صُنع القرار
والشَّرَك المعتاد هو افتراضنا بأن الحالات النادرة نسبيًّا من التفكير العملي الواعي هي نموذجٌ جيد للحالات التي تنبع فيها أفعالنا المتعمدة من عملياتٍ لا وعي لنا بها.
شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور مؤلَّفات علمية أكثر شعبية ركَّزت على موضوع صنع القرار أكثر من تركيزها على أي موضوعٍ آخَر، حيث شملت قائمة هذه المؤلفات إسهامات من مالكولم جلادويل («الوميض»)، وثالر وسنشتاين («الوكزة»)، وباكو أندرهيل («لماذا نشتري؟»)، وجونا ليرر («اللحظة الحاسمة»)، ودان أرييلي («لاعقلانية متوقعة»)، وستيوارت ساذرلاند («اللاعقلانية»)، وروبرت شيلديني («التأثير»)، ودانيال بينك («الدافع»)، وأوري ورون برافمان («الانحراف»)، وجون كاي («الاعوجاج»)، وكثيرين غيرهم. تُعَدُّ هذه المجموعة من بين أشهر المؤلَّفات العلمية الشائعة، كما جاءتْ ستة مؤلَّفات منها على الأقل ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعًا.
تعلن جميع هذه المؤلَّفات في سعادة أن عملية صنع القرار التي اعتقدنا دائمًا بأنها فعل عقلاني واعٍ، هي على النقيض من ذلك تمامًا. وقد استشهد معظمها بعمل عالِمَيْ علم النفس الإسرائيليين، عاموس تفيرسكي ودانيال كانمان، حيث قاما خلال حقبة السبعينيات من القرن العشرين بوضع «نظرية الاحتمال»، وهي عبارة عن مجموعة من الأفكار المعرفية المحيطة بعملية صنع القرار، التي تضمنت عوامل مثل المنهج التجريبي (المؤثرات التجريبية)، والترسيخ (مرادف لكلمة «تكييف»). حصل كانمان على جائزة نوبل في الاقتصاد عن عمله في «نظرية الاحتمال» في عام ٢٠٠٢، ولم يتمكن تفيرسكي للأسف من تقاسُمها معه حيث كان قد تُوفِّي قبل ذلك بست سنوات.
وخلال حقبة ثمانينيات القرن العشرين، تعاون كلٌّ من كانمان وريتشارد ثالر ليتمكَّنا معًا من وضع نظرية الاقتصاد السلوكي، التي تُفِيد بأن العقل لديه طريقتان لصنع القرار، هما: النظام الثاني، أو النظام التأملي، ويتمثل في الطريقة التقليدية التي نعتقد أننا نتخذ بها قراراتنا. ويتميز هذا النوع بأنه بطيء ومحكوم وواعٍ، كما أنه استدلالي على نحو منطقي. في المقابل، يتسم النظام الأول، أو ما يُعرَف بالنظام التلقائي، بأنه سريع وغير محكوم وغير واعٍ وحدسي على نحو غير منطقي (ثالر وسنشتاين، ٢٠٠٨). لتوضيح هذا أكثر، يتجلَّى أقوى دوافع النظام الثاني عندما يتوفر لدى العلامة التجارية دليل يُثبِت أنها أفضل من نظيراتها؛ في حين يتجلَّى أقوى دوافع النظام الأول إذا استخدم العلامة التجارية شخص نعرفه.
ثمة أسماء كثيرة ومختلفة للتفكير بالنظام الأول؛ فنجد أن مالكولم جلادويل يُفضِّل الوصْف الذي أطلقه جيجرينزر وهو التفكير «السريع والبسيط» (جلادويل، ٢٠٠٦). بينما استخدم ستيوارت ساذرلاند في كتابٍ أُعيد نشره في عام ٢٠٠٧؛ أي بعد وفاته بتسع سنوات، مصطلح «اللاعقلانية» (ساذرلاند، ٢٠٠٧)، كما تحدث دان أرييلي (٢٠٠٨) عن «التأثير عديم الصلة». وربطه جونا ليرر «بالمشاعر الطائشة» و«الغرائز»؛ ويصفه جون كاي (٢٠١٠) بصنع القرارات على نحو غير مباشر. ومن المثير أن النظام الأول للتفكير لم يَحدُث إقبال شديد على النشر فيه إلا بعد مُضِي عدة سنوات على ظهوره.
ووفقًا لثالر وسنشتاين، فإن «أنشطة النظام التلقائي (النظام الأول) مقترنة بالأجزاء الأقدم من أدمغتنا؛ الأجزاء الشبيهة بتلك الموجودة في السحالي» (كاي، ٢٠١٠). وهما يُرجِعان هذه المعلومة إلى مصادر يعود تاريخها إلى ما بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٢، ولكن هذه الفكرة تمَّ نشرها في الواقع بواسطة أنطونيو داماسيو، قبل ذلك في عام ١٩٩٤. كما أوضح داماسيو بالتفصيل النموذج النفسي لنموذج صنع القرار ذي الجزأين في عام ٢٠٠٣، الذي من غير المستغرب أنه تضمن دور العاطفة. كما قام بتطوير هذا عن طريق استخدام قصة حادثة المنجم الشهيرة التي وقعت عام ١٨٤٨.
قصة فينياس جيج (داماسيو، ١٩٩٤)
كان فينياس جيج، البالغ من العمر ٢٥ عامًا، يعمل رئيسًا للعمال المكلَّفين بتفجير الصخور في أحد المحاجر، وذلك أثناء إعداد طريق سكة حديد روتلاند وبرلينجتون خارج مدينة كافنديش، بولاية فيرمونت الأمريكية. كان يتسم بالأناقة والذكاء، وتركز دوره في تحديد مسار الطريق وتفجير الصخور للحصول على طريق مستقيم قدْر الإمكان، كما قام جيج بالإشراف على حفر ثقوب في الصخور، ليقوم بعد ذلك بنفسه بحشو قضيب حديدي بمسحوق مواد متفجرة وفتيل ورمال، حيث بلغ قطر هذا القضيب الحديدي بوصة وربع البوصة، وقُدِّر طوله بنحو ٣ أقدام و٧ بوصات.
وفي الثالث عشر من سبتمبر عام ١٨٤٨، في تمام الساعة ٤:٣٠ بعد الظهر، وقع حادثٌ مروِّع، وذلك عندما دفع جيج القضيب الحديدي المحشوَّ بالمواد المتفجرة إلى داخل الحفرة المجهزة بالفعل، فانفجر المسحوق المتفجِّر، ليرتدَّ القضيب الحديدي من داخل الثقب مخترقًا رأس جيج عند العظمة الوجنية أسفل عينه اليسرى، ليخرج من أعلى رأسه، ويطرحه أرضًا على بُعد ١٠٠ قدم وهو «مهشَّم الرأس وغارق في دمائه».
سقط جيج على ظهره، لكنَّ المفاجأة أنه لم يلْقَ حتفَه. ومن خلال مقتطفاتٍ اقتبسها داماسيو من مجلة «بوسطن ميديكال آند سيرجيكال جورنال»، أشار إلى ظهور «القليل من الحركات التشنجية» عليه، كما أنه «تحدث خلال بضع دقائق». حُمل جيج بعد ذلك بواسطة عُمَّاله إلى الطريق حيث كانت بانتظاره عربة يجرُّها ثور أقلَّتْه إلى الفندق، حيث «جلس فيها منتصبًا» لمسافة ثلاثة أرباع ميل، «وخرج من العربة بنفسه بمساعدة بعض رجاله» (داماسيو، ١٩٩٤).
بعد ذلك، تماثَل جيج تمامًا للشفاء على الصعيد الجسدي، باستثناء بعض التشوُّه الذي تسبب فيه الجرح، كما أنه لم يُعانِ من أي شلل ولم يفقد أيًّا من حواسه باستثناء فقدانه للرؤية بعينه اليسرى. لكن للأسف لم يكن الأمر كذلك على صعيد حالته العقلية، فقد تغيَّرت لغته لتصبح بذيئة إلى حدِّ أن «النساء كُنَّ يُنصَحْنَ بعدم المكوث طويلًا في حضوره»، وفيما بعدُ اتضح أنه يُعاني من حالة صرع متقدمة. كما أنه لم يَعُدْ قادرًا مطلقًا على العمل مجددًا، وبعد حياةٍ غير مستقرة ومتقلِّبة، تضمنت عمله لفترةٍ قصيرة في السيرك بمتحف بارنوم في نيويورك، توفِّي جيج بعد معاناته من سلسلة من التشنجات في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز ٣٨ عامًا.
لم يكن المبرِّر الذي حدا بداماسيو إلى أن يَروي هذه القصة البشعة هو إضفاء مسحة درامية على كتابه المتميز «خطأ ديكارت»، ولكنَّ السبب الذي دفعه لذلك هو أن الإصابات التي عانَى منها فينياس جيج أسفرتْ عن حدوث تغيُّرٍ شديد الأهمية في سلوكه؛ فبعد أن كان شخصًا كفئًا وقادرًا ولديه القدْرة على التركيز الشديد، أصبح «متقلبًا ومتذبذبًا» وغير قادر تمامًا على الفهم أو التحكم في عواطفه. الأهم من ذلك كله أنه تحول إلى شخصٍ ليست لديه القدرة على التخطيط لمستقبله ككائنٍ اجتماعي، بعد أن كان «مفعمًا بالطاقة والنشاط ولديه الإصرار على تنفيذ جميع خططه العملية» (داماسيو، ١٩٩٤). كما أن الجرح الذي أصابه، في الحقيقة، قد جرَّده من القدرة على اتخاذ القرار.
استند داماسيو إلى تجربة مرَّ بها أحد مرضاه (إليوت)، الذي فقدَ هو أيضًا قدرته على التحكم في عواطفه وعلى اتخاذ القرار نظرًا لإصابته بورم، ليستنتج أن ما حدث لكلٍّ من إليوت وجيج لم يكن نتيجةً لفقدان ما قد يُطلَق عليه الوظيفة المعرفية، أو «الذكاء»؛ ففي كلتا الحالتين، لم يتضرر سوى جزء ضئيل للغاية من الدماغ، وهو المادة البيضاء التي لا تمثِّل أيَّ أهمية خاصة للوظائف التي نقوم بها كبشر. قام داماسيو أيضًا بفحص ١٢ حالة مرضية أخرى تُعانِي من التلف الدماغي نفسه، ووجد أن جميعها كان يُعاني من «قصور في القدْرة على صنع القرار وضعف العاطفة والشعور» (داماسيو، ١٩٩٤).
وخلال سعْيِه لوضْع تفسير لهذا، تبنَّى داماسيو فكرة وجود جهازٍ «حوفي» في المخ، وهو تصوُّرٌ وضَعَه بول ماكلين (١٩٥٢) لتمثيل الدماغ الأصلي للثدييات. يقع هذا الجهاز الحوفي تحت القشرة الدماغية الجديدة الأحدث تطورًا، وهي ذلك الجزء من القشرة الدماغية الذي تطور ليمنحنا قوى التفكير الفريدة. كما أن هذا الجهاز الحوفي الذي يُعرف أيضًا بالدماغ «الحشوي»، كان مسئولًا في الأساس عن الوظائف الغريزية وتلك المتعلِّقة بالبقاء على قيد الحياة (على سبيل المثال، الخوف، والدافع الجنسي، والجوع)، كما يضم هذا الجزء من الدماغ مركز معالجة المشاعر. ونظرًا لأنه نشأ في الأساس باعتباره جزءًا من الجهاز الدفاعي للجسم، فإن الجهاز الحوفي يعمل بطريقةٍ استبصارية وآلية، وإذا لم يفعل ذلك، فربما الْتَهَمَتْنا الحيوانات المفترسة وتعرضنا للانقراض منذ وقت طويل.
يبدو أن الجزء المسئول عن العقلانية الذي يُفترض وجوده ضمن القشرة الدماغية الجديدة، لا يعمل بدون التنظيم الحيوي، الذي من المفترض وجوده فيما تحت القشرة الدماغية. (داماسيو، ١٩٩٤)
يُعَدُّ هذا الاكتشاف رائعًا؛ فمن ناحية، يوضح أن عملية التحكم في العواطف والمشاعر، تلك العملية التي تُعتَبَر أحدَ أهم الجوانب في وظيفتنا كمخلوقاتٍ اجتماعية، تَنتُج عن تطور القشرة الدماغية الجديدة، ولكن الأهم من وجهة النظر هذه، هو أنه يُشير إلى أن عملية صنع القرار، التي يُفترض أنها نشاط «تفكير» عقلاني، تتوقف إلى حدٍّ كبير على مشاعرنا وعواطفنا. وفي ضوء وجهة النظر التي يطرحها داماسيو، فإن وظائفنا المعرفية يتأثر عملها تأثُّرًا كبيرًا بعواطفنا ومشاعرنا.
هذا لا يعني أن العواطف هي التي تفكر لنا أو تصنع قراراتنا؛ ففي عملٍ لاحق، أوضح داماسيو قائلًا: «إنني لم أقُلْ إن العواطف هي بديل للتفكير أو إنها تصنع قراراتنا.» (داماسيو، ٢٠٠٠) ولكن لها تأثيرٌ قوي وتقوم بدور «المراقب» على القرارات، من خلال آلية وصفها داماسيو بفرضية الواسمات الجسدية.
الواسمات الجسدية
تخيل أنك طفلٌ صغير، تسير وسط شارعٍ مزدحم مع والدتك، وبينما أنت تعبر الطريق، تُشدِّد والدتك على أهمية النظر إلى كِلَا الاتجاهين للتأكد من عدم قدوم أي سيارات. أنت تُصغِي لها وتتذكر ما تقوله لك، لكنها لم تترك الانطباع القوي لديك، وتمر الأيام لتكبر وتنسَى أن تنظر إلى الطريق وأنت تعبُرُه مثلما كنتَ تفعل، ولا تلاحظ اقتراب سيارة منك. يعلو صوت بوق السيارة بشدة لتتوقف على مقربة شديدة منك، فتقفز وتضطرب مشاعرك بشدة، وتتملَّكك حالةٌ من الرعب، وتتصبَّب عرقًا لتعود مسرعًا إلى الرصيف. تواصل السيارة سيرها، وبعد مدة تنسَى هذا الحادث، ويعود كل شيء إلى طبيعته على ما يبدو.
لكن كل شيء لا يعود إلى طبيعته فعليًّا. سوف تجد نفسك تتوقف تلقائيًّا وتنظر عن كثَب وأنت تعبر الطريق. قد تتذكر حادث التصادم الوشيك هذا، أو قد يمر بخاطرك لفترةٍ وجيزة — على حسب وصف دينيت، يدركه الوعي لمدةٍ قصيرة، ليتم نسيانه سريعًا — أو ربما لا تتذكره على الإطلاق. ولكن السبب وراء توقفك والنظر بعناية، سواء كنت مدركًا حدوث ذلك أم لا، يتمثل في أن الحادثة قد جعلت «جسدك» يصنع «واسمًا» يؤثِّر على سلوكياتك المستقبلية أثناء عبور الطريق.
تُعَدُّ الواسمات الجسدية مثالًا خاصًّا على المشاعر التي تم ربطها عبر التعلم بالنتائج المستقبلية المتوقَّعة في سيناريوهاتٍ محددة. عندما يرتبط واسمٌ جسدي سلبي بنتيجة معينة في المستقبل، فإن هذا الربط يصبح بمثابة جرس إنذار، وعندما يكون الارتباط بواسم جسدي إيجابي، يصبح هذا الارتباط بمثابة شعلة للتحفيز. (داماسيو، ١٩٩٤)
يعتقد داماسيو أننا نُنشئ هذه الواسمات على نحو مستمر طوال حياتنا، ولكننا دائمًا لا ندركها أو ندرك تأثيرها. «تعمل الواسمات الجسدية أحيانًا على نحو خفي (دون أن تتوارد إلى الوعي)، أو قد تستخدم استجابة جسدية تقديرية» (داماسيو، ١٩٩٤). بعبارةٍ أخرى، من الممكن جدًّا أن تنظر بعناية كبيرة وأنت تعبر الطريق بعد وقوع حادث تصادم لك، ولكن بعد فترة سوف تنسى «سبب» قيامك بهذا، أو أنك تقوم به أصلًا.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هي الصلة التي يمكن أن تتواجد بين فرضية الواسمات الجسدية واختيار العلامة التجارية والإعلان؟ أستطيع القول بأنها «صلة قوية» فنحن في مسار حياتنا قد تعرضنا لمئات الآلاف من المعلومات المتعلقة بالعلامات التجارية، وإنْ صحَّ ما يقوله داماسيو فإن كل معلومة من هذه المعلومات قد نَقَشَتْ في وجداننا ألوانًا شتَّى من العلامات العاطفية، حيث يكون منها التافه من الناحية العاطفية الذي قد يكون له تأثير بسيط أو لا يُذكَر على سلوكنا، ومنها ما يحتلُّ أهمية عاطفية كبيرة ويترك انطباعًا دائمًا في وجداننا.
ونتناول فيما يلي بعض الأمثلة. إذا افترضنا أنك تعيش في المملكة المتحدة، فقد ترى أن اتجاهات الموضة الفرنسية هي الأفضل والأكثر أناقة من حيث الملابس والعطور وما إلى ذلك، والأرجح أنك لا تعلم سبب اعتقادك هذا. ربما يتمثل السبب في أن معظم بيوت الأزياء المشهورة تحمل أسماء فرنسية ولها مقرات في باريس، وربما يتمثل في أنه كلما وقعت عيناك على الفرنسيين وجدتَهم متأنِّقين، أو في أن الملابس والعطور الفرنسية هي الأغلى ثمنًا؛ ومن ثم تجعلك تعتقد أنها لا بد أن تكون الأفضل، وقد يرجع الأمر إلى معلومة أَخبَرَك بها أبواك، ولكنْ أيًّا كان السبب فهناك شيء ما مُختزَن من الماضي أوجد هذا «الواسم» في وجدانك الذي يعني أنك تتوقع أن تكون الموضة الفرنسية هي الأفضل على الإطلاق.
أطرح عليك مثالًا آخر، هل سألتَ نفسك يومًا ما لِمَ تُعَدُّ أسعار المنتجات الألمانية من غسالات وملابس وسيارات وأدوات كهربائية أعلى من غيرها؟ سَلْ نفسَك هذا السؤال الآن وسوف تتوصل على نحو شبه مؤكَّد إلى فكرة مفادها أنك تعتَقِد بطريقة أو بأخرى أن تلك المنتجات أفضل من غيرها من حيث التصنيع وقوة التحمل و«التصميم» مقارنة بغيرها من المنتجات. ولا بد أنها كذلك، وإلا لَمَا أقْبَل الناس على شرائها رغم ارتفاع ثمنها مقارنة بغيرها. هذا أمرٌ بديهي.
لكن من أين أتَتْ فكرة أن المنتجات الألمانية أفضل من غيرها من حيث التصنيع وقوة التحمل؟ بالنسبة لي فإنني أتذكَّر والدي وهو يقول لي إننا قُمْنا بإعادة بناء كافة المصانع الألمانية للألمانيين، وهو الأمر الذي يعني أنهم استفادوا من أفضل التقنيات المتاحة، ولكن هذا الأمر قد حدث منذ أكثر من خمسين عامًا، وهو ما يعني أن معظم الناس في أيامنا هذه لم يسمعوا بهذه القصة.
الأمر نفسه ينطبق على الأجهزة الإلكترونية اليابانية الصُّنع (مثل أنظمة الهاي فاي وأجهزة التليفزيون وغيرها)، فالكل يعتقد أنها الأفضل، ولكنني أشكُّ في أن أحدًا منهم يدرك (أو يتذكر، كي أكون أكثر دقة) السبب الحقيقي وراء هذا الاعتقاد. الواقع هو أننا نسينا منذ فترة طويلة تلك الواسمات التي كانت السبب في اعتقادنا أن أنواع المنتجات هذه من تلك الدول هي الأفضل، وأصبحتْ تلك الواسمات تؤثِّر فينا على نحو مستتر.
يُسلِّط الضوءَ على مدى تأثير تلك الواسمات الخفية قصةُ العلامة التجارية لمجموعة ديكسونز-كاريس. ديكسونز هي سلسلة من المحلات التي تعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي، والتي استحوذتْ على مجموعة كاريس للمنتجات الكهربائية في ديسمبر من عام ١٩٨٤. كان لكاريس علامة تجارية تُدعَى سايشو وكانت العلامة التجارية لديكسونز تُدعَى لوجيك. وقد قررت المجموعة دمج العلامتين وأجْرَتْ بحثًا لتحديد أفضل اسم للعلامة التجارية الجديدة. قامت المجموعة باقتراح وبحث مجموعة متنوعة من أسماء العلامات التجارية، وكان من بينها اسم ياباني رنان وهو ماتسوي طُرِح في اللحظة الأخيرة.
وأظهرتِ النتائج أفضلية ساحقة لهذا الاسم ماتسوي، وعلى الرغم من أن معظم المنتجات التي تُباع باسم هذه العلامة التجارية كانت تُصنع في ويلز، لم يكن أمام الشركة من خيار سوى هذا الاسم الذي أصبح بعد ذلك من العلامات التجارية الناجحة نجاحًا مذهلًا في حدِّ ذاتها، ولا تزال تستخدمها المجموعة في بيع أجهزة التليفزيون والمنتجات الكهربائية الأخرى.
نموذج صنع القرار لداماسيو
يبدأ النموذج بنموذج التفكير التقليدي البسيط وهو المسار «أ»، حيث يدخل المُثير (وهو الإعلان في حالتنا هذه) في «مربع التفكير» الذي تتفاعل فيه الحقائق والخيارات المطروحة لصنع القرار وتمثيلات النتائج المستقبلية بعضها مع بعض لحين الوصول إلى قرار ما. ويتم تفعيل أحد هذه الخيارات ليصبح هو القرار.
في هذا النموذج، نجد أن داماسيو قد أضاف لمربع «الحقائق» آلية للتنظيم والفرز سمَّاها «استراتيجيات التفكير»، ولكن هذا الجانب من جوانب صنع القرار لا يزال منطقيًّا. ما يوضحه داماسيو هو أن هناك مسارًا آخَر يعمل بالتوازي مع عملية صنع القرار العقلانية، وهو ما يُطلَق عليه المسار «ب». ويُسلَك هذا المسار تلقائيًّا في كافة مواقف صُنع القرار، وما يفعله هو أنه يُنشط على نحو خفي «التحيزات المرتبطة بتجارب عاطفية سابقة في مواقف مشابهة» (داماسيو، ٢٠٠٣). من هذا المنطلق نجد أنه إذا مرَّ بك موقف مماثل من قبل ونَقَشَ نوعًا من الواسمات الجسدية في وجدانك، فمِن المؤكَّد أنه سيؤثِّر فيك لا شعوريًّا في هذا الموقف الجديد.
يُعرِّف داماسيو المسار «ب» على أنه «الشعور الغريزي» أو «الحدس». التفكير في الأمر لبضع لحظات يُظهِر أن هذا أمر شائع الحدوث، فكم من مرة رأيتَ فيها إعلانًا عن منتج وشعرت من داخلك بأنك لا تَثِق به، السبب في حدوث ذلك هو أنك مررتَ في وقت ما في الماضي بتجربة مع إعلان مفرط في الادِّعاء أو مضلِّل. لكن وجود المسار «ب» ليس هو الشيء المهم. المهم هو مدى تأثيره.
في بعض الأحيان قد تجعل العاطفة عملية التفكير غير ضرورية، مثلما نرفض على الفور أحد الخيارات التي قد تؤدي إلى كارثة، أو نقفز إلى فرصة جيدة بناءً على احتمالية كبيرة للنجاح. (داماسيو ٢٠٠٣)
أولًا: من الممكن أن تصدر مشاعر غريزية دون الاستخدام الفعلي للجسم مع الاعتماد بدلًا من ذلك على الاستجابة الجسدية التقديرية [أي الخلايا العصبية المرآتية]. ثانيًا (والأكثر أهمية): إن الإشارة العاطفية يُمكن أن تعمل بالكامل بمنأًى عن الوعي كما يُمكن أن تُحدِث تحولات في الذاكرة العاملة والانتباه والتفكير بحيث تنحاز عملية صنع القرار نحو اختيار الإجراء الذي من المرجَّح أن يؤدي لأفضل النتائج. (داماسيو، ٢٠٠٣)
في بعض الأحيان يُمكن أن يؤدي المسار «ب» إلى قرار ما على نحو مباشر، مثلما يُثير الشعور الغريزي استجابة فورية. أنماط القرار المثيرة التي وصفها دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي تكون على الأرجح ناتجة عن سلوك المسار «ب». (داماسيو، ٢٠٠٣)
الحالة الكلاسيكية التي تتأثر فيها عملية اتخاذنا لقرار عقلاني تحدث عندما لا يكون لدينا وقت كافٍ؛ على سبيل المثال، عندما يتصل شخص ما بامرأة لا تعرفه من أجْل مُواعَدة في المساء، فالأرجح أنه لا يكون هناك متسع من الوقت أمام المرأة «لتفكِّر» إلى أي مدًى هي تَثِق بهذا الشخص؛ لذلك فإن حدسها يُقَيِّم شعورَها إزاء هذا الشخص والتجارب السابقة التي خاضتْها هي أو إحدى صديقاتها عندما قَبِلْنَ مواعدات من غير تروٍّ ودون استعداد؛ ومن ثم تتخذ قرارًا فوريًّا إما بالقبول وإما بالرفض (وهو الأكثر شيوعًا). بالطبع يمكن أن تتعلَّل هذه المرأة قائلة: «آسفة، أنا مشغولة/عندي مَوعِد آخَر هذا المساء/سوف أخرج في نزهة مع كلبي»، أو أي مبرِّر آخَر غالبًا ما يكون غير مُقنِع.
توضح إحدى التجارب التي نُشرت عام ١٩٩٩ كيف أن سلوك المسار «ب» يؤثر على القرارات اليومية البسيطة (شيف وفيدوريكين، ١٩٩٩). أعطى شيف وفيدوريكين الطلاب مهمة غير ذات صلة ليؤدُّوها، وعَرَضَا عليهم جائزة؛ إما كيك الشوكولاتة أو سلطة الفواكه. طُلب من نصف العينة أن يختاروا قبل بدء المهمة (مقيدة بوقت)، وأُخبر النصف الآخر بأنهم يستطيعون اتخاذ قرارهم بعد إنجاز المهمة (غير مقيدة بوقت). أظهرتِ النتائج أنه في حالة المهمة المقيدة بوقت، كان الطلاب، أكثر ميلًا بكثير لتفضيل كيك الشوكولاتة الأكثر جذْبًا من الناحية الشعورية على سلطة الفواكه الأكثر جذْبًا من الناحية العقلانية، والعكس صحيح.
تكررت النتائج عندما كان الجهد المعرفي محدودًا، عندما طُلب من المشاركين أن يتذكروا إما عددًا مكونًا من سبعة أرقام أو رقمين. يُشير هذا إلى أنه عندما يتخذ المرء قرارًا وعقله منشغل بشيء آخر (على سبيل المثال، التسوق في متجر مزدحم مع الأطفال)، فإن هذا القرار سيكون متأثرًا بالعاطفة إلى حدٍّ كبير.
كانت هناك ملاحظتان مثيرتان للاهتمام؛ تتمثل الأولى في أن هذه الاختلافات لم تَظهَر عندما استُخدمت صور نوعي الحلويات. يوحي هذا بأن السلوك البديهي يتطلب الإحساس «الداخلي» بالعاطفة (باستخدام مصطلحاتنا السابقة، يتطلب الأمر انطلاق الخلايا العصبية المرآتية في دماغك على الفور) قبل أن يصبح التأثير العاطفي فعَّالًا. قد يكون هذا السبب في أن «قِيَم الإنتاج» في الإعلان (أي الجودة والاهتمام اللذين يُنتَج الإعلان بهما) يُمكن أن تكون ضرورية جدًّا كي يكون الإعلان فعالًا.
الملاحظة الثانية هي أن الأشخاص الأكثر اندفاعًا هم فقط مَن تفاعلوا مع عواطفهم؛ مما يوحي بأن المسار «ب» لا ينطبق على نحو متماثل على جميع الأشخاص في جميع المواقف. قد يُفسر هذا السبب في أن الإعلان لا يكون مؤثرًا من الناحية العاطفية على جميع الأشخاص، وكذلك السبب في أن الناس خلال البحث يجدون سهولة كبيرة في إخفاء قابليتهم للتأثر عاطفيًّا.
ولكن، بغضِّ النظر عن قابليتنا للتأثر عاطفيًّا، فإن وجود واسمات بداخل عقلنا الباطن يؤدي فعليًّا إلى تأثُّرنا جميعًا بالإعلان دون أن نُدرِك ذلك. أعتقد أن دراسة الحالة أدناه عن شركة أودي توضح هذا الأمر جيدًا.
دراسة حالة: أودي
عُرض أول إعلان تليفزيوني لأودي عام ١٩٨٣. كان المعلِّق على الإعلان هو الممثل البريطاني جيفري بالمر، ويُظهِر الإعلان ثلاث أُسَر ألمانية مختلفة تقود سياراتها في طريقها إلى البحر المتوسط لقضاء العطلة الصيفية، ويوضح الإعلان أن خاصيتي الديناميكية الهوائية والكفاءة في استهلاك الوقود اللتين تتمتع بهما أودي ١٠٠ جعلتاها تصل قبل السيارات الأخرى بوقت طويل. ينتهي الإعلان بالشعار، وينطق بالمر الشعار بصوته الرخيم قائلًا عن العلامة التجارية: ««فورسبرونج دورش تكنيك»، كما يقولون بالألمانية.»
لقد كان هناك الكثير من التعليقات في مجال الإعلان بشأن غرابة القرار الذي اتخذتْه وكالة الإعلانات «بي بي إتش» بعدم ترجمة الشعار. بعد حين خمدت الإثارة وأصبح الشعار مألوفًا وتم تجاهله إلى حدٍّ ما. ولم يكن الحال كذلك بالنسبة إلى العلامة التجارية أودي، التي استمرت لتصبح واحدةً من أكثر العلامات التجارية في المملكة المتحدة تميزًا، حيث اقتربتْ في طموحها من بي إم دبليو ومرسيدس.
المثير في الأمر أنه بعد مُضِيِّ ٢٩ عامًا، إذا سألتَ أحدًا ما هو الإعلان الذي يُمكن أن يتذكره عن أودي فإنه لا يكاد يذكر إعلانًا واحدًا، ولكن الكثيرين يتذكرون الشعار «فورسبرونج دورش تكنيك». وإذا سألتَه عن معنى الشعار، سيبدو عليه عدم الفهم ويرد عليك قائلًا: «ليس لديَّ أدنى فكرة، إنه بالألمانية.» بناءً على هذا فإنك لن تُلام على اعتقادك بأن الشعار لم يكن له دور كبير في بناء سمعة أودي الطموحة.
ولكن باستخدام ما تعلمناه حول الواسمات الجسدية لداماسيو، فإنه من الممكن القول بأن هذا الشعار غير المفهوم ربما كان واحدًا من «أكثر» العناصر تأثيرًا في إعلان أودي. بسبب إثارته لواسماتٍ ثلاثة مهمة جدًّا.
معظمكم سيتعرف على الواسم الأول في الحال، فقد تحدثنا بالفعل عن حقيقة تصنيف ألمانيا بأنها أفضل من جميع الدول تقريبًا في هندستها، ومن الواضح أن عبارة «فورسبرونج دورش تكنيك» ألمانية، ويعني هذا أن أودي ألمانية الجنسية؛ ولذلك فهي تستفيد من جودة الهندسة الألمانية.
وبالسهولة نفسها تقريبًا يمكن تحديد الواسم الثاني؛ فكلمة «تكنيك» مشابهة جدًّا للكلمة الإنجليزية «تكنيكال» بمعنى تقني وكلمة «تكنولوجيا»، وتدل بوضوح على أن سيارات أودي سيارات متطورة من الناحية الفنية وصُنعت باستخدام التكنولوجيا الحديثة. وهذا يُشير إلى أن العلامة التجارية تهتم بالعلم أكثر من اهتمامها بجمال التصميم أو الشكل.
ويمكنني القول إن الواسم الثالث هو أكثر الواسمات تأثيرًا، ومع ذلك قلَّما يتنبَّه إليه المرء على الرغم من أنه واضح وضوح الشمس. إنه الواسم الذي نشأ من قرار هيجارتي بعدم ترجمة الشعار؛ فعن طريق ترك الشعار باللغة الألمانية الأصلية دون ترجمته، أكد هيجارتي على الهوية الألمانية للعلامة التجارية.
حاولتْ معظم السيارات الأجنبية في ثمانينيات القرن العشرين التقليل من أهمية كونها أجنبية المنشأ، واستخدمت الشركات المعلِنة شعارات إنجليزية في إعلاناتها كي تُظهِر أن سياراتها ذات طابع إنجليزي. استخدمت بي إم دبليو شعار «السيارة الأفضل»، واستخدمت رينو عام ١٩٩٢ في إعلانها عن السيارة كليو شعار «طراز متميز»، واستخدمت فولكس فاجن شعار «ليت كل شيء في الحياة يُعتمد عليه مثل فولكس فاجن!» في الإعلان الإبداعي الذي حمل عنوان «الأميرة ديانا» عن سيارة فولكس فاجن جولف. ولكن أودي بتمسُّكها برسالتها الألمانية الأصلية أعطتْ فعليًّا رسالة فائقة الثقة تُفِيد بأن سياراتها ألمانية وأنها فخورة بذلك، وأنها ليس لديها استعداد لأن تقدم تنازلات بشأن هذه الهوية الألمانية. إذا أراد الناس سيارة هجينة تم تعديلها بحيث تتناسب مع السوق المحلي فعليهم أن يشتروا إحدى العلامات التجارية الأخرى، ولكن إذا أرادوا الشيء الأصلي فعليهم شراء سيارة أودي.
بالطبع أنت لا «تفكر» في شيء من هذا عندما ترى شعار «فورسبرونج دورش تكنيك». إنك لا تفكر قائلًا: «يا إلهي! تلك حيلة ذكية من شركة أودي؛ فعن طريق عدم ترجمة الشعار، تخبرني الشركة بأنها ليستْ على استعداد لأن تقدم تنازلات بشأن تصميمها من أجلنا نحن البريطانيين.» أنت لا تفكر على هذا النحو لأنه شعار، وبوجه عام نحن لا نفكر في الشعارات الإعلانية كثيرًا. في الواقع، إذا اجتهدتَ في التفكير في شعار أودي فإنه سيفقد تأثيره في الحال؛ لأنك سرعان ما تعترض قائلًا إن سيارات أودي تم تعديلها بحيث تناسب السوق البريطانية مثلها مثل العديد من العلامات التجارية الألمانية الأخرى.
إذن ماذا يحدث عندما ترى هذا الشعار؟ الإجابة هي أنك لا تفكر فيه، ولكن ينتابك «شعور» ما بشأنه. إنك تدرك حسيًّا الاسم أودي والشعار الألماني، وعلى مستوى اللاوعي، يطلق هذا الإدراك الحسي الواسم المرتبط بالشعور بأن الألمان هم الأفضل في المجال الهندسي عالميًّا، ويقوم أيضًا بإطلاق الواسم الذي يجعلك تشعر بأن التكنولوجيا الموجودة في سيارة ما هامة جدًّا، والأهم من ذلك أنه يطلق الواسم الذي يجعلك تشعر بأن أودي هي أكثر العلامات التجارية تمسكًا بالهوية الألمانية وفخرًا بها، وأنه لا بد وأن الشركة بلغتْ من الثقة والنجاح مبلغًا بحيث لا يؤثِّر فيها عدم ترجمتها الشعار. تُخزن جميع هذه المشاعر الإيجابية في اللاوعي لديك الذي يرتبط باسم أودي، ولأنها مخزنة على مستوى اللاوعي ولأنك لا تدرك أنها موجودة، فلا توجد طريقة تتمكن بها من محوها أو من إيقاف تأثيرها عليك.