الفصل الرابع

منى أبو الفضل

بناءة لمنهجية علمية إسلامية١

منى أبو الفضل (١٩٤٥–٢٠٠٨) عالمة جليلة، وفي الآن نفسه ميثودولوجية متمكنة في مجالها، كأستاذة علوم سياسية تخصَّصَت في النظرية السياسية، وقدَّمت فيها رؤية منهجية متميزة، تمتدُّ إلى النظم السياسية والعلاقات الدولية وأنظمة الحكم والتنشئة السياسية والتطور السياسي ومناهج النقد والتحليل السياسي والتاريخ السياسي والدبلوماسي … ويطوق مداها المنهجي العلوم الاجتماعية إجمالًا، شاملًا للدراسات الحضارية (الثقافية)، وأيضًا دراسات المرأة. تقوم رؤيتها على مقاربة نقدية للغرب، ترفض الترديد والتبعية، وتهدف إلى تأصيل موقف تجديدي، ينطلق من واقع الحضارة الإسلامية تحديدًا وتعيينًا.

•••

وُلدت بالقاهرة، في الخامس عشر من نوفمبر العام ١٩٤٥، لأسرة مرموقة واسعة الثراء. كان الوالد الدكتور محمد عبد المنعم أبو الفضل أستاذ الباثولوجيا الإكلينكية بالقصر العيني. أما الوالدة المبرزة فهي الدكتورة زهيرة حافظ عابدين، أستاذ طب الأطفال ومؤسسة طب المجتمع، والتي تُلقَّب بأم الأطباء، فهي أول مصرية وعربية تحصل على زمالة كلية الأطباء الملكية بلندن، وأول فتاة مصرية تعمل بهيئة التدريس في كلية الطب. كانت الأولى على دفعتها طوال سنوات الدراسة في القصر العيني، وأول فتاة تحقق المركز الأول على مستوى القطر المصري في امتحانات البكالوريا العام ١٩٣٦. وأسبغت تبرعاتُها السخية على كلية الطب وسكن طلابها وعلى مشاريع طبية واجتماعية لرعاية الأطفال والفقراء ومرضى روماتيزم القلب واللقطاء والمسنين. وكانت منى كبرى أولادها الأربعة، شقيقةً لأستاذة وأستاذ في كلية الطب وأستاذ في كلية الهندسة. والجدير بالذكر أنها قامت بتحرير وإعداد مجلد تذكاري عن أمِّها بعنوان «أم الأطباء المصريين: الدكتورة زهيرة عابدين، ٢٠٠٨»،٢ كما قامت في العام ١٩٩٦ بتأسيس كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بفرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت منى أبو الفضل قد تلقَّت تعليمَها الأوليَّ في إنجلترا، والتحقَت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ حيث حصلت على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف العام ١٩٦٦، وكانت الأولى على الدفعة. ونالَت درجة الدكتوراه من جامعة لندن في العام ١٩٧٥، في النظرية السياسية، وكان موضوع رسالتها يدور حول سياسات إسماعيل باشا صدقي. وأصبحت في العام نفسه عضوَ هيئة تدريس في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، وتدرَّجَت في الكادر الجامعي حتى أصبحَت أستاذًا في العام ١٩٩٠.

في العام ١٩٨٤ سافرَت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار برنامج منح فولبرايت. وفي العام التالي تم انتدابها أستاذًا زائرًا في المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا حتى العام ١٩٩٥. وفي العام ١٩٩٦ عُيِّنت منى أبو الفضل أستاذًا في جامعة العلوم الاجتماعية والإسلامية هنالك، حتى العام ٢٠٠٣. عادت إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أستاذًا، ثم أستاذًا متفرغًا، حتى وافَتها المنية بعد صراع طويل ومرير مع مرض السرطان. وقد أسلمت الروح في مستشفى رستن بولاية فرجينيا، في ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٨. وهنالك شيَّعها إلى مثواها الأخير المئات من تلامذتها وعارفي فضلها، يتقدَّمهم زوجُها الدكتور طه جابر العلواني (١٩٣٥–٢٠١٦)، وهو شيخ أصولي عراقي طاب له المقام في مصر، مؤكدًا دينه للفرات وللنيل على السواء. وكان رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا وأحد مؤسِّسِيه، وترأَّس أيضًا جامعة قرطبة بالولايات المتحدة، وامتدَّت آثاره في علم أصول الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، أخرج فيهما أعمالًا مشهودة، بخلاف أعماله المشتركة مع الدكتورة منى أبو الفضل في كتابَين صدرَا لعام ٢٠٠٩؛ أي بعد رحيلها، وهما: «نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية»، و«المنهج والمنهجية: مفاهيم محورية»، وهذا الأخير كتابٌ موجز فائق الروعة والسداد.

وصدر لها قبلًا من الكتب: «نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، ١٩٩٦»، «الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، ٢٠٠٥»، «نحو منهجية علمية لتدريس النظم السياسية العربية، ٢٠٠٦»، «من قضايا تطوير التعليم، ٢٠٠٦». كانت منى أبو الفضل ذكاءً متقدًا وعقلية متوثبة منتجة، تتدفق منها الأفكار بغزارة وسلاسة تُبهر المستمعين. وتوالَت كتاباتها، طلقة سلسلة غزيرة المضمون، واضحة المعالم، باللغتَين العربية والإنجليزية.٣

تأتي كتابتها جميعًا إعمالًا لجدلية الاستيعاب والتجاوز، نشدانًا للتجدد الحضاري من خلال الرؤى المعرفية المنتجة، فقامت بجهد دءوب في تأسيس مفهوم «المنظور الحضاري» كمنهجية لنموذج معرفي توحيدي. يهدف مشروعها المنهجي إلى تكوين رؤية قادرة على تمثُّل وتمثيل مفاهيم وقِيَم الحضارة الإسلامية، وتجسيد واقعها المتعين؛ أي نظرية إسلامية لفلسفة العلوم الاجتماعية عمومًا والسياسية خصوصًا، بحثًا عن إضافة للرصيد العالمي تكون ممثلة لحضارتنا وتكون حضارتنا متمثلة فيها. أو بعبارة أخرى، تقديم «منظور حضاري إسلامي» بديل، يكون أكفأَ في الإحاطة العلمية بالواقع السياسي في العالم الإسلامي، ويَعِد بتقدم مأمول في مسيرة العلوم الإنسانية.

في بحثها عن علاقة المدخل المعرفي التوحيدي بالحداثة، تطرح إسلامية المعرفة كقوة للتجديد الثقافي العالمي. إنها ترفض التوظيف الأيديولوجي للدين في مجال البحث العلمي، ولا تقبل معيارية الشرعي وغير الشرعي؛ ولكنها من قبل ومن بعد ترفض إقصاء الحضارة الغربية التام للوحي وللألوهية من المجال المعرفي، فهذا في المنظور الحضاري الإسلامي مناقضٌ للواقع وللمثال على السواء.

وكان تطوير وتجويد الدرس الجامعي هدفًا لا يغيب عن بال منى أبو الفضل، وتأتي جهودها تنظيرًا وتطبيقًا في ميدان المنهجية العلمية من أجل تدريس النظم السياسية العربية تحديدًا؛ لأنه من خلال تدريسها هذه النظم تبدَّى لها قصورُ المناهج الغربية عن الإحاطة بكثير من الظواهر السياسية والاجتماعية والحضارية في واقعنا الإسلامي والعربي، وضرورة البحث عن منظور آخر غير المنظور الغربي. وأفصحت عن هذا في دراستَين لهما هما: «النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل»، «المنظور الحضاري في دراسة النظم العربية: التعريف بماهية المنطقة العربية».٤

وعلى هذا الأساس قامت بالجهد الأكبر والأثمن في تنضيد منهجية علمية إسلامية لمدرسة المنظور الحضاري. إنها مدرسة تعود أصولها إلى أستاذها الدكتور حامد ربيع (١٩٢٥–١٩٨٩) ذي التوجُّه القومي العروبي الذي عَمِل على تأسيس مدرسة لتأصيل الفكر السياسي الإسلامي، عن طريق طرْح مداخل حضارية وقيمية لقضايا الأمة الإسلامية. تكرَّس لهذا تلاميذ له في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطويرها وتفعيلها، ومن أنجبِهم منى أبو الفضل. إنها مدرِّسة ترفض الانحباس في النموذج الغربي الواحدي، وبالقدر نفسه تنبذ التقليد، وتأخذ في اعتبارها دورَ البعد العقائدي والقيمي والمعنوي في التنظير السياسي، بحثًا عن منظور ينضاف، كما قيل بحق: «إلى منهجيات شتى يموج بها العصر الراهن الذي بات فيما بعد يعرف معنى وجدوَى وقيمة التعددية المنهجية من ناحية، والتعددية الثقافية من الناحية الأخرى. هكذا كان انبثاق وتنامي مدرسة «المنظور الحضاري» الذي يمكن اعتباره «نموذجًا إرشاديًّا علميًّا»، أو هو في واقع الأمر هكذا.»

«المنظور الحضاري» البديل الذي ساهمت منى أبو الفضل في إرساء دعائمه وتنميته، وانكبَّت على تطويره ثم العمل من أجله وفي إطاره، هو — كما تقول — نسق مفتوح يمكن تفعيله لقراءة الثقافات المختلفة بشكل يتفادى ما درجَت عليه المناهج الوضعية الغربية من تعميمات شديدة تغفل أوجه الخصوصيات الحضارية التي تميز ثقافة عن أخرى ومجتمعًا عن آخر. إنه منظور ينفتح على التراث وعلى المعاصرة من حيث تأكيده على الرابطة بين الماضي والحاضر … بين القيم والماديات … بين الوحي والعلم … بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية. وبهذا يمكن أن تنضمَّ معًا كل الدراسات المتعلقة بالعالم الإسلامي بما فيها النظم السياسية العربية، لتأتلف معًا وفقًا لمنظور حضاري معين هو منظورنا نحن، من دون الانقطاع عن التراث العالمي ومع الاستفادة منه. وهي تؤكد أن الباحث الذي لا يأخذ هذا المنظور في الاعتبار تغدو أبحاثه ترديدًا أعمى للفكر الغربي، دون إخراج علم اجتماعي حقيقي.

•••

أكدت منى أبو الفضل أن العلوم الإنسانية — طبعًا — تفوق العلوم الطبيعية فيما تحمله من ثقافة منشئيها، وفي تأثيرها في عقلية حامليها، وفي العوامل التي تأخذها من الهوية والمرجعية ومنظومة القيم وأنماط السلوك، وبالتالي يتكثف احتياجها للمنظور أو للنموذج الإرشادي الخاص؛ وأن النماذج الغربية مهما ادَّعَت العمومية والعالمية والكونية لا تستطيع أبدًا أن تلبِّيَ الحاجات المعرفية، الوصفية والتفسيرية، التي يُنتظر استيفاؤها من التناول العلمي الممنهج للظواهر الإنسانية في تغيراتها وفقًا للبنيات الثقافية. النظرة العلمية السائدة في إطار تعلُّمِنا من الغرب، وهي المرحلة التي نجد العزم لتخطِّيها، تفترض وتفرض نموذجًا إرشاديًّا واحدًا يخضع له الإنسان مطلقًا والمجتمعات جميعًا، بصرف النظر عن الفوارق والاختلافات والخصوصيات الحضارية، كحاصل لرؤية الواقع والعالم والتاريخ والتقدم عبر أوروبا وفقًا للمركزية الغربية التي سادَت بفعل الاستعمار على مستوى الواقع وعلى مستوى المثال. تؤكد منى أنه بصرف النظر عما فيها من قصور، فإنها لا تطابق واقعنا نحن الخاص، مما يجعل الحاجة ملحَّة إلى نموذج إرشادي أو منظور حضاري بديل موائم ومطابق لطبيعة الظاهرة في الحضارة المعنية، وحاملًا لخصوصيتها وما يميزها.

وعلى هذا الأساس انطلقَت منى أبو الفضل من ضرورة التفاعل بين مناهج العلوم الإنسانية وبين العلوم الإسلامية؛ بحثًا عن مداخل منهجية أقدر على التكامل وعلى تتبُّع خصوصيات وعموميات الظاهرة الإنسانية في العالم الإسلامي. إنه التفاعل المنهجي بين مناهج العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية؛ لكي يؤمئَ بآفاق مستقبل أفضل.

تتساءل منى بدهشة: هل نغفل قُوَى وعقائد وتيارات وآليات حراك تاريخي قوي تموج بها منطقتُنا، «بدعوى تلمُّس الحداثة والامتثال لمقولات علمية»، وعلى أساس أن النموذج الإرشادي الغربي لا يحتويها؟ أم الأدنى إلى الصواب أن يتمَّ استيعاب هذه الآليات في إطارٍ أكثر قدرة ومواءمة للتعامل العلمي مع واقعنا، أقدر على الوصف والتفسير والتحليل. المنهجية الإسلامية تقهر هذا الفصام العقلي بين الأصالة والمعاصرة … بين العقل والواقع، وتطرح تواصلًا بين عناصر كيان الأمة التي «تعيش اليوم حالة فصام لا يُدرك أبعاده مثل المتخصص في العلوم الاجتماعية والباحث في أنساق القيم والسلوكيات في الأفراد والجماعات.»٥

انكبَّت منى أبو الفضل على تفعيل المنهجية العلمية الإسلامية وتطوير «المنظور الحضاري الإسلامي»، تضع النقاط على الحروف باعتماد الرؤية التوحيدية إطارًا تنظيميًّا يجعل التزكية والعمران مقصدًا مولدًا للمُثُل العليا، والأخذ بالوحي كمصدر معرفي يتفاعل ويتكامل مع الطبيعة ومع العالم الإنساني، بمعية تراث النبوة الذي كان تأويلًا وتطبيقًا للنص القرآني، والتراث الإسلامي الممتد على طول الحضارة الإسلامية كحصيلة تفاعل العقل المسلم سلبًا أو إيجابًا مع هذين المصدرين. تؤكد منى أن النص القرآني لم يكن تجميعًا لنصوص محفوظة؛ إنما هو جمع آيات التحمَت عبر لحظات متدافعة في مواقع متجددة وبأغراض توجيهية معلومة، سواء كان هذا التوجيه بالإعمال أو بالإبطال. ولا بد من مثول مسافة فاصلة وحاسمة بين القرآن وسائر النصوص التراثية الأخرى، وبين المصادر الأصلية؛ أي القرآن والسنة والمصادر المشتقة وهي التراث الذي تخلَّق عن تفاعل العقل البشري والواقع الإنساني معهما، فضلًا عن الخبرة التاريخية المتراكمة ومعطيات الواقع الإسلامي الماثلة.

وبهذه الخطوط تؤكد د. منى أن المنهجية العلمية الإسلامية المتوائمة مع مصادرنا التراثية خيرُ ضمان لتأمين مسار الخطاب العربي العلمي المعاصر، وأن هذا يعني طرحًا لمنهاجية العلوم اجتماعية يشمل أسسها وخصائصها ووظائفها الوصفية والتفسيرية، بل وحتى التطبيقية، من حيث يؤكد التكامل عبر التفاعل بين محاور ثلاث:
  • (١)

    مصادر المعرفة وأنماطها.

  • (٢)

    إطار النظام الاجتماعي.

  • (٣)

    العلاقة بين الفكر والممارسة.

ويتمثل التفاعل والتكامل في تبادل التأثير والتساند بين ثلاثة خطوط هي: التصالح، وإعادة الاعتبار، وتحقيق التكامل فعليًّا. فثمة التصالح بين العقل والوحي، حين يعاد الاعتبار إليه كمصدر أصيل لتوجيه المعرفة، في هذا يحلُّ التكامل بين الأطراف محلَّ المواجهة بين الثنائيات الاستقطابية التي تُشرذِم البحث الاجتماعي. وأخيرًا على صعيد محور العلاقة بين الفكر والممارسة يتم إلقاء الضوء على نتائج صياغة النظرية الاجتماعية، بحيث تتكامل الأبعاد المحسوسة وغير الملموسة، النفسية والعقلية، المادية والمعنوية، العاطفية والإدراكية في النظر الاجتماعي العمراني بهدف الوصول إلى نظرية لها صدًى في واقع الحال، وتأتي بمردودها في تقويم الممارسة.٦

وفقًا لهذه المنهجية ينطلق الباحث في العلوم الاجتماعية من مسلمات حقله التخصصي ومن مسلمات حضارته وتراثه معًا. توضح د. منى أن الباحث لن يرقى إلى مستوى التنظير الإسلامي إلا إذا توافر له إلمامٌ بالثقافة الإسلامية ورؤية إسلامية سوية تمثِّل قاعدة معرفية، بالإضافة إلى منطلقات حقله التخصصي. بتحقيق هذين الجانبَين معًا؛ أي بالتفاعل الذي أشرنا إليه بين مناهج العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، تتكامل الرؤية العلمية في العالم الإسلامي وتمثِّل إضافة حقيقية. يغدو الباحث «مجتهد التخصص» حيث البعد التراثي — بتعبير منى — تحرر من سلطان التخصص الدقيق الأعمى والمقيِّد للحركة؛ ليتوافر قدرٌ من المرونة الذهنية والحَراك العقلي من أجل توسيع رقعة التعقل والتدبر، ولا يعود التقويم النهائي منوطًا أولًا وأخيرًا بمسلَّمات جاهزة صلبة.

وهذا يعني أن البحث العلمي في الظواهر الإنسانية خصوصًا ينبذ الحياد الأعمى والموضوعية المطلقة الموهومة، والتي اتضح أنها مستحيلة منذ سقوط مطلق نيوتن، ويصادر على قدر من «التحيز الحضاري» أسهب في معالجته عبد الوهاب المسيري وآخرون. وتؤكد منى أبو الفضل أن التحيزَ الحضاري مناطٌ و«شرطٌ للاستشراف العلمي وهو الذي يمهد لدقة الرصد، ويشحذ قريحة التفاعل والتتبُّع في وسط المجهول الذي هو ليس بالغريب، وهو الذي يحفز الخيال المبدع الذي يتجاوز التلقِّي إلى سبر الغَور، والقراءة لما بين السطور ووضع النقاط على الحروف عند تحرير المعاني واستخلاص الدلالات.»٧

وعلى هذا النحو يتوفر للباحث المسلم النازع لتفهم ووصف وتفسير ظواهر الحضارة الإسلامية مداخل للفهم والتحليل والنقد، لا يلتفت إليها باحث لم ينتمِ إلى الأمة ولم يلتزم بقضاياها؛ فلم يلتفت بالتالي إلى آثار خصائصها الذاتية، وعلى رأسها صلة لا تنفصم بالوحي الإلهي. وتؤكد د. منى أن الباحث الذي يستحضر تلك الخصائص الذاتية للأمة هو الأقدر على التفسير السليم والأقرب إلى الصواب لتاريخها ولواقعها، من خلال منظوره الحضاري.

•••

وتنهض منهاجية المنظور الحضاري الإسلامي البديل للبحث في العلوم السياسية وفي العلوم الاجتماعية إجمالًا مرتكزة إلى أربع ركائز أو محددات:
  • أولًا: المنظور الحضاري ذاته.
  • ثانيًا: الإطار المرجعي.
  • ثالثًا: النسق القياسي.
  • رابعًا: بناء المفاهيم.
وفي تساندها وتكاملها ثمة عقدة منهجية ماثلة لا بد من اقتحامها تحقيقًا للوثبة الحضارية، العقدة المنهجية هي القدرة على التمييز بين عمليتَين أو مستويَين في مصادر التنظير لبناء أدوات التخصص ومجاله، وهما بناء المفاهيم ثم بناء الإطار المرجعي الذي تنتظم فيه هذه المفاهيم «الاختلاف ليس اختلاف درجة ولكنه اختلاف نوع».٨

المنظور الحضاري يفرض إطارًا مرجعيًّا، مستمدًّا من التصور الإسلامي والمناهج الإسلامية، كإطار للفعل المعرفي وللفعل الحضاري إجمالًا، يحمل المنظومة القيمية وتفاعلاتها، ويمكن أن يُضاف ركن المقاصد والغايات. الإطار المرجعي يؤسس لإعادة بناء المدركات والمفاهيم والقيم بشكلٍ واعٍ منطقي وممنهج، يردم الفجوة بين العناصر الإسلامية الكامنة في الوعي وفي اللاوعي، وبين واقع البحث العلمي المعاصر. إنه وسيط التعامل مع مصادر التنظير، وناظم لجملة المفاهيم والقيم الفعالة في المجال المنهجي، يعمل على وضع الجزئي في إطار الكلي، فيحفظ وحدة فروع البحث المتخصص ويربطها بالرؤية الكلية، إدراكًا لأهمية التجانس والتوافق الداخلي.

وينضبط الفعل البحثي الممنهج داخل الإطار المنهجي بفعل المرتكز الثالث وهو «النسق القياسي» الذي يبدو ضروريًّا لإحكام منهاجية التحليل السياقي. «النسق القياسي» يعني عناصر جوهرية ومحورية وأساسية لا مندوحة عنها، تمثِّل محكًّا قياسيًّا، يمكن عن طريقه تحديد مدى الاقتراب أو الابتعاد عن المنظور الحضاري الإسلامي. هذا بدلًا من محكات من قبيل شرعي أو غير شرعي، ذكرنا آنفًا أن منى أبو الفضل لا تميل إليها. وعلى أساس «النسق القياسي» تنضم في المنظور الحضاري كلُّ الدراسات المتعلقة بالعالم الإسلامي بما فيها النظم السياسية العربية، لتأتلف معًا. هكذا تُعدُّ الأنساق القياسية «بمثابة خرائط أساسية لا غنى عنها للإحاطة بالملامح العامة لفضاء التعامل المعرفي السوي مع التراث الإنساني برافدَيه الإسلامي وغير الإسلامي، بالامتثال لثقافة القرآن.»٩
ويبقى بناء المفاهيم التي تنتظم في الإطار المرجعي، وفقًا للنسق القياسي، تحقيقًا للمنظور الحضاري. إن المفاهيم هي اللبنات التي تؤسس للمنهجية. العمل المنهاجي لا بد أن يقوم على أساس من تأصيل المفاهيم، التي هي أكثر التحامًا بالجزئي والعيني والوقائع الإمبيريقية وواقع الحقل العلمي. ميزت د. منى بين المفاهيم الكلية الإطارية التي تمثِّل دعائم منهجية، والمفاهيم المحورية التي تمثِّل مجال التخصص، والمفاهيم الفرعية التي تمثِّل حقلَ البحث المعين. المفاهيم الإطارية «كليات جامعة متراتبة حاوية لجملة من المفاهيم الفرعية، معبرة عن المنظومة القيمية الاعتقادية الإسلامية، ذات قابلية لاستيعاب وتوليد مفاهيم جديدة مترابطة فيما بينها، ومتشابكة مع المفاهيم الفرعية المتولدة منها.»١٠ وثمة مفاهيم كلية معيارية على رأسها العدالة والجهاد (وهو بذل أقصى الجهد في كل مجال وليس في الحرب فقط) اللذان يجسدان الوعي الإسلامي في الواقع، ثم الاستخلاف والأمانة والشرعة والتدافع والتعارف والنصيحة، ومفاهيم كلية مقيدة تمثِّل عموميات التخصص، مثل الأمر والنهي والطاعة والولاية والقضاء، ثم مفاهيم فرعية لحقل بحثي معين من قبيل الشورى والإصلاح.

•••

يصدِّق على هذا ويؤكد قدرة المفاهيم على القيام بالوظيفتَين الثقافية والمنهجية، ذلك المفهوم الرئيس الذي أسرفَت منى في خدمته وصياغاته، ألا وهو مفهوم «الأمة». وإذا كانت المفاهيم هي لبنات المنهجية، فإن مفهوم «الأمة» بالذات أكثر من لبنة، فهو مدماك ولعله في الأساس. وكما تقول منى: الأمة هي الأم، أم الكيانات الجماعية التي عرفَتها هذه المنطقة الحضارية، والأمة قبل الإمام وقبل الإمامة، فلو لم تكن الأمة لمَا وجب مَن يؤمها، أو لمَا بحثوا عن إمام لها. الرابطة الدينية العقائدية هي الأصل في منشأ ومفهوم الأمة.

وعلى الرغم مما يمكن — أو بالأحرى ما يجب — أن يمثِّلَه مفهوم القومية «العربية» بالذات من قوة ضامة ورابطة لمجموعة الدول العربية التي هي أحوج ما تكون للترابط والتكامل، فتغدو قلبًا وهاجًا للأمة الإسلامية التي هي بدورها أفقٌ حضاري ماثل للقومية العربية … على الرغم من هذا الحضور أو الاستحضار لمفهوم القومية العربية، فإن منى أبو الفضل — كما هو شائع في التيار الإسلامي بشكل عام — تهاجم القومية بضراوة متطرفة وغير مقبولة، حتى تزعم أنها إبادة للتعددية! وتقول: إنها في تدريسها لمادة «النظم السياسية العربية» وجدَت «القومية» محاطة بالتباسات واستحالات لا مخرج منها إلا بالتعويل على مفهوم «الأمة الإسلامية» بدلًا من القومية العربية. وقد سبقت الإشارة إلى بحثها ذي الصلة «المنظور الحضاري في دراسة النظم العربية: التعريف بماهية المنطقة العربية». لكن لماذا التفكير بمنطق «إما … أو» الاستبعادي؟! القومية العربية والأمة الإسلامية مفهومان تكتليَّان متداخلان ومتآزران ومجديان إن لم يكونَا ضرورَين. إنهما دوائر متداخلة وليسَا أنساقًا متقابلة لكي تجعل منى أبو الفضل من أحدهما ذريعة أو منصة لنفي الآخر والهجوم عليه وتقويضه.

وجريًا على التمييز بين العام والخاص، أو المشترك والمتفرد، تتوقف عند الأمة الإسلامية من حيث إنها تجمع بين عناصر تشترك فيها مع غيرها من الأمم والجماعات السياسية، وبين عناصر تميزها أو تنفرد بها «بحكم تمايز النشأة أو قاعدة التأسيس والتكوين، أو بحكم ثوابت كامنة أو وظيفة حضارية مستبطنة»؛١١ لتكون دراستها في ضوء النسبي والمطلق، أو الثابت والمتحول. الأمة الإسلامية لا تقوم على عرقية أو إثنية أو إقليمية جغرافية، بل على دعوى ورسالة توحيدية تجمع التعددية وتنفتح على الاختلافات النوعية لتكون غير إقصائية. وكحقيقة تاريخية أو كواقع تاريخي، نجد أن الأمة نظام إسلامي اجتماعي وسياسي متكامل، تمثل في شريعة سماوية طُبِّقت على حيِّز جغرافي ممتد شكل دار الإسلام، وسكنَته شعوب وقبائل متباينة الأصول يحوطها سياج العقيدة. تعترف د. منى بأن مفهوم الأمة الإسلامية قد تماهى في الواقع السياسي المعاصر وكاد يسقط في الوعي الباطن، ويقتصر على وضع رباط عاطفي لا يقدِّم ولا يؤخر، لكنها توضح أن طرْحَه وبعثَه ليس حنينًا لماضٍ تاريخي، بل هو دعوة إلى الواقعية والالتزام في المنهاجية، من حيث إنه ينطلق من الكيفية التي ينبغي أن نعالج بها الموضوعات الإسلامية، وعلمُ السياسة لا يسعه أن ينعزل عن واقع مجتمعه أو يهرب من تحدياته. وفي المجتمع الإسلامي مفهوم الأمة له أبعادٌ وجودية كيانية تجعل من الضروري أن نعيدَ النظر فيه تمحيصًا لحقيقة هويتنا كهوية حضارية وثقافية متميزة بين الهويات أو الكيانات الأخرى، ذات أبعاد حضارية ممتدة تكفل لها المعاصرة الآنية مع الاستمرارية التاريخية.١٢
ترى منى أبو الفضل الأمة الإسلامية «أمة قطب» ذات قدرة استقطابية، تؤدي إلى وحدة جدلية من تماسك داخلي ثم انفتاح للغير على المستوى الخارجي. تجمع بين الفاعلية والشرعية، فلا تفقد إحداهما أو كلتيهما. والصفة أو الخاصة المركزية هي ما أقرَّه القرآن الكريم من أنها «أمة وسط». المجال الإسلامي الممتد من جمهوريات آسيا الوسطى إلى المغرب يمثِّل جغرافيًّا المنطقة الوسطى في العالم، أو هو بتعبير د. منى القارة الوسيطة. على أن الوسطية ليست حيثيةً مكانية، أو وضعًا بين طرفَين كما هي منذ أرسطو، بل هي مشروع حضاري لأمة ذات رسالة. أمة تَعلم وتُعلم أن التعدد على أشكاله سُنة وآية، وأن العبرة في أي نظام هي بانفتاحه على الاختلافات النوعية. فلا تحمل الأمة الإسلامية/الأمة القطب أي طابع إقصائي، لقد اتسعت وتتسع للملل والأعراق والأجناس جميعًا، ثم هي مصدر للتوازن والاعتدال بين القيم الفردية والقيم الجماعية. وكانت الأمة القطب في عناصرها وخصائصها — بتعبير د. منى البليغ — ضاربة الجذور باسطة الفروع على مدى الأبعاد الذاتية والموضوعية، المعنوية والمادية، مرتكزة في تماسكها على عقيدة إيمانية شاملة، مصدرها رباني، ومجالها كافة أوجه الحياة الدنيا، فتَصِل بين الدنيا والآخرة، وتتمثل في وحدة القيم والمشاعر والمدارك والآمال التي تولَّدَت عن العقيدة، وفي خبرة تجد لها ضابطًا في تأطير السلوكيات الناجمة عنها حتى تنتظم العلاقة بين الماديات والمعنويات، والظاهر والباطن، والأفعال والاتجاهات. وتبرز العقائد والعبادات على المحور الرأسي لتصير ركائز لعملية الاستقطاب داخل الجماعة، وتمارس العقيدة وظيفتها في تنشيط خصائص «الأمة القطب»، وكمصدر لتماسك الكيان الذاتي للفرد، وتحضُّ على التآلف والاعتصام بحبل الله. إنه التوحيد الخليق بأن ينتهيَ إلى الوحدة.١٣

•••

هكذا تتوحد وتتكامل المعالم المنهجية حتى تكاد تمثِّل خطة استراتيجية ترشد العمل البحثي، فتنتهي أبو الفضل إلى خطوات مقترحة للبحث العلمي، تبدأ بتحديد جملة من مصطلحات التخصص، والكشف عن مواضعها في المصدر المنشئ؛ أي القرآن الكريم، ثم عملية فرز وتصنيف لهذه المفردات المفهومية وفقًا لمعايير يمكن استقراؤها من الموضعي ومن واقع الممارسات ذاتها، وليس افتراضها مسبقًا. هدف هذه الخطوة الإقدام على تخريج الأنماط، واستنباط النماذج والأنساق، التي يمكن أن تتآلف لتشكِّل قاعدة الانطلاق في مجال التنظير. وتأتي المرحلة التالية في التعامل مع الفروض المطروحة والمفاهيم والنماذج المقدمة … وهي مرحلة الاختبار … أو التنزيل على الواقع التاريخي١٤ … للأمة القطب.

لقد ترسَّم نسق بديل أو مقابل. جوهر منهجية المنظور الحضاري البديل هي فكرة الأنساق المعرفية المتقابلة، المقترنة بالنماذج الإرشادية المتعددة، والتي تنطلق من إمكانية ودواعي البديل للنموذج الغربي المهيمن. وخير تعقيب على هذه القضية أن لواءَها مرفوع الآن في الفكر الغربي ذاته بتعددية منهجية، وبتعددية ثقافية اقترنَت بنقض المركزية الغربية، نتاجًا للفكر بعد الحداثي بعد الاستعماري الذي هو تيار نقدي للإمبريالية والمركزية والوضعية.

ربما استبقَت د. منى هذه التيارات القوية، وربما تفاعلَت مع إرهاصاتها وبوادرها، وربما استوعبَت معالمها. قضَت منى في أوروبا وأمريكا أكثر مما قضَته في مصر، ولم تكن أبدًا من دعاة الانغلاق، بل حملَت لواء المثاقفة، وبحثَت في سبُل التداخل والتحاور بين الحضارات، بمنأًى عن الاستعلاء وطمس الخصوصيات الحضارية، والمركزية التي تسعى إلى إذابة الثقافة التابعة في إطار الثقافة المتبوعة. وبدلًا من الإذابة والإلغاء والاحتواء، ثمة التثاقف والتفاعل والتداخل، المعبر عن الحوار الخلَّاق بين الحضارات.

•••

وأخيرًا، هذا الموقف الرافض للتبعية والمصرُّ على إثبات الذات نشدانًا لعلم مُنجز ومعرفة منجزة بواقعنا الحضاري المتعين، نجده وقد انسحب مع منى أبو الفضل إلى ميدان الدراسات الذي علَا وطيسُه في الغرب وتصاعد شأنه في العقود القليلة الماضية؛ أي الجنوسة (= النوع أو الجندر gender، وهي المقولة الشاملة لمجمل اختلافات الرجل والمرأة، وليس فقط الاختلافات البيولوجية أو العضوية) وتيارات النسوية. وقد اهتمت د. منى بالنسوية ودراسات المرأة من المنظور الحضاري الإسلامي، خصوصًا في العقدَين الأخيرَين من حياتها. كان من أهدافها ترسيم معالم نموذج مقابل يمثِّل بحث الجنوسة الإسلامية وتشييد «نسوية إسلامية»، لتخرج بمدرسة فكرية ذات نهج إصلاحي لواقع المرأة المسلمة، ويقدم نظام الأسرة الإسلامي للعالم كنموذج يُحتذى في إرساء دعائم التنشئة للأجيال. والأساس المنهجي لهذه المدرسة النسوية يتلخص في أن تناول قضايا المرأة من المنظور الحضاري الإسلامي هو — بتعبير منى أبو الفضل — مدخل «لتصحيح المسار وتقديم النموذج العالمي»، فضلًا عن أنه منظور حضاري لقراءة سِيَر وتاريخ المرأة المسلمة.

ووفقًا لهذه الخطوط المنهجية العامة، عمدَت منى أبو الفضل في «النسوية الإسلامية» إلى تأسيس خطاب للمرأة قائم على أساس ذلك المنظور الحضاري الإسلامي في تعامله مع ظواهر العمران البشري التي يدخل في نسيجها قضايا المرأة والأسرة والجنوسة، ودراسة المرأة من منطلق نقدي يرفض الرؤية الوضعية التي تجعل المرأة في حدِّ ذاتها مبتدأ وغاية، فاصلًا إياها عن الأسرة وعن المجتمع جريًا على منوال الفردية المطلقة في المنظور الحضاري الغربي. على أن هذا المنطلق النقدي يرفض بنفس القدر رؤية تراثية نازعة إلى نفي وتهميش المرأة.

وفي محاولة منى أبو الفضل لتشييد «نسوية إسلامية» وفحص الجنوسة من المنظور الحضاري الإسلامي، تدفَّقت أفكارها ورؤاها كما هو معهود منها. وقدَّمت فكرتَين ثاقبتَين حقًّا، الأولى في توقُّفها عند تعدد مستويات الخطاب القرآني للمرأة، يخاطبها كأنثى … كفتاة … كزوجة … كأم … كعابدة … كقانتة … كمارقة … إلخ. أما الفكرة الثانية فتعطي مثالًا منهجيًّا لدراسة أوضاع الجنوسة من منطلقات تحفظ الخصوصية الإسلامية بقِيَمها وأبعادها وتشابكاتها في المنظومة الاجتماعية؛ فتقدم فهمًا أو تفسيرًا أشمل. إنه طرحها لمدخل دراسة أوقاف النساء، باعتبار الأوقاف نموذجًا إسلاميًّا للتنمية البشرية.١٥

•••

في أبريل ٢٠٠٩ عقدت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ندوة علمية موسعة لبحث آثار منى أبو الفضل، شارك فيها نخبة من أساتذة وباحثي العلوم السياسية والاجتماعية، وكانت حافلةً بالبحوث الرصينة والمناقشات الخصيبة.١٦ فقد استحقت التقدير والاحترام من سائر الأطراف، سواء يتفقون أو يختلفون معها. وكانت حياتها العقلية والأكاديمية والمهنية حافلةً بالعطاء والنشاط والإنجاز، وفي الصدارة هذا الإنجاز المنهجي الرصين المتكامل. إنها صاحبة موقف وقضية ورسالة تتمركز حول توطين منهجية علمية في العالم الإسلامي أقدر على درسه والإحاطة العلمية بوقائعه؛ لنمتلك علمًا بواقعنا نحن، ونقدم إضافة للرصيد العلمي العالمي.

على الإجمال، منى أبو الفضل بناءة مقتدرة لمنهجية علمية إسلامية واعدة.

١  الأصل في هذا المبحث مادة ضمن عدة مواد قمتُ بإعدادها من أجل «معجم أعلام المصريين في القرنين التاسع عشر والعشرين». وهذا المعجم مشروعٌ مهيب وضخم، اضطلعَت به مكتبة الإسكندرية، وهيَّأت له استعدادات جيدة. وقد تشرَّفتُ بأن أكون عضوًا باللجنة العلمية المضطلعة بإعداد هذا المعجم، والتي ضمَّت عقولًا كبارًا وأسماء لامعة في مختلف الجهات الأكاديمية والثقافية. ظلَّت اللجنة تواظب على العمل والاجتماعات الدورية على مدار ست سنوات (٢٠٠٥–٢٠١١)، وأنجزنا آلاف المواد اعتمادًا على المئات من أفضل الكتَّاب والباحثين، كلٌّ في ميدانه؛ تمهيدًا لإصدار المعجم في صورة إلكترونية وصورة ورقية.
اندلعَت ثورة يناير، وبعدها عقدَت اللجنةُ اجتماعًا واحدًا في يوليو لمواصلة العمل. ثم توقَّفَت فجأة، ونُحِّيَت جانبًا مادة هائلة ورصينة لآلاف الأعلام، تم تحريرها وإعدادها للنشر. وما زال الأمل معقودًا في العود لإكمال هذا المشروع.
على أن المادة التي أعددتُها لمنى أبو الفضل من أجل ذلك المعجم كانت — وفقًا لقواعده — في حدود ١٥٠٠ كلمة، جذبَتني إلى آفاق تفكيرها وكتاباتها، فتوسعتُ في صحبتي لها. عدتُ إليها في أكثر من موضع، منها هذا الفصل الرابع.
٢  من تحريرها وإشرافها أيضًا كتاب «بنت الشاطئ: خطاب المرأة أم خطاب العصر؟ مُدارسة في جينالوجيا النخب الثقافية، ٢٠١٠»، وهو أوراق ندوة عقدَتها جمعية «دراسات المرأة والحضارة»، التي قامت بتأسيسها في مارس ١٩٩٦، وتهدف إلى التوعية الفكرية ﺑ «نسوية إسلامية» — سنعود إليها لاحقًا — من خلال البحوث والندوات والأنشطة التدريبية، في إطار فلسفة عامة ترتكز على «المنظور الحضاري الإسلامي». وأشرفت على إصدار أعداد المجلة غير الدورية التي صدرت عن هذه الجمعية، مجلة «المرأة والحضارة»، تفتتحها منى بعبارة تقول: «الأم أمة، وما بينهما وثاق يشدُّ الأصل إلى الفرع، على منواله تنسج العمارة التي هي أساس الحضارة.»
كما ضمت هذه الجمعية الفكرية وحدة طبية تعمل في مجال العناية بالصحة النفسية والبدنية للمرأة والأسرة. صدر لمنى أبو الفضل أيضًا «المرأة العربية والمجتمع في قرن: بيبليوجرافيا المرأة العربية»، دار الفكر، دمشق، ٢٠٠٢.
٣  أما عن كتاباتها باللغة الإنجليزية فهي كالآتي:
  • Where East meets West: The West in the Agenda of Islamic Revival, Islamization of Knowledge Serious, (No. 10), (The International Institute of Islamic Thought, Herndon, Virginia, 1981).
  • Community, Justice, and Jihad: elements of the Muslim historical consciousness, AJISS, vol. 4, no. 1, Sep. 1987.
  • Alternative Perspective: Islam from Within, (The International Institute of Islamic Thought, Herndon, Virginia, 1991).
  • New Directions, in: Proceedings of the 21th Annual Convention of the Association of Muslim Social Scientists, (The International Institute of Islamic Thought, Herndon, Virginia, 1993).
  • Islam and Middle East: The Aesthetics of a Political Inquiry, (Research Monographs, No. 2, 1981).
  • Paradigms in Political Science Revisited: Critical Options and Muslim Perspectives, in: The American Journal of Islamic Social Sciences. Vol. 6, No. 1, September 1989.
  • Contrasting Epistemic: Tawhid, the Vocations and Social Theory, in: The American Journal of Islamic Social Sciences. Vol. 7, No. 1, September 1990.
  • The Enlightenment Revisited: A Review Essay, in: The American Journal of Islamic Social Sciences. Vol. 7, No. 3, December 1990.
  • Beyond Cultural Parodies and Parodizing Cultures: Shaping a Discourse, in: The American Journal of Islamic Social Sciences. Vol. 8, No. 1, September 1991.
  • Contemporary Social Theory: Tawhidi Projections, in: The American Journal of Islamic Social Sciences. Vol. 11, No. 3, Fall 1994.
٤  هذان البحثان منشوران في مجلة إسلامية المعرفة، التي يُصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فيرجينيا، (وتنتشر فروعُه في عواصم عديدة). البحث الأول، عدد ٦، سبتمبر ١٩٩٦، والبحث الثاني عدد ٩، يوليو ١٩٩٧.
٥  د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ٢٠٠٥، ص٢٠.
٦  د. منى أبو الفضل، نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، ترجمة عارف عطاري، في: مجلة إسلامية المعرفة، العدد ٦، سبتمبر ١٩٩٦.
٧  د. منى أبو الفضل ود. طه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية، دار السلام، القاهرة، ٢٠٠٩، ص٦٤.
٨  السابق، ص٧٣.
٩  د. السيد عمر، بصائر منهجية في التعامل مع التراث: إطلالة على العطاء المنهجي للعلامة منى أبو الفضل، في: د. نادية مصطفى ود. سيف عبد الفتاح وماجدة إبراهيم (محررون)، التحول المعرفي والتغيير الحضاري، دار البشير، القاهرة، ٢٠١١، ص٩٦–١٥٣، ص٩٧.
١٠  السابق، ص١٠٥.
١١  د. منى أبو الفضل، الأمة القطب، ص٢٣.
١٢  المرجع السابق، ص٤٧.
١٣  د. منى أبو الفضل، الأمة القطب، ص٢٩، ٤٥، ٥٦، ٦٥، ٦٦.
١٤  منى أبو الفضل وطه جابر العلواني، إعادة بناء علوم الأمة، ص١٢٢–١٢٣.
١٥  أشرفت د. منى أبو الفضل على إصدار المجلد: الأوقاف الخيرية وعمارة الإنسان والمكان، نحو توطين نموذج إسلامي معاصر للتنمية البشرية (دراسة في أوقاف الفرد، الجمعية الأهلية، أوقاف النساء)، إعداد وتحرير د. أماني صالح وأخريات، إصدار جمعية «دراسات المرأة والحضارة» وجامعة قرطبة بفرجينيا، الناشر: دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة.
١٦  نُشرت أعمال هذه الندوة في كتاب التحول المعرفي والتغيير الحضاري، المذكور في هامش ص٢٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤