قانوني، ومحترم، وصادق، وأمين
الإعلان لا يكون ضارًّا إلا عندما يُعلِن عن أشياء ضارة.
إن ما توصَّلنا إليه حتى الآن هو أن الطريقة التي نتعامل بها مع الإعلان بعيدة للغاية عن البساطة. ومن المناسب القول إن غالبية الإعلانات لها رسالة، وهي التي يختار معظمنا تجاهلها أو التفاعل معها أو نسيانها بسرعة. هذا أمر لا بأس به ومقبول وليس محل خلاف. القضية المهمة هي أن غالبية هذه الرسائل يتم توصيلها بصحبة مجموعةٍ كاملةٍ من المؤثرات العاطفية، والتي تُسمَّى بشكل عام الإبداع.
يكون هذا الإبداع في أغلب الأحيان في صورة ارتباطات فعَّالة عاطفيًّا، ونحن نربط على نحو غريزي هذه الارتباطات بالعلامة التجارية المُعلَن عنها، ولا نكتشف أنها تُكيِّف على مستوى اللاوعي العلامةَ التجاريةَ مع قِيَمها العاطفية. لكنني كنتُ قد قررتُ في الفصل العاشر أن الإبداع لا يَزِيد بالضرورة الانتباه؛ ومن ثم فإن جزءًا كبيرًا من هذا الإبداع يتم التعامل معه على مستوى اللاوعي (أو في أفضل الأحوال على نحو خاطف، باستخدام مصطلح الوعي المتقلِّب لدينيت). لكن كونه غير واعٍ لا يعني أنه يتوقَّف عن التأثير علينا، بل يعني أنه يؤثِّر علينا بشكْل أفضل، ويعمل كمؤشِّر يوجِّه بشكْل خفيٍّ عملية صنع القرار الحدسية.
وفي بعض الجوانب يكون الإعلان الدعائي هذا مجرد قِمَّة لجَبَل الجليد. إن المادة الإبداعية التجارية التي تُعرَض علينا عبْرَ إعلانات التليفزيون تنضمُّ جنبًا إلى جنب مع كل ما يُعرض علينا على الإنترنت وفي الجرائد والمجلات والإذاعة والسينما، ناهيك بكل المواد الأخرى التي ذكرناها في الفصل السابق.
لماذا يحدث ذلك؟ لماذا نَجمَع كل هذه الأشياء في عقولنا؟ من السهولة بمكان تفسير ذلك انطلاقًا من وجهة نظر أنثروبولوجية. لنتأمل الموقف التالي.
تخيل أنك حيوان ثديي تجوب الغابة منذ ٢٠ مليون سنة، ليس لديك عقل يتمتع بقدرة كبيرة على التفكير، لكن لديك بعض الحواس القوية، ولديك قوًى إدراكية جيدة على نحو استثنائي مثل الشم والسمع، وربما كذلك قدْرة جيدة على الإبصار بالدرجة نفسها. لكن هذه القدرات لا تكون ذات فائدة إلَّا إذا كان لديك معانٍ للأمور المتنوِّعة التي تسمعها وتشمُّها وتراها. على سبيل المثال، تحتاج إلى أن تكون قادرًا على التمييز بين الخطوة الهادئة لمخلوق صغير يمكنك أن تَحظَى به كوجبة غَدَاء، والخطوة الهادئة لمخلوق كبير ربما يُراقِبك لتكون أنتَ وجبةَ غَدَاء له. من المفيد أيضًا أن تعرف إنْ كان هذا المخلوق الكبير عدوانيًّا أم مجرد حيوان بدينٍ وكسول.
يتطلب ذلك كله وضْع عدد من المفاهيم والتصورات، فأنتَ تحتاج إلى القدْرة على الشعور الفوري بالفرق بين الغضب والعصبية والخوف؛ لأن ذلك سوف يُنبِئك إنْ كان عليك الجري أو الاختباء أو الهجوم. إن هذه الثدييات التي طُوِّرتْ لديها هذه المشاعر الغريزية الأساسية التي جعلتْها وثيقة الصلة بنُظُم اتخاذ القرار لديها هي التي ستبقى وتعيش، أما البقية فإنها ستنقرض.
وافترض أنك بعد بضعة ملايين من السنوات تتطور إلى إنسان بدائي وتتطور لديك القدرة على التفكير المنطقي، لكن المشاعر الغريزية لا تزال هناك في عقلك الثديي، مرتبطة عن كثب بنظم قرارك. إن قابلية تأثُّرنا بالتواصل العاطفي تُعتبر جزءًا من الكيفية التي تطوَّرنا بها ولا يمكننا فعل أي شيء حِيَالَها.
لنفترض أننا تمكَّنَّا من تعديل جيناتنا بحيث لا تكون لدينا مثل هذه المشاعر؛ سنكون مثل السيد سبوك من ستار تريك، وسيكون كل قرار منطقيًّا، ولن نكون ضعفاء أمام التأثير اللاواعي لجميع المؤثِّرات العاطفية في الإعلان. حسنًا، لن نكون قادرين أيضًا على البكاء عندما نُشاهِد فيلما حزينًا، لكن لا توجد مشكلة حقيقة في ذلك. كما أننا لن نكون قادرين على أن نحب، وهو الأمر الذي يعني أننا سنكون أقل ميلًا لأن يكون لدينا أطفال، وحتى إن كان لدينا أطفال فإننا لن نشعر بالارتباط العاطفي الذي يجعلنا بحاجة إلى تربيتهم وحمايتهم، والذي يمكنهم من النمو ليصبح لديهم أطفال. وهكذا فإن طفرتنا الجينية ستتلاشى في النهاية.
وهكذا فإن علينا من وجهة نظرٍ أنثروبولوجيةٍ أن تكون لدينا مشاعر من أجل أن نكون بشرًا، وهذا يعني أنه لا يمكننا منع أنفسنا من التأثُّر بالإبداع في الإعلان. إن كل ما يمكننا فعله هو منْع الإعلان من أن يكون به أي إبداع.
إن العائق أمام ذلك يتمثَّل في المبدأ البديهي الثاني لفاتسلافيك (انظر الفصل الثاني عشر). ويذكر هذا المبدأ أن كل تواصل يوجد له تواصل ورائي غير مباشر. ومن المستحيل أن نتواصل دون القيام في الوقت نفسه «بتأهيل» هذا التواصل بعناصر مؤثرة على العلاقة. إن ورقةً بيضاء بها طباعة في الوسط ترمز إلى علامة تجارية تقدِّر البساطة، وورقةً سوداء بها طباعة بيضاء في وسطها ترمز إلى علامة تجارية تقدِّر الحسم. وحتى الطريقة التي تُبنى بها تُعتبَر تواصلًا غير مباشر. إن الشخص الذي يقول: «اشترِ علامتنا التجارية؛ إنها الأفضل» له شخصية مختلفة تمامًا عن الشخص الذي يقول: «نحن نعتقد أن علامتنا التجارية هي الأفضل.» إن محاولة محو الإبداع من الإعلان، وبصراحة، بمثابة تمرين بلا هدف.
لذا لماذا لا نحظر جميع الإعلانات؟ علاوة على الأثر التجاري على صحفنا، وقنواتنا التليفزيونية، ومحركات البحث على الإنترنت، والتي تعتمد جميعها تقريبًا على عائدات الإعلانات، فإن كل ما يمكن أن يحدث هو أن شيئًا آخر سيأخذ مكانها. فإذا قمتَ بحظر إعلانات وسائل الإعلام، فهل ستمنع أيضًا الرسائل والتصاميم الموضوعة على العبوات؟ هل ستحظر على الناس توزيع الإعلانات في الشارع لأي شخص يمر أمامهم؟ هل ستمنع الناس من التجول في أنحاء البلاد كما اعتادوا في حقبة سان إلمو لويس، طارقين الأبواب ليبيعوا منتجاتهم مباشرة للناس عند عتبات منازلهم؟ وحتى إنْ تمكنتَ من منْع ذلك في بلدك، هل ستمنعه في البلاد الأخرى؟ لا، وبقَدْر ما يحب الناس قول أمور من قَبِيل: «إنني أكره الإعلانات، عليهم أن يحظروها جميعًا» فإن ذلك ببساطة ليس خيارًا عمليًّا.
ويمكننا بالطبع التحكم في الإعلان، خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الضارَّة، ونحن نقوم بذلك فعليًّا. عنوان هذا الفصل: «قانوني، ومحترم، وصادق، وأمين» هو الشعار المستخدَم من قِبَل هيئة معايير الإعلان، وهي الهيئة الحكومية التي تُراقِب المعايير المعمول بها في مجال الإعلان في أنحاء المملكة المتحدة. لكن هذه الهيئة لا تتحرك إلا عندما تكون هناك انتهاكات بالِغة للاحترام والأمانة، وعندما تتحرك فإن نظامها الإجرائي يمكن أن يكون بطيئًا للغاية في إحداث أي تأثير. على سبيل المثال، بسبب عدم تقديم أحد ما شكوى فإنها سَمَحَت لجالاهر بإعلان عن سيجار هاملت على شاشات التليفزيون لمدة ٢٥ عامًا. كما أنها سمحت، كما سنرى في المثال التالي، لمارلبورو أن تُصبِح السيجارة الأكثر شعبية في المملكة المتحدة؛ حتى وإن كان الإعلان عن السجائر محظورًا على نحو تامٍّ.
دراسة حالة: راعي بقر مارلبورو
إنني أدرِّس كلَّ عام مقرَّرين في جامعة باث حول نظرية الدعاية المتقدمة، وأحد هذين المقررين يُدرَّس لطلاب السنة النهائية بالكلية، وجميعهم ما بين ٢٠ و٢٢ عامًا، وهذا يعني أنهم وُلدوا في الفترة بين عامي ١٩٨٩–١٩٩١ تقريبًا في المملكة المتحدة على أغلب الظن.
وقد عرضتُ عليهم في إحدى محاضراتي صورةً لرجل يرتدي قبعة راعي بقر ويمتطي حصانًا، ويضع هذا الرجل سيجارة في فمه. وعندما سألتُهم مَن هو تعرَّفتِ الغالبية العظمى من الطلاب عليه فورًا وأدركتْ أنه راعي بقر مارلبورو.
اندهشوا عندما أخبرتُهم أن راعي بقر مارلبورو لم يَظهَر في المملكة المتحدة إلا على لوحات الإعلانات، وأن الإعلانات صوَّرت لقطة بعيدة لقطيع من الماشية يقوده بعض رعاة البقر. وأصابهم الذهول عندما أخبرتُهم أن هذه الإعلانات التي عُرضت في المملكة المتحدة لم تستمر سوى ثلاثة أشهر فقط في عام ١٩٧٤؛ أي قبل مولدهم بنحو ١٥ عامًا.
حسنًا، إن ذلك ليس صحيحًا تمامًا، فما حدث بالفعل هو أن هيئة معايير الإعلان قد حظرت أية لقطات لرعاة البقر، لكن سمحت بالاستمرار في إظهار الريف الواسع وقطعان الرعي من الماشية والخيول، واستخدام عبارة: «مرحبًا في عالَم مارلبورو.» كما استمر السماح باستخدام رمز عبوة مارلبورو ذات السقف الأحمر العلوي، بل وبإظهار أسيجة ذات سروج وعتاد يخص راعي البقر؛ مما يوحي بأن راعي البقر كان موجودًا بالقرب من المكان لكنه خارج هذه اللقطة. واستمر ذلك على الأقل لمدة ثلاث سنوات بعد الحظر، مع إنفاق عشرات الملايين من الجنيهات. وفي مرحلة رأت بعض التقديرات أن شركة فيليب موريس كانت تدفع بالفعل لمنظومة مترو لندن أكثر مما كانت تدفع الحكومة لهذه المنظومة في ذلك الوقت.
لكن كيف يتعرف عدد كبير من الشباب في المملكة المتحدة على راعي بقر مارلبورو، وهو أيقونة الإعلان التي لم تُعرَض قط في المملكة المتحدة خلال حياتهم؟ يرجع ذلك في جانب منه إلى استمرار عرضه في الولايات المتحدة لسنوات كثيرة بعد منْعه في المملكة المتحدة، وفي جانب آخَر بسبب أنه استمر عرضه في وسائل إعلام مثل مجلات خطوط الطيران التي كانت متاحة مجانًا وبلا قيود لكل مَن يسافر جوًّا من وإلى المملكة المتحدة. لكنَّ هناك سببًا ثالثًا مهمًّا، وهو أنه كان يوجد قدْر كبير من الدعاية عن حظر راعي البقر، الأمر الذي «ضمن» معرفة الجميع أن مارلبورو استخدمت راعي بقر في دعايتها.
لماذا يمثل هذا مشكلة؟ دعونا نعُدْ للبداية وتدفق التصورات والمفاهيم الذي يحدث عندما ترى إعلانًا. تذكر أن هذه التصورات والأفكار تحدث خلال مشاهدتك الإعلان، لأنه لا يمكنك أن تمنعها. تخيل أنه جنبًا إلى جنب مع تسجيل واعٍ خاطف لعبوة مارلبورو ذات سقف أحمر ترى راعي بقر. ستتدفق فورًا على مستوى اللاوعي التصورات والأفكار التي كانت لديك في الماضي والتي ترتبط بهذا النوع من الصور: الأرض الريفية الواسعة، قطعان الماشية، ركوب الخيل، الحياة الصعبة في العراء. والعكس صحيح إلى حدٍّ ما. إذا كنتَ تتخيَّل أرضًا ريفية واسعة، وقطعان ماشية، وخيولًا وأسرجة، فالأرجح أنه سوف تتشكَّل لديك على المستوى اللاواعي تصورات وأفكار تتعلق بالغرب الأمريكي ورعاة البقر.
أتخيل أن هذه التصورات والأفكار تكون مؤثرة على نحو خاص إذا كنتَ أمريكيًّا؛ لأن راعي البقر رمز للكيفية التي استُحوذ بها على الغرب الأمريكي وتأسست بها الدولة. وبالطريقة نفسها التي أضْفَتْ بها الدعابة في إعلانات هاملت شرعية على تدخين السيجار في المملكة المتحدة، فإنني أظن أن وجود راعي بقر يضفي على مستوى اللاوعي شرعية على عادة تدخين السجائر في الولايات المتحدة الأمريكية، إن نوع الشعور الذي قد تولِّده يكون: «إن كان رُوَّاد بلادنا يدخِّنون المارلبورو فلماذا لا نفعل نحن ذلك أيضًا؟»
وعلى نحو أكثر أهمية، عندما ترى راعي البقر أو أي شيء مرتبط بأسلوب حياة راعي البقر، سوف تتشكَّل لديك على مستوى اللاوعي تصورات وأفكار تتعلق بنوع السمات الشخصية التي تربطها بأسلوب الحياة هذا (أي الغلظة، والحرية، والاستقلال). وبعدما تكون قد تعرضتَ لهذه الصور عدة مرات فيما يتصل بالعلامة التجارية لمارلبورو، سوف تُنقل السمات التي تربطها براعي البقر إلى مَن يدخنون مارلبورو. بعبارة أخرى، على مستوى اللاوعي ستبدأ في التهيُّؤ للشعور بأن مدخني مارلبورو لديهم على الأرجح سمات الغلظة نفسها، والحرية، والاستقلال التي يتسم بها راعي البقر. ويسري ذلك على أي بلد تعيش فيه؛ لأننا جميعًا عرضة في طفولتنا لأن نشاهد أفلامًا تُظهِر رعاة بقر يتَّسِمون بالغلظة.
من المعلوم الآن أن الشيء الذي يرغب فيه الشباب أكثر من غيره هو الحرية والاستقلالية، وفرصة (في حالة الرجال) لأن يُنظَر إليهم باعتبارهم أشداء؛ ومن ثم لا عجب في أن المزيد من الشباب يدخنون سجائر مارلبورو أكثر من أي نوع آخر من السجائر، ليس من قَبِيل المصادفة أنهم يفعلون ذلك. إن هذا يُعَدُّ نتيجة مباشرة للمواقف المهيئة التي يغرسها راعي بقر المارلبورو لا شعوريًّا في عقولهم.
يجب أن تكون هذه التهيئة لا شعورية كي تكون مؤثِّرة. لو أدرك الجميع أن الإعلان كان يحاول ربط مدخني مارلبورو بسمات مثل الغلظة والحرية والاستقلال، لخضع ذلك لنقاش الشباب وتحول إلى نوع من المزاح: «ها ها، أراك تدخن مارلبورو كي تبدو في صورة رجولية، يا لك من مخنث!» مثل هذا المزاح سيُبطل أثر التهيئة عبر الاعتراض بقوة على فكرة أن مدخني مارلبورو «رجال حقيقيون» ويحلُّ محلَّها فكرة أنهم مجرد أناس عاديين يحاولون التظاهُر بأنهم أشداء ومستقلون. لكنْ نظرًا لأن تصور الغلظة يتم على مستوى اللاوعي، فإنها لم تُناقش أبدًا بشكل علني، ولم تواجَه إطلاقًا بمعارضة.
وفي النهاية، في بداية ثمانينيات القرن العشرين، حظرت هيئة معايير الإعلان أخيرًا الدعاية الخارجية للسجائر. وفي ذلك الوقت فإن الأذكياء في شركة فيليب موريس كانوا قد أدخلوا مجموعة من الملابس التي تُظهِر معالم الرجولة. هذه الملابس شملت جينز دنيم، وقمصان رعاة البقر، وأحزمةً عليها صور عالم مارلبورو، وغيرها من الملابس. لم تكن تلك سجائر؛ لذا كان القائمون على سجائر مارلبورو قادرين لسنوات على الاستمرار في استخدام السقف الأحمر العلوي وعبارة: «هيا إلى عالم مارلبورو» للإعلان عن ملابسهم.
وكان لديهم مشروع آخَر وإنْ كان أكثر دهاءً يسير بموازاة ذلك: رعاية سباقات السيارات.
دراسة حالة: رعاية مارلبورو لسباقات الجائزة الكبرى
في عام ١٩٧٤، وتقريبًا في الوقت نفسه الذي تم فيه حظر ظهور صورة راعي البقر على لوحات مارلبورو الإعلانية، أبرمت شركة ماكلارين ريسنج ليمتد صفقةً مع شركة فيليب موريس كي تقوم الأخيرة برعاية فريق سباق فورمولا وان. وكان الاتفاق يقضي بأن تحمل سيارات السباق تصميمَ مارلبورو ذا اللونين الأبيض والأحمر، وأن يرتديَ السائقان — وهما إيمرسون فيتيبالدي وجيمس هانت — زيًّا يحمل تصميم مارلبورو طوال السباق. وعندما كان جيمس هانت يحتفل بفوزه في بطولة العالم لعام ١٩٧٦، كان يدخِّن على الأرجح سيجارة مارلبورو.
ولم يحاول أحد؛ لأنه لم يكن لأحد في الحكومة اهتمام بفعل ذلك. وكانت سباقات فورمولا وان إحدى الرياضات القليلة التي لم يزل البريطانيون يتفوَّقون فيها، وكان مشروع السجائر هو الذي يرعاها في الواقع (إضافة إلى أن المشروع ذاته كان يسدد مبالغ هائلة كضرائب). وكان حظر رعاية السجائر لسباق السيارات سيُصبح ذا تأثير سيئ للغاية بالنسبة للانتخابات والعائدات.
ومع تزايد شعبية فورمولا وان، ومع تزايد عدد مشاهدي تغطيات السباقات في التليفزيون، فإن معدل عرض مارلبورو أصبح أعلى. وقد كان ذلك بسبب أنه بالرغم من أن لوحات إعلانات مارلبورو بجانب مضمار السباق كانت قد حُظرت في المملكة المتحدة، فإنها لم تحظر في دول أخرى؛ لذا فقد كان يوجد بكل سباقِ جائزةٍ كبرى يُجرى في الخارج مضمارٌ مزخرفٌ بتصميم إعلان مارلبورو. في الواقع، كانت إعلانات مارلبورو لا تزال تُعرض على شاشة التليفزيون.
بل كانت شركة فيليب موريس أكثر ذكاءً؛ ففي عام ١٩٨٠، أبرمت الشركة صفقةً كراعٍ فرعي لفريق آخَر بالجائزة الكبرى وهو فيراري، وفي عام ١٩٩٣، أصبحت الراعي الرئيسي لفيراري. وكانت سيارات فيراري حمراء بالفعل (لون السقف العلوي من شعار مارلبورو)؛ لذلك لم يحتَجِ الأمر لإبداع كبير لإضافة ما تبقَّى من تصميم مارلبورو على السيارة (البيت ذي اللون الأبيض) مكتوبًا عليه كلمة مارلبورو. ظلَّ هذا الشعار واسم مارلبورو على سيارات فيراري فورمولا وان حتى عام ٢٠٠٨. أربعة وثلاثون عامًا من تهيئة الشبان لربط مارلبورو بالثروة والإثارة والمخاطرة والنجاح الجنسي، ولم يفعل أحد شيئًا لوقف ذلك.
والآن فإن الأدلة التي تربط تدخين السجائر بالمشكلات الصحية قوية للغاية لدرجة أن معظم الدول يسرها أن تحظرها، لكن أين يوجد الحد الفاصل؟ ها هنا دراسة حالة أخرى أقل وضوحًا.
دراسة حالة: ماكدونالدز
ترحب الأقواس الذهبية لشركة ماكدونالدز بملايين الناس كل يوم، ومنذ عام ١٩٦٣، يرتبط هذا الشعار بشخصية مبتهجة اسمها رونالد ماكدونالد تجلب للأطفال من جميع الأعمار المتعة والضحك. ولا ترى شركة ماكدونالدز عيبًا في ذلك؛ فرغم كل شيء، الهامبرجر لا يقتلك مثلما تفعل السجائر، كما أنه لا يسبب إدمانًا، مثلما هو الحال مع الكحول. وإذا كان يُسمح للأطفال بتناوله فلماذا إذن تُمنع إحدى أيقونات الشركة من الدعاية له؟
هل كلينجر على صواب أن يُصِرَّ على وجوب وقْف شخصية رونالد ماكدونالد؟ إن الكمية التي يُستهلَك بها الهامبرجر الآن يمكن القول بأنها لا تُسهِم فحسب في أمراض القلب والسمنة، لكنَّها تَلعَب دورًا رئيسيًّا، من خلال زيادة مراعي الماشية، في انبعاث غازات الدفيئة. أنا شخصيًّا أعتقد أنه يجب علينا أن نقلِّل كمية ما نتناوله من الهامبرجر، وإنْ كانت ثمة طريقة جيدة للتشجيع على ذلك فهي أن نجعله أقلَّ جاذبية للأطفال. ليس هناك شك في أن الأطفال يحبون المهرِّجين، ومن ثم سأتفق على الأرجح مع كلينجر في أن المهرج يجب ألَّا يُستخدم لبيع البرجر.
لكن قد يختلف آخرون كثيرون معي، ربما يأتي في مقدمة هؤلاء نصف سكان الولايات المتحدة؛ فقد يقولون إن الأطفال يحبون الهامبرجر؛ لأن الهامبرجر لذيذ، وإنهم يحبون هامبرجر ماكدونالدز لأنه من بين ألذِّ أنواع الهامبرجر، ولأن يأكل الأطفال الهامبرجر الذي يحتوي على بروتين بقري مغذٍّ وخس وطماطم أفضل لهم من أن يأكلوا البيتزا التي تحتوي في معظمها على كربوهيدرات. إضافة إلى ذلك، فإن رونالد ماكدونالد أصبح الآن صاحب مبادرة لعمل خيري يوفِّر ٣٠٥ مساكن ليلية لاستضافة الآباء الذي يزورون أطفالهم في مستشفيات رعاية الأمراض المزمنة.
مَنْ على صواب؟ ليست لديَّ فكرة. ولكي أكون أمينًا، ليس هناك شخصية رونالد ماكدونالد في كل إعلان لماكدونالدز، كما أنه لا يوجد مهرِّج مُقِيم في كل مطعم من مطاعم ماكدونالدز. وعمومًا الأمور كلها واضحة، والناس لديهم مطلق الحرية في أن يقرروا الذهاب بأطفالهم إلى ماكدونالدز والاستمتاع بمشاهدة المهرج من عدمه؛ لذا من الناحية الأخلاقية، فإنني أقول لا يوجد أحد هنا يسعى لتضليل أحد.
لكنَّ هناك جانبًا آخَر خفيًّا لماكدونالدز، وينطبق الحال على بعض سلاسل البرجر الأخرى. اذهب إلى ماكدونالدز، أو وينديز أو حتى مطعم برجر كينج، وستجد نفسك محاطًا بالألوان: الأحمر والأصفر، وأحيانًا الأزرق (في المرة الأخيرة التي ذهبتُ فيها إلى مطعم ماكدونالدز كانتِ الموائد والكراسي جميعها من هذه الألوان نفسها أيضًا). هذه بالضبط ظلال اللون الأساسي الغامق نفسه الذي يوجد في ليجو ودوبلو وميجا بلوكس وفيشر برايس وأغلب لعب الأطفال. هذه الألوان ستُشعِر الطفل الصغير بأن هذه المطاعم بيئة وَدودة وآمِنة؛ لأنها «تبدو» بالضبط مثل اللُّعَب التي يشتريها آباؤهم لهم ويشجِّعونهم على اللعب بها. عندما يبلغ هذا الطفل، سيكون مهيَّأً للشعور بأن ماكدونالدز ووينديز وبرجر كينج مرتبطة بألوان طفولته، ولا يمكن أن تكون مطلقًا أماكن سيئة.
بالنسبة لي أنا شخصيًّا، أحب ماكدونالدز ووينديز غريزيًّا ودون سبب واضح، ولا يرجع ذلك لمجرد أنني أحب شطائرهما. في الواقع، بمجرد وضْع قدمي داخل أحد مطاعمهما، أشعر بارتباط وجداني بهما وأحس بأنني في بيتي هناك أكثر مما أحس به في كنتاكي فرايد تشيكن بتصميمه الذي يتضمن اللونين الأحمر والأبيض الفاقعين. ولديَّ شعور مبهَم بخصوص سبب حبي لكلٍّ من ماكدونالدز ووينديز؛ لأن نظام ألوانهما يتضمن الألوان نفسها التي كنتُ محاطًا بها في منزلي وأنا أكبر.
لا أعرف إلى أيِّ مدًى تؤثِّر هذه الألوان على سلوك الآخَرين، ولن نعرف أبدًا لأنه لن يحاول عاقل أن يُجبِر ماكدونالدز أو وينديز أو برجر كينج على تغيير نظام الألوان على شعاراتها وعلى واجهات مطاعمها، مثلما يستحيل أن يحمل أحدهم كوكاكولا على أن تُزِيل ملايين اللافتات التي وضعتْها في أنحاء العالم. إنَّ مَن سيحاول ذلك سوف يجعل من نفسه أضحوكة.
لكن في الفصل الرابع عشر، قدَّمت دراسة حالة ذكر الناس فيها خلال يوم الهالوين قوالب الشوكولاتة والمشروبات الغازية أكثر بينما كانت ثمار القرع الملونة باللون البرتقالي محيطة بهم. وهناك حقيقة أن استهلاك الهامبرجر في الولايات المتحدة الأمريكية في عام ٢٠٠٦ كان يعادل ثمانية أونصات هامبرجر أسبوعيًّا لكل شخص في البلاد؛ لذا إذا استبعدتَ أولئك الذين لم يأكلوا الهامبرجر قط، فإن الكمية تكون على الأرجح أربع قطع هامبرجر في الأسبوع للباقين. وسأترك لك الأمر لتقرِّر إنْ كان هناك ارتباط ما أم لا.