الفصل الثالث

أصول الميثودولوجيا الإسلامية في العلوم الإنسانية١

١

الميثودولوجيا أو منهجية العلم أساس فلسفة العلوم وعمادها وعمودها الفقري. وفلسفة العلوم بدورها هي أبرز فروع الفلسفة الراهنة المعبِّرة عن روح العصر وطبيعة مدِّه العقلي، من حيث إن العلم ذاته بات أقوى العوامل المشكِّلة للفكر وللواقع.

إذا أخذنا في الاعتبار أن الاستنباط الرياضي أوثقُ اتصالًا بالمنطق، وجدنا صلب الميثودولوجيا — كمبحث تطبيقي — إنما يتمثل في إشكالية المنهج التجريبي.

تتنوع ظواهر العلوم التجريبية ما بين فيزيوكيماوية وحيوية وإنسانية، فتتعدد أساليبها الإجرائية تبعًا لطبيعة موضوع البحث ولدرجة التقدم المحرزة فيه. ولكن من خلف هذا التنوع تقف الميثودولوجيا كمبحث فلسفي، على صلب آليات المنهج التجريبي كمفرد علم، تمثيلًا لقواعد وطبائع أيِّ بحث علمي من حيث هو علمي. ولئن كانت منجزات العلم جواهر تُرصِّع صدرَ العصر الراهن، فإن الميثودولوجيا بمثابة تخطيط للمنجم الذي نستخرج منه الجواهر تلوَ الجواهر.

وقد قُدِّر للحضارة الغربية أن تكون ساحة التقدم العلمي والتحقيق الأمثل للميثودولوجيا العلمية في العصر الحديث، مثلما كان وضع الحضارة الإسلامية خلال مرحلة ما يُسمَّى بالعصور الوسطى التي كانت مظلمة في الغرب ومشرقة في الشرق. وفي أضواء ذلك الإشراق والضياء حملَت الحضارة العربية الإسلامية أعلى مدٍّ وصلَت إليه الميثودولوجيا العلمية آنذاك.

في تلك الحقبة التاريخية مثَّلَت الحضارة الإسلامية وحدة ثقافية متكاملة، لها رؤية للعالم ونسَق قيمي والتزام أخلاقي ورسالة تقدمية. وللأسف المر، أعقب هذا التوهجَ حقبةُ التراجع والانزواء وليل التخلف الطويل، ولا زالت بعض ظلماته تُنازع واقعَنا العربي وتنتزعه من حركية تنموية وتقدمية راهنة، تشهد الآن تنافُسَ أمم شتى وأنماطًا عدة من النجاحات في عصر استبدل بالمركزية الغربية تعدديةً ثقافية خلَّاقة.

والمأمول أن تساهم الميثودولوجيا العلمية الإسلامية في أن تعاود الأمة العربية والإسلامية احتلال مكان ملائم لها تحت الشمس، كأمة وسط وأمة قطب، بعد أن بات العلم فارس الحلبة، والشرط الضروري للتقدم، بل وحتى للبقاء. وهكذا تبدو الميثودولوجيا العلمية الإسلامية طوقَ نجاة لحضارتنا العربية الإسلامية من التخلف العلمي والانسحاق الحضاري والتراجع النهضوي والتنموي.

٢

بشكل عام تنطوي الميثودولوجيا العلمية على الآليات والطبائع المنهجية والقواعد المنطقية التي هي مشترك إنساني عام، جوهري، ولكن لم تَعُد تقتصر عليه النظرة الراهنة التي ترى العلم بسائر فروعه ظاهرة متدفقة في سياق حضاري، فيشتبك العلم مع بقية مكونات الحضارة من قِيَم ومفاهيم وكيانات ثقافية تتداخل جميعها في تشكيل الواقع الإنساني.

والميثودولوجيا الإسلامية بدورها تحتوي ذلك المشترك الإنساني من مناهج البحث العلمي وموازين الاستدلال والأدوات المنطقية ومهارات التفكير التحليلي الناقد والإبداع … ولكن في إطار يشكل القيم والخصوصية الحضارية، فتؤكد مأسسة وتوطين الظاهرة العلمية في البيئة الإسلامية، وتحمل القيم الموجهة للبحث العلمي في حضارتنا، والمساهِمة في تحديد أخلاقياته وغاياته.

تنطلق الميثودولوجيا الإسلامية من الجمع بين قراءة الكتاب المنزل وقراءة كتاب الطبيعة والكون والإنسان، كليهما، ومرتكزها عقيدة التوحيد: وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة المعرفة. التوحيد مبدأ قِيَمي يُضفي على الكون نظاميته وعلى البحث العلمي أخلاقياته، ويُضفي على كلِّ شيءٍ في الحياة معنًى وهدفًا. يستتبع التوحيد موجهات الميثودولوجيا الإسلامية، وفي مقدمتها التزكية والعمران والاستخلاف، تتكاتف جميعها في ترشيد وإعمال فاعلية العقل المنتج كوسيلة ناجعة للباحثين في سائر مجالات البحث العلمي.

وفي إطار هذه المنطلقات التي تُشكِّل الخصوصية الحضارية تحتوي الميثودولوجيا الإسلامية على المشترك الإنساني المشار إليه من مناهج البحث الإجرائية وأدوات الاستدلال المنطقية والذي يعني توطينه وتشغيله توطينًا وتفعيلًا للظاهرة العلمية، هو عين المبتغى والمنشود.

ولأنها منطلقات يشتجر حولها واقعُنا الاجتماعي، نجدها بالنسبة للعلوم الإنسانية بالذات وسيلة وغاية، نحو فهمٍ أكمل لواقعنا ولأبنيتنا السوسيوسيكلوجية.

٣

في مضمار العلوم الإنسانية تحديدًا، يمكن أن نذهب إلى أوج العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية؛ أي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، أو من القرن العاشر الميلادي، حيث عمالقة الشخوص العلمية للحضارة العربية الإسلامية، أمثال: ابن الهيثم وابن سينا. وفي زمرتهم أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي (٣٦٢–٤٤٠ﻫ/٩٧٣–١٠٤٨م)، لنتوقف عنده الآن. وقد لقَّب مؤرخ العلم جورج سارتون القرن العاشر/الحادي عشر باسم عصر البيروني. وفي العام ١٨٨٧ قال عنه المستشرق الألماني إدوارد ساخاو، بعد أن حقق بعض كتبه: إنه أعظم عقلية عرفَها التاريخ آنذاك.

في مضمار علوم إنسانية، كالتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن، يعطينا البيروني معالجة منهجية وتكاملية؛ أي تتمثل فيها معالم المنهج العلمي، وفي إطار رؤية شاملة وموسوعية تستحضرها طبيعة العقلية العلمية في ذلك العصر؛ فقد كان البيروني أولًا رياضياتيًّا ضليعًا ومن علماء الفلك، أو كما أسماه الإسلاميون علم الهيئة، وعدُّوه من فروع الرياضيات. وعلى أية حال تندرج الرياضيات والفلك معًا في قديم العلم وحديثه فيما يُسمَّى «العلوم الدقيقة المنضبطة». ولعل هذا من العوامل التي أكسبَت عقليةَ البيروني منهجيةً مقننة، وتكرُّسًا للمباحث العقلية.

ينعته البيهقي والشهرزوري بأنه من أجلَّاء المهندسين، مما يعني أنه من أصحاب الرياضيات النظرية والعملية، أو بمصطلحات عصرنا البحتة والتطبيقية. هذا فضلًا عما يستتبع تقاطعهما من مباحث تجريبية أنجز فيها البيروني، وهي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن، وأيضًا الطب والصيدلة. هكذا كان البيروني موسوعيًّا بمعنى الكلمة.

في إطار هذه الرؤية الموسوعية، احتلَّت علوم إنسانية موقعًا راسخًا، وتحديدًا علوم الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية المقارنة. ونذكر في هذا الصدد كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، الذي يجعله مؤسس علم الأديان المقارن. شمل بالدراسة عاداتِ الهنود وأديانهم، خصوصًا عقيدةَ التناسخ وشرائعهم وأساطيرهم، ونظام الطبقات الاجتماعية وأزياءَهم وأخلاقَهم وأنشطتهم الاقتصادية، أنواع الخط وطرق الكتابة والنحو والشعر، الأدب والفنون والحساب والعلوم، ثم علم الفلك عند الهنود والزيج والتقاويم والتنجيم … فيُشبِّه أحمد أمين هذا بجهود جمعية العلماء الفرنسيِّين الذين صاحبوا حملة نابليون وأخرجوا موسوعة وصف مصر، على أن البيروني — بتعبير أحمد أمين — كان بمفرده جمعية. أما مؤرخ العلم ج. برنال، فيُشير إلى أن منهج البيروني الاستقصائي في هذه الدراسة لم يُبارَ إلا في القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة إلى أن البيروني ترجم عن السنسكريتية نصًّا باسم «باتانجل» — حققه المستشرق ريتر — يحمل خلاصة مذهب اليوجا وفلسفة الهند الصوفية. ومن قبل كان البيروني قد وضع كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية» في عام ٣٩٠–٣٩١ﻫ، وهو في السابعة والعشرين من عمره، ليحمل حماسة الشباب ورصانة العقلية المنهجية في آنٍ واحد. وانصبَّ موضوعُه على دراسة التقاويم عند الأمم القديمة، ولكنه تطرَّق إلى الأعياد الدينية والأيام المشهورة، مما جعل الكتاب يحمل بخلاف مضمونه الفلكي الهندسي كنزًا مذخورًا في الإنسانيات: تاريخ وحضارات الشعوب الشرقية وأديانها ومأثوراتها.

لقد عالج البيروني مباحث إنسانية معالجةً علمية بالمفهوم الحديث لمصطلح العلم الذي يُفيد علومًا إخبارية وصفية وتفسيرية منصبَّة على ما هو كائن وعلى الوجود الواقعي المتعين، وليس على ما ينبغي أن يكون أو على مستويات أخرى من الوجود. إنه مثول علوم إنسانية في الحضارة العربية الإسلامية.

كان البيروني يكتب للصفوة ويبتعد عن الأمثلة التي توضح بقدر ما تبسط وتسطح؛ فلم تكن كتاباته سهلة يسيرة المنال. تُخوِّف مترجمي العصور الوسطى من صعوبتها، فلم يعرفه العالم الغربي في أوروبا إبان عصر انتقال العلم العربي إليها فيما قبل عصر النهضة. عرفَه الأوروبيون فقط مع نمو حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، واهتموا به مع تنامي الاهتمام بتاريخ العلوم في القرن العشرين، ولكن لعل ميراثه وصل إلى النهضة الأوروبية من خلال التلاميذ.

وتبقى الإشارة الهامة إلى أن البيروني قد آمن بعلمية التاريخ أبي العلوم الإنسانية جميعًا، وانشغل بمنهجيته العلمية، من جانبَين أحدهما سلبي يسعى إلى تطهير الروايات التاريخية من الأساطير والخرافات التي تلحق بها، رافضًا على خلاف جمهرة مؤرِّخي الإسلام أي حديث عن بَدْء الخلق والقرون المبكرة، لاختلاط هذه الأحاديث بالخزعبلات. والجانب المنهجي الثاني إيجابي، يضع أسُسَ البحث التاريخي، من حيث تحديد المواصفات التي يجب أن تتوافر في المؤرخ، من قبيل الأمانة والنزاهة وعدم التحيز والصبر والجَلَد والشجاعة، فلا يخاف في قوله الحق لومة لائم، فضلًا عن استيفائه الحاسة النقدية. وكان البيروني رائعًا في تحذيره البات من العصبية التي هي نقيضة الموضوعية، قائلًا في «الآثار الباقية عن القرون الخالية»: «إن العصبية تُعمي الأعين البواصر، وتصمُّ الآذان السوامع، وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسامُح باعتقاده العقول.» وبغية التسلح بالمعرفة، يهيب بالمؤرخين أن يُتقنوا العلوم المساعدة للبحث التاريخي؛ كاللغة والأدب ثم حساب التقاويم الذي برع فيه البيروني والجغرافيا والجيولوجيا، مع الإلمام بالمنطق والفلسفة والقانون أو الشريعة. ويبدو البيروني في دعواه هذه متأثرًا بموسوعية عصره، كما اهتم ببعض مشاكل البحث التاريخي من قبيل جمع المادة التاريخية والتثبُّت منها. بهذه الأسس المنهجية تمَّت علمنة التاريخ، وتأكَّدَت في مقدمة ابن خلدون بعد هذا بثلاثة قرون.

إنه الرائد الأبرز والأكبر عبد الرحمن بن خلدون (٧٢٢–٨٠٨ﻫ/١٣٣٢–١٤٠٦م)، واضع «المقدمة» الشهيرة الفذة لعمله الضخم «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». لقد آمن ابن خلدون إيمانًا طاغيًا بعلمية التاريخ تحديدًا؛ فانطلق محذِّرًا المؤرخين من الجهل بطبائع «العمران»، التي هي قوانين حتمية تحكم ظواهر الاجتماع الإنساني، وتُساهم في ترسيم حركية التاريخ. والإنسان في الرؤية الخلدونية مدنيٌّ بالطبع: المجتمع أو الاجتماع، أو بمصطلحاته العمران، ضرورة على أساسٍ من مقولتَي العمل والحاجة الإنسانيَّين. ويؤكد ابن خلدون تغيُّرَ أحوال وعوائد العمران؛ أي أن المجتمع دينامي متغير ووظيفة «علم العمران» الذي أسَّسه الكشف عن قوانين هذا التغير، التي لا تمكن من سبر الماضي فحسب، بل أيضًا من التنبؤ بالمستقبل. ووضع ابن خلدون قانون الأطوار الثلاثة لهذه الصيرورة التاريخية الاجتماعية السياسية: طور النشأة حين البداوة، وطور النمو حين تأسيس الدولة بالفتوحات العسكرية وسن القوانين والنظم، وأخيرًا طور الزوال الذي يحمل بدوره أطوار الفراغ والدعة، ثم القنوع ومسالمة الأعداء، ثم الإسراف والتبذير.

لقد تمثَّلت مع ابن خلدون منهجية علمية للإنسانيات والتنظير العلمي العقلاني لمشاكل المجتمع وطبيعة الحضارة وحركة التاريخ. أتى ابن خلدون في خواتيم تألق الحضارة العربية الإسلامية، والهزيع الأول من ليلها الطويل، فلم يلقَ خلفًا صالحًا يواصل مسيرته العلمية الإنسانية، ولكنه قام بالدور المنشود ها هنا، وهو تمثيلُ ومثول المنهجيةِ العلمية الإنسانية في حضارتنا وفي تراثنا الذي هو رصيدٌ تاريخي يصنع شخصية اعتبارية، ويفتح لنا حسابًا في بنك الثقافة وملحمة التقدم العقلي والعلمي التي تمتد بطول الحضارة الإنسانية، وفي تلك المرحلة المنقضية كان لنا بلا شك حسابٌ لعميل ذي امتياز.

٤

ولكن مع تسليمنا بهذا، وبما حمله من دور المناهج العلمية السباقة في عصرها لأمثال البيروني وابن خلدون، وسواهما في الإنسانيات وقبلًا في المجالات العلمية الأخرى، فإننا نبحث عما هو أعمق من سرد مناهج إجرائية، نبحث عن المنهجية ذاتها، عن الأصول الميثودولوجية، عن منشأ روح المنهجية العلمية. وفي هذا كان علم أصول الفقه في ظاهره فلسفة للقانون ولتحديد سبل استخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها، لكنه في جوهره منهجٌ للبحث والاستدلال، قادرٌ حقًّا على تأصيل الروح المنهجية في الثقافة الإسلامية.

مصادر المنهجية الأصولية الكبرى أربعة: القرآن والسنة والإجماع، ثم الاجتهاد والقياس. تعلَّمنا أصول الفقه أنه من باب الاعتبار الحقيقي للمصادر المقدسة علينا تفعيل خطوط المنهج العلمي في استقبالها، والإجماع هو الاتفاق الذي يَسِم المجتمع العلمي عادة.

وفي المصدر الرابع: الاجتهاد والقياس صلب الآلية المنهجية والفعالية المستدامة، في مواجهة مستجدات الواقع الإنساني المستمرة دومًا. القياس الأصولي هو ردُّ فرع (= واقعة مستجدة) إلى أصل (= حكم سابق) لعلةٍ تجمعهما. وها هنا عرَف المنطق الأصولي كيف يستفيد من المنطق الصوري والقياس المنطقي، ويوظفهما ليتخذ علم أصول الفقه شكلًا ميثودولوجيًّا مهيبًا، تجسد في بحوث العلة.

ذلك أن أركان القياس الأصولي أربعة، هي: الأصل والفرع والعلة وحكم الأصل. العلة هي الجامعة بين الأصل المقيس عليه والفرع، وعُدَّت أهم أركان القياس، ولا يصح بدونها. ولئن كانت العلية عنوانَ الميثودولوجيا العلمية والتفكير العقلاني إجمالًا، فقد أتَت جهود الأصوليين لتقنين مسالك العلية؛ أي طرق الاستدلال عليها لتُمثِّل حصادًا منهجيًّا مهيبًا، هو جسر يُتيح انطلاق علم أصول الفقه من الماضي إلى المستقبل.

إن العلة هي مناط الحكم الأصولي، وكان تحديدها عبر تكامل ثلاثة مسالك: التحقيق والتخريج والتنقيح. ومسالك العلة بشكل عام، التي يتبدَّى معها الاستدلال الأصولي كفعل منهجي متكامل، هي مناهج الاستدلال على العلة من قبيل الطرد والانعكاس، مع السبر والتقسيم، ثم مسلك المناسبة الذي ينبغي أن تتوقف عنده الرؤية الباحثة عن منهجية العلوم الإنسانية.

ذلك أن العلوم الإنسانية بشكل خاص، تتكامل أصولها الميثودولوجية بما أسماه الأصوليون مسلك المناسبة المذكور. إنه يمثِّل الحجة العقلية، وقد تكاملَت في علم أصول الفقه مع الحجة النقلية، من حيث إن هذا العلم عقلي/نقلي. المناسبة تعني قبول العقل للعلة؛ لأنها مناسبة لتحقيق الصالح العام، وعطفًا عليها وضع الأصوليون القواعد الفقهية لترشيد الاجتهاد المرسل من قبيل: لا ضرر ولا ضرار، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، عدم جواز تكليف ما لا يُطاق، الضرورات تبيح المحظورات … وقد تنامَت مع التفسير المقاصدي للشريعة الذي سنعود إليه لاحقًا، على أن نلاحظ الآن كيف أن مثل هذا المسلك وقواعده الفقهية إنما تتواءم تواؤمًا خاصًّا مع الواقع الإنساني ومجال العلوم الإنسانية.

٥

ولنَعُد الآن إلى مصادر علم أصول الفقه. المصادر الأربعة الكبرى تعني التأصيل للمنهجية العلمية بشكل عام، وفيما يتعلق بمنهجيات مقاربة الواقع الإنساني بشكل خاص، يجمل بنا الانتقال إلى المصادر الفرعية لعلم أصول الفقه، وهي مصادر الاجتهاد المرسل (المرسل هو الذي يفتقر إلى دليل قاطع دامغ)، تتفرع عن مقاصد الشارع، ويحددها مقصد أو مصالح المُكَلَّف؛ أي الإنسان، وفقًا لمقتضياتِ واقعِه الإنساني العيني. إنها مصادر من قبيل الاستحسان والاستصلاح والمصالح المرسلة وسد الذرائع وتحقيق المقاصد … وهذه أيضًا دلائل للفقه تصدر على أساسها أحكامٌ شرعية، يتجلَّى فيها الأنسنة ومقتضيات واقع الإنسان.

الاستحسان والاستصلاح يعني الأخذَ بالأحسن والأصلح لتحقيق المنافع. والمصالح المرسلة هي المصلحة التي لم ينصَّ عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، يُضرَب المثل على هذا بالفتوى بضرورة جمْع القرآن وتدوينه. أما الذريعة فهي كلُّ ما كان طريقًا أو موصِّلًا إلى شيء، وسد الذرائع يعني منعَ وسائل وطرق الفساد. والبادي لنا أن هذه المصادر الفرعية جميعها يمكن أن تدخل تحت أصل الاجتهاد الذي يقضي بتكامل الحجة النقلية والحجة العقلية، ومن ناحية أخرى يمكنها أن تتكامل مع بعضها ومع المصادر الأربعة الكبرى، وفي النهاية تنصبُّ انصبابًا في متغيرات وشروط الواقع الإنساني.

تحدَّث الأصوليون عن العلة النقلية والعلة العقلية، حتى تمثَّلَا في بعض الأحايين وكأنهما وجهان لعملة واحدة، أو على الأقل متكاملان. وفي سياق المصادر الفرعية لأصول الفقه، كانت المناسبة والمصلحة — حيث يتجلَّى حضور الإنسان وواقع الإنسان — على عقلية وواحدة من أهم مسالك العلة. وكما أن القياس الأصولي ليس مجردَ قياسٍ صوري، بل أيضًا إنسانيٌّ حيٌّ معاش، فكذلك العلية الأصولية ليست مجردَ منطق قاعدة منهجية جامدة، بل قد تكون إنسانية بنوع خاص، مثلما رأيناه يتجلَّى في منطق المناسبة. المناسبة تعني قبول العقل للعلة؛ لأنها مناسبة لتحقيق الصالح العام … مناسبة للمصلحة؛ لذلك كانت الجانب العقلاني الصريح والإنساني معًا في الاستدلال العلي الأصولي. وقد جعلوا «المصلحة» تُرادف «الحكمة» والعلة من كل تشريع؛ لأنه تعالى حكيمٌ، ومن مقتضى حكمته ألَّا يضعَ تشريعًا إلا لمصلحة عباده. لقد اشترط الأصوليون أن تكون العلة ضابطة لحكمة مقصودة للشارع لا حكمة مجردة. الحكمة تعني أن كلَّ حكم شرعي مقصود به تحقيق مصلحة للعباد، تتمثل في جلب منفعة لهم أو دفع ضرر عنهم، عاجلًا كان ذلك أو آجلًا. إن الحكمة تجعل الإباحة أصلها المنافع، والتحريم أصله المضار.

تمادَى نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت ٧١٦ﻫ) كثيرًا في معالجة منطق المصلحة الذي هو منطق إنساني تمامًا. انكبَّ على شرح الأحاديث الأربعين النووية؛ أي التي جمعها الإمام النووي، وتوقَّف طويلًا عند الحديث الثاني والثلاثين الذي يحمل واحدة من القواعد الفقهية الراسخة: «لا ضرر ولا ضرار»، أطنب في شرحه وتبيان مقاصد الشارع منه والتي تتلخص في المصلحة. فقه العبادات حقٌّ للشارع وحده، أما فقه المعاملات فالحق فيه تحقيق مصالح العباد. يوضح علال الفاسي في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها» كيف انبثقَت عن شروح الطوفي نظرية عظيمة الأهمية غير مسبوقة وهي اعتبار المصلحة وتقديمها على جميع الأدلة، على الإجماع وعلى النص ذاته، لتسبق المصلحةُ النصَّ إذا تعارضَت معه. وهذه القاعدة الفقهية الطوفية الخطيرة مذكورة في المصنفات الكبرى مثل معراج المنهاج للجزري وسواه.

•••

تمثل المناسبة — كما سبق أن أشرنا — المسلك العقلي الإنساني الخالص نحو العلة؛ لأن العقل هو الذي يقبل الملائم والمناسب الذي يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويسد الذرائع، ويعمل على تلبية الضروريات والحاجيات التي اختلفوا في تحديدها.

الضرورات والحاجيات تُحيل إلى القفزة التجديدية والإنسانية الكبرى في تاريخ علم أصول الفقه، وهي ظهور الفقه المقاصدي أو التفسير المقاصدي للفقه مع القاضي الغرناطي المالكي الإمام الشاطبي (٧٩٠ﻫ)، الذي قدَّم أوقع وأشهر تحديد للضروريات فيما أسماه بالضرورات الخمس، وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وأكَّد — في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة» — أن الأمة بسائر الملل اتفقت على أن الشريعة وُضعت من أجل المحافظة عليها. على أن الرازي كان قد جعل النفس أولى الضرورات؛ لأنه لولاها لما كان ثمة دينٌ ولا عرض، أي نسل ولا مال. وفي هذا نزعة إنسانية إسلامية تحملها قيمة الاستخلاف؛ فالله جعل الإنسان خليفته وأكرم الموجودات، وبالتالي لم يشرع الشرع إلا لمصلحة هذا المخلوق الذي كرَّمه.

كانت المناسبة والملاءمة مسلكَ أيِّ طريق أو منهج للعلة وشرطًا لها. تكاملت المناسبة والمصلحة مع منطق القواعد الفقهية؛ أي القواعد التي وُضعت لترشيد الاستدلال والاجتهاد المرسل، لتزيد علم أصول الفقه أنسنة وارتباطًا بالواقع. أهم القواعد الفقهية: لا ضرر ولا ضرار، درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، عدم جواز تكليف ما لا يُطاق، الضرورات تبيح المحظورات … إلخ. وتطوَّر الأمرُ تطورًا ملحوظًا مع التفسير المقاصدي للشريعة للإمام الشاطبي.

وإذا انتقلنا انتقالًا مشروعًا من الواقع الإنساني إلى العلوم الإنسانية، يمكن الاستفادة من فقه المناسبة والمصلحة في منهجية معالجة الموقف Situation في العلوم الإنسانية الذي يمكن أن يناظر الأنموذج Model في العلوم الطبيعية، وهذا ما أسرف في تبيانه كارل بوبر، خصوصًا في كتابه «أسطورة الإطار». وثمة أيضًا ما تحمله القواعد الفقهية من أسس للتخطيط الذي هو منهجية وآلية كبرى في الإنسانيات. وبمثل هذه الخطوط يمكن أن تترسم أوليات جهاز منهجي قادر على إلقاء أسس أصيلة لميثودولوجيا العلوم الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية.
١  بحثٌ أُلقيَ في مؤتمر علم النفس الدولي الثالث، الذي أقامته الرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين، الجامعة الإسلامية العالمية، كوالالمبور، ٦–٨ ديسمبر ٢٠١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤