التعلُّم والانتباه
قد لا يكون العقل على ذلك القدْر من النقاء الذي يظنُّه ويتمنَّاه أغلبنا.
بالطريقة نفسها التي نظنُّ بها جميعًا أننا على دراية بآلية عمل الإعلانات، نظنُّ جميعًا أننا على دراية بآلية تعلُّمنا. ويرجع هذا — في جانبٍ منه — إلى أنَّ أول شيء يوجِّهنا إليه نظام تعليمنا الغربي هو الانتباه؛ ومِن ثَمَّ فقد غُرِس بداخلنا الاعتقاد بأننا إنْ لم ننْتَبِه فلن نتعلم شيئًا. وكما أوضحتُ سابقًا، فإننا نفترض بداهةً أننا إنْ لم ننتبه للإعلان فإننا لن نتعلم منه أي شيء؛ وإن لم نتعلم أي شيء من الإعلان فهذا بدوره يعني أننا لا يمكن أن نتأثر بهذا الإعلان.
يعود الفضل في هذه الرؤية عن التعلُّم إلى هيرمان إبينجهاوس في كتابه «حول الذاكرة» الصادر في عام ١٨٨٥. اشتُهر إبينجهاوس بأعماله عن النسيان، وتوصَّل إلى «منحنى النسيان» الشهير الذي يبيِّن أن التذكُّر خاصية تنمُّ عن قوة الذاكرة والزمن. ولكن إبينجهاوس توصَّل كذلك إلى أن قوة الذاكرة تعتمد على الانتباه والاهتمام، ويقول: «يعتمد التذكُّر والاسترجاع إلى حدٍّ كبير على مدى شدة الانتباه والاهتمام اللذين يرتبطان بالحالات الذهنية للمرء عند أول مرة تَظهَر فيها» (إبينجهاوس ١٨٨٥). وهكذا يقول إبينجهاوس بأنك إذا رغبتَ في تذكُّر شيء لستَ مهتمًّا به اهتمامًا خاصًّا فإن أفضل طريقة تفعل بها ذلك هي أن تنتبه له.
الإشكالية التي نواجهها هنا هي أن الإعلان لا يتبع قواعد إبينجهاوس. لو أنك تتذكر، إنني قد أشرتُ في الفصل الثاني إلى تجربة فستينجر وماكوبي (١٩٦٤)، التي توصَّلا من خلالها إلى أن عرض فيديو «غير ذي صلة» بموضوع الإعلان التليفزيوني يؤدي في الحقيقة إلى تعزيز تعلُّم الرسالة مقارنةً بعرض فيديو «له صلة» بموضوع الإعلان. وقد وجدنا في نهاية الفصل السابق أن مَن لم يتذكروا الإعلان (ومِن ثَمَّ لم ينتبهوا كثيرًا على الأرجح إلى الإعلان) قد تأثروا به — على ما يبدو — أكثرَ ممَّن تذكروا الإعلان (ومِن ثَمَّ «كانوا» قد انتبهوا إليه على الأرجح). يبدو الأمر كما لو أننا نتعلم رسالة الإعلان وعباراته المميزة بصورة أفضل حينما نكون غير منتبهين إليه لا حينما نكون في ذروة انتباهنا، فكيف يحدث ذلك؟
أحد الأسباب هو أن تعلُّم أشياء عن العلامات التجارية أمر يختلف عن تعلُّم معلومات في المدرسة، والمصطلح الذي قد يبدو بسيطًا «معرفة العلامة التجارية» يحتاج إلى أن يشمل ما هو أكثر من الشعارات وخصائص المنتج ومزاياه؛ فهو بحاجة، على سبيل المثال، إلى أن يشمل مجموعة كبيرة وكاملة من الأفكار والإشارات المتنوِّعة، بدءًا من رائحةٍ أو طعمٍ فريدٍ لعلامة تجارية معينة، ووصولًا إلى شكل وألوان العبوة أو الشعار. كل هذه أمثلة عن المعلومات التي نتلقَّاها والتي تساعدنا على التعرف على العلامات. فعلى سبيل المثال، نجد أن اللون الأحمر مهيمن على إعلانات كوكاكولا بينما الأزرق هو اللون المفضَّل لدى شركة بيبسي في علب مشروباتها، وهذه في حد ذاتها «رسائل» تزيد من معرفتنا بالعلامة التجارية، حتى ولو كان معنى تلك الرسائل غير واضح.
ومن منطلق هذا التعريف، يكون من الواضح أننا عُرضة في كل يوم إلى آلاف الرسائل التي تعرِّفنا بعلامات تجارية؛ فمثلًا عندما ندخل الحمام صباحًا ونلتقط معجون الأسنان فإننا طواعيةً نتلقى رسائل عن هذا المعجون. فحتى لو نظرنا إلى المنتج بلا تركيز فسوف نتذكر شعار العلامة التجارية وألوان العبوة وربما عنصرًا أو اثنين من عناصر التصميم. وأضف إلى ذلك بقية العبوات التي قد تكون ظاهرة في الحمام، وتلك التي قد نراها في المطبخ عند تناول الإفطار، وتلك التي نراها في واجهات المحالِّ في طريقنا إلى العمل أو ونحن نتسوَّق. وهكذا نرى أننا محاطون باستمرار بمعلومات عن العلامات التجارية، ومعظمها لا يُعتَبَر طبعًا ذا أهمية بالنسبة لنا. أعني، هل حقًّا يهمك ويشغل بالك لون علبة المياه الغازية؟
لقد قدَّم كروجمان، في بحثه عام ١٩٦٥، وجهة نظر مفادها أن التواصل الإعلاني، في خضمِّ هذا المزيج الهائل من العلامات التجارية، لا يمثِّل أي فارق أو أهمية. والنتيجة هي أن تعلُّمنا يكون أقرب إلى طريقة تعلُّم الأشياء التي لا معنى لها كما يقول إبينجهاوس، فقد وجد إبينجهاوس أننا عندما نحاول تعلم أشياء لا تمثل أهمية لنا فإننا نميل إلى أن نتذكر أول وآخر شيء تعرضنا له على نحو أفضل بكثير من الأشياء التي كانت بين هذين الشيئين (إبينجهاوس ١٩٠٢). ولكن الواقع يقول إن طريقة تعلُّمنا من الإعلان أشد تعقيدًا حتى من هذا.
ولكن، وقبل أن نشرعَ في إيجاد تفسيرٍ، أرى أن من المهم أن أقوم بتقديم تعريف واضح لكل مصطلح من المصطلحات المختلفة التي سوف أستخدمها. وسأبدأ بمصطلح «الانتباه».
الانتباه
يعرِّف معجم أكسفورد الموجز (١٩٩٦) «الانتباهَ» بأنَّه «قُدْرة المرء على تركيز عقله.» غير أن العقل في الأساس يشتمل على الوعي واللاوعي والعقل الباطن؛ ومِن ثَمَّ يمكن القول بأن الانتباه يُهَيْمِن على كل ما «يمكننا» إدراكه حسيًّا. ولتجنُّب الارتباك، نورد تعريف عالِم النفس ويليام جيمس: «انشغال العقل، بصورة صافية وقوية، بواحدٍ من عدة أشياء أو أفكار متزامنة» (جيمس، ١٨٩٠). ومن منطلق هذا التعريف، فإن كان الشيء قابلًا لإدراكه حسيًّا (أي كان في نطاق السماع أو على الأقل في نطاق الرؤية المحيطية)، ولكنك لستَ «واعيًا» بكونك تدركه حسيًّا، فإنك عندئذٍ تكون غير منتبه له. وببساطة نقول إن الانتباه يساوي الإدراك الحسي «الواعي».
هناك طريقتان مختلفتان لتعريف الانتباه: الأولى ما أُسمِّيه بالتعريف «الاتجاهي»، وهو معنيٌّ بما تنظر أو تستمع إليه. على سبيل المثال، إذا كنتَ تنظر بعيدًا عن الشيء، فعندئذٍ تكون «غير» منتبه له.
ولا يكون التعريف الاتجاهي للانتباه مفيدًا في حالة الإعلان، لكونه غير مرتبط بمقدار ما نتعلمه. أما الطريقة الثانية لتعريف الانتباه فهي ما أُسمِّيه «مستوى الانتباه»، وهذا التعريف يُجدِي مع الإعلانات؛ حيث يرتبط مستوى الانتباه ﺑ «مقدار» ما تُولِيه من انتباه للشيء. ويتحدد مستوى الانتباه بناءً على مقدار ما نقوم به من تفكير، فإذا كنتَ مستغرِقًا في التفكير في إعلان معين فأنتَ بذلك وصلتَ إلى مستوًى عالٍ من الانتباه، أمَّا إذا كنتَ لا تفكر فيه إلا قليلًا فعندئذٍ يكون مستوى الانتباه متدنِّيًا؛ ولهذا السبب، يتساوى مستوى الانتباه مع قدْر ما نمارسه من تعلُّم واعٍ.
مستوى الانتباه
حدَّد جيمس مستويين للانتباه: نَشِطًا وخاملًا. فالانتباه النَّشِط يحدث حينما يكون مستوى الانتباه عاليًا والتركيز متعمَّدًا وخاضعًا لسيطرة الفرد. ونحن اليوم نستخدم مصطلح «المعالجة من العام إلى الخاص» للإشارة إلى نشاطٍ مثل هذا تُحرِّكه أهداف بعينها (أيزنك وكين، ٢٠٠٠). ومن الأمثلة على الانتباه النشِط عندما تركز على ما يشرحه المعلِّم أو المُحاضِر في الفصل؛ وهذا لأنك تتجاوب مع هدف يتمثل في أن تتعلم إلى درجة تمكنك من النجاح في الاختبارات.
ولأن الانتباه النشط «إرادي» (أي إنه يتم عن قصد) فمن الصعب علينا الاستمرار فيه لفترات طويلة. ولا يصف جيمس الانتباه النشط على أنه عملية متواصلة، بل هو أقرب إلى موجة بها مراحل متكررة من الانتباه العالي في موقف ما.
نقيض الانتباه النشط هو الانتباه الخامل، وهذا يحدث حينما يكون مستوى الانتباه متدنيًا، ويكون التركيز غير موجود وغير خاضع لسيطرة الفرد. وهو ما يتماشى مع ما سمَّيناه «المعالجة من الخاص إلى العام»، حيث إنه نشاط يحتاج إلى مثيرات خارجية (أيزنك وكين، ٢٠٠٠). ومثال على ذلك حينما تُولِي انتباهك إلى ذبابة تطن داخل حجرة الدراسة ثم تنتبه فجأة أنك لا تدري ما الذي كان المعلم يتحدث عنه.
طريقة أخرى للتعامل مع هذين الحدين تتمثل في اللجوء إلى فكرة كريك ولوكهارت (١٩٧٢) الخاصة بما سمَّياه «عمق المعالجة». ويشير هذا المصطلح إلى مقدار الانتباه ومقدار الجهد الإدراكي اللذين يتم بذلهما؛ حيث تحدث المعالجة العميقة عند الحد الأقصى من الانتباه النشط ومع بذل أقصى قدْر ممكن من الجهد الإدراكي. وعلى العكس من ذلك تُحِيلنا «المعالجة الضحلة» إلى مواقف نستعين فيها بمعرفة إدراكية محدودة (أيزنك وكين، ٢٠٠٠). وهذه المعالجة الضحلة هي ما قصدها بيتي وكاتشوبو عندما تحدَّثا عن «المعالجة المحيطية»؛ ومِن ثَمَّ يمكن تحديد مستوى الانتباه بكونه مقدار ما تمارسه من تفكير نشط، أو مقدار ما تبذله من جهد إدراكي في أي موقف.
ويكتسب تعريفا الانتباه أهميةً كبرى عندما نشرع في التفكير في آلية معالجة الإعلان. تخيل مثلًا أنك جالس أمام شاشة التليفزيون تشاهد مباراة كرة قدم وقد وضعتَ على رِجْليك جهاز كمبيوتر محمولًا، وخلال دقيقة تُولِي انتباهًا اتجاهيًّا عاليًا إلى الشاشة وتبذل مستويات عالية من الجهد الإدراكي، وخلال الدقيقة التالية يأتي فاصل إعلاني فتصرف ناظريك عن الشاشة وتنتقل لتفَقُّد بريدك الإلكتروني. وهكذا يهبط مستوى انتباهك للشاشة التليفزيونية فورًا إلى الصفر.
الآن تخيل أن الكمبيوتر ليس معك، عند ظهور الفاصل الإعلاني تستمر في النظر إلى شاشة التليفزيون، ولكنَّ عقلك غير حاضر، فربما تفكر في آخِر هدف تم تسجيله، أو في المكان الأنسب لقضاء العُطلة. وفي هذا الموقف يكون الانتباه الاتجاهي عاليًا ولكنَّ مقدار الجهد الإدراكي الذي تبذله إزاء الإعلان منخفض جدًّا. وهكذا لا يتلقَّى الإعلان سوى مستوًى متدنٍّ من الانتباه.
لِنتناولِ الآن موقفًا ثالثًا: هذه المرة معك الكمبيوتر المحمول، وتصرف ناظريك عن شاشة التليفزيون وقت الفاصل الإعلاني، ولكنك هذه المرة تسمع وربما تلمح بين الحين والآخر ما يُعرَض من إعلانات، حتى لا تفوتك بداية المباراة. في هذا الموقف يكون الانتباه الاتجاهي مضطربًا ومستوى الجهد الإدراكي متوسطًا. وقد يبدو الأمر معقدًا جدًّا، ولكن هذا هو الواقع الذي علينا أن نتعامل معه حينما نفكر في آلية التعامل مع الإعلان.
ولا بد من الإشارة إلى أن كلًّا من كريك ولوكهارت — على غرار إبينجهاوس — يؤكدان في الأصل على أن المعالجة العميقة ينجم عنها دومًا ذكريات أكثر وضوحًا وثباتًا، ويوردان العديد من التجارب، ومنها تجربة عام ١٩٦٤ التي أجراها تريسمان، وفحواها «إذا كان هناك انتباه للرسالة، فعندئذٍ يمكن معالجة المزيد من المواد المهمة ذات المعنى؛ ومِن ثَمَّ الاحتفاظ بها لفترة أطول» (كريك ولوكهارت، ١٩٧٢). على أن أيزنك تحدَّى هذا التأكيد بعد ذلك بستِّ سنوات (١٩٧٨)، فكان عليهما القبول بأن «فكرة المعالجة العميقة في حد ذاتها غير كافية لمنحنا توصيفًا مناسبًا لعمليات الذاكرة» (لوكهارت وكريك، ١٩٧٨). وفيما بعد، راجع لوكهارت وكريك وجهة نظرهما القائلة بأن المعالجة الضحلة تؤدي إلى النسيان السريع، وسلَّما بأن المعالجة الضحلة للمعلومات الحسية قد تستمر «لساعات، ولدقائق، بل وحتى لشهور» (لوكهارت وكريك، ١٩٩٠). وأنا أذكر هذا لأن علم النفس بتعريفه يتعامل مع تأكيدات عن العقل تشكل الحس السليم، ولكن من الصعب إثباتها، وكثيرًا ما يتضح لنا أن ما يبدو أنه حِسٌّ سليم هو منطق خاطئ في واقع الأمر.
التعلُّم من التواصُل
إن الانتباه ليس آلة يمكن تشغيلها وإيقافها، وقد ننتبه في أي وقت إلى شيء على مستوًى بين النَّشِط والسلبي، ونتعامل معه على مستوًى بين العميق والضحل. وكما وجد إبينجهاوس، فإن قدْرَ أو مستوى الانتباه الذي نُولِيه في وقت معين يؤثر على نوع التعلم القائم.
ينتبه متلقِّي الرسالة إلى ما تحتوي عليه من حُجَج، ويحاول أن يفهمها، ثم يقوم بتقييمها. عقب ذلك يدمج المتلقِّي كافة المعلومات بطريقة منطقية متماسكة. (بيتي وكاتشوبو، ١٩٩٦)
على الجانب الآخر، فإن التعلُّم الذي يحدث عند المعالجة المنتبهة الضحلة واستخدام جهد إدراكي محدود للغاية يسمَّى «التعلُّم السلبي»، وهو يعتبر عمومًا شكلًا من أشكال التعلُّم الضعيف نسبيًّا ويتماشى مع المعالجة من الخاص إلى العام التي يحركها المثير. ويمكننا أن نفترض أن هذا ما كان بيتي وكاتشوبو يشيران إليه عندما كانا يستخدمان مصطلح «المعالجة المحيطية».
ويتعامل الوعي مع ما يتمُّ تعلُّمه خلال التعلُّم السلبي، ولكن على مستوًى منخفض نسبيًّا. وسوف أُورِد هنا مثالًا بسيطًا يوضح هذا بشكل عملي.
تخيل أنك تقود سيارتك في شارع مزدحم، بينما أنت مندمج في حوار مع رفيق يركب معك، وهَبْ أنك صادفتَ حافلة تعطي إشارة تنبيه، أو أن السماء بدأتْ تمطر. هل ستتوقف عن الكلام في أي موقف من الموقفين؟ ليس بالضرورة. ولكن كل موقف منهما يستدعي أن تُصدِر حكمًا معينًا، وهو الأمر الذي سيكون عليك أداؤه إدراكيًّا؛ فانطلاق الحافلة موقف يتطلب منك أن تقرر ما إذا كنتَ ستستمر في القيادة وتتجاوزها أو أنها مُسرِعة لدرجة تستدعي منك التوقف وتركها تمر أولًا. كما أن المطر يقتضي منك أن تحدد ما إذا كان غزيرًا بما يستدعي تشغيل المسَّاحات أم لا. وبالمثل يمكنك أن تَمضِي في طريقك بالسيارة، وتتوقف عند الإشارات وأماكن عبور المشاة، وتُعدِّل من سرعة السيارة، وتقوم بغير ذلك من المهامِّ الإدراكية، وكل هذا من دون أن يبتعد عقلك عن الحوار الدائر.
الشيء المهم الذي أودُّ منك أن تأخذه في الاعتبار هو أنك عند الانتهاء من هذه الرحلة ووفق جميع الاحتمالات لن تتذكر أيًّا من تلك القرارات التافهة نسبيًّا التي اتخذتَها. والمؤكد أنك سوف تكون قادرًا على تذكر الحوار، أو على أقل تقديرٍ النقاط الرئيسية لذلك الحوار، ولكن سواء تجاوزتَ الحافلة أم لا، أو شغلتَ المسَّاحات، أو توقفتَ لتسمح للمشاة بعبور الطريق فهي كلها أشياء لست بحاجة إلى أن تتذكرها؛ ومِن ثَمَّ سوف تنساها على الأرجح، بنفس الطريقة التي ننسى بها معظم الإعلانات التي نتعرض لها.
لا نرى وجاهةً في الصورة التي ترسمها تلك المقاربات المحيطية لعملية الإقناع. فإذا كانتِ الرسالة مرتبطة بمصدر جذَّاب، فإنها تَلقَى القبول، أمَّا إذا اتخذَتِ الرسالة موقفًا متضاربًا للغاية فإنها تكون مرفوضة بغضِّ النظر عن قوة حُجتها. (بيتي وكاتشوبو، ١٩٩٦)
عمليًّا، هما يَعنِيان أن التعلم الخامل لا يمكن أن يؤثر في تغيير التوجه إلَّا إذا كان الشخص ميَّالًا بالفعل إلى هذا التغيير بطريقة أو بأخرى، بل وأكثر من ذلك، يزعمان أن هذا التغيير في التوجه لا يكون بنفس قوة وثبات التغيير الناجم عن التعلم النشط.
إنْ لم يكن لدينا الكثير من المعلومات السابقة، أو لم نجد أن الموضوع ذو صلة وثيقة بنا، فعندئذٍ يمكن للمقاربة المحيطية أن تحقق نجاحًا. على أن هذا النجاح يكون قصير الأمد؛ ومِن ثَمَّ يكون من الضروري لمَن يحاول إقناعنا أن يعمل باستمرار على تذكيرنا بمفتاح هذا الإقناع. (بيتي وكاتشوبو، ١٩٩٦)
يحدث كلٌّ من التعلُّم النشِط والسلبي عندما نُوِلي قدرًا ما من الانتباه، وعندما نكون «مدركين» لعملية التعلم القائمة. ولكنك قد تندهش عندما تكتشف أنه من الممكن أيضًا أن تتعلم من دون أن تنتبه على الإطلاق إلى هذه المهمة. يقول أيزنك وكين: «يمكن معالجة المعنى من دون وعي» (أيزنك وكين، ٢٠٠٠). ويعرف التعلم الذي يحدث من دون أن تكون على دراية بأنك تتعلم باسم «التعلم الضمني» (أيزنك وكين، ٢٠٠٠).
التعلم الضمني
إليك مثالًا بسيطًا على التعلم الضمني: لنَعُدْ إلى الموقف الذي كنتَ فيه تقود سيارتك وأنت تحاور رفيقك، لنفترض أن أحد المارَّة همَّ بالعبور من أمام السيارة. من المؤكد أنك ستُبادِر برد فعل فوري، فتضغط بقوة على الفرامل، وربما تنحرف بالسيارة لتتفاداه، وربما تصرخ فيه بعبارات غير لائقة لعدم يقظته للطريق. ولكنْ نظرًا لأنك منخرط في حوار، وتراقب الحافلات وهي تنطلق بجوارك، وتترقب الطقس تحسبًا لهطول المطر، وما إلى ذلك، فكيف يتسنَّى لك وسط كل هذا أن ترى هذا العابر في الوقت المناسب لتتوقف بالسيارة؟
الحقيقة هي أنك طوال الوقت الذي تقود فيه السيارة، أو تقوم بأي عمل، يكون عقلك في حالة معالَجة مستمرة لكل تفصيلة من تفاصيل ما يجري من حولك، وهذا من دون وعي منك؛ فأنت ليس لديك أي فكرة عمَّا يقوم به عقلك؛ لأن هذه المعالجة تلقائية تمامًا وتتم لا شعوريًّا. وأهمية هذا النوع من المعالجة التلقائية أمر مسلَّم به، وهي السبب في بقاء الجنس البشري؛ فإذا لم يكن لدى أجدادنا مثل هذا النظام الذي سمح لهم بالتمييز بين وقْع أقدام نمر مفترس والصوت الصادر من حفيف العشب بفعل الريح، فلربما لقُوا جميعًا حتْفَهم فرائسَ من قبلِ أن ينتهي العصر الحجري.
نحن نقوم باستمرار بعملية مسْح لما يُحيط بنا، بصورة تلقائية غير واعية، حتى نحدد ما إذا كان هناك ما يستحق أن نُولِيَه انتباهنا وكل تركيزنا. والعمل الذهني الوحيد الذي نؤدِّيه هو تحديد علاقتنا بما ندركه حسيًّا حولنا، ولا نتعامل بما هو أكثر من ذلك مع ما نقوم بتجميعه من بيانات؛ لأن كل كلمة وصورة تحتوي على معلومات تفوق بكثير ما لدينا استعداد لمعالجته في هذه المرحلة. (فرانزين، ١٩٩٩)
إن النظريات السيكولوجية الحديثة تسلِّم الآن بأننا نتعلم عند مستويات انتباه متدنية أو من دون انتباه، ولكنها تدرج هذا التعلم في فئات معالجة أخرى. فمثلًا، نجد أن نظرية نورمان وشاليس، (١٩٨٦، في أيزنك وكين، ٢٠٠٠) تتحدث عن حالة اسمها «المعالجة التلقائية الجزئية» بين المعالجة التلقائية الكاملة والمعالجة المنتبهة الكاملة. والغرض من هذه المعالجة التلقائية الجزئية هو التعامل مع التضارب؛ أي التوفيق بين الأشياء المتضاربة مثل تلك التي تنشأ عندما تزيد حافلة من سرعتها أمام سيارتك.
- (أ)
سريعة جدًّا.
- (ب)
من غير الممكن تجنُّبها (أي إنها فاعلة سواء أكان هناك مثير ضمن مجال الانتباه أم لا).
- (جـ)
لا تؤثر سلبًا على مهامَّ أخرى (أي لا تستدعي أي انتباه).
- (د)
غير موجودة في نطاق الوعي.
يمكن لمعظمنا أن يَقبَل بأن المعالجة تتواصل عند ما يمكننا تسميته بمستويات إدراك «شبه واعية». ويحدث هذا النوع من المعالجة حينما لا تكون الظروف مهمة بما يكفي لتستدعي الانتباه «الكامل»، ولا تكون غير مهمة لدرجة أنها لا تستدعي أي انتباه. وهذا مماثل للتعلم السلبي، وهو تحديدًا الموقف الذي نواجهه مع التواصل برسالة العلامة التجارية مثل الإعلانات. فنحن لا نريد أن نتجاهلها تمامًا؛ لأن علينا، شئنا أم أبَيْنا، اتخاذ قرارات نحدد من خلالها العلامات التجارية التي نفضلها. ولكن خبرتنا قادتْنا لندرك أن تلك الرسالة قلَّما تزوِّدنا بشيء ذي أهمية حقيقية؛ لذلك نجد أن لا حاجة بنا إلا أن نوليها انتباهنا الكامل.
الإعلان الذي يَحظَى بمعالَجة ضحلة — والذي يفتقر إلى القدرة على إحداث تأثير كبير — يكون على الأرجح مفتقرًا إلى الفعالية والتأثير مقارنة بالإعلان الذي يَحظَى بمعالَجة على مستوى الوعي. (ساذرلاند وسيلفستر ٢٠٠٠، في هيث ٢٠٠١)
أعرب ماكس بلاكستون، من شركة ريسيرش إنترناشيونال، عن رأيٍ مماثل بل وأكثر جزمًا، وذلك في معرض ردِّه على أحد مقالاتي: «تحفيز المعالجة النشطة ضرورة لفعالية الإعلان» (بلاكستون، ٢٠٠٠).
هناك العديد من شركات التسويق التي ترحِّب بما سبق من آراء، فهو الخيار الآمن بالنسبة لها في نهاية المطاف. فإذا كان الإعلان يَحظَى بمعالَجة نشِطة فلا بد أن له فرصة أفضل لإقناع المتلقِّي — مشاهدًا كان أم مستمعًا — مقارنة بما إذا كان يفتقر إلى هذا النوع من المعالجة.
من الغطرسة واللاواقعية أن نفترض أن نسبةً ضئيلةً من الرسائل الإعلانية يتم اختيارها على أساس الانتباه والمعالجة الواعية. الأرجح أن الإعلان «يؤثر» بوجه عام من دون أن تتم معالجته من خلال مستويات عالية من مَلَكَاتنا العقلية. (هيدجز، ١٩٩٨)
إنني أقبل تمامًا بأنه من الصعب علينا أن نتبيَّن آلية حدوث تلك المعالجة البعيدة عن الوعي وكيف أنها تُسهِم في تكوين معرفتنا بالعلامات التجارية. يفترض كثيرون أنه إذا لم يكن التعلم الضمني يسهم في الذاكرة التي نسترجعها؛ فمن ثَمَّ لا يمكن أن يكون له دور كبير في التأثير على المتلقي. غير أن هذا المنطق مغلوط ويمكن الرد عليه بطريقتين؛ الأولى: أن الإعلان — كما أوضحتُ من قبلُ — قادرٌ «بالفعل» على أن يؤثر فينا حتى وإن لم نكن نتذكره. والثانية: أن التعلم الضمني يسهم بالفعل في تكوين الذاكرة طويلة الأمد بطريقة لا يُستهان بها. وحتى نحيط بالكيفية التي تمكِّنه من ذلك ينبغي علينا أولًا أن نستعرض دَوْر الذاكرة في تخزين ما نتعلمه من التواصل.