خارج دائرة الضوء
عليك أن تقولها على نحو يجعل الناس يشعرون بها داخليًّا؛ لأنهم إنْ لم يشعروا بها، فإنَّ شيئًا لن يحدث.
ربما يشعر بعضكم بأنني بالغتُ في طرح القضية، وأنه ليس للإعلان، على الرغم من قدرته على التأثير علينا على مستوى اللاوعي، تأثير حقيقي يُذكر عند التعامل معه بهذه الطريقة. إنني أفترض أنك قد تعتقد أن الأمر يتعلق بنا إذا كنَّا نحن «المستهلكين الأغبياء اللامبالين الذين هم عرضة للأساليب السيكولوجية التي تدمر دفاعاتنا» على حد وصف جون فيليب جونز (١٩٩٠)؛ أم كنَّا مثل ربة المنزل «الأكثر خبرة وحنكة في شراء منتجاتها العادية مقارنة بالمشتري الصناعي الذي يشتري محطة طاقة ذرية» على حد وصف إرينبرج (١٩٧٤).
المؤكد أن الجواب هو مزيج بين هذا وذاك. لا نزاع في أننا مثقفون، بَيْدَ أننا أيضًا لا نُعمِل فكرَنا كثيرًا عندما يتعلق الأمر بشراء العديد من المنتجات. وفي بعض الأحيان — كما اتضح من التجربة التي سأعرضها فيما بعدُ — يمكن أن نَجِد أنفسنا وقعْنا فريسة لأساليب سيكولوجية تجعلنا نبدو أغبياء للغاية.
ما مدى سهولة تأثرنا؟
أجرى هذه التجربة كلٌّ من جاري ويلز وريتشارد بيتي (١٩٨٠)، وقد جَمَعَا مجموعة من الطلاب معًا زعمًا أنهما يريدان منهم اختبار نوع جديد من سماعات الرأس للاستخدام أثناء ركوب الدراجة. وقد مر الطلاب بمجموعة متنوعة من الاختبارات؛ كان أحد هذه الاختبارات الجلوس والاستماع إلى ما بدا كأنه بثٌّ إذاعي. وقد طُلب من مجموعة من الطلاب تحريك رءوسهم بقوة إلى أعلى وأسفل أثناء الاستماع، كما لو كانوا يركبون دراجة على طول طريق وعر. وطُلب أيضًا من مجموعة أخرى تحريك رءوسهم بقوة كما لو كانوا يركبون دراجة، ولكن هذه المرة يمنة ويسرة من جانب إلى آخر وطُلب من المجموعة الثالثة الضابطة الإبقاء على رءوسهم ثابتة.
احتوى البث الإذاعي الذي استمع إليه الطلاب على بعض المقطوعات الموسيقية كما احتوى أيضًا على نقاش حول الرسوم الدراسية. واستمع نصف كل مجموعة من المجموعات إلى مناقشة حول زيادة مقترحة للرسوم الدراسية إلى ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا في حين استمع النصف الآخَر من كل مجموعة إلى مناقشة حول تخفيض الرسوم الدراسية إلى ٤٠٠ دولار أمريكي. وفي نهاية الاختبار، سُئل الطلاب أسئلة مختلفة عن مدى إعجابهم بالموسيقى وعن النسبة التي ينبغي أن تتغير بها الرسوم الدراسية.
وكانت النتائج مُدهِشة؛ فمن بين العينة التي استمعت إلى المناقشة الدائرة حول زيادة الرسوم الدراسية، اقترح أولئك الذين كانوا يحركون رءوسهم من جانب إلى آخر يمنة ويسرة متوسط زيادة للرسوم الدراسية يقلُّ بمقدار ٢٠٪ عن المتوسط الذي اقترحتْه المجموعة الضابطة، أما أولئك الذين كانوا يحركون رءوسهم إلى أعلى وأسفل فقد اقترحوا زيادة بمقدار ١٠٪ عن الزيادة التي اقترحتْها المجموعة الضابطة. ومن بين أولئك الذين كانوا يستمعون إلى النقاش الدائر حول خفض الرسوم الدراسية، اقترح أولئك الذين كانوا يحركون رءوسهم من جانب إلى آخر يمنة ويسرة خفض الرسوم الدراسية بمقدار يزيد عن المجموعة الضابطة بنسبة ٣٪، أما أولئك الذين كانوا يحركون رءوسهم إلى أعلى وأسفل فقد اقترحوا خفض الرسوم بمقدار يقلُّ عن المجموعة الضابطة بنسبة ١٨٪؛ لذلك فإن أولئك الذين كانوا يومئون برءوسهم اتفقوا بنسبة أكبر مع النقاش الدائر، في حين اتفق أولئك الذين كانوا يهزون رءوسهم باستمرارٍ بنسبة أقل مع النقاش.
يشير هذا إلى أن حركة الإيماء البسيطة أو هز رءوسنا، رغم أنه ليس لها علاقة بالأمر على الإطلاق، يمكن أن تغيِّر بالفعل مواقفنا حول موضوع معين؛ لذا اسأل نفسك هذا السؤال: إذا كان تحريك رءوسنا يمكن أن يؤثر على مشاعرنا على هذا النحو الكبير، فلأي درجة يمكن أن يؤثر علينا التأثير العاطفي اللاواعي المحسوب للإعلان؟
أُجريت دراسة ويلز وبيتي قبل أكثر من ثلاثين عامًا مضت؛ لذلك ربما تعتقد أننا أصبحنا جميعًا أكثر ذكاءً الآن. لذا، هل يوجد أي أدلة حديثة إضافية على تأثير هذه الأنواع من الإشارات البيئية على سلوكنا الشرائي الفعلي؟ حسنًا، إليك مجموعة أخرى من التجارب، وهذه المرة من عام ٢٠٠٧. أجرى كلٌّ من جونا بيرجر وجرونيا فيتزسيمونز (٢٠٠٨) ست دراسات على آثار الإشارات البيئية المرتبطة إدراكيًّا أو مفاهيميًّا على اختيارنا للعلامة التجارية.
في تجربتهما الأولى، اختبرا المستهلِكين خارج مركز تجاري محلي خلال فترة عيد الهالوين وبعدها. وكان سبب اختيار هذه الفترة الزمنية أنه خلال عيد الهالوين كان ثمة عدد كبير من القرع البرتقالي اللون معروضًا للبيع، وبعد انقضاء فترة العيد، لم يكن هناك أي شيء معروضًا منه. وما استنتجاه هو أن قِطَع الشوكولاتة والمشروبات الغازية البرتقالية اللون ذكرها المتسوِّقون بمعدل يزيد بنسبة ٥٠٪ أكثر ممَّا ذكروها «قبل» عيد الهالوين، عندما كانت إشارات القرع البرتقالي في كل مكان، عما كان عليه الحال «بعد» ذلك.
بطبيعة الحال، كل ذلك أظهر أن البيئة بإمكانها أن تؤثر على مواقفنا؛ لذلك في التجربة الثانية، أعطيا الأفراد أقلامًا ملونة بألوان مختلفة (البرتقالي والأخضر) لإكمال الاستبيان بها. وبعد ذلك، طلبا منهم أن يختاروا ما بين ٢٠ زوجًا من المنتجات العادية (طعام وشراب ومنظفات … إلخ)، كان بعض هذه المنتجات برتقاليًّا وبعضها أخضر، والبعض الآخر ذا ألوان أخرى. نَعَمْ، تفكيرك في محله؛ لقد وجدا أن أولئك الذين استخدموا الأقلام البرتقالية لإكمال الاستبيان كانوا أكثر ميلًا إلى اختيار المنتجات البرتقالية، وأولئك الذين استخدموا الأقلام الخضراء كانوا أكثر ميلًا إلى اختيار المنتجات الخضراء.
حسنًا، ربما لأن الأمر يتعلق بمشتريات بسيطة مثل هذه المشتريات فإننا يمكن أن نتأثر بسهولة أكبر. ماذا عن المنتجات الأكثر أهمية؟ في التجربتين المقبلتين، درسا شراء مشغِّل موسيقى رقمي. في الدراسة الأولى اختارا مجموعتين من الطلاب: مجموعة منهم كانت قد سافرت مؤخرًا، ومجموعة أخرى لم تكن قد سافرت. وأظهرا للمجموعتين شعارًا يربط مشغل الموسيقى الجديد بالأمتعة. وكانت المفاجأة أن وجدا أن أولئك الذين سافروا في السابق (ومِن ثَمَّ، على اتصال وثيق بالأمتعة) كانوا أكثر ميلًا بنسبة ٤٠٪ لاختيار مشغل الموسيقى الجديد، وكانوا على استعداد لدفع ٥٠٪ أكثر كمقابل لذلك. وفي الدراسة الثانية، عرضا الشعارات على صوانٍ، ووجدا أن أولئك الذين يتناولون الطعام في الكانتينات التي استخدمت صوانيَ تأثروا على نحو مشابه، مقارنةً بأولئك الذين تناولوا الطعام في مطاعم لم تستخدم صواني.
يبدو كأنه سِحْر! أليس كذلك؟ ولكن تؤكد كل هذه التجارب بالفعل أنَّ من السهولة بمكان للمعلِنين التأثير علينا من خلال استهداف العقل الباطن.
وكانت التجربة الخامسة عن تناول الفاكهة والخضراوات، واستُخدِمت مرة أخرى شعارات إما مرتبطة بالصواني أو غير مرتبطة بها. وكان للشعارات ذاتها التأثير نفسه على استهلاك الفاكهة والخضراوات، غير أن كمية الفواكه والخضراوات التي تمَّ تناولها في الكانتين الذي استخدم الصواني كانت أكبر كثيرًا بين أولئك الذين رأوا شعارًا مرتبطًا بالصواني، مقارنة مع أولئك الذين رأوا شعارات غير مرتبطة بالصواني.
لم يكن بيرجر وفيتزسيمونز أول مَن حدد كيفية تأثُّر سلوكنا بما يحيط بنا؛ حيث وجد آب دايكسترهوس أيضًا أن «سلوك المستهلك يتأثر بقوة بالإشارات البيئية الخفية» (دايكسترهوس وآخرون، ٢٠٠٥). بَيْدَ أن دراسة بيرجر وفيتزسيمونز ربما تكون الأولى التي أظهرت أدلة دامغة على مدى تعرض عقلنا الباطن لهذه المؤثرات الخارجية. وعلى حد تعبيرهما: «تدعم هذه النتائج الفرضية القائلة بأن الآثار الأولية التصورية يمكن أن يكون لها تأثير قوي على أحكام المستهلك الفعلية» (بيرجر وفيتزسيمونز، ٢٠٠٨).
وسوف أسرد لكم مثالًا شخصيًّا أحدث استوحيتُه من إعجابي بعروض علبة التونة التي تعرضتُ لها في الفصل الثالث عشر، ويوضح كيف أنه يمكن أن نتعرض للتضليل والتأثير بسهولة فائقة. كنتُ في الكثير من الأحيان، نظرًا لكوني دائمًا ما أبتاع التونة المعلبة، أذهب إلى العروض التي بها أربع علب تونة مجمَّعة معًا. ومجموعة العلب هذه دائمًا ما تحمل بطاقة تعلن أن هذا العرض به قيمة إضافية ما بطريقة أو بأخرى. وهذا يعني أن مثل هذه العروض تحلُّ مشكلة بحث العميل عن المنتج المناسب واتخاذ قرار بشرائه، لأنها توفِّر له المال على الأقل.
كنتُ قد لاحظتُ أن هذه العلب المجمَّعة بعضها مع بعض بدأتْ في احتلال مكان كبير من مساحة الرف. وفي أحد الأيام، قررتُ، بدافع من أحد أصدقائي، أن أتحقَّق من سعر إحدى هذه العلب المجمَّعة، والتي تحمل بطاقةً مكتوبًا عليها بشكل واضح باللون الأصفر «سعر خاص». ولم يَعُدْ، في المملكة المتحدة، يوضع في الواقع على أي منتجات معروضة في المتاجر أي بطاقة سعر؛ ولذلك حتى يتسنَّى لك التحقق من السعر، عليك أن تجد البطاقة الموجودة على الحافة الأمامية للرف نفسه. وقد وجدتُها في نهاية المطاف، وكان سعر هذا العرض ٣٫٢٦ جنيهات استرلينية؛ أي سعر كل علبة في العرض يتعدَّى ٨١ بنسًا بقليل. وبعدها، لاحظتُ أن سعر العلبة نفسها خارج العرض يبلغ ٧٥ بنسًا فقط!
من المؤسف أنْ أقول، إنني بالفعل لم أندهش بشدَّة؛ حيث أتمتَّع بأعوام من الخبرة المباشرة في مراقبة كيفية استغلال المَتَاجِر للمستهلِكين. على سبيل المثال، كيف يضعون السلع التي يتم شراؤها باستمرار مثل البيض والطماطم المعلَّبة في جميع أنحاء المتجر حتى يدفعوا المتسوِّقين من ذوي الخبرة إلى المرور على مناطق مختلفة من المتجر ومِن ثَمَّ يَرَوْن أشياء مختلفة. ولكن يجب أن أقول إنه لم يسبِق لي أن فكَّرتُ في أن المتاجر قد تنحدر إلى القيام بهذا النوع من الممارسات. وقد قيل لي في وقت لاحق إن ذلك أمر شائع، وبالطبع السبب في أن بإمكانهم الإفلات بذلك هو أننا — نحن المستهلكين — نتسم بقدْر كبير من الكَسَل، فلا أحد منَّا يرغب في أن يقضي وقتًا أكبر مما يحتاج إليه للتسوق من محلات البقالة؛ ولذلك بمجرد أن نجد طرقًا مختصرة، نستخدمها. ومن الطرق المختصرة الشائعة شراء أي علامة تجارية ما دامت داخل عرض، معتقدين بأن هذا الأمر سيوفر لنا بضعة بنسات.
لذلك، بعد أن أثبتْنا كيف أن من السهولة بمكان أن نتعرض للتأثير، دعونا نعُدْ مرة أخرى إلى موضوع الإعلانات. علم جيدًا بيل بيرنباك، الذي بدأنا هذا الفصل بمقولته، كيف يجب أن يكون الإعلان إذا أراد أن يكون ناجحًا. لقد أدرك — شأنه شأن العديد من المديرين المبدعين الذين حققوا نجاحًا باهرًا — أنه ما لم يؤثِّر الإعلان على عواطف الجمهور المستهدَف، فإنه لن يحقق شيئًا. بل قال أيضًا: «إن لم يلاحظ الإعلان أحدٌ، فإن شيئًا لم يتحقق.» (بيرنباك، ١٩٨٩) وربما لم يكن بيرنباك يعرف أن التأثير العاطفي يحدث على الفور وعلى نحو تلقائي، وعندما يحدث على نحو كهذا، يخترق دفاعاتنا ولا نستطيع ذَوْد هذا التأثير عن أنفسنا.
وتُعتبَر الحملة الدعائية التي أُجريت في المملكة المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين لإحدى العلامات التجارية للجعة، التي كانت تُدعَى هوفمايستر، مثالًا ممتازًا على أن المحتوى العاطفي يمكنه التسلُّل داخل عقلنا الباطن والتأثير علينا دون أن نشعر بذلك.
دراسة حالة: جعة هوفمايستر
كانت جعة هوفمايستر ما نطلق عليه في المملكة المتحدة الجعة المعتَّقة. ونظرًا لأن هذه الجعة كان يتم تصنيعها، شأنها شأن كل أنواع الجعة البريطانية في ذلك الوقت، لتُقَدَّم في باينتات ونصف باينتات، كانت نسبة الكحول فيها ضعيفة للغاية؛ إذ كانت تبلغ نحو ٣٫٢٪. ونظرًا لأنه يتم تقديمها باردة، كان من المستحيل تقريبًا على أي شخص أن يحدد العلامة التجارية للجعة من مذاقها.
ومن أجل التغلب على عدم القدرة على التمييز بين المنتجات، اتجهت مصانع الجعة إلى الإعلانات، وقد كانت تلك الموجة الحقيقية من الحملات الدعائية الشهيرة نتاجًا لذلك. ولعل أبرز هذه الحملات الدعائية حملة شركة هاينكن، التي تم إطلاقها عام ١٩٧٤، والتي استخدمت بجرأةٍ الفكاهةَ على غرار أسلوب مونتي بايثون جنبًا إلى جنب مع السرد، ويتم في هذا الإعلان تنشيط أقدام رجال شرطة متعَبين للقول بأنه «يمكن لجعة هاينكن فقط فعل ذلك؛ لأنها تُنعِش الأجزاء التي لا تستطيع أنواع الجعة الأخرى الوصول إليها». ومن جهة أخرى، استعانت شركة كارلسبرج بالممثل والمخرج أورسون ويلز للتأكيد باقتضاب على أن كارلسبرج «على الأرجح الجعة الأفضل في العالم»، وقيل حينها عن المجموعة المتنوعة من الشخصيات التي قامت في الإعلان بحركات غير مضحكة: «نُراهِن على أنهم يشربون جعة كارلينج بلاك لابيل.» وقد أدَّى هذا الأمر إلى صك عبارة «شرب الإعلانات» للدلالة على كيفية عدم اهتمام الشباب إلى حد كبير بمذاق المنتج؛ حيث إنهم يختارون — بشكل خالص — العلامة التجارية للجعة على أساس جودة الإعلان.
ولم يكن هذا الدب دبًّا عاديًّا؛ فقد كان دب هوفمايستر عبارة عن دبٍّ دمية في حجم الدب الحقيقي مرتدٍ سترة مبطنة الكتفين من القطيفة ذهبية اللون يمثل دور «الشاب المتأنِّق» للغاية. وتقمَّص هذا الدب الدمية بجرأة شخصية فونز في المسلسل التليفزيوني الهزلي «هابي دايز»، بل انتهى الإعلان بمحاكاة حتى الكلمة الشهيرة «آي» التي كان يقولها فونز في المسلسل (الأكبر سِنًّا منكم الذين شاهدوا فونزي سوف يعرفون ما أتحدث عنه بالضبط). وقد تحدث دب هوفمايستر بلكنة عامية مبتذلة ماشيًا باختيال كما كان (طبعًا) نقطة جذب للفتيات الجميلات.
وقد كان البث الأول والأكثر شهرة لإعلانات دب هوفمايستر الجديدة عام ١٩٨٣. ويظهر الدب في الإعلان متحسرًا على حياته الكئيبة التي يعيشها في الغابة مع الأرنب روني، الذي تكمن سعادته وإثارته الكبرى في رؤية ورقة شجر تسقط على الأرض. وفي محاولة منه للتخفيف من حدة الملل الذي أصابه، سرق الدب الدمية هوفمايستر من زوجين كانا يتنزهان في الغابة حينما كان يحتضن ويُقبِّل كلٌّ منهما الآخر ليكتشف صورة لجدِّه على العلبة، ويشرب الزجاجة، مستمتعًا ببرودةٍ أشعرتْه بوخْز في مؤخرة حلقه. كانت رائعة للغاية، قرَّر على إثرها أن يترك الغابة (وتجدر الإشارة إلى أن البرودة التي أشعرتْه بوخز في حلقه ليست لها أي علاقة على الإطلاق بنكهة الجعة وعلى ما يبدو أنها تعود بالكامل إلى كون الجعة قد قُدِّمت باردة للغاية). ولم تكن النتيجة أنه وجد رفقة فقط (أو بعبارة أخرى فتاة) بل اكتشف أن لديه قدرات غير عادية في لعب البلياردو ورمي السهام. ويصاحب الإعلان كله موسيقى ديسكو غير تقليدية، وينتهي مع حث الدب للمشاهدين على تقليد سلوكه قائلًا: «إذا كنتَ تريد شِعْرًا، فانهض وانظر، أما إذا كنتَ تريد جعة رائعة، فاتبع الدب.»
نقل هذا الإعلان هوفمايستر نقلةً كبيرة حيث إنه حوَّل، في غضون أشهر قليلة، هوفمايستر من علامة تجارية فاشلة إلى علامة تجارية ناجحة نجاحًا باهرًا. وقد تم — بعد ذلك — بثُّ عدد من الإعلانات الأخرى على نفس الشاكلة، تُظهِر الدبَّ وهو يلعب ألعاب الحانات، أو في ملهًى ليلي، أو في عطلة على الشاطئ، وهَلُمَّ جرًّا، ولكنْ من المفارقات أن نجاح الحملة كان سببًا أيضًا في سقوطها؛ حيث إنه بمجرد أن رصدت السلطات تأثير الإعلان، تدخَّلتْ لمَنْعه، زعمًا بأن الدب قد أصبح «بطلًا للصغار» (أو بعبارة أخرى: «شخصية مشهورة بين الأطفال»)، واستخدام شخصيات يراها الأطفال أبطالًا في الإعلان عن جعة أمر يحظره على وجه التحديد قانون ممارسي الدعاية والإعلان. ومن المثير أن نلاحظ أنه عند تطبيق هذا القانون، لم تبذل السلطات أي محاولة لمَنْع الإعلانات من عرض القدرات الرياضية أو الجنسية، التي كانت على حدٍّ سواء أيضًا تشكِّل انتهاكًا لقانون ممارسي الدعاية والإعلان، ربما لأن الوكالة الإعلانية جادلت بأن المرتكب كان دبًّا فحسب.
لذا فكيف أقنع إعلان دب هوفمايستر الشباب بشراء جعة هوفمايستر؟ يعرض بحث رائع أجراه كلٌّ مِن روي لانجميد وويندي جوردون (١٩٨٨) تفسيرًا لهذا الأمر. وُصف البحث بأنه «رائع»؛ لأن هذا البحث كان واحدًا من بين عدد قليل من الدراسات البحثية التي تمَّ إجراؤها وتمَّ فيها تنويم المشاركين مغناطيسيًّا؛ الأمر الذي حظرتْه جمعية أبحاث السوق البريطانية بعد ذلك بوقت قصير.
وكان الإجراء البحثي الذي استخدمه كلٌّ مِن لانجميد وجوردون هو سؤال المشاركين إذا ما كان بإمكانهم تذكُّر أيِّ شيء عن الإعلانات التليفزيونية المختلِفة (بما في ذلك إعلانات دب هوفمايستر)، وبعدها يقومان بتنويم المشاركين مغناطيسيًّا ويطرحان عليهم السؤال نفسه مرة أخرى. وكانت إجابة أحد المشاركين، ويُدعَى شون، في المقابلة التي أُجريَت معه قبل مرحلة التنويم المغناطيسي أن كلَّ ما يمكن أن يتذكَّره عن إعلان هوفمايستر هو أنه كان «ذلك الشاب الذي كان مع الدب في الديسكو وكان يرقص مع جميع الناس.» وحتى مع سؤاله مرة أخرى، قال بشكل قاطع إن كل ما يمكن أن يتذكره هو أن الدب كان «يعبث فحسب في الملهى الليلي. كل ما أتذكره هو الملهي الليلي والدب في الملهى الليلي.»
ما بدا مذهلًا أنه عندما تم تنويم شون مغناطيسيًّا، تذكر الإعلان بتفاصيله جميعها: بداية من الطريقة التي رقص بها جورج، وما كان يرتديه حتى القبعة والأشرطة الحمراء التي كانت على سترته، إضافةً إلى الطريقة التي «مشى بها محركًا كتفيه»، كما فهم شون أيضًا رسالة الإعلان؛ وهي أنَّ تناول هوفمايستر يعني اللهو والشعور الرائع. واعترف شون قائلًا: «إنني أرغب في أن أجرِّب القليل منها حتى أشعر بذلك الشعور الرائع الذي شعر به الدب.»
واقترح لانجميد وجوردون في ذلك الوقت أن شون شخص تابعَ إعلانات هوفمايستر بعناية وبمستويات عالية من التركيز والانتباه، غير أنه شعر بالحرج كثيرًا من أن يعترف بأنه يعرف كل شيء بالتفصيل عن الإعلان. وبالنظر إلى ما نعرفه الآن، يبدو ذلك أمرًا غير مرجَّح، إنما السيناريو الأكثر ترجيحًا بكثير هو السيناريو التالي:
ربما شاهد شون، شأنه شأن معظم الشباب في ذلك الوقت، الإعلانات بضع مرات وتابعها بمستوًى منخفض نسبيًّا من الاهتمام. غير أن ما شاهده تمَّ تخزينه في ذاكرة صريحة وذاكرة ضمنية. وربما تكون طريقة سير الدب وكلامه ذكَّرتْه لا إراديًّا ﺑ «فونز»؛ ومِن ثَمَّ تم تخزين مفهوم «عدم الاكتراث» في هذه الذاكرة. أما معظم التفاصيل الأخرى التي كانت في الإعلانات، فقد تم الاحتفاظ بها في ذاكرته الضمنية، غير أن ذاكرته الصريحة سرعان ما قامت بمحوها. ومع ذلك، ثمة جزء من التفاصيل ظلَّ عالقًا في ذاكرته، وهو منظر الدب وهو يتراقص بمهارة في الملهى الليلي ويُثِير إعجاب الفتيات.
أن يتم إخبارك بأنك سيئ في الرقص هو شيء يمر به العديد من الشباب في مرحلةٍ ما من حياتهم، ومن شبه المؤكد أن يكون ذلك قد علِق بذهن شون كعلامة عاطفية لا واعية. والنتيجة هي أنه قد يكون تم الاحتفاظ بهذا الجزء من التفاصيل المتعلق بالرقص في ذاكرته الصريحة، وتم استرجاعه مرة أخرى عندما طُلِبَ منه استرجاع ما يتذكره عن الإعلان. ومع ذلك، على مستوى اللاوعي، ربما يكون شون قد تاق إلى أن يكون مثل الدب، وأن يكون قادرًا على الرقص بطريقة تثير إعجاب الفتيات مثلما فعل الدب؛ لذا ربما يكون قد تم تخزين هذا الأمر في ذاكرته الضمنية، وعندما تم تنويمه مغناطيسيًّا، تم الوصول إلى هذه الرغبة اللاواعية وكشفها جنبًا إلى جنب مع رغبته اللاواعية المترتِّبة على ذلك بشرب جعة هوفمايستر.
ما يشكِّل أهمية كبرى هو أن قوة الإعلان لتحفيز شون على تجريب هوفمايستر كانت مستترة؛ أي إنها لم تكن موجودة في ذاكرته الصريحة، بل كانت موجودة في ذاكرته الضمنية، وكان لها تأثير؛ لذلك إذا حدث وكان «شون» في حانة تُقدم فيها جعة هوفمايستر، فربما يقرر شرب باينت منها دون أن يُدرِك فعليًّا لماذا أراد ذلك.
والآن ماذا يمكن أن نستخلص من هذه القصة؟ الشيء الرئيسي الذي تكشفه هذه القصة هو أن معظم تفاصيل كل إعلان قد شاهدتَه في السابق، وربما أيضًا في مرحلة ما في المستقبل أو حتى في اللحظة الآنية، سوف يتم تخزينها في مكان ما في ذاكرتك الضمنية وسوف تؤثر عليك لا إراديًّا كما أثَّر الدب على شون، وسوف تدفعك إلى تجريب المنتج الذي يتم الإعلان عنه.
وفيما يتعلق بموضوع إعلانات الجعة القادرة على التأثير عليك دون أن تدرك ذلك، إليك دراسة حالة أخرى مثيرة للاهتمام.
دراسة حالة: إعلان بادوايزر «ما الجديد؟»
في عام ١٩٩٩، كتب تشارلز ستون الثالث فيلمًا قصيرًا وأخرجه، أطلق عليه اسم «صحيح». وأظهر هذا العمل ستون وعددًا من أصدقائه وهم يجلسون في أماكن مختلفة ويتحدَّث بعضهم إلى بعض في الهاتف. وفي كل مرة يسلِّمون فيها بعضهم على بعض، كانوا يستخدمون عبارة: «ما الجديد؟»
حقق هذا الفيلم شعبية في عدد من المهرجانات السينمائية، وتم اختيار الفيلم — في نهاية المطاف — من قِبَل فريق عمل إبداعي كانوا يعملون لدى شركة دي دي بي في شيكاجو وقاموا بتحويله إلى إعلان قام بتمثيله معظم فريق العمل الأصلي. وقد كان أول بثٍّ للإعلان في العشرين من ديسمبر عام ١٩٩٩. وقد تبع مشهدَ الرجال الخمسة الذين يسلِّم كلٌّ منهم على الآخَر بعبارة: «ما الجديد؟» التي يقولونها بتمهُّلٍ — تبع ذلك سريعًا — انفجارٌ في الضحك حقَّق على نحو سريع شهرة عالمية.
وقد اعتبر الناس إعلان «ما الجديد؟» إعلانًا ناجحًا على نحو مدهش تمامًا مثل الميركات في المملكة المتحدة. ومع ذلك، لم يذكر أي شخص أن الإعلان قد أدَّى إلى زيادة مبيعات جعة بادوايزر، ومع علامة تجارية مثل بادوايزر كان يستحيل معرفة مدى تأثيره في المبيعات. من المؤكد أن هذا الإعلان زاد من الوعي بهذه العلامة التجارية، غير أنه نظرًا لأن جعة بادوايزر هي بالفعل الجعة الأكثر شهرة في العالم، فإنه لم يكن واضحًا ما إذا كان الإعلان قد أضاف أي شيء للعلامة التجارية أم لا؛ لذلك فإن هذا الإعلان كان يحمل نوعًا من التدليل واللهو والانطلاق يهدف إلى جعل جعة بادوايزر أكثر احتكاكًا بعالَم الشباب. بالطبع، عندما تكون غنيًّا مثل بادوايزر، ليس هناك سبب لعدم تدليل نفسك بين الحين والآخر.
أعتقد أن هناك سرًّا آخر في هذا الإعلان. فسواء فعلوا ذلك عن عمد أم لا، أظن أنه قد يكون هذا الإعلان عبارة عن قطعة من الهندسة الاجتماعية تم تنفيذها ببراعة. يمكنك أن تلاحظ أنني حذفتُ في وصفي للإعلان جزءًا بسيطًا من التفاصيل. في إعلان «ما الجديد؟» لم تكن كل الشخصيات بيضاء البشرة بل كانتِ الشخصيات مزيجًا من السود والبيض والصينيين، وقد أظهرتِ الطريقة التي يتحدثون بها خلفيَّاتهم الحضرية والعِرْقية. وأودُّ أنْ أقول إن الصورة التي كانت لدى معظم الناس عن شارب جعة بادوايزر العادي — إلى أن تمَّ بثُّ إعلان «ما الجديد؟» — أنه شاب عادي أبيض البشرة يقوم بالشواء في فناء منزله أو يمسك بعنق زجاجة في مباراة كرة؛ لذلك أعتقد أن ما فعله هذا الإعلان على نحو ذكي للغاية، بأن أصبح معروفًا جدًّا لدى الجميع، هو أنه أعاد هندسة صورة مستخدم بادوايزر، وذلك ببراعة وبطريقة مُستَتِرة. وبعبارات بسيطة، تحوَّلت جعة بادوايزر من جعة يحتسيها الأمريكيون البِيض فقط إلى جعة يحتَسِيها جميع الأمريكيين.
الآن دعونا نتخيَّل للحظة أن هذه الرسالة كانتْ هدف التواصل العلني لهذا الإعلان. تخيَّل الجَدَل إذا تم استخدام الأصل العرقي موضوعًا لإعلان تليفزيوني. تخيل الخطر الذي كان قد يلحق بسمعة العلامة التجارية «بادوايزر». ومع ذلك، فإن هدف هذا التواصل الجدلي تم تحقيقه من خلال إعلان «ما الجديد؟» ببساطة عن طريق إخفاء ذلك الهدف بذكاء في رسالة علنية أكثر وضوحًا عن اللهو والتحلي ﺑ «الحذاقة». وبالقيام بذلك الأمر، لم يتم تناول الرسالة العرقية بصراحة وعلى مستوى الوعي، ولكن بلا وعي وعلى نحو ضمني؛ لذا يتمُّ تخزينها في الذاكرة الضمنية لدى جميع الأشخاص الذين شَاهَدوا إعلان «ما الجديد؟» منتظرين اللحظة التي يسألون فيها أنفسهم عن نوعية الأشخاص الذين يحتسون بادوايزر. وعندما يفعلون ذلك، سيكون الجواب: «الجميع.» وأودُّ أنْ أقول إن هذه الاستراتيجية التسويقية، سواء تمَّ استخدامها عن عمْد أم لا، تُعَدُّ استراتيجية رائعة للغاية.