حانة بوروجونيا
في ليلةٍ من ليالي سنة ١٦٤٠، بدأ الناس يَفِدُون إلى حانة بوروجونيا في باريس، لمشاهدة رواية «كلوريز» — وهي إحدى روايات الشاعر المشهور «بَلْتازار بارو» — ولم يكن للتمثيل في ذلك العصر دورٌ خاصة به، وإنما كانوا يمثلون في الحانات أو المطاعم الكبيرة، على مسارح خاصةٍ يعدونها لذلك.
وكان جمهور المشاهدين في تلك الليلة — كما هو شأنهم في جميع الليالي — خليطًا من العمال والجنود، واللصوص والخدم، والأشراف والعلماء والكتاب، وأعضاء المجمع العلمي الفرنسي، قد اختلط بعضهم ببعضٍ، وجلس أخيارهم بجانب أشرارهم، فبينما العلماء يتناقشون في مباحثهم العلمية والأدباء يتحدثون في شئونهم الأدبية، إذا فريقٌ من الخدم قد ألصقوا شمعة بالأرض، واستداروا من حولها حلقةً واسعة، وأخذوا يقامرون بالمال الذي سرقوه من أسيادهم في ساعات لهوهم واستهتارهم، وآخرون من أبناء الأشراف قد تماسكوا بأيديهم، وظلوا يدورون حول أنفسهم راقصين مترنحين، وآخرون من الغوغاء يأكلون ويقصِفون ويتسابُّون ويتلاكمون، ويجئرون بأصواتٍ عالية متنوعة كأنهم في سوق من أسواق المزايدة، وجماعةٌ من الجند يتلهَّوْن بالمبارزة والملاكمة، لا يبالون من يطئون بأقدامهم، أو يصيبون بشفرات سيوفهم، وفئة من الصعاليك قد اصطفوا صفًّا واحدًا بين يدي لصٍّ من دهاة اللصوص ومناكيرهم، يعلمهم كيف يسرقون الساعات من الصدور، ويمزقون الجيوب عن الأكياس، وكيف يتغفَّلون صاحب المعطف عن معطفه، والقبعة عن قبعته، والعصا عن عصاه، كأنه قائدٌ يدرب جنوده على الحركات العسكرية، وفتًى من المتأنقين المتظرفين يطارد فتاة المَقْصِف من ركنٍ إلى ركن يحاول إمساكها والعبث بها، وهي تتمَّنع عليه، وتتأبَّى تأبِّيًا أشبه بالإغراء منه بالامتناع، وجنديٌّ من جنود الحرس قد تغفَّل البواب عند دخوله وامَّلس من يده دون أن يدفع إليه شيئًا، والبواب يطارده ويلاحيه ويأخذُ بتلابيبه، فيجادل عن نفسه بأنه حارس الملك، وحراس الملك أحرارٌ يدخلون من الأمكنة ما يشاءون، وزمرةٌ من المتأدبين قد انتبذوا ناحية من القاعة، وأخذوا يندبون الأدبَ وحظه وشقاءَ أهليه وبلاءَهم، ويقول بعضهم لبعض: أليس من مصائب الدهر ورزاياه أن يقف موقف الممثل بين هذا الجمهور الساقط أمثالُ «مونفلوري» و«بلروز» و«بويريه» و«جودِليه»، وأن تُمثَّل على مثل هذا المسرح الحقير المتبذل روايات أكابر الشعراء الروائيين أمثال «روترو» و«كورني» و«بارو»؟
ولم يكن يضيء تلك القاعة على كبرها واتساعها إلا بضعة مصابيح ضئيلة، تتراءى تلك الجماهير على نورها كأنها الأشباح المتحركة، أو الأرواح الهائمة، وقد يسمع السامع فيها من حين إلى حين في وسط هذه الضوضاء صوتَ فتاة المقصف، وهي تصيح خلف مقصفها بصوتها الرقيق الرنان: «اللبن»، «الحلوى»، «عصير البرتقال»، «عصير الرمان»، «الشِّواء»، «الفطير»، «النبيذ»، أو صوت شيخ هَرِمٍ يسب ويحتدم ويضرب الأرض بقدميه، وهو عاري الرأس منقلب السَّحْنة؛ لأن أحد الجالسين في الطبقة العليا من الملعب قد أرسل على شعر رأسه المستعار شصًّا فاجتذبه به، وظل معلقًا في الفضاء على مرأى من الجماهير الضاحكين، أو صارخًا متألمًا قد وضع يده على عينه وظل يصيح: وا غوثاه! وا ويلتاه! لأن بعض المتفرجين صوَّب إليها حصاة صغيرة أو نواة فأصابها بها، إلى أمثال ذلك من صراخ الصارخين، وهتاف الهاتفين من جميع جوانب القاعة: أشعلوا الأنوار، ارفعوا الستار.
ولم يزل هذا شأنهم حتى دقت الساعة العاشرة من الليل، وقرب ميعاد التمثيل، فدخل جماعةٌ من الأشراف المتأنقين يجررون أذيالهم، ويشمَخون بأنوفهم، ويتأففون لضعف الأنوار وضوضاء الجماهير، ويصيحون: الطريق الطريق أيها الصعاليك، فتنفرج الصفوف لهم انفراجًا، حتى بلغوا مكان المسرح فصعدوا عليه، وجلسوا فيه على مقاعدَ متفرقةٍ في أنحائه جلسةً باردةً وقحةً لا أدب فيها ولا احتشام، وكانت المقاصير في ذلك التاريخ خاصة بالنساء، لا يجلس فيها غيرهن، إلا مقصورةً واحدة بجانب المسرح كان يجلس فيها الكردينال إذا حضر، أو من ينزل منزلته من عظماء المملكة ووجوهها.
طاهي الشعراء
جلس في ركنٍ من أركان القاعة في تلك الساعة شخصان منفردان، أحدهما الشاعر «لينيير»، وهو رجلٌ بائسٌ مسكين، مغرمٌ بالشراب ومعاقرته، لا تكاد تفارق يده الكأس ليله ونهاره، وثانيهما البارون «كرستيان دي نوفييت»، وهو فتًى من أشراف الريف، جميل الطلعة، حسن الزي والثياب، إلا أن هندامه على الطراز القديم، حضر من «تورين» إلى باريس منذ عشرين يومًا ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي، فلم يدخلها إلى صباح اليوم. فقال الشاعر للبارون: إن صاحبتك لم تحضر حتى الساعة، وها هي ذي مقصورتها التي أشرتَ لي إليها لا تزال خالية، وقد اشتد ظمئي، فأْذن لي بالذهاب إلى إحدى الحانات القريبة لأتناول قليلًا من الشراب ثم أعود إليك، فاضطرب كرستيان وتشبث بثوبه وقال له: إنك إن ذهبت لن تعود يا لينيير، وأنا في أشد الحاجة إليك، فإني أريد أن أعرف من هي؟ وما مَنْبِت دوحتها؟ وربما بدا لي أن أزورها الليلة في مقصورتها، وأتعرف إليها، وليس في استطاعتي أن أقدم على ذلك وحدي، فأنت تعلم أنني رجل جندي ساذج، حديث عهدٍ بهذا البلد وأهليه وآدابه ومصطلحاته، ويُخيَّل إليَّ — وإن لم أكن قد حادثتها أو جلست إليها — أنها فتاةٌ ذكية متوقدة، بارعةٌ في أساليب الحديث ومناهجه، وأخاف إن أنا لقيتها وحدي أن أضعف أمامها وأضطرب، أو أرتبك في حركةٍ من الحركات بين يديها، فأسقط من عينيها سقطة لا مقيل لي منها أبد الدهر، فابق معي وكن عونًا لي عليها لتتم بذلك يَدُكَ عندي.
وهنا مرَّت فتاة المقصف حاملةً على يدها صينية بيضاء، وهي تتغنى بصوتها الرقيق الشجي، فناداها لينيير فدنت منه، فسألها عمَّا عندها، فظلت تسرد عليه أسماء فطائرها وقدائدها وأشربتها وحلواها، وهو لا يَأْبَهُ لشيء من ذلك، حتى ذكرت له نبيذ «بوردو» فتهلل وجهه وتَحَلَّبَ فُوهُ، وطلب إليها أن تأتيه بالجَيِّد منه، فأتت له بما أراد، فملأ كأسه، وبدأ يشرب ويتغنى، وما هي إلا لحظة حتى قال لكرستيان: الآن أستطيع أن أبقى معك قليلًا أيها الصديق الكريم.
وفي تلك اللحظة دخل القاعة رجلٌ قصيرٌ، ضخم الجثة غريب الهيئة، في ملابس الطهاة وشمائلهم، فصرخ الجماهير حين رأوه: راجنو! راجنو! فلم يأبه لهم، ولم يلتفت إليهم، واندفع مسرعًا إلى لينيير، وقال له بصوت متهدِّجٍ مضطرب دون أن يحيِّيه أو يحيِّي جليسه: ألم ترَ صديقنا سيرانو يا لينيير؟ قال: لا، وما لي أراك مضطربًا هكذا، كأنك هاربٌ من معركةٍ أو مأخوذٌ بجريمة؟ قال: ما أحسب إلا أنه سيحدث الليلة في هذه القاعة حادثٌ عظيم لا يعلم إلا الله كيف تكون عاقبته! فانزعج لينيير، وقال: أيَّ حادثٍ تريد؟ قال: قد علمت الساعة أن سيرانو كان وَجَدَ على الممثل مونفلوري منذ أيامٍ في شأن من الشئون لا أعلمه، فحكم عليه بأن ينقطع عن التمثيل شهرًا كاملًا، وهدده بالموت إن هو خالف أمره، وكنت أظن أن الرجل قد أذعن لهذا الحكم ضنًّا بنفسه وبحياته، ولكنني رأيته الساعة واقفًا في حجرة الممثلين، يترنم بقطعة تمثيلية، وأظن أنه سيقوم بتمثيل دوره الذي اعتاد أن يمثله في رواية «كلوريز» وهو دور «فيدين»، فإن فعل فقد وقعت الكارثة العظمى التي لا حيلة لنا ولا لأحد من الناس في دفعها، وسيرانو كما تعلم رجل مخاطرٌ جريء، لا يبالي بعواقب الأمور، ولا يفكر في نتائجها! فقهقه لينيير ضاحكًا وقال: يا له من قاضٍ غريب! ويا له من حُكْمٍ عجيب! هدئ روعك يا صديقي، فالأمر أهون مما تظن، فربما لا يحضر سيرانو، أو لا يمثل مونفلوري، فلا يقع شيء من المكروه الذي تتوقعه، ثم التفت إلى مرستيان وقال له: أقدِّم إليك المسيو راجنو، طاهي الشعراء والممثلين، وهو اللقب الذي اختارَهُ لنفسه، وعرف به بين الناس جميعًا؛ لأنه صديقهم المخلص الذي يحبهم ويكرمهم ويذودُ عنهم، ويفتح لهم باب مطعمه على مصراعيه يأكلون منه ما يشتهون، ويشربون ما يقترحون، لا يتقاضاهم على ذلك أجرًا سوى قصيدة من الشعر يُملونها عليه، أو قطعة تمثيلية يمثلونها بين يديه، أي أنه يملأ لهم أفواههم طعامًا فيملئُون له أذنيه كلامًا، والأذن كما تعلم ليست طريقًا إلى المعدة كالفم، وهو فوق ذلك شاعرٌ متفنن مطبوع، ينظم أكثر شعره في وصف فطائره وحلواه! فانحنى راجنو بين يدي كرستيان وقال: نعم يا سيدي، إنني صديق الشعراء والممثلين، بل عبدهم ومولاهم، وصنيعة فضلهم وإحسانهم، وإن ساعةً أقضيها في حضرتهم أسمع طرائف أشعارهم، وبدائع فصولهم لهي عندي ساعة الحياة التي لا أعدل بها ساعةً غيرها، فشكر له كرستيان فضله وأدبه، وأثنى خيرًا على شرف عواطفه واكتمال مروءته، وما هي إلا كرَّة الطرف حتى عاد إلى راجنو قلقه واضطرابه، وأخذ يدور بعينيه في الجماهير يفتش عن سيرانو، فقال له لينيير: إنه لم يحضر حتى الآن، وها هو ذا الوَقَّاد قد بدأ في إشعال المصابيح، وها هو ذا السِّتار قد أوشك أن يرتفع، وما أظنه حاضرًا بعد ذلك.
سيرانو
وكان رجلٌ من الأشراف اسمه المركيز دي جيجي جالسًا على مقربة منهم يسمع حديثهم وينصت لحوارهم، فوضع يده على كتف راجنو، فالتفت راجنو إليه. فقال له: أتستطيع أن تخبرنى من هو سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟ فهز راجنو رأسه كالمستغرب، وقال له: إني لأعجب لأمرك يا سيدي، فهي أول مرة سمعت فيها أن إنسانًا في العالم لا يعرف السيد سيرانو! قال: إني أعرف عنه شيئًا قليلًا، وأريد أن أعلم أنبيلٌ هو أم صعلوك؟ قال: إن كنت تريد من النبل شيئًا غير الشرائط والأوسمة والذهب والفضة والحرير والديباج، فهو أنبل النبلاء وأشرفهم؛ لأنه جنديٌّ شجاعٌ، جريءٌ في مواقفه ومشاهده، صادقٌ في قوله وفعله، لا يُحابِي ولا يُجامِل، ولا يتذلَّل ولا يتزلف، ولا يخضع في شأنٍ من شئون حياته إلا للحق الذي يعبده ويدين له، ولو عرفته يا سيدي لعرفت أفضل الناس خُلقًا، وأشرفهم نفسًا، وأطيبهم قلبًا، وأشدهم عطفًا على البؤساء والمنكوبين، وهو فوق ذلك شاعر مُجيد، وعالم فاضل، وناقد بارع، أما شكله فمن أغرب الأشكال وأعجبها، حتى لو أراد مصوِّرنا العظيم «فيليب دي شامبيني» أن يرسمه كما هو لعجز عن ذلك أو كاد، فإنَّ الناظر إليه ليعجب كل العجب لمنظر قبعته المُحَلَّاة بالريشات الثلاث، وردائه الملون الجميل، وقُبائه الواسع المسدس الأطراف، الذي يرفع مؤخره بطرف سيفه، ثم يمشي به مختالًا كأنه طاووسٌ يجر ذَنَبَه وراءه، وله أنفٌ هائلٌ جدًّا، لا يراه الرائي حتى يَذْعر ويرتاع، ويقف أمامه مدهوشًا منذهلًا، يعجب لصاحبه كيف استطاع أن يحمله في رقعة وجهه، وكيف لا يلتمس السبيل إلى الخلاص منه، أما هو فراضٍ عنه كل الرضا، لا يشعر بثقله، ولا يفكر في الخلاص منه بحالٍ من الأحوال، والويل كل الويل لمن يرفع نظره إليه، أو تختلج شفتاه بابتسامة الْعَجَبِ منه أو السخرية به، فإن رأسه يطير بضربة واحدة من حدِّ سيفه. فقال له المركيز: كيفما كان الأمر فإنني أستطيع أن أقول لك — وأنا على ثقةٍ مما أقول، إنه أعجز من أن يمنع مونفلوري عن التمثيل؛ بل هو لا يحضر الحفلة الليلة فرارًا من وعيده الكاذب. فقال راجنو: وأنا أراهن على حضوره بدجاجة مشوية من مطعم «راجنو» الشهير، ولا أرزؤك دانقًا واحدًا إن أنا ربحت الرهان! ثم أدار ظهره إليه، وجلس يتحدث إلى لينيير وكرستيان.
وإنه لكذلك إذ لمح رجلًا مقبلًا على البعد. فقال لصاحبه: ها هو ذا المسيو «لبريه» صديق السيد سيرانو الحميم، فَأْذَنَا لي بالذهاب إليه، لعلي أستطيع أن أعلم من شأنه شيئًا، ثم تركهما وذهب إليه، فرآه يقلب نظره في الجماهير، ويلتفت يَمْنَةً ويَسْرة، فقال له: لعلك تفتش عن سيرانو أيها الصديق؟ قال: نعم، وإني قلقٌ من أجله جدًّا. قال: قد فتشت عنه قبلك فلم أجده، ثم انتحى به ناحيةً من القاعة، وجلسا معًا يتحدثان.
روكسان
وهنا ظهرت روكسان في مقصورتها، فضجَّ الجمهور حين رآها ضجيج السرور والابتهاج، وصاح أحد الأشراف الجالسين على المسرح: آه يا إلهي! إن جمالها فوق ما يتصوَّر العقل البشري! وقال آخر: إنها زهرةٌ تبتسم في أشعة الشمس، وقال آخر: إنها روضةٌ يانعة يحمل النسيم رَيَّاهَا العَطِرَ إلى القلوب فينعشها، وكان كرستيان مشغولًا بأداء ثمن الشراب الذي شربه لينيير، فلم ينتبه إليها؛ ثم التفت فرآها، فارتعد واصفر وجهه وأخذ بيد لينيير وقال له: ها هي ذي، فقل لي من هي؟ إنني خائفٌ جدًّا يا صديقي، فضع يدك على قلبي فما أحسب إلا أنه يحاول الفرار من مكانه رهبةً وجزعًا، حدثني عنها واذكر لي كل ما تعلم من أمرها، وارفق بي في حديثك، حتى لا تقضي على الأمل الوحيد الباقي لي من حياتي.
فقهقه لينيير ضاحكًا وقال له: بخٍ بخٍ لك يا كرستيان! لقد أحسنت الاختيار لنفسك كل الإحسان، وما أحببتَ إلا أجمل فتاةٍ في فرنسا، فإن كان صحيحًا ما تقول من أنها تمنحك من ودِّها مثل ما تمنحها، وأنها تنظر إليك بمثل العين التي تنظر بها إليها، فأنت أحسن الناس حظًّا، وأسعدهم طالعًا، إنها السيدة مادلين روبان، الشهيرة بروكسان، وهي فتاة عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أقرباء سوى ابن عمها سيرانو دي بيرجراك، الذي كانوا يتحدثون عنه الآن، وهي على فَرْط جمالها وكثرة محاسنها، عفيفةٌ طاهرة الذيل، عاقلة رزينة، تجلس إلى أذكياء الرجال وتحادثهم، وتفتتن بتصوراتهم وأفكارهم، وتخوض معهم في كل شأنٍ من شئون الحياة حتى شأن الحب، ولكنها لا تأذن لأحد أن يحبها أو أن يعبث بقلبها، فإن حاول ذلك منهم محاولٌ دافعته عنها برقة وأدب، ورفق وحكمة، فسَلِم لها شرفها وكرمها، ولا عيب فيها إلا أنها من فريق الأديبات المتحذلقات اللواتي أفسد الأدباء المتحذلقون أذواقهنَّ الأدبية، فذهبن مذهب التكلُّف والتَّعَمُّل في أحاديثهن وحوارهن، فلا ينطقن بكلمة صريحة خالية من التشابيه والمجازات والإشارات والكنايات، ولا يواجهن المعاني التي يُردن الإفضاء بها إلى السامعين مواجهةً، بل يدُرن حولها دوراتٍ كثيرة حتى يصلن إليها، فإذا أردن أن يقلن في أحاديثهنَّ العادية: أشرقت الشمس، قلن: «ذرَّ قَرْنُ الغَزالَة»، أو أقبل الليل، قلن: «هجم جيش الظلام» أو: طلعت النجوم، قلن: «تجلت عروس الزنج في قلائدها الدُّرِّيَّة»، أو: ها هو ذا الكرسي فاجلس عليه، قلن: «ها هو ذا الكرسي يفتح ذراعيه لاستقبالك فتفضل بإلقاء نفسك بين أحضانه»، أي إنهن لا يعجبهن من الألفاظ إلا المتكلف المصنوع، ولا من المعاني إلا المجلوب المختصر، ولا من الشعراء والكتاب إلا المتكلفون المتشدقون في أساليبهم وتصوراتهم، وهي سعيدة في عيشها، مغتبطة بحياتها، لا ينغص عليها صفوها غير هذا الرجل الهمجي المتوحش الذي تراه واقفًا بجانبها الآن.
فالتفت كرستيان، فرأى رجلًا رشيقًا متأنِّقًا حسن الزي والهندام، متَّشحًا بوشاحٍ حريريٍّ أزرق، متقلدًا سيفًا عسكريًّا مرصعًا، قد أسند ذراعه إلى ظهر كرسيها كأنه يحتضنها، وظل يحادثها بصوتٍ منخفضٍ كأنه يُسارُّها ويناجيها؛ فقال له وهو يرتجف غيظًا وحنقًا: من هذا الرجل؟ وكان لينيير قد ثقل، وبدأ يتمتم ويتلعثم. فقال بنغمة الفأفأة: إنه الكونت دي جيش، أحد قواد الجيش الفرنسي، وصهر الكردينال دي ريشلييه وزير فرنسا العظيم، وقد أحب روكسان وأغرم بها غرامًا شديدًا، ولما رأى أن لا سبيل له إليها من طريق المُخَالَّة؛ لأنها شريفة مترفعة، ولا من طريق الزواج؛ لأنه متزوجٌ بابنة أخت الكردينال، أراد أن يُزوِّجها من رجل ساقطٍ من أشياعه، لا تحبه ولا تأبه له اسمه الفيكونت «فالفير»، طمعًا في أن ينال منها من طريقه ما لم ينل من طريقٍ آخر، فهالها الأمر وتعاظمها، وأبت أن تُذعن لرأيه أو تنزل على حكمه، ولكنه لا يزال يلح عليها ويضايقها، وهي تدافعه عنها بلطفٍ وأدب، وحذرٍ واحتياط، وأخاف إن استمرت هذه الحال أن ينتهي بها الأمر إلى الخضوع والإذعان؛ لأن الرجل قويٌّ جريءٌ مدلٌّ بمكانه من قيادة الجيش، وبحظوته عند الكردينال، وليس في أنحاء المملكة جميعها من يجرؤ على التفكير في مشادَّته أو الخلاف عليه، ولقد أثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرًا شديدًا، وأشفقْتُ على تلك الفتاة المسكينة أن يستبد بها وبمستقبلها رجلٌ حائرٌ متوحشٌ كهذا الرجل، فنظمْتُ قصيدةً رنانة شرحت فيها قصته معها، وهجوته فيها هجاءً مرًّا لا أحسب أنه يغتفره لي مدى الدهر، وإن شئت أن تسمع هذه القصيدة فَهَاكَهَا.
وكان الشراب قد نال منه أقصى مناله، فنهض قائمًا على قدميه، وأخذ يصوِّب إلى الكونت نظرةً هائلة مخيفة، ورفع الكأس بيده، وحاول أن يتغنى بقصيدته، فأسكته كرستيان وقال له: لا تفعل فإني ذاهبٌ. قال: إلى أين؟ قال: أفتش عن فالفير. قال: ماذا تريد منه؟ قال: أقتله! قال: إني أخاف عليك منه؛ لأنه أقوى منك وربما قتلك. قال: لا أبالي بالموت في سبيلها. قال: انظر، ها هي ذي تنظر إليك، وتحدِّق فيك تحديقًا شديدًا، فلا يشغلك شاغلٌ عنها، أما أنا فإني ذاهبٌ لشأني، فإن أصدقائي ينتظرونني في الْحَانِ، ولا خير لي في الكأس من دونهم، فأذن لي بالذهاب، فأذن له فانصرف، وظل هو شاخصًا إلى مقصورة روكسان، يبادلها نظرات الحب والشغف، ويفضي إليها من طريق الصمت والسكون بما عجز عن الإفضاء به من طريق الكلام.
وكان الكونت دي جيش قد نزل من مقصورتها، ومشى في القاعة يحف به جمعٌ عظيم من حاشيته وأصدقائه، يتملقونه ويداهنونه، وحسَّاده ومنافسوه من نبلاء القوم وأشرافهم يتغامزون فيما بينهم، ويرمونه بنظرات الحقد والحَرْدِ، ويسمونه القائد المغرور مرةً، والجاسكوني الكذَّاب أخرى، حتى إذا مرَّ بين أيديهم نهضوا له إعظامًا وإجلالًا، وانحنوا بين يديه وداروا به يُصانعونه ويماسِحونه، حتى بلغ مكان المسرح، فصعد إليه هو وأتباعه، وجلس على كرسيه المعدِّ له، ثم التفت حوله وقال: أين الفيكونت فالفير؟ فأجابه: هأنذا يا سيدي. قال: تعالَ بجانبي لأحدِّثك قليلًا.
وكان كرستيان واقفًا مكانه ينظر إليه على البعد نظرات الحقد والموجدة، فما سمع اسم فالفير حتى ثار ثائرُه، وغلى دمه في رأسه، وعلم أنه قد وجد خَصْمَه، فوثب من مكانه وثبةً قوية، وصاح: ها قد عرفتُه، وسألطمه بقفازي على وجهه لطمةً هائلة! ووضع يده في جيبه ليخرج قفازه منه، فدهش حين عثرت يده فيه بيد أخرى غريبة، فقبض عليها بشدة والتفت وراءه، فإذا لصٌّ قبيح المنظر، زَرِيُّ الهيئة، يحاول سرقته، فصاح فيه: من أنت؟ وماذا تريد؟ فتضعضع الرجل واستخزى، واستطير عقله خوفًا ورعبًا، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه واستجمع قواه، وقال له: عفوًا يا سيدي، فإني ما أردت سرقتك، وإنما هو تمرين بسيط، فقد تلقيتُ الساعة أول درس من دروس اللُّصوصية على أستاذي «بوار»، وقد بعثني إليك كما بعث غيري إلى غيرك، لا لنسرقكم أو نَحُول بينكم وبين أموالكم، بل لنستوثق من أنفسنا أننا قد حذقنا دروسنا واستظهرناها، فاعف عني واغتفر لي هذه الزَّلة، واعلم أن في صدري سرًّا هائلًا جدًّا ينفعك نفعًا عظيمًا إن أفضي به إليك، وهو خيرٌ لك مني ألف مرة! فضحك كرستيان طويلًا، وقال: أيَّ سرٍّ تريد؟ قال: إن صديقك الذي كان جالسًا معك منذ هُنَيْهَة — وقد نسيت اسمه الآن — هو في الساعة الأخيرة من ساعات حياته، وإن لم تسرع إلى نجدته! قال: أتريد لينيير؟ قال: نعم، فدهش كرستيان، وقال: لم أفهم ما تريد. قال: إنه كان قد هجا منذ أيامٍ عظيمًا من عظماء هذا البلد بقصيدةٍ مُقْذِعةٍ، فحقدها عليه حقدًا شديدًا، ورأى أن ينتقم لنفسه منه، فأعد له مائة رجل يكمنون له الليلة في جنح الظلام عند باب «نيل»، في طريقه إلى منزله ليقتلوه، وأنا أحد أولئك الرجال، فاخرج الآن واطلُبه في الحانات التي يجلس فيها، وهي المضغط الذهبي، والتفاحة الخشبية، والحزام الممزق، والمشاعل، والأقماع الثلاثة، واترك له بطاقةً في كل واحدة منها لتنذره بهذا الخطر الداهم. قال: ومن هو ذلك العظيم الذي دَبَّر له هذه المكيدة؟ قال ذلك سر المهنة لا أستطيع أن أبوح به! فضحك كرستيان وقال: لا حاجة بي إليك فقد عرفته، ثم خلى سبيله فذهب لشأنه، والتفت هو إلى مقصورة روكسان، فرآها متلفتة إليه لا تكاد ترفع نظرها عنه، فألقى عليها نظرةً حزينة، وقال في نفسه: وا أسفاه! لا بد لي أن أتركها الآن، ثم ألقى على الفيكونت نظرةً ملتهبة، وقال: وأنْ أَتْرُكَهُ أيضًا؛ لأني أريد إنقاذ لينيير، ثم ترك الملعب وانصرف ليفتش عن صديقه في تلك الحانات الخمس.
البطل
بدأ الموسيقيون يوقعون على نغماتهم الرقيقة الشجية، وسكنت الجماهير تنتظر رفع الستار، فهمس لبريه في أذن راجنو: ترى هل يظهر مونفلوري على المسرح الآن؟ قال: نعم، ما من ذلك بدٌّ؛ لأنه صاحب الدور الأول في الرواية، ولأنه قد علم أن سيرانو لا يحضر بعد الآن، وأظن أني قد خسرت الرهان! قال: فليكن، فقد كنت أتوقع من حضوره شرًّا عظيمًا.
هنيئًا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جَهْدَهُم، بل يعتزلون العالَمَ بأَسْرِه، ويفرون منه إلى مكانٍ ناءٍ في مُنْقَطَعِ العمران، لا يرون فيه غير وجه الطبيعة الجميل …
وهنا رن صوتٌ عظيمٌ في جوانب القاعة يقول: «ألم أُحَرِّمْ عليك التمثيل شهرًا كاملًا يا مونفلوري؟»
فدهش الجمهور، وجمد مونفلوري في مكانه، والتفت الناس يَمنةً ويَسرةً يفتشون عن صاحب الصوت أين مكانه، ووقف النساء في المقاصير ينظرن ماذا جرى، وهمس راجنو في أذن لبريه، قد ربحت الرهان يا صديقي، فها هو ذا سيرانو قد حضر. فقال لبريه: ليته لم يحضر، وليتك خسرت كل شيء! وما هي إلا لحظة حتى ظهر سيرانو يتخطى الرقاب، ويدفع المقاعد بين يديه دفعًا، ويزمجر زمجرة الرعد، حتى وصل إلى كرسيٍّ أمام المسرح فاعتلاه، وهزَّ عصاه الطويلة في وجه الممثل وقال له: اترُك المسرح حالًا يا أحقر الممثلين، وإلا فأنت أعلم بما يكون، فسخط جمهورٌ من الناس سخطًا شديدًا، وضجوا من كل ناحية: مَثِّل يا مونفلوري، مثل ولا تخف، فتشجع مونفلوري وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئًا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جَهْدَهُمْ، بل يعتزلون العالم بأسره …» فقاطعه سيرانو وصاح وهو يزأر زئير الليث: كأنك تأبى أيها الغبي الأحمق إلا أن أجعل ظهرك مزرعةً لعصاي هذه، فاترك المسرح حالًا، فقد أوشكت أن أغضب. فاحتدم الجمهور غيظًا، وأخذوا يصيحون: صهٍ أيها المجنون، مَثِّل يا مونفلوري، إنه فضولٌ غريبٌ، إنها سماجةٌ نادرة، فعاد إلى الممثل هدوءه وسكونه، وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئًا للذين …» فما نطق بأول حرفٍ منها حتى وثب سيرانو من كرسيه الذي كان واقفًا عليه إلى أقرب كرسي إلى المسرح، وهزَّ عصاه في وجهه وصاح: لا تُمَثِّل أيها الدُّبُّ الهائل ولا تنطق بحرفٍ واحد، فإن فعلت ضربتك بعصاي هذه على وجهك ضربةً لا تعرف من بعدها أين مكان أنفك منك، قد أمرتك وليس في العالم قوة تستطيع أن تعترض أمري، فطاش عقل مونفلوري وتلجلج لسانه، والتفت إلى الأشراف الجالسين على المسرح من حوله وقال: النجدة يا سادتي! فنظر أحدهم إلى سيرانو نظرة عظمة وكبرياء، وقال له: كفى هذيانًا أيها الفضولي الثرثار، فقد أزعجتنا بضوضائك، وكدرت صفونا، والتفت آخر إلى الممثل وقال له: مَثِّل يا رجل ولا تحفل بشيءٍ فأنا أحميك، وقال آخر: لقد تجاوز الحدَّ هذا الوقحُ حتى كاد يفرغ صبرنا.
فاتجه إليهم سيرانو وأنشأ يخاطبهم بهدوءٍ وسكون، ويقول: يجب على حضرات السادة الأشراف أن يلزموا أماكنهم ويحافظوا على حَيْدَتِهِمْ، فإني أشعر أن عصاي تتلهف شوقًا إلى التهام شرائطهم وأوسمتهم.
فانتفض الأشراف غيظًا وتناهضوا للقيام، وهاج الجمهور هياجًا شديدًا، وأحاط جمعٌ عظيمٌ منهم بكرسي سيرانو وأخذوا يصيحون في وجهه ويولولون، ويقلدون أصوات الحيوان: كالديك والهِرِّ والكلب والحمار، فاستدار نحوهم سيرانو وألقى عليهم نظرةً هائلةً مخيفة فتراجعوا قليلًا، إلا أنهم ظلوا مستمرين في هياجهم وضوضائهم، وأخذوا يغنون بصوت واحدٍ أنشودةً هزلية يقولون فيها: «برغمك يا سيرانو سَتُمَثَّلُ روايةُ كلوريز، برغمك يا سيرانو سيمثِّل مونفلوري!» يكررونها مرارًا، فاستدار إليهم ثانية وزمجر في وجوههم، وصرخ فيهم صرخةً هائلة، وقال: ألا تستطيعون أيها السِّفْلة الأوغاد أن تتركوا سيفي هادئًا في غمده ساعةً واحدة؟ لا أحب أن أسمع منكم هذه الأنشودة مرة أخرى، وإلا حطمتكم جميعًا! فقال له أحدهم: إنك لست بشمشون الجبار الذي ضرب جمعًا عظيمًا من الناس بفكِّ كلبٍ فقتلهم، فالتفت إليه وقال: أستطيع أن أكون مثله لو أنك أعرتني فَكَّكَ يا هذا! ثم التفت إلى مونفلوري، فرآه لا يزال واقفًا في مكانه. فقال: يا للعجب! إنه لم يُنَفِّذْ أمري حتى الآن، إنه يأبى إلا أن أجعل هذا المسرح مائدة أُشَرِّحُ عليها لحمه تشريحًا، فعاد مونفلوري إلى استنجاده واستصراخه، وظل يقول: النجدة النجدة! الغوث الغوث! فازداد غضب الجمهور وهياجهم، وأحاطوا بكرسي سيرانو من كل ناحية، وأخذوا يهددونه وينذرونه بالويل والثُّبور، وعادوا إلى الترنم بأنشودتهم الأولى، وتقليد أصوات الحيوان، فاستدار إليهم فجأةً، ثم وثب من كرسيه إلى الأرض، وتقدم نحوهم بعصاه، فتقهقروا بين يديه، حتى اتسعت الدائرة من حوله اتساعًا عظيمًا، فصاح فيهم: إني آمركم جميعًا أن تسكتوا، لا ينطق أحد منكم بحرفٍ واحد بعد الآن، إني أعرف صور وجوهكم جميعها، فليس في استطاعة واحدٍ منكم أن يفلت من يدي، من ذا الذي يريد أن يكون أوَّل ناطقٍ ليكون أوَّل قتيلٍ؟ ثم مر بهم يتصفح وجوههم واحدًا فواحدًا ويقول: من ذا الذي يريد؟ أأنت أيها الفتى؟ أم أنت أيها الكهل؟ أم أنت أيها الشيخ الهرم؟ من منكم يحب أن يكون اسمه أول اسم في جريدة الأموات؟ لم يجبني أحد بحرف واحد! ما سكوتكم؟ أجبنتم؟ ما لكم تفرون من وجهي؟ قلدوا أصوات الحيوان، غنوا الأنشودة الباردة! أرى صمتًا عميقًا وسكونًا سائدًا، لا حركة ولا إشارة! أظنهم قد ماتوا من شدة الخوف، الآن أستطيع أن أستمر في عملي! ثم اتجه إلى المسرح، وأنشأ يقول بصوتٍ خشنٍ أجشَّ: أيها الأشراف، أيها الغوغاء، أيها الرجال، أيتها النساء، لا أريد أن أرى على جسم المسرح هذا الدُّمَّل القذر الخبيث، فإن لم ينفجر من نفسه فجرته بهذا المبضع القاتل، ولا أحب أن يعترض أحد منكم إرادتي، أو أخذت البريء بذنب المجرم، والجارَ بذنب الجارِ! ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقد استحالت صورته إلى صورة وحشٍ هائل قد كشَّر عن أنيابه للفتك بكل من يدنو منه.
فسكن الجمهور سكونًا عميقًا لا نَأْمة فيه ولا حركة. فقال مونفلوري بصوتٍ خافتٍ متقطع: إنك بإهانتك إيَّاي يا سيدي قد أهنت الإلهة «تالي»! فقال: لا شأن لك بتلك الإلهة أيها الأحمق المأفون؛ لأنها إلهة التمثيل لا إلهة السخافات، ولو أنها شاهدت موقفك هذا وأنت تمثل بهذا الجسم الضخم الغليظ، وهذه الحركات الباردة الثقيلة، لتناولت مني عصاي هذه، وضربتك بها على أحقر عضوٍ في جسمك، وهأنذا أصفق ثلاث مرات، وعند التصفيقة الثالثة لا بد أن تتلاشى من المسرح يا رأس الثور، أسمعت؟ فحاول مونفلوري أن يتكلم، فصفق سيرانو التصفيقة الأولى، فطار قلب الممثل فرقًا ورعبًا، وظلَّ يقلب نظره في الجماهير، فلم يجد بينهم معينًا ولا ناصرًا، فأنشأ يقول بصوتٍ مرتعد: سادتي! سادتي! أيرضيكم أن أهان في حضرتكم، وأن يهان الفن على مرأى منكم ومسمع؟! فصفق سيرانو التصفيقة الثانية، فاشتد اهتمام الجماهير، وتطاولت أعناقهم، وتحولوا من الهياج والغضب إلى الاهتمام بمعرفة النتيجة، وأخذ بعضهم يهمس في أذن بعض بأمثال هذه الكلمات: سيبقى، سيخرج، سيجبن، سيقاوم، لا يستطيع البقاء، لا يليق به الفرار، فحاول مونفلوري أن يقول شيئًا آخر، ولكنه سمع التصفيقة الثالثة، فاختفى من المسرح كأنما غاص في مهوًى عميق!
فهتف الجمهور لسيرانو هتافًا عظيمًا، إلا بضعة أفرادٍ قلائل، لا، بل أخذ الكثير منهم يسب الممثل ويشتمه ويسخر منه، وجلس سيرانو على كرسيه جلسة الفائز المنتصر، فتقدم نحوه فتًى من المتفرجين وقال له: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: ما السبب في بغضك مونفلوري؟ فصمت سيرانو لحظة، ثم ألقى عليه نظرةً باسمةً هادئة وقال له: عندي لذلك سببان: أولهما قبح تمثيله ورداءة حركاته، وأنه يغني الشعر العذب الرقيق بصوتٍ مأخوذٍ مختنق فيفسده على صاحبه، وينغصه على الناس، أما السبب الثاني فهو سِرِّي الخاص الذي لا يمكنني أن أبوح به لأحدٍ، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولكنك حرمتنا على كل حالٍ مشاهدة رواية «كلوريز»، وما كنا نُؤْثِر ذلك ولا نرضاه! قال: أظن أني لم أحرمك شيئًا نفيسًا أيها الفتى، فإن نظم «بارو» كَنَثْرِه: كلاهما باردٌ غثٌّ لا يساوي شيئًا؛ ولذلك قد كفيتكم وكفيت نفسي مئونة سماع روايته السخيفة غير آسف عليها! فصاحت فتاة في المقاصير: من ذا الذي يعيب شاعرنا بارو؟ أيستطيع أحد أن يجرؤ على ذلك؟ وتكلمت فتياتٌ أخرياتٌ بمثل كلامها، فرفع سيرانو نظره إلى المقاصير، وأنشأ يخاطبهن ويقول: لَكُنَّ يا سيداتي أن تكن جميلاتٍ رائعاتٍ كما تشأن، ولَكُنَّ أن تختلبن الألباب، وتستلبن العقول بحسنكن ودلالكن، ولَكُنَّ أن تبتسمن الابتسامات اللامعة البديعة التي تضيء بنورها ظلمات هذه الحياة، ولكُن أن تبعثن السعادة والغبطة والسرور والبهجة في نفوس الناس جميعًا، فيحيوا بفضلكن في هذا العالم حياة المسرة والهناء، ولكُن أن توحين روح الشعر إلى الشعراء، وتملينها عليهم بسحركنَّ وفتنتكنَّ فيستطيعوا أن يطيروا بأجنحتهم في أجواء السموات العلا، ويشرقوا منها على الدنيا ومن فيها شموسًا وأقمارًا، لَكُنَّ كل هذا وَلَكِنْ ليس لَكُنَّ أن تجلسن في محكمة الشِّعر لتحكمن في قضية الشعراء!
وكان «بلْروز» صاحب الحان واقفًا على مقربةٍ منه. فقال له: وما رأيك يا سيدي في المال الذي خسرتُهُ الليلة بسببك؟ قال: هذه هي الكلمة الوحيدة المعقولة التي سمعتها الليلة في هذا المكان، ثم ضرب يده في جيبه، وأخرج منه كيسًا مملوءًا فضة، ورمى به إليه، فتهلل «بلْروز» فرحًا وابتهاجًا، وقال له: بمثل هذا الثمن آذن لك يا سيدي بالحضور كل ليلة، وبتعطيل ما تشاء من الروايات! ثم التفت إلى المتفرِّجين وقال لهم: قد انتهى التمثيل يا سادتي، فهيَّا جميعًا إلى الباب لتستردُّوا نقودكم.
الأنفيات
وهنا تقدم رجلٌ زَرِيُّ الهيئة قذر المنظر، تلوح على وجهه سمات المهانة والضَّعَة، ممزوجةً بالوقاحة والسماجة، وقال له بصوت خشنٍ أجش: لا يقف موقفك هذا يا سيدي ولا يجرؤ على مثل ما جرؤت عليه إلا أحد رجلين: إما عظيمٌ، أو صنيعة رجلٍ عظيم، فهل لك أن تخبرني من هو مولاك الذي أنت صنيعته؟ فعجب سيرانو لأمره، وظل يردد نظره فيه ساعةً، ثم قال له: ما أنا بصنيعة أحدٍ أيها الرجل. قال: أليس لك سيدٌ يحميك ويرعاك؟ قال: لا! قال: ألا تلجأ في ساعات شدتك وحرجك إلى نبيلٍ من نبلاء هذا البلد أو أمير من أمرائه يسبل عليك ستر حمايته؟ قال: قلت لك: «لا» مرتين، فهل ترى حتمًا لازمًا أن أقولها لك مائة مرة لتفهمها؟ ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقال: ليس لي حامٍ ولا سيدٌ غير هذا! فقال: إذن لا تطلع عليك شمس الغد حتى تكون قد شددت رحلك وتزوَّدت زادك، وغادرت باريس إلى بلدٍ ناءٍ لا رجعة لك منه أبد الدهر! قال: لماذا؟ قال: لأن مونفلوري الذي أهنته الليلة، صنيعة رجلٍ عظيم هو الدوق «دي كندال»، وذراع هذا الرجل طويلة جدًّا تتناول أبعد الأشياء، ولو كانت في قرن الشمس. قال: ولكنها ليست أطول من ذراعي حين أصلها بسيفي! قال: إنك لا تستطيع أن تزعم في نفسك أنك … فقاطعه سيرانو وصاح: أستطيع أن أزعم كل شيء أيها الفضولي الثَّرثار، فاغرب عن وجهي، واطلب لنفسك طريق الخلاص مني! فظل الرجل جامدًا مكانه يحدق فيه تحديقًا شديدًا، لا يطرف ولا يتحرك، فانفجر سيرانو غيظًا، وانقضَّ عليه وأخذ بتلابيبه وقال له: اخرج من هنا حالًا أو حدِّثني ما لي أراك تنظر إلى أنفي هذه النظرة المُريبة؟ فصعق الرجل في مكانه، وظل يرتعد بين يديه، وكان يعلم الناس جميعًا أن سيرانو لا يغضب لشيء من الأشياء غضبه لأنفه، ولا ينتقم لشيء انتقامه له، وقال: أنا يا سيدي! قال: نعم أنت، فما الذي تراه غريبًا فيه؟ قال: إنك واهمٌ يا سيدي، فإنني — وأُقسم لك — ما فكرت قط في شيء مما تقول. قال: أتراه رخوًا متهدلًا كخرطوم الفيل؟ قال: لا يا سيدي. قال: أو محدودبًا كمنقار البومة؟ قال: لا يا سيدي. قال: أويخيل إليك أن أرنبته دُمَّلٌ كبير يزعجك منظره؟ قال: أبدًا يا سيدي، وما فكرت في ذلك قط.
قال: أويتراءى لك أن الذباب يمشي متزلقًا فوق تضاريسه؟
قال: لا يا سيدي، لم يخطر ببالي شيءٌ من ذلك، وأقسم لك.
قال: أتراه أعجوبةً من أعاجيب الدهر أو فلتةً من فلتات الطبيعة؟
قال: لا يا سيدي، لا هذا ولا ذاك. قال: أترى لونه مضرًّا بالنظر، أو وضعه خارجًا عن الحدِّ، أو شكله مخالفًا للآداب العامة؟ قال: آه يا إلهي! إنني لم أسمح لنفسي بالنظر إليه مطلقًا. قال: ولم لا تسمح لنفسك بالنظر إليه، أتشمئز منه؟ قال: أبدًا يا سيدي وأقسم لك. قال: أهو في نظرك كبير جدًّا إلى هذا الحد؟ قال: لا، بل صغيرٌ جدًّا لا أكاد أشعر به. قال: أتهزأ بي أيها الرجل؟ قال: عفوًا يا سيدي فإني لا أدري ما أقول. قال: وهل تظن أيها الغبي الأحمق أن الأنف الصغير مفخرةٌ من المفاخر التي يعتزُّ بها صاحبها؟ نعم إن أنفي كبير جدًّا؛ لا يكبره أنفٌ في هذا البلد، وذلك ما أفخر به كل الفخر؛ لأن الأنف الكبير عنوان الكرم والشَّرف، والشجاعة والشمم، وأنا ذلك الذي اجتمعت له هذه الصفات جميعها، أما الوجه الكرويُّ الأملس المجرد من هذا العنوان الشريف — كوجهك هذا — فلا يستحق غير اللَّطم، ولطمه على وجهه لطمةً هائلة، ثم وكزَه برجله، ففرَّ الرجل هاربًا من بين يديه وهو يصيح: النجدة النجدة! فعاد سيرانو إلى مكانه، وجلس على كرسيه مفتخرًا معتزًّا، وظل يقول: هذا إنذارٌ مني لجميع الفضوليين الثرثارين الذين يحاولون أن يهزءوا بهذا الموضع الناتئ في وجهي ألَّا يفعلوا، فإن حدثتهم نفوسهم بشيءٍ من ذلك — سواء أكانوا من الغوغاء أم من النبلاء — فليعلموا أنني لا أسمح لهم بالفرار من يدي كما سمحت لهذا الجبان الرِّعديد، قبل أن أغرس ذباب سيفي في سويداء قلوبهم.
فانتفض الأشراف غيظًا وثاروا من أماكنهم، وقال الكونت دي جيش: يخيَّل إليَّ أن الرجل قد بدأ يضايقنا، ثم انحدر من المسرح تتبعه حاشيته، حتى دنا من سيرانو، والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ألا يوجد بينكم من يصلح لمقارعة هذا الرَّجل؟ فقال الكونت فالفير: أنا صاحبه يا سيدي فانتظر قليلًا، فإني سأفوِّق إليه سهمًا لا قبل له بالنجاة منه، ثم تقدم نحو سيرانو وهو جالسٌ على كرسيه جلسة العظمة والكبرياء، وظل يردد النظر في وجهه طويلًا، ثم قال له: إن أنفك أيها الرجل قبيحٌ جدًّا! فرفع سيرانو نظره إليه بهدوء وسكون، ثم قهقه قهقهةً طويلة، وقال: ثم ماذا؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لك مرة أخرى: إن أنفك أعجوبةٌ من أعاجيب الزمان! فنهض سيرانو عن كرسيه متثاقلًا، وتقدم نحوه خطوةً، وألقى عليه نظرةً من تلكم النظرات الهائلة التي اعتاد أن يصرع بها خُصومهُ حين يلقيها عليهم، وقال له: ثم ماذا؟ فاضطرب الفيكونت وشعر بدبيب الخوف في قلبه، وقال: لا شيء! قال: أهذا هو السَّهم القاتل الذي أردت أن ترميني به؟ لقد كنت أظن أنك أذكى من ذلك، فازداد اضطراب الفيكونت وقال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أقول لك: إن مجال القول في الآناف ذو سعةٍ، ولو كان عندك ذرَّة واحدة من الفطنة والذكاء، أو أن لك بعض العلم بأساليب الخطاب ومناهجه، لاستطعت أن تقول لي في هذا الموضوع شيئًا كثيرًا، كأن تقول لي مثلًا بلهجة «المتنطِّعين»: لو كان لي أيها الرجل أنفٌ مثل أنفك هذا لأرحت نفسي والعالم منه بضربةٍ واحدةٍ من حد سيفي.
وبلهجة «المتلطفين»: حبَّذا لو صنعت يا سيدي لأنفك هذا كأسًا خاصةً به، فإني أراه يشرب معك من كأسك التي تشرب منها.
وبأسلوب «الواصفين»: ما أرى أنفك إلا صخرةً عاتية، أو قمة عالية، أو هضبة مشرفة، أو رَوْشنًا مطلًّا، أو رأسًا ناتئًا، أو لسانًا ممتدًّا.
وبنغمة «الفضوليين»: ما هذا الشيء الناتئ في وجهك يا سيدي؟ أمحارةٌ مستطيلة، أم دواة للكتابة، أم صندوق للأمواس، أو علبة للمقاريض؟
وبلهجة «الماجنين»: أبلغ بك غرامك بالطيور يا سيدي أن تبني لها في وجهك برجًا خاصًّا بها؛ لتقع عليه كلما قطعت شوطًا من أشواطها؟
وبأسلوب «المداهنين»: هنيئًا لك يا سيدي هذا القصر الفخم الذي بنيته لنفسك على هذه الربوة البديعة.
وباللهجة الشعرية: أأنفك القيثارة التي تُوقع عليها إلهة الشعر أنغامها الشجية؟
وبروح السذاجة: في أي ساعةٍ تفتح أبواب هذا الهيكل يا سيدي الحارس؟
وبالبساطة الريفية: ما هذا يا سيدي، أأنفٌ ضخم، أم لفتةٌ كبيرة، أم شمامة صغيرة؟
وباللهجة العسكرية: صوِّب هذا المدفع نحو فرقة الفرسان أيها الجندي.
وباللغة المالية: أتريد أن تضع أنفك هذا في «اليانصيب»؟ إنه يكون بلا شك النمرة الكبرى!
وباللغة التمثيلية: أهذا هو الأنف الذي أفسد تخطيط وجه صاحبه فسادًا عظيمًا؟ يا له من مجرم أثيم، ومعتدٍ زنيم!
ويمكنك أن تقول لي «متعجرفًا»: ألا تخاف أيها الرجل وأنت تنفث دخان لفافتك من هذه المدخنة الضخمة أن يصيح الناس حين يرونك: الحريق الحريق!
و«متأدبًا»: لقد أخل هذا النتوء البارز في وجهك يا سيدي بتوازن جسمك فاحترس من السُّقوط.
و«متأنقًا»: ألا يجمل بك يا سيدي أن تضع لأنفك هذا مظلةً خاصة به حتى لا يتغير لونه من تأثير حرارة الشمس؟
و«متحذلقًا»: إن الحيوان الضخم الذي سماه الفيلسوف أرستوفان «تيتلخرْ تيفيلو جَمَلوس» هو الحيوان الوحيد، الذي يمكنه أن يحمل في وجهه كمية من اللحم توازن الكمية التي تحملها في وجهك.
و«مازحًا»: ما أجمله مشجبًا لتعليق القلانس والطيالس!
و«مغاليًا»: ليس في استطاعة أي ريحٍ مهما اشتد هبوبها أن تجلب لأنفك الزكام، غير ريح السَّمُوم!
و«متهكمًا»: ما أجمله إعلانًا لو وضع على واجهة حانوتٍ من حوانيت الروائح العطرية!
و«متفجعًا»: ما البحر الأحمر إلا الدم الذي فصد من أنفك!
ذلك ما كان يجب أن تقوله لي لو كان في رأسك ذرةٌ واحدةٌ من الفطنة والذكاء، على أنك لو استطعت لحال بينك وبين ذلك الخوف والرعب؛ لأنك تعلم أنني إن سمحت لنفسي بالسخرية من نفسي أحيانًا، فإنني لا أسمح لأحدٍ بالسخرية مني مطلقًا، فلقد جمعت في نفسك بين الغباوة والجهل، والجبن والخور، حتى لأحسب أنك لا تحسن هجاء كلمةٍ في اللغة غير كلمة الحماقة، ولا تحمل في رأسك معنى غير معناها!
فجُنَّ الكونت دي جيش غيظًا، وقال للفيكونت: من رأيي أن نترك هذا المجنون وشأنه، فإننا ممتحنون الليلة برجلٍ لا بد أن يكون قد أفلت الساعة من يد حارس المارستان. فقال الفيكونت: إن الذي يغيظني ويؤلمني أن تصدر أمثال هذه الكلمات المملوءة كبرًا وعظمة من حقيرٍ مفلوكٍ لا يملك من متاع الدنيا شيئًا، حتى قفازًا في يده، ولا يحمل على ثوبه أي علامة من علامات الشرف! فارتعش سيرانو غيظًا، ولكنه تجلد واستمسك، وأنشأ يقول بصوت هادئ رزين: نعم أعترف لك يا سيدي بأنني رجلٌ فقيرٌ مفلوكٌ، لا أملك من متاع الدنيا شيئًا، وأنني لا أحمل على صدري أي هَنَةٍ من تلك الهَنَات التي تسمونها شارات الشَّرف، ولكن ائذن لي أن أقول لك كلمةً واحدةً، ثم أنت وشأنك بعد ذلك: إنني لا أحفل يا سيدي بالصُّور والرسوم والأزياء والألوان، ولا يعنيني جمال الصورة وحسنها، ولا برقشة الثياب ونمنمتها، وحسبي من الجمال أنني رجلٌ شريفٌ مستقيم، لا أكذب ولا أتلوَّن، ولا أداهن ولا أتملق، وأن نفسي نقيةٌ بيضاء غير ملوثةٍ بأدران الرذائل والمفاسد، فلئن فاتني الوجه الجميل، والثوب الْمُفَوَّف، والوسام اللامع، والجوهر الساطع، فلم يفتني شرف المبدأ، ولا عزة النفس، ولا إباء الضيم، ولا نقاء الضمير.
إن الجبهة العالية يا سيدي لا تحتاج إلى تاجٍ يزينها، وإن الصدر المملوء بالشرف والفضيلة لا يحتاج إلى وسامٍ يتلألأ فوقه، فليفخر الفاخرون بما شاءوا من فضتهم وذهبهم، وألقابهم ومناصبهم، أما أنا فحسبي من الفخر أنني أستطيع أن أمشي بين الناس برأسٍ عالٍ، وجبهة مرتفعة، ونفس مطمئنة، وثوب نقي أبيض، لم تعلق به ذرة من غبار العار، ولم تلوِّثه شائبة من شوائب السفالة والدناءة، لا أهاب شيئًا، ولا أغضي لشيءٍ ولا أخجل من شيء.
نعم، إنني لا أملك قفازًا في يدي كما تقول، ولكن أتدري ما السبب في ذلك؟ السبب فيه أنني قطَّعت جميع قفازاتي على وجوه السفهاء والفضوليين الذين يعترضون طريقي مثلك، عقابًا لهم على وقاحتهم وفضولهم، ولم يكن باقيًا لي منها حتى ليلة أمس إلا زوجٌ عتيقٌ جدًّا، احتجت إليه في موقفٍ كموقفي هذا معك، فرميت به وجه أحد السفهاء، فلصق بخدِّه، فتركته وانصرفت.
فجنَّ الفيكونت غيظًا، وأخذ يهذي ويقول: صُعلوكٌ، بائسٌ، وقحٌ، حقيرٌ، سافلٌ! فانحنى سيرانو بين يديه رافعًا قبَّعته عن رأسه وقال له: تشرفت بمعرفة اسمك يا سيدي، أما أنا فاسمي سيرانو سافينيان هركيل دي بيرجراك الجاسكوني!
فصاح الفيكونت: صهٍ أيها النَّذل الساقط!
فجمد سيرانو لحظة، ثم انحنى على نفسه وأخذ يتلوى ويصيح، كأنما أصيب بألمٍ شديد في بعض أعضائه، فظن الفيكونت أن قد عرض له عارضٌ مميت، فحنا عليه وقال له: ماذا أصابك؟ فلم يجب، وظل يصيح ويتأوَّه. فقال له: ما شكاتك أيها المسكين؟ قال: خدرٌ شديدٌ يؤلمني جدًّا. قال: في قدمك؟ قال: لا. قال: في فخذك؟ قال: لا. قال: إذن في ذراعك؟ قال: ليته كان كذلك. قال: قل لي في أي مكانٍ هو؟ قال: في سيفي! فدهش الفيكونت وقال: ماذا تريد؟ قال: لقد طال لبثه في غمده زمنًا طويلًا، فأصابه هذا التنميل الشديد، ولا علاج له غير الامتشاق!
المبارزة الشعرية
فَفطن الفيكونت لما أراد، وعلم أنها المبارزة ما من ذلك بدٌّ، فَتَشَجَّعَ وقال: فليكن ما تريد! قال: أتعلم أنني سأضربك ضربةً غريبة لم يرَ الرَّاءُون مثلها؟ قال: خيال شاعرٍ كذاب. قال: إن الشاعر لا يكذب، ولكنه يقول ما لا يفهمه الأغبياء فيظنونه كاذبًا، وفي استطاعتي أن أرتجل في أثناء القتال الذي يدور بيني وبينك موشحًا لا أقول فيه شيئًا إلا فعلته، وسيكون مركَّبًا من خمس قطعٍ، يبتدئ أولها بابتداء المبارزة، وينتهي آخرها بانتهائها، أي بانتهاء حياتك يا فيكونت! فصاح الفيكونت: كذبت، وإنك لأعجز من ذلك! قال: لم أكذب في حياتي قطُّ، وها هو ذا عنوان مُوشَّحي الجديد.
وأخذ يُلقي العنوان مادًّا به صوته، كأنما يمثل على مسرح، ويقول: «موشَّح القتال الذي دار بين السيد سيرانو دي بيرجراك، وبين صعلوكٍ من الصعاليك المتنبِّلين اسمه الفيكونت فالفير، في حانة بوروجونيا.»
إنني أرمي بهدوءٍ قبعتي، وأخلع عن منكبي ردائي، ثم أجرد من غمده سيفي، ثم أتقدم نحوك رشيقًا كسيلادون، وشجاعًا كإسكاريوس، ولا بد أني في المقطع الأخيرِ أُصِيبُ!
•••
وكان جديرًا بك أن تضنَّ بنفسك على الموت، إن الموت لا بد آتٍ إليك، لا أدري أين أضع ذباب سيفي من جسمك؟ أَو جَنْبك تحت ثديك؟ أم في قلبك تحت وسامك؟ وعلى كل حالٍ ففي المقطع الأخير أُصِيبُ!
•••
ترسك يرنُّ تحت ضربات سيفي، ذُبَابُ سيفي يلتهب التهابًا، قلبك يخفق من الرعب والخوف، فرائصك ترتعد وتضطرب، فلا بد أني في المقطع الأخير أُصِيبُ!
•••
هأنتذا قد بدأت تتقهقر؛ لأنني قد أفسدت عليك الضربة الوحيدة التي تعرفها، أوسعت لك المجال فاغتررت وهجمت، فلم تلبث أن فشلت وخُذلت، ويلٌ لك من المستقبل المظلم؛ فإني في المقطع الأخير أُصِيبُ!
•••
اسأل الله رَحْمته وإحسانه، فها هو ذا الموت يرفرف فوق رأسك، قد سددت عليك جميع الأبواب، ولم تبقَ لك حيلةٌ في دفع القضاء، قد وعدت ولا بد أن أفي بوعدي، أنني في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير أصيب!
وهنا ضربه ضربةً هائلة اخترقت صدره، فسقط يترنح من وقع الضربة، وضجَّت القاعة بالتصفيق والتهليل، وأحاط القوم بسيرانو يباركونه ويمسحونه، وأخذت النساء تنثر عليه الورود والأزهار، وكانت روكسان أكثرهن اهتمامًا بالمبارزة وأشدهن سرورًا بنتيجتها.
وظل الجماهير يصيحون بأصواتٍ مختلفة: ما أشجعه! ما أشعره! إنه بطلٌ عظيم، حادثٌ بديع، منظر جميل، شاعرٌ وبطلٌ معًا، لا يقول إلا ما يفعل، وقد أصابه في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير كما قال.
وتقدم نحوه السيد دارتنيان رئيس حراس الملك، ومد إليه يده وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أشكرك وأصافحك، وأقول لك: إنك أفضل مبارزٍ رأيته في حياتي! فلم يزد سيرانو على أن ألقى عليه نظرةً هادئةً ساكنة، ومد يده إليه فصافحه بسكون، ثم أخذ الناس ينصرفون من القاعة تباعًا، وكان الممثل مونفلوري لا يزال واقفًا في الطريق العام، فظلوا يسبُّونه ويشتمونه كلما مروا به، ويعيِّرونه بالجبن والفرار، حتى إذا لم يبق في الحانة أحدٌ قال لبريه لسيرانو: هل لك في أن نتخلف هنا قليلًا أيها الصديق؛ لأني أريد أن أتحدث إليك في بعض الشئون؟ فقال سيرانو لصاحب الحانة: أتأذن لنا أن نبقى هنا هُنَيْهَةً أنا وصديقي لبريه؟ قال: نعم كما تشاء يا سيدي، وسأخرج أنا وجماعة الممثلين لنتناول طعام العشاء ونتنزه قليلًا، ثم نعود بعد ساعة لتهيئة الرواية المقبلة، وصاح بالخدم: أغلقوا الأبواب وأبقوا الأنوار كما هي حتى نعود، ثم انصرف هو وسائر الممثلين.
سريرة سيرانو
قال لبريه لسيرانو: وأنت، ألا تريد أن تتعشَّى أيضًا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأني لا أملك نقودًا! فقهقه لبريه ضاحكًا، فدهش سيرانو والتفت إليه وقال له: ممَّ تضحك؟ قال: تذكرت ذلك الموقف الجميل وأنت تخرج كيسك من جيبك وترمي به بكل قواك إلى بلروز وتقول له: خذ هذا أيها الرجل فهو لك. قال: ألا ترى أنها كانت حركةً بديعة؟ قال: نعم، ولكنها لا تغني عن العشاء شيئًا، ولا أدري ماذا تصنع بعد اليوم وأنت لا تزال في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أحسب أن أباك يرسل إليك النفقة الشهرية مرة أخرى.
وكانت فتاة المقصف واقفةً على مقربة تسمع حديثهما دون أن ينتبها إليها، فتحركت حركةً مسموعة، فالتفت إليها سيرانو، فمشت نحوه ووضعت يدها على كتفه، وألقت عليه نظرة عطفٍ وحنوٍّ لو أنها ألقتها على وجهٍ غير وجهه لظنها الناس لجمالها ورقتها نظرة حبٍّ وغرام، وقالت له: أنت ضيفي الليلة يا سيدي، وها هو ذا الطعام بين يديك، فَادْنُ من المائدة، وتناول منها ما تشاء. فقال: شكرًا لك يا صديقتي، وبالرغم من أن عظمتي الجاسكونية لا تسمح لي أن أمد يدي لتناول أي شيءٍ من أي إنسان، فإني ألبي دعوتك إبقاءً على صداقتك وودك! ثم تقدم نحو المائدة، وتناول ثلاث حبات من العنب، وقرصًا صغيرًا، وكأسًا من الماء، وقال: هذا يكفيني. قالت له: خذ شيئًا آخر. قال: لا حاجة بي إلى شيءٍ بعد ذلك إلا إلى قُبلةٍ من يدك الجميلة، فاسمحي لي بها! وتناول يدها فقبَّلها، ووجهها يتلهب حياءً وخجلًا، ثم وضع الطعام بين يديه، وهو يتمتم بصوتٍ ضعيف ويقول: «لقمة صغيرة لا تملأ معدة طفل، وثلاث حبات من العنب لا تملأ الفم، آه ما أشد جوعي!»
ثم التفت إلى لبريه، وقال له: ماذا كنت تريد أن تقول لي يا لبريه؟ تكلم فإني مصغٍ إليك. قال: كنت أريد أن أقول لك: إن هؤلاء الطائشين المغرورين الذين لا حديث لهم ليلهم ونهارهم إلا حديث الطعن والضرب والمغالبة والمصارعة سيفسدون عليك عقلك، ويهدمون نظام حياتك، ولو أنك جريت معهم في هذا المضمار طويلًا لكانت عاقبتك أوخم العواقب وأردأها، سل العقلاء أصحاب العقول الراجحة، والآراء المستحصدة ماذا كان وقْعُ حادث الليلة في نفوسهم، وخاصَّةً في نفس رجلٍ عاقل كيِّس كنيافة الكردينال؟ فقال له وكان قد انتهى من طعامه: أكان الكردينال هنا؟ قال: نعم، ولا بد أن يكون رأيه فيك سيئًا جدًّا. قال: لا، بالعكس؛ لأنه شاعر، والشاعر يعجبه دائمًا أن يرى بعينيه منظر سقوط رواية ينظمها شاعر آخر. قال: ولكنك قد اتخذت لك الليلة أعداءً كثيرين لا أدري ماذا يكون شأنك معهم غدًا. قال: كم تظنهم على وجه التقريب؟ قال: أربعين غير النساء. قال: اذكر لي بعضهم مثلًا. قال: مونفلوري، دي جيش، دي جيجي، فالفير، باور مؤلف الرواية، الممثلون، أعضاء المجمع العلمي … قال: كفى كفى، قد فهمت، إنها نتيجة جميلة جدًّا، كنت أظن أن أعدائي أصغر شأنًا من ذلك! فعجب لبريه لأمره، وقال له: أعترف لك يا سيرانو أنني قد عييتُ بأمرك إعياءً شديدًا، وأصبحت لا أدري إلى أين تصل بك هذه الحالة الغريبة، وتلك الأساليب الشاذة، ولا أفهم ما هي حقيقة رأيك في الحياة؟ ولا ما هي خطتك التي انتهجتها لنفسك فيها؟ فأطرق سيرانو لحظةً ثم رفع رأسه وقال له: اسمع يا لبريه إن الخطط في الحياة كثيرة جدًّا، ومتشعبةٌ تشعبًا يحار فيه العقل، ولقد ضللت في مسالكها برهةً من الزمان لا أعرف ماذا آخذ منها، وماذا أدع، حتى اهتديت أخيرًا إلى أبسطها وأسهلها. قال: وما هو؟ قال: هو أن أكون موضع الإعجاب في كل شيءٍ ومن كل إنسان. قال: فليكن ما تريد، ولكن على شرط أن تكون أفعالك أشبه بأفعال العقلاء منها بأفعال المجانين. قال: لا أستطيع أن أعرف الحد الفاصل بين العقل والجنون.
قال: هل لك أن تخبرني لم تضمر في نفسك هذا البغض الشديد لمونفلوري، وما أذكر أن الرجل أساء إليك في حياته قط؟ قال: أبغضه لأنه — وهو ذلك العُتُل البطين الذي لا تستطيع يده أن تصل إلى سرته — يظن نفسه رشيقًا جميلًا يستطيع أن يخلب قلوب النساء، ويستهوي ألبابهن بخفته ورشاقته، فإذا وقف في المسرح للتمثيل ألقى عليهن في مقاصيرهن نظراتٍ كنظرات الضفادع، بصورة تعافها الأنفس، وتندى لها الوجوه، ولقد أضمرت له في نفسي تلك الموجدة منذ الليلة التي رأيته يجترئ فيها على أن يوجه إليها نظراته الخنفسائية البشعة، فلقد خُيِّلَ إليَّ في تلك الساعة أن دودةً قذرةً سوداء قد دبت من مكانها إلى وردةٍ نضرةٍ ناعمة فلصقت بها، فأزعجني هذا المنظر المؤلم إزعاجًا شديدًا، ولم أرَ بدًّا من معاقبته على جهله وغباوته، فحكمت عليه بالانقطاع عن التمثيل شهرًا كاملًا. فقال لبريه: ومن هي تلك التي تريد؟ ويخيل إليَّ أنك عاشقٌ يا سيرانو، فابتسم ابتسامة المُمْتَعِض المتألم، ثم تنفس تَنَفُّسَةً طويلةً كادت تتساقط لها جوانب نفسه، وقال: نعم يا لبريه! إنني أحب حبًّا قاتلًا لا بد أن يسوقني إلى القبر.
قال: وهل يمكنني أن أعرف من هي تلك التي تحبها؟ فإنك لم تحدثني عنها قبل اليوم. قال: أي فائدة لي من ذكرها وهي لا تحبني؟ قال: وكيف عرفت ذلك، هل فاتحتها في شيء؟ قال: وكيف يمكنني أن أفاتحها وأنا أعلم أن هذا الأنف البشع القبيح الذي أحمله يتقدَّمني حيثما ذهبت، وأنَّى سلكت، فلا يسمح لي بالطمع في قلب امرأةٍ قبيحةٍ شوهاء فضلًا عن جميلةٍ حسناء. قال: ألا يمكنني أن أعرف من هي؟ قال: إذا عرفت أن سيرانو لا يمكن أن يحب إلا أجمل امرأةٍ في العالم أمكنك أن تعرف من هي؟ فصمت لبريه هُنَيْهَةً وهو يفكر حتى عجز، فقال: لم أستطع أن أفهم شيئًا، فهل لك أن تصفها لي؟
قال: أمَّا هذه فنعم، هي الخطر العظيم الذي يحيط بالمرء من جميع نواحيه فلا يعرف له سبيلًا إلى الخلاص منه، هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله، وجميع حواسه ومشاعره، هي الوردة النضرة الناعمة التي تكمن حَيَّةُ الحُب السامة بين أوراقها، من رأى ابتساماتها رأى الكمال الإنساني كله، ومن رأى نظراتها رأى الدعة واللطف والرقة والعذوبة، وجميع معاني الحياة الطيبة اللذيذة في كل حركةٍ من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها، إنها شمسٌ تضيء الكون وتنير ظلماته، ليس في استطاعة «الزهرة» ربَّة الجمال، وهي جالسة فوق علياء عرشها العظيم أن تضارعها في بهائها وجلالها، ولا في استطاعة «ديانا» إلهة الحب حين تسير بخفة ورشاقة وسط الرياض الناضرة أن تحاكيها في مشيتها، وهي سائرة على قدميها الصغيرتين في مماشي بستانها. فقال لبريه: حسبك يا سيرانو، فإنك تحب ابنة عمك روكسان، ولكن لا أدري لم لا تُفضي إليها بذات نفسك ما دمت تَمُتُّ إليها بصلة القربى التي بينك وبينها؟ قال: ذلك ما أعجز عنه يا صديقي، فإنني رجلٌ بائسٌ مسكين، قضى الله عليَّ أن أعيش في هذا العالم بلا أملٍ ولا رجاء، تأمل في وجهي قليلًا، وانظر: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجهه البشع الدميم أن يحيا في العالم حياة الحب والغرام؟ أو أن يكون له أملٌ في اختلاب الأفئدة واجتذاب القلوب؟ لقد تمر بي في بعض أيامي ساعات أشعر فيها بحاجة قلبي إلى تلك الحياة الحلوة اللذيذة التي يحياها الناس جميعًا، حياة الحب والغرام، فأدخل إحدى الحدائق العامة، وأمشي بين رياضها وأزهارها، وأتنسم روائحها وأنفاسها، فأنسى نفسي، ويخيل إليَّ أني أسبح في جوٍّ رائقٍ صافٍ من العواطف والوجدانات، فإذا رأيت في ضوء أشعة القمر الفضية امرأةً جميلة تمشي وحدها خيِّل إليَّ أني أستطيع أن أكون رفيقها الآخذ بذراعها، وإذا رأيت فتًى وفتاةً سائرين على مهلٍ يتهامسان ويتناجيان، وتتموج أنوار الحب بينهما خُيِّل إليَّ أن بجانبي رفيقةً حسناء ترفرف عليَّ وعليها هذه الأجنحة البيضاء التي ترفرف عليهما، ثم أستسلم لهذا التصورات والأفكار، وأستغرق فيها ساعة طويلة، حتى إذا وقع نظري فجأة على خيال وجهي في حائط الحديقة في ضوء القمر، عدت إلى صوابي وأفقت من غيبوبتي، ورجعت أدراجي إلى منزلي وبي من الحزن ما الله به عليم!
ثم نكس رأسه مَلِيًّا وصمت صمتًا عميقًا كأنما يعالج في نفسه ألمًا مُمِضًّا، فحنا عليه لبريه وقال له: رحمةً بنفسك يا صديقي! فرفع رأسه وقال: نعم، إن آلامي عظيمةٌ جدًّا لا يحتملها بشر، فليت الله إذْ خلقني على هذه الصورة الدميمة البشعة لم يخلق لي قلبًا خفاقًا، أو ليته إذْ خلق لي هذا القلب الخفاق خلق له أجنحةً يستطيع أن يطير بها في جو الحب كما تطير القلوب الخوافق، أما الآن فإنني أشعر أني وحيدٌ في هذه الدنيا، لا سند لي فيها ولا عضد، ولا أنيس ولا عشير، ولا زوجة ولا ولد!
ثم عاد إلى إطراقه مرةً أخرى، وأخذ يبكي ويذرف دموعًا غزارًا في صمتٍ وسكون، فانزعج لبريه وأخذ بيده وقال له: أتبكي يا سيرانو؟ فانتفض ورفع رأسه وقال: لا يا لبريه، إن البكاء قبيحٌ بمثلي، ولا يوجد في العالم منظرٌ أقبح ولا أسمج من منظر الدمعة الجميلة، وهي سائلة على مثل هذا الأنف الضخم الطويل، لا شيء في العالم أبدع ولا أرق ولا أجمل من الدموع، وإني أضنُّ بها أن أُهينها، وأكدر صفوها وأشوِّه جمالها. فتأثر لبريه لمنظره تأثرًا شديدًا، وكاد يبكي لبكائه، ولكنه تجلد واستمسك وقال له: لا تحزن يا صديقي ولا تستسلم لهذه الأوهام، فما الحب في الدنيا إلا حظوظٌ وجُدودٌ، وقد يأتيك عفوًا ما تظن أنه أبعد الأشياء منالًا منك. قال: لا، أنت مخطئٌ يا لبريه، فإنه لا يجوز لي أن أطمع في حب «كليوباترة» إلا إذا كنت «قيصر»، ولا في حب «بيرنيس» إلا إذا كنت، «تيتوس».
وقال: إن الله قد وَهَبك من العقل والذكاء والصِّفات الكريمة النادرة ما يقوم لك مقام الجمال، ألم تَرَ تلك الفتاة بائعة الحلوى، وهي تنظر إليك نظرات الحب والشغف على أثر تلك المبارزة الغريبة، التي انتصرت فيها على الفيكونت الليلة؟ كذلك كان شأن روكسان، فقد شاهدتها وهي تتبع حركاتِك أثناء المبارزة باهتمامٍ عظيم، وقلقها عليك ظاهرٌ في اضطراب أعضائها، واكفهرار وجهها، حتى إذا انتصرت على خصمك كانت هي أعظم الناس سرورًا بانتصارك، فانتعش سيرانو وهدأت نفسه قليلًا، وقال: أصحيحٌ ما تقول يا لبريه؟ قال: نعم، ولا بد أن تكون تلك الحادثة قد تركت في قلبها أثرًا عظيمًا، فانتهِزْ هذه الفرصة وفاتِحْها في شأن حبك. قال: أخاف أن تسخر مني، وهو الأمر الذي أخشاه أكثر من كل شيءٍ في العالم.
وهنا ظهرت وصيفة روكسان داخلةً من الباب الكبير، ولم تزل سائرةً حتى وقفت أمام سيرانو، فدهش لرؤيتها دهشة عظيمة، وخفق قلبه خفقًا متداركًا، وقال: آه يا إلهي! إنها وصيفتها! وظل يرتعد ويضطرب، فانحنت الوصيفة بين يديه مُحَيِّيَةً وقالت له: إن سيدتي روكسان تسأل ابن عمها البطل الشجاع سيرانو دي بيرجراك: متى يمكنها أن تراه غدًا على انفراد؛ لِتُحادثه في بعض الشئون؟ وأين يكون مكان الاجتماع؟ فازداد اضطرابه وارتعاده، وقال: تراني أنا؟ قالت: نعم، في المكان الذي تريده، وفي الساعة التي تراها. قال: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدِّق ذلك؟ قالت: إنها ستذهب غدًا عند تفتح زهرات الصباح لسماع خطبة الوعظ في كنيسة «سان روك»، ففي أي مكانٍ تحب أن تقابلها بعد خروجها من الكنيسة؟ فَأُرْتِجَ عليه وظل يهمهم ويتمتم، وانتشر عليه رأيه فلم يُعرف ماذا يقول. فقالت له: ما لي أراك مضطربًا هكذا؟ أسرع بالجواب فإنها تنتظرني. فقال بصوتٍ خافتٍ متقطع: إني أنتظرها في الساعة السابعة من صباح الغد في مطعم راجنو. قالت: وأين مكان هذا المطعم؟ قال: في رأس شارع سان أُنريه. قالت: سأُبلغها ذلك، وانحنت ثانيةً بين يديه وانصرفت، فظل شاخصًا ببصره إلى السماء كالذَّاهل المَشْدُوهِ، وهو يردد بينه وبين نفسه: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدِّق ذلك؟ إنها أرسلت إليَّ وصيفتها تسألني أن أقابلها على انفرادٍ، فليت شعري ماذا تريد أن تقول لي؟ فقال له لبريه: تريد أن تقول لك: إنها تحبك، ما في ذلك ريبٌ، ولقد تنبأت لك بذلك من قبل فلم تصدقني. قال: كيفما كان الأمر فحسبي منها أني خطرت ببالها، وأنها تعلم أن في العالم إنسانًا اسمه سيرانو! قال: ما أحسبك إلا راضيًا عن نفسك الآن، ولا بد أن تكون قد هدأت تلك الثورة التي كانت قائمةً في نفسك. قال: لا، ما هدأت ولا فترت، بل أصبحت ثائرًا جدًّا، وأشعر أن قوَّتي قد ازدادت أضعافًا مضاعفةً، فلو لقيت الآن جيشًا كامل العدة والعدد لقهرته وحدي، ويُخيَّل إليَّ أن بين جَنْبَيَّ عشرة قلوب، وأن في مِنْطَقَتِي عشرة سيوفٍ أستطيع أن أقاتل بها جميعًا في آنٍ واحد، ولا يكفيني أن أحارب الأقزام والضاوين والجبناء، كذلك المسخ الذي حاربته الليلة، بل لا بد لي من جبابرةٍ وعمالقة أفخر بقتالهم والفَلْجِ عليهم.
باب نيل
وكان يتكلم بصوتٍ عالٍ رنَّان، ويصرخ صرخاتٍ هائلةً مزعجة تدوِّي بها أرجاء القاعة، كأنما خُيل إليه أنه في ميدان حربٍ، وأنه يقاتل أولئك العمالقة والجبابرة الذين ذكرهم.
وكان الممثلون قد عادوا من نزهتهم، وأخذوا يهيئون على المسرح الرواية المقبلة، فأزعجهم صوت سيرانو وهو يصرخ، فصاح به أحدهم: ألا تزال باقيًا هنا حتى الآن يا سيرانو؟ لقد أزعجتنا بضوضائك وصخبك، فاهدأ قليلًا لنستطيع أن نأخذ في عملنا، فابتسم سيرانو وقال: عفوًا يا سادتي، فسأترك لكم المكان مسرورًا مغتبطًا، وهَمَّ بالخروج، فما راعه إلا جماعةٌ من الجنود والضباط قد دخلوا الحانة يُحيطون برجلٍ يترنَّح سكرًا، فتأمله فإذا هو لينيير، فهرع إليه مذعورًا وقال: ما بك يا صديقي؟ قال بلهجة متثاقلة: خذ هذه الورقة واقرأها، فإنها تنذرني بأن مائة رجل يكمنون لي الليلة في طريقي إلى منزلي عند «باب نيل»؛ ليقتلوني بسبب تلك القصيدة التي تعلمها، فأْذَنْ لي بالذهاب إلى منزلك لأنام فيه الليلة، فأطرق سيرانو هُنَيْهَة، وهو يهمهم قائلًا: مائة رجلٍ على رجلٍ واحد؟ ما أجبنهم وأسفل نُفُوسهم! ثم رفع رأسه، وألقى على لينيير نظرة عاليةً مترفِّعةً، وقال له بهدوء وسكون: لينيير! إنك ستنام الليلة في بيتك! فلم يفهم غرضه، وقال له وهو يترنح ويتمَطَّق: ولكنك تعلم يا سيدي أنني رجلٌ ضعيفٌ مسكين، لا أقوى على مقاتلة هِرٍّ، فمن لي بلقاء مائة رجل وحدي؟ قال: إنني أنا الذي سألقاهم وأنا الذي سأقاتلهم، فخذ المصباح من يد البواب وسر أمامي، وأقسم لك أنك ستنام الليلة في بيتك، وأنني سأمهد لك فراشك بيدي، لقد كنت أتمنى منذ هُنَيْهَةٍ أن أقاتل جيشًا كامل العدة والعدد، وها هو ذا الجيش الذي كنت أتمناه قد وافاني وحده، إنني في هذه الليلة بل في هذه الساعة على الأخص، لا يجمل بي أن أقاتل أقلَّ من هذا العدد! فتقدَّم نحوه لبريه، ووضع يده على كتفه وأسرَّ في أذنه: ألا يستطيع هذا الرجل أن ينام الليلة في غير بيته؟ وهل ترى من اللازم الحتم أن تخاطر بنفسك دفاعًا عن مثل هذا الأَبْلَه المأفون!
وكان الممثلون قد نزلوا من المسرح، وأقبلوا يشاهدون الحادثة، فوضع سيرانو يده على كتف لبريه، وقال له وهو يبتسم ابتسامًا هادئًا لطيفًا: إن هذا السكير الذي لا يفيق، بل الزِّقَّ الذي لا ينفد، هو أرق الناس قلبًا، وأجملهم حسًّا، وأشرفهم شعورًا، رأيته مرة وقد خرج من الكنيسة يوم الأحد، فرأى المرأة التي يحبها تتناول بيدها اللطيفة قليلًا من الماء المقدس، فظل يرقبها حتى انصرفت، فهجم على الحوض الذي وضعت يدها فيه — وما على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الماء القراح — فما زال يكرع منه حتى أتى عليه، فصاحت إحدى الممثلات: ما أجمل هذه الحادثة، وما أرقَّ هذا الشعور! فالتفت إليها سيرانو وقال لها: أليس كذلك أيتها الفتاة؟ قالت: وا رحمتاه لهذا الرَّجل المسكين! كيف يسمح مائة رجلٍ لأنفسهم أن يتفقوا عليه؟ ألا تعلم ما السبب في ذلك يا سيدي؟ فلم يجبها سيرانو، والتفت إلى جماعة الجند الذين دخلوا مع لينيير، وقال لهم: هأنذا ذاهبٌ إلى المعركة الليلية، فإن شئتم أن تكونوا معي فأنتم وشأنكم، غير أن لي عليكم شرطًا واحدًا فقط، هو أنكم مهما رأيتم من الخطر المحدق بي فلا يتقدم أحدٌ منكم لمساعدتي، وليكن مكانكم مني مكان مراسلي الصحف ومندوبيها في المعارك: يشاهدونها ولا يقربونها. فقالت الممثلة: هل تأذن لي يا سيدي أن أذهب معكم حيث تذهبون؟ قال: نعم آذنُ لك، ولكل من أراد الذهاب منكم، فصاح الممثلون والموسيقيون جميعًا: كلنا نذهبُ معك، فابتهج سيرانو وتهلَّل وجهه، وقال: يا له من موكبٍ شائقٍ بديع! ثم جرد سيفه من غمده وضرب به الهواء، وصاح صيحة القائد في جنده: ليتقدَّم الضُّبَّاط، ثم الجند، ثم الممثلون، ثم الممثلات، ثم الموسيقيون وهم يعزفون بألحانهم الحماسية، وليأخذ كلٌّ منكم في يده شمعةً أو مصباحًا، أما أنا فإني قائدكم العام، وها هي ذي الريشة التي ناولتني إياها يد المجد والفخار ترفرف فوق قبعتي!
فأخذوا يصطفون كما أمرهم وهم يَمْجُنون ويضحكون، كأنهم ذاهبون إلى مرقصٍ، وهنا التفت سيرانو إلى الممثلة التي أعجبتها قصة لينيير، وقال لها: قد كنت سألتني أيتها الفتاة منذ هُنَيْهَة لِمَ يتفق مائة رجلٍ على رجلٍ واحد مسكين؟ فأقول لك جوابًا على ذلك: إنهم ما فعلوا ذلك من أجله، بل من أجلي؛ لأنهم يعلمون أنِّي صديقه الذي لا يخذله، ثم أمر البواب أن يفتح الباب الكبير على مصراعيه ففعل، فتجلى أمامه منظر باريس العام في ضوء القمر الساطع، فوقف هُنَيْهَة يتأمل هذا المنظر البديع ويقول: آه! لقد طلع البدر وتلألأت أشعته، فاختفت باريس المظلمة، وحلت محلها باريس المنيرة، ها هي ذي النجوم اللامعة تسطع في سمائها، وها هي ذي أشعة القمر تسيل على منحدرات سطوحها، وها هو ذا نهر السين يرتجف تحت أبخرته البيضاء ارتجاف المرآة السِّحرية.
إن الطبيعة تهيئ لنا ميدانًا جميلًا للقتال الرهيب، فهيا بنا جميعًا إلى «باب نيل».
ثم مشى، فمشى الجميع وراءه ينقلون خطواتهم على نغم الموسيقى.