الفصل الخامس

فلسفة العلم … تحريرًا للشعوب١

باسم الله … والحمد لله تعالى كثيرًا … والشكر الجزيل على التكريم الكريم، من الأشقاء الأكرمين … في لؤلؤة الدول العربية … واسطة العقد الخليجي … دولة الكويت ذات الأيادي البيضاء على الثقافة العربية الجادة.

دولة الكويت … وطني الثاني … لأن أنضر أبحاثي وأعز كتُبي تأليفًا وترجمةً شرفت بالطبع في رحاب الكويت والنشر على أراضيها المصونة، وأعتزُّ بأن وطني الأول مصر لا يتوانَى في الزَّود عن حِماها … حفظها الله درةً تتلألأ في الوطن الأكبر … وطن الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج التي تحتوينا جميعًا، متبتِّلين في محرابها، عاملين على إثراء أصالتها بما نجنيه من حصائل الحداثة والمعاصرة، داعين المولى أن يحفظَ هويتها ويرفع شأنها ويعزَّ قدرها.

•••

أما بعد …

فإن العلم — كما أشرت مرارًا وتكرارًا — ليس محضَ مهنة تحترفها فئةٌ من ذوي العقول المتميزة جيدة الإعداد هي فئة العلماء … العلم أهم وأعم. إنه أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، أشدها إثباتًا لحضور الإنسان/الموجود العاقل في هذا الكون. أُلقيت أصوله في الحضارات الشرقية القديمة، وصِيغت الأسس النظرية في حضارة الإغريق، حتى كان الدور العظيم الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي: مرحلة العصور الوسطى التي كانت شمسها غاربة عن الغرب ومشرقة في الشرق. فكان تاريخ العلوم عند العرب هو المقدمة الشرطية، التاريخية والجغرافية والمنطقية، المفضية لنشأة العلم الحديث في أوروبا.

يمثل العلم الحديث مرحلة شديدة التميز والتوهج من مراحل تطور العلم والعقل والحضارة إجمالًا، تتضاعف مردوداته وحصائله بمعدلات متصاعدة غير مسبوقة، حتى بات العلم العامل الفاعل الحاسم في تشكيل العقل والواقع على السواء. وتبلورت في القرن العشرين فلسفة العلم كأهم فروع الفلسفة، والأكثر تعبيرًا عن روح العصر وطبيعة المد العقلي فيه.

•••

ولئن كان العلم في كل هذا هو أروع تجلِّيات العقلانية، فإنه لا يهبط من السماء ولا يسبح في الفراغ، بل يفلح أرضًا مهَّدتها الحضارة السائدة، ويشتبك مع جوانبها المختلفة. العلم إبداع وفعالية دافقة، ظاهرة إنسانية حميمة وصميمة، مثل الفن والأدب وسياقات الخطاب الديني والمنظومات السياسية والقانونية والأنساق اللغوية والأخلاقية … إلخ، التي تشكِّل في مجموعها حضارة الإنسان.

العلم ظاهرة إنسانية. هذه حقيقة ساطعة كشمس النهار، انقشعَت عنها الغيوم فقط في النصف الثاني من القرن العشرين، بانتهاء العصر الوضعي حين كانت فلسفة العلم تقتصر على منطقه ومنهجه، تنظر إلى النسق العلمي من الداخل بوصفه فاعلية تخصصية مستقلة محكومة فقط بالأدوات الإبستمولوجية كاللغة الرياضية والملاحظة والتجربة ودقة التنبؤ … ليغدوَ تاريخ العلم وأبعاده الحضارية والثقافية، غير ذات صلة بفلسفة العلم.

وكان كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤) أهم فلاسفة المنهج العلمي، حمل لواء النقد الحاد للوضعية المنطقية، مؤكدًا أن فلسفة العلم ليست مجردَ تحليلات منطقية، بل هي فلسفة الفاعلية الحية والهم المعرفي للإنسان. والعلم أكثر حيوية من أي منشط آخر، قضاياه قابلة دومًا للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلاق والعبقرية المبدعة دورًا أساسيًّا في رسم قصة العلم المثيرة التي علَّمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم. وجعل بوبر فلسفة العلم هي فلسفة التقدم.

ثم كانت النقلة المحورية بفعل توماس كون (١٩٢٢–١٩٩٦) الذي أوضح أن تفهم ظاهرة العلم وفلسفته وتقدمه المستمر لا يكون إلا من خلال «البراديم»؛ أي النموذج الإرشادي الذي يضمُّ سائر ما يصنع تجانس المجتمع العلمي من النظريات المعمول بها — في الحقبة التاريخية المعنية — ومناهجها ومشاكلها وأيضًا الأبعاد السوسيوسيكولوجية والقيمية. اهتم كون بهذه الأبعاد، مؤكدًا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى؛ لأنه مثلها لا يُفهم إلا في ضوء تطوره عبر التاريخ. فلسفة العلم وتاريخه مبحثان متمايزان ومختلفان، لكنهما بنفس القدر متكاملان. تأكد الربط بينهما مع إمري لاكاتوش (١٩٢٢–١٩٧٤) ومبدئه النافذ: فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء. والحق أن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.

ويأتي بول فييرآبند (١٩٢٤–١٩٩٤) ليُبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية والنسبوية، بمعنى أن مناهج العلم عديدة مديدة وليس ثمة منهج واحد ووحيد ليكون المنهج العلمي بألف ولام العهد، وأن تقويم المعرفة العلمية ومنهجها يكون بالنسبة لمرحلتها التاريخية وليس كحقيقة مطلقة؛ وبالتالي كل نظرية لها مكانها ولكل مرحلة دورها في تاريخ العلم. والعلم الحديث ذاته ليس نظامًا مقدسًا يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني وجب أن ينموَ ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، وهو ليس ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووَأْد الثقافات الأخرى، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر.

وبهذا الموقف النقدي لامسَت فلسفة العلم حدودَ ما بعد الحداثة، بل وقدَّمت إسهامها في الوجه الآخر لما بعد الحداثة؛ أي ما بعد الاستعمارية.

•••

هكذا أصبحت فلسفة العلم منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين فلسفة إنسانية حية خفاقة، متوفرة دافقة … شاملة للموقف الإنساني أكثر من أية فلسفة أخرى؛ فلا غرو أن تمنحنا مداخلات ومناهل للإجابة عن أشد تساؤلات الإنسان إلحاحًا وأحر دعاويه وأكثرها شمولية.

ولئن كانت الشعوب هي الواقع الشمولي للإنسان، فهل يشهد الواقع والمثل والقيم والتطلعات الإنسانية جميعًا ما هو أحر من الحرية؟

•••

إن حرية الشعوب غاية مرومة دائمة، سؤال زماننا الراهن وكل زمان … سؤال الواقع العربي … وكل واقع.

ثم هو سؤال تمنحه عبقرية اللغة العربية المزيد من المشروعية، حيث الحرية هي الأصل الأصيل الجيد، وما سواه زيف جدير بالرفض. يخبرنا «لسان العرب» إن «الحُر» بضم الحاء من الذهب أو من النحاس مثلًا: هو ما خلص من الاختلاط بغيره. ورملة حرة: رملة لا طينة فيها. وطين حر: طين لا رمل فيه. الحر: ضد العبد. والحر من الناس: أخيارهم وأفاضلهم وأشرافهم. والحر في كل شيء: أعتقه. فرس حر: فرس عتيق بمعنى أصيل. وناقة حرة: ناقة كريمة الأصول. وحر البقل وحر الفاكهة: خيارها. والحر: كل شيء فاخر. حر الأرض: وسطها وأطيبها. وحر الدار: وسطها وخيرها. والفعل الحر: هو الفعل الحسن. يقال: ما هذا منك بحرٍّ؛ أي ليس بحسن ولا جميل. وسحابة حرة: أي غزيرة المطر. وكلام حر: أي بالغ الفصاحة … هكذا تُنبئنا عبقرية اللغة العربية بالخسران المبين في أيِّ تفريط في الحرية.

نعود إلى حرية الشعوب لنجدها تتهدد بفعل خطرَين داهمَين، هما:
  • (١)

    الاستبداد والظلم وفساد الحكم من الداخل.

  • (٢)

    الإمبريالية والهيمنة الأجنبية من الخارج، ليكون تحرير الشعوب بإضاءة الطريق لمواجهة هذين الخطرَين والإطاحة بهما.

وإذا سلَّمنا بأن طريق التحرير يترسم عبر مقولتَين:
  • (١)

    الثورة … لمواجهة الخطر الأول.

  • (٢)

    نقض الاستعمارية والمركزية الغربية لمواجهة الخطر الثاني؛ سيسهل علينا تبيان دور فلسفة العلم في تحرير الشعوب.

على أن نضعَ في الاعتبار أن وظيفة الفلسفة تكمن في عالم المفاهيم والخبرة الفلسفية خبرة بالمفاهيم، تاركة الوقائع للعلوم التجريبية، حتى قيل: إن الفلسفة ليست حبَّ الحكمة بقدر ما هي صداقة المفاهيم. وما يمكن أن تقدِّمَه فلسفة العلم أو سواها من فلسفات إنما يتأتَّى أساسًا وقبل كلِّ شيء من عالم المفاهيم وفيه وبه، ليكون بلورة مفهوم أو تقنينه أو توضيحه أو تحليله أو كشف زيفه، أو ربما خلقه خلقًا.

وببساطة كانت فلسفة العلوم هي التي بلورت مفهوم الثورة أصلًا، وهي التي أكَّدَت في العقود الأخيرة ضرورة الإطاحة بالمركزية والتبعية.

•••

أما عن «الثورة» فلا يُدهشنا أنها في أصلها مفهومٌ علمي خالص، فلكي رياضي. كان علماء الفلك في القرن السابع عشر أول مَن صاغ اللفظ Revolution؛ أي ثورة، من المقطعين Re بمعنى إعادة وvolution بمعنى دورة، عادةً دورة صاعدة. ولنلاحظ أواصر القربى اللغوية بين Revolution: ثورة وEvolution؛ أي تطور وارتقاء. صيغ مصطلح الثورة Revolution في الأصل لتمثيل دورة جديدة للكوكب في مداره تعني عامًا جديدًا، ولأنه لفظ يُشير إلى زمان جديد وتغيُّر صاعد، فقد انسحب استعماله إلى مجال الأوضاع المدنية التي بدَت هي الأخرى في حاجة إلى هذه الإسقاطات والإشارة إلى الانتقال لمرحلة أعلى آن أوانها، لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. هكذا انسحب مفهوم «الثورة» إلى الواقع السياسي المضطرم.

ويعود مفهوم «الثورة» مجددًا إلى موطنه في عالم العلم، ويشيع شيوعًا طاغيًا في فلسفة العلم لا سيما بعد أن أصبحت هي فلسفة التقدم مع كارل بوبر. والواقع أن التقدم المتسارع للعلم يفرض الاعتراف بطبيعته الثورية، ويبدو مفهوم «الثورة» أداة مكينة لتفسير نشأة العلم الحديث وطبيعة التقدم العلمي والخطوات الجذرية التي يقطعها، والتي يصعب أن نعتبرها دائمًا مجردَ تراكم كمي أو تطور عادي: نظرية تتلو نظرية، وكشف بجوار كشف … وكأنه مخزن بضائع أو حتى رف كتُب يمتلئ تدريجيًّا. كلا، إنه بالأحرى سلسلة متوالية من الثورات، وبدء دورات جديدة.

طريق العلم هو طريق التقدم المتوالي، طريق الثورة/الدورة. والعلم هو الكيان مطرد التقدم ذو الثورات الحقيقية في تاريخ البشر. أكَّد بوبر تأكيدًا أن التقدم العلمي لا تُفسِّره إلا الثورة، بمعنى الانتقال لدورة معرفية جديدة، كل نظرية علمية ثورة قامَت على تكذيب سابقتها وإتمام دورتها … استيعابها وتجاوزها لتبدأ دورة جديدة أعلى، قابلة هي الأخرى للتكذيب، لتشهد الثورة التالية … وهلمَّ جرًّا. فيسير التقدم العلمي في سلسلة متصلة من الثورات.

التقط توماس كون أيقونة الثورة من كارل بوبر، وأقام تفسيره لتاريخ العلم وفلسفته على أساس مفهوم الثورة التي هي انتقال من براديم إلى آخر … وذلك في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية، ١٩٦٢» الذي يُعَد علامة فارقة في مسار فلسفة العلم، وأصبح مصطلح «الثورة» مهيمنًا فيها، تكاتف أقطابها لإبرازه وتفعيله. أسفرَت جهودهم عن صقل وتقنين لمفهوم الثورة، كقوة إيجابية للتصحيح الذاتي وتصويب الأخطاء والصعود إلى مرحلة تقدمية أعلى. وذلكم هو عين المطلوب من الثورة … لكي تكون خلاصًا من أخطاء نظام الحكم القائم … تحريرًا للشعوب من الظلم والاستبداد والفساد.

•••

أما عن تحرير الشعوب من الخطر الأعتى وهو الإمبريالية والهيمنة الغربية، فإن العلم ككل ظاهرة إنسانية له حيوادت ونواتج غير مرغوبة، الاستعمار أبرزها وأبشعها. العلم مسئول عن الاستعمار على مستوى الواقع وعلى مستوى الفكر معًا. واقعيًّا، كانت الثورة الصناعية من نواتج التقدم العلمي التقاني، وجعلت الاستعمار والهيمنة على الآخرين ضروريَّين لتأمين متطلباتها من مواد خام وأسواق لترويج المنتجات وحماية لطرق التجارة …

أما على مستوى الفكر، فإن العلم نجيب العقل الأثير، وفلسفته حصاد التزاوج بين العقلانية والتجريبية، وهما دعامتَا التنوير في الفلسفة الغربية منذ القرن الثامن عشر.

التنور تجسيد لقيم الحداثة وخلاصتها، وكان في الآن نفسه الأساسَ الأيديولوجي للاستعمارية الأوروبية! التنوير يتلخص في أن «طريق التقدم هو طريق العقل والعلم والحرية.» وهذا حقٌّ أُريد به باطل حين تبعَته القضية القائلة إن هذا الطريق قطعَه الرجل الأوروبي باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعًا أو كرهًا، ليغدوَ الاستعمار والهيمنة على العالمين حقًّا للرجل الأبيض، وواجبًا عليه.

كان هذا هو الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية ووريثتها الإمبريالية، وله وجه آخر هو المركزية الأوروبية Euro-centrism، التي امتدت إلى الشاطئ الغربي من المحيط … إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح المركزية الغربية. هذه المركزية تعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق، فتمثل معيار الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدُّمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي: المثل الأعلى المتوج بالعلم الحديث الذي هو صنيعة الغرب وحده.

على أن منطق العلم منطق التصحيح الذاتي، فلا غرو أن تفتح فلسفته طريق تصحيح الأخطاء والجرائم الحضارية التي سببها العلم … طريق تحرير الشعوب من نير الإمبريالية والهيمنة الغربية.

فقد شهدت أواسط القرن العشرين منعطفًا بانتهاء الحرب العالمية التي أثارت ويلاتُها الشكَّ في قيم الحداثة وأعلنت إفلاس الاستعمارية الأوروبية، وتصاعد المد القومي في أنحاء العالم ومطالب الحرية والاستقلال، فازدهر الطابع النقدي للفلسفة بظهور موجات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية.

لاحظنا أن فلسفة العلم لامسَت حدود ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية مع فييرآبند، لكن الاقتحام الجَسور حقًّا لهذا المضمار أتى من الفلسفة النسوية التي ظهرَت في سبعينيات القرن العشرين من أجل رفض اعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، وتجد لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري: الجانب الأنثوي الذي طال قمعه، وتعمل على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية سادَت لتعني الأعلى والأدنى، امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صُوَرها في الاستعمارية والإمبريالية. وكما تقول لوريان كود: الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالَين.

تعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور. أمعنت في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغَّلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل: إنها تولَّدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسمَ لها، وعنونة مقولات لا عناوين لها.

الفلسفة النسوية أعمق من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال، فلا بد من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسَبْر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة؛ تمهيدًا لاجتثاثه من جذوره. لا بد من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، وصياغة نظرية عن الهوية النسوية. إن الفلسفة النسوية حرثٌ للأرضية العقلية، واستنبات لبذور لم تُبذر من قبل.

وكان امتدادها إلى فلسفة العلم ضربة استراتيجية؛ لأن العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدًا للقيم الذكورية، انطلق بروح السيطرة على الطبيعة وتسخيرها مما تمخَّض عن الكارثة البيئية، وعن استغلال قُوَى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وهذا ما ترفضه النسوية الغربية بحسم وقطع، حتى إنها تفخر بدور النساء المكافحات اللاتي شارَكْن في النضال للتحرر من الاستعمار، شارَكْن بأنفسهن ولم يقتصرْن على إنجاب الرجال المناضلين. فكانت المرأة قوة خفية وقوة ظاهرة في النضال من أجل تحرير الشعوب وتحقيق الذات القومية.

ترفض الفلسفة النسوية التفسير الذكوري للعلم بنواتجه السلبية، وتحاول إبراز وتفعيل جوانب وقيم مختلفة خاصة بالجانب الآخر للوجود البشري … بالأنثى، كالعاطفة والخيال وعمق الارتباط بالآخر والرعاية الطويلة المدى … كلها جرَى تهميشها وإنكارها من عالم العلم، بينما لها إيجابيات جمة تُثري المنهجية العلمية. وتنزع فلسفة العلم النسوية إلى أن تكون تحريرية، فترى العلم علمًا بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيًّا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنها لا تنفي منهجية العلم السائدة، أو تريد أن تحلَّ محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود. هكذا تحاول أن تُضيفَ إلى العلم قيمًا أنكرها، وكان اشتباكها الحميم بالقضايا المستجدة في فلسفة العلم من حيث هو ظاهرة إنسانية، كقضايا البيئة وأخلاقيات العلم وعلاقته بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. لقد وجدت فلسفة العلم النسوية طريقَها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة، وتحريرًا للثقافات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية.

رأين الإمبريالية لا تنفصل عن غزو ثقافي وقهر ثقافة الآخر وتدميرها، وإحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة؛ وبالتالي تنطوي مقاومة الإمبريالية على مقاومة ثقافية، ومحاولة الإبقاء على ثقافة الأنا وحمايتها من الضياع، وعلى نقد للثقافة الإمبريالية. وكان استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والإمبريالية … تحريرًا للشعوب من الهيمنة الغربية.

•••

أخيرًا … هذا الدفاع عن الثقافات الأخرى من قِبَل الآخر بالنسبة لنا يضعنا أمام مسئولية التحرير الكبرى، التي تتمثل في ضرورة توظيف فلسفة العلم وعمادها المتمثل في مناهج البحث العلمي من أجل تأكيد هويتنا في أخطر فعاليات العصر وفارس الحلبة المعرفية فيه؛ أي المنهج العلمي.

لا بد من تشييد منهجية علمية تكاملية، نابعة من حضارتنا، تؤكد أن الروح العلمية أصيلة غير مجلوبة؛ لأن العلم غير قابل للاستيراد. قد نستورد بعض نظرياته فنتعلمها أو بعض تطبيقاته فنستعملها، وفي هذا وذاك لا علمَ لدينا ولا حظَّ لنا من الإسهام فيه.

ثمة الإنجاز الضخم الذي حققَته الحضارة الغربية، ومن الضروري العناية بدرسه وفحصه. على أن الفارق كبيرٌ بين الدرس والاستفادة والتوظيف الراسم للحدود، وبين الترديد الأصم والتبعية العمياء. وفي رفضنا الاغتراب عن واقع المكان يظل من حقنا ومن واجبنا أن نقبل ونرفض ونقدم منهجية علمية إسلامية تحمل خصائص حضارتنا نحن، وتُحقق أهدافنا وتؤكد قِيَمنا ووجودنا.

كان للمسلمين في عصرهم الذهبي جهودهم الجبارة في المجال المنهجي. إنها قضية الأصالة والمعاصرة الشهيرة؛ ففي تأطير ومأسسة العلم بمنهجية متكاملة، كما هو الوضع في محاور حضارية عديدة، لدينا نموذجان مكتملان: النموذج الإسلامي الموروث، والنموذج الغربي المعاصر، والمطلوب استيعاب وتجاوز هذا وذاك بمنهجية علمية إسلامية معاصرة.

تتضح معالمها حين نلاحظ أن قراءة كتاب الطبيعة في المنهجية العلمية الغربية كانت بديلًا عن قراءة الكتاب المقدس، استبعادًا وتنحية للوحي السماوي. وفي مقابل هذا لا تمكين للظاهرة العلمية في الحضارة الإسلامية تحديدًا إلا على أساس الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي المسطور والوحي المنظور؛ أي قراءة القرآن والعالم، كليهما. إنه تكامل مصادر المعرفة، وتحرير عقل الإنسان المسلم وإطلاق طاقاته.

وحين ينطلق الوعي المنهجي من المداخل الإسلامية، سوف يحمل العناصر الموجهة للبحث العلمي في حضارتنا، والمُساهِمة في تحديد أخلاقياته وغاياته، فيتمثل تمايز الحضارة الإسلامية تأكيدًا لقِيَمها ولوجودها، كأمة قطب وأمة وسط.

عماد الإطار المنهجي الإسلامي هو عقيدة التوحيد، التي تُضفي على الكون نظاميته وعلى البحث العلمي أخلاقياته، وتُحدد للمسلم ماهيته ودوره، وتستتبعها الضوابط والموجهات الإسلامية، وفي مقدمتها التزكية والعمران والاستخلاف … بقدرتها الفريدة على ترشيد البحث العلمي وتسديد خُطَى العالم.

وحين تغدو الروح العلمية هكذا غير مجلوبة أو مستوردة، وينطلق البحث العلمي من أصوليات حضارتنا ومن واقعنا وقِيَمنا، فذلكم هو التحرير الفعال للشعوب العربية وربيعها اليانع حقًّا.

١  محاضرة عامة أُلقيت بالمكتبة الوطنية بالكويت في ٢٣ يناير ٢٠١٢، بحضور لفيف من كبار المثقفين بدولة الكويت الشقيقة، وذلك في حفل لتكريم كاتبة هذه السطور لاختيارها شخصية مهرجان القرين الثقافي الثامن عشر؛ لتكون ثاني وآخر سيدة تحصل على هذا التكريم حتى الآن، بعد سوزان مبارك حرم رئيس الجمهورية الأسبق. وهو تكريم رفيع يناله لحظة كتابة هذه السطور في يناير عام ٢٠١٦، فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد محمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤