعاليتها في مناهج البحث. كلاهما بمعية البحث عن «منهجية علمية إسلامية» أمثلة لمحاولات تطوير رؤية موضوعية لواقع الحضارة الإسلامية وأيضًا لميراثها المعرفي وفعالية مناهجه … يُومئ هذا جميعه إلى أُفُق جديد للعلوم الإسلامية ومناهجها في سياق الواقع المعاصر.

١  ملخص بحث أُلقيَ في: الندوة الدولية: مناهج البحث في العلوم الإسلامية والواقع المعاصر، عقدَتها مؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا، الرباط، المملكة المغربية، ٢–٤ أبريل ٢٠١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤