دور الذاكرة
من الواضح أن المخ يمتلك أنظمة ذاكرة متعددة، يكون كلٌّ منها مخصصًا لأنواع مختلفة من وظائف التعلُّم والتذكُّر.
أود أن أبدأ هذا الفصل بتقديم اعتذارين: الاعتذار الأول للأشخاص الذين درسوا علم النفس: أعتذر إذا قمتُ بتكرار الأفكار التي تعرفونها بالفعل. والاعتذار الثاني للأشخاص الذين لم يدرسوا علم النفس: أعتذر عن استخدام المصطلحات الفنية المختلفة التي قد تبدو غريبة. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن علم نفس الذاكرة، مثل علم نفس الإعلان، معقَّد للغاية.
على الرغم من أن الذكريات قد تكون قوية وحاضرة، فإنها لا تكون دقيقة بالضرورة؛ فالذكريات الصريحة، بغضِّ النظر عن تضميناتها العاطفية، لا تُعتَبَر نُسَخًا كربونية من التجارب التي شكَّلتْها. (لودو، ١٩٩٨)
تستند نماذج الشبكة الاتصالية أو العصبية إلى مبدأ أن المخ يقوم بالتخزين (شبكات الذاكرة) عن طريق زيادة قوة الروابط بين الخلايا العصبية المختلفة التي تشارك في تشفير التجربة. (شاكتر، ١٩٩٦)
يستخدم شاكتر مصطلح «إنجرام» (ويعني الأثر الدائم في الفسيولوجيا العصبية وعلم النفس) لوصف هذه الشبكات الخاصة بالذاكرة. وتكمن أهمية هذه النظرية في أن الذكريات، بخلاف تلك التي تتشكَّل لدينا عندما نكون صغارًا، لا تتشكل من نقطة الصفر كل مرة، ولكنها ترتبط بالشبكات القائمة وتتأقلم معها؛ لذلك لا يتصل الإنجرام الخاص بإحدى العلامات التجارية مع الإنجرام الخاص بدعايتها فحسب، بل مع الإنجرام الخاص بالعديد من العلامات التجارية والإعلانات الأخرى، لإنتاج شبكة واسعة من الذكريات المتداخلة والمترابطة.
يحتوي الإنجرام الخاص بالعلامة التجارية أيضًا على اعتقاداتنا المتعلقة بهذه العلامة ومواقفنا منها. وكما أوضحتُ في الفصل الثاني، فإن هذه الأشياء لا تتشابه؛ فالاعتقادات هي الخصائص التي نعتقد أن العلامة التجارية تمتلكها، والمواقف هي طريقة شعورنا «نحن» تجاه هذه العلامة. والتمييز بين هذين الأمرين يُعَدُّ أمرًا مهمًّا جدًّا؛ لأنه على الرغم من أن الاعتقادات يمكن أن تؤثر على المواقف، فإنها «لا تستطيع» أن تؤثر على السلوك؛ فالمواقف فقط هي القادرة على ذلك.
يتم الوصول إلى الإنجرامات الخاصة بالعلامة التجارية من خلال الوصلات الكهربائية المعروفة باسم المسارات. وبسبب نظام الاتصال قد يكون هناك عدد من المسارات التي تقودك إلى إنجرام واحد خاص بعلامة تجارية ما، وقد تحصل عليه عن طريق منتَج آخَر في السوق نفسه، أو عن طريق منتَج آخَر تقدِّمه الشركة نفسها، أو عن طريق الحاجة الماسة المرتبطة بهذا المنتج تحديدًا، أو عن طريق تذكُّر الدعاية الخاصة به، أو عن طريق بعض العناصر الموجودة ضمن هذه الدعاية. تكون المسارات التي تقودك إلى إحدى العلامات التجارية المألوفة محدودة، ولكن عند محاولة عدِّها فإنها تتحول إلى عدد كبير «جدًّا».
هناك حقيقة مهمة حول هذه المسارات، وهي أنه في كل مرة تستخدم هذه المسارات فإنها تصبح أكثر دقة ووضوحًا وتزداد احتمالات استخدامها في المستقبل، وهذا هو ما يُعرَف باسم «الترسيخ». هذا يشبه نوعًا ما السَّيْر في حقل من الأعشاب؛ فكلما زاد عدد مستخدمي طريق معين، تزداد فرص أن تَبلَى هذه الأعشاب، ويزداد وضوح معالم الطريق، ويزداد استخدام الأشخاص الآخرين له وهلمَّ جرًّا. وفي نهاية المطاف، يُصبِح ما كان مجرد علامة باهتة في الأعشاب في النهاية شريطًا من الأرض واضح المعالِم، يستخدمه الجميع كطريق في المستقبل.
على سبيل المثال، سيكون لدى معظمنا ربط قوي جدًّا بين الإنجرام الخاص بمنتج كوكاكولا وذلك الخاص بمنتج بيبسي؛ لأن كليهما مشروب مياه غازية، ولأنه غالبًا ما يتم وضعهما على الأرفف بعضهما بجانب بعض؛ لذلك في كل مرة نشتري أحد هذين المشروبين نرى الآخَر ويتعزَّز المسار الواقع بينهما. وعلى النقيض، قد يكون لدينا مسار أقل قوة بين كوكاكولا وسبرايت، أو كوكاكولا وتانجو؛ لأن هذه العلامات التجارية قليلًا ما توضع معًا على الأرفف.
تنشأ هذه الشبكات والمسارات من خلال عملية تُعرَف باسم التشفير. فإذا تعرفنا على إحدى العلامات التجارية من خلال الدعاية الخاصة بها، فحينئذٍ سيتم تشفير المسار إلى الإنجرام الخاص بهذه العلامة التجارية عن طريق الإعلان. وبمجرد حدوث ذلك، يمكن أن يعمل المسار بعد ذلك في كلا الاتجاهين؛ فيمكن أن يبعث تذكر الإعلان على تذكر هذه العلامة التجارية، وبالمثل يمكن أن يبعث تذكر هذه العلامة التجارية على تذكر الإعلان.
يختلف التشفير باختلاف أنواع نظام الذاكرة، وهذا النوع من التشفير الذي يتم خلال التعلم النشط يتطلب معالجة الأفكار وتقييمها، وأحيانًا إعادة تفسيرها بشكل كامل، ويتم ذلك عن طريق ما يعرف باسم الذاكرة العاملة.
الذاكرة العاملة
عادةً ما تنقسم الذاكرة إلى ذاكرة طويلة المدى (وهي الأشياء التي «نحتفظ» بها لوقت لاحق)، وذاكرة قصيرة المدى (وهي الأشياء التي نتذكرها عند مرورنا بها، ولكن لا يتم تخزينها). ربما يجول بخاطرنا أننا نستخدم الذاكرة قصيرة المدى لإجراء عملية المعالجة خلال التعلم النشط. ولكن جورج ميلر (١٩٥٦) أكد أن الذاكرة قصيرة المدى الحقيقية لا تتسع إلَّا لخمسٍ إلى تسع معلومات، ولذلك ومن أجْل التغلب على هذا التقيد نستخدم نظامًا إضافيًّا من الذاكرات المؤقتة الخفية المعروف باسم الذاكرة العاملة.
جميعنا يُدرِك طريقة عمل الذاكرة العاملة من خلال التجارب التي نخوضها في حياتنا اليومية. تخيَّل أنك في حاجة للبحث عن رقم صديق في دليل الهاتف. تجد الرقم، ثم تسير في أنحاء الغرفة بحثًا عن الهاتف لإجراء المكالمة، وفي هذه الأثناء تردد الأعداد المكوِّنة للرقم على نفسك بتركيز شديد وبأسرع ما يمكن. إذا انشغلتَ لِلحظة واحدة أثناء سيرك نحو الهاتف، فستحتاج إلى الرجوع إلى الدليل مرة أخرى، وإذا نجحتَ في طلب الرقم، فربما تنساه بعد ذلك على الفور. (شاكتر، ١٩٩٦)
إذا كنَّا نرغب في تحسين احتمالات تذكُّرنا حادثةً ما أو تعلُّم حقيقةٍ ما، فإننا بحاجة للتأكُّد من أننا نقوم بالتشفير الدقيق عن طريق التأمل في المعلومات وربطها بأشياء نعرفها بالفعل. وقد أظهرتِ الدراسات المختبرية أن مجرد وجود النية لتذكر شيء ما لا يكون مفيدًا على الأرجح. (شاكتر، ١٩٩٦)
أحد الأمثلة الشائعة على التشفير الدقيق هو كتابة الأشياء؛ فقد ثبت أن هذا الأمر يزيد من تعلمنا للأشياء بما يصل إلى أربع مرات، حتى إذا لم نقرأ ما كتبناه مرة أخرى. ويُعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن الكتابة تزيد من الاتصال مع الإنجرامات الأخرى، وتحسِّن من القدرة على التذكُّر.
وبالطبع تكون عملية التشفير هذه عبارةً عن التفكير الدقيق الذي أشار إليه بيتي وكاتشوبو في نموذج احتمالية الاستغراق الذي وضعاه، ويمكن للمرء أن يدرك السبب وراء الانجذاب الشديد من جانب صناعة الإعلان لهذا النموذج. فإذا استطاع الإعلان إقناع شخص ما بأن يفكر في الرسالة العقلانية التي يحاول الإعلان توصيلها ويشفِّرها، فسيتم تعلم هذه الرسالة على نحو أكثر كفاءة وحتمًا سيكون تذكرها أكثر سهولة. والمشكلة التي تواجه هذه الطريقة في النظر إلى الأمور هي أنها تفترض أن الأنظمة الأخرى تكون أيضًا أقل فعالية؛ لأنها تكون أقل كفاءة.
لفهم كيف يمكن لنظام التعلُّم الأقل كفاءة فعليًّا أن يكون أكثر فعالية من النظام الأكثر كفاءة، فإنني بحاجة إلى شرح كيفية تقسيم الذاكرة الطويلة المدى.
أنظمة الذاكرة الطويلة المدى
يمكن تقسيم المعرفة العقلية الخاصة بنا، في أبسط صورها، إلى نوعين أساسيين: «الذاكرة الإجرائية» و«الذاكرة التقريرية».
تغطي الذاكرة الإجرائية مختلِف المهامِّ التي نتعلَّم القيام بها، بدءًا من سلق البيض وحتى ركوب الدراجات. ويعتقد البعض أن هذه الذاكرة تستقر في نظامها الخاص، حيث تكون قادرة على تزويدنا تلقائيًّا بالمعرفة اللازمة للتمكُّن من أداء هذه المهام، دون أن «نطلبها» أو نفكر فعليًّا فيها على الإطلاق. والذاكرة الإجرائية هي ما نستخدمه لإدارة الجانب العملي المتعلق بقيادة السيارة (تغيير ناقل الحركة، الضغط على الدبرياج، استخدام الفرامل، زيادة السرعة … إلخ) أثناء الانتباه إلى المحادثة التي نُجرِيها مع مَن يركب معنا ومراقبة الحافلات.
نظام تتم فيه معالجة المعلومات أولًا، وتشفيرها ثم تخزينها في شكل يمكن الوصول إليه بشكل صريح لاستخدامها لاحقًا ثم استرجاعها في نهاية المطاف عند الطلب. (كوهين، ١٩٨٤)
تنشأ المعرفة التقريرية من نظامين مختلفين للذاكرة يُعرَفان باسم الذاكرة الدلالية والذاكرة العرضية. الذاكرة العرضية هي الذاكرة التي ترتبط بتجربة ذاتية؛ والذاكرة الدلالية هي الذاكرة التي تُخزِّن القواعد والإشارات المرجعية والمعاني دون معرفة متى وكيف اكتُسبت هذه القواعد؛ لذلك، وعلى سبيل المثال، فإن «معرفتك» بتجربة تتعلق بانزلاقك وقرب اصطدامك بأحد الأشخاص قد تدخل ضمن الذاكرة العرضية؛ لأنها ترتبط بوقتٍ ومكانٍ لا يُمحَيان من العقل. وقد تدخل كثيرًا «معرفة» أن قيادة السيارة تكون أفضل إذا قمتَ بتغيير ناقل الحركة ضمن الذاكرة الدلالية؛ لأنه من غير المحتمل أن تتذكر متى أو حتى كيف اكتشفتَ هذا الأمر.
تحتاج الذاكرة العرضية إلى تشفيرٍ أكثر دقةً من تشفير الذاكرة الدلالية، وأعتقد أن هذا هو ما يفسر السبب وراء صعوبة تذكُّر الإعلانات؛ فالإعلان الذي نشاهده للمرة الأولى من المستبعَد أن يكون مألوفًا بالنسبة لنا؛ ومِن ثَمَّ فهو يُعَدُّ ذكرى جديدة. ولكي نتذكره يجب أن نكون قد قمنا بتشفيره بدقة كافية لكي تكون هناك «صورة» في أذهاننا لجزء منه، وربما فكرة عن وقت مشاهدتنا له أو سماعنا إياه. إننا بحاجة أيضًا إلى مسارات راسخة تصل إلى الإنجرام الخاص بالعلامة التجارية التي يجري الإعلان عنها؛ لذلك تكون الذاكرة الإعلانية هي المكافئ للذاكرة العرضية الجديدة المعقدة للغاية، ومثل أي ذاكرة عرضية، يمكن طمس المسارات أو فقدانها بالكامل بسهولة تامة. وهذا هو السبب وراء أننا غالبًا ما نتمكن من تذكر أحد مكونات الإعلان، وليس الإعلان نفسه. أو يمكننا تذكر الإعلان، وليس العلامة التجارية التي يعلن عنها.
وهذا الأمر ليس بالضرورة صحيحًا فيما يخص «التأثير» الذي قد يمارسه الإعلان علينا؛ فالإعلان يمكن أن يؤثر على اعتقاداتنا الخاصة بعلامة تجارية معينة، وهذه الاعتقادات بدورها يمكن أن تؤثر على مواقفنا تجاه تلك العلامة. وهذه الاعتقادات والمواقف هما ما يعادلان «القواعد والمعاني»؛ ومِن ثَمَّ فإنهما ستكونان مفاهيم بسيطة نسبيًّا يتم تخزينها في الذاكرة الدلالية. وبطبيعة الحال، فإنهما تظلَّان بحاجة إلى مسارات تربطهما بالعلامة التجارية، ولكن عند مقارنتهما بالإعلانات فإنه يسهل جدًّا تشفيرهما.
ولكنْ مرة أخرى نجد فارقًا مهمًّا بين الاعتقادات والمواقف. وبالعودة إلى السيارات الرياضية التي ذكرتُها في الفصل الثاني، من غير المحتمل إلى حدٍّ كبير أن تكون هناك أي سيارة أخرى تسير بسرعة ١٦٣ ميلًا في الساعة؛ ومِن ثَمَّ سيكون هذا الاعتقاد بمثابة ذكرى جديدة. وهذا يعني أنه يجب علينا تشفير المسار الذي يربط الاعتقاد أو الفكرة التي لدينا عن السيارة الفيراري، إضافة إلى تشفير هذا الاعتقاد أو تلك الفكرة نفسها. ومع ذلك، فإن معظم المواقف تتواجد بالفعل وبشكل عام باعتبارها مفاهيم في ذاكرتنا — سنعرف بالفعل ما المقصود من كون الشيء مثيرًا أو مشوِّقًا — لذا فإن كل ما علينا فعله هو تشفير حلقة وصل بين الموقف الحالي والعلامة التجارية فيراري. وهذه المهمة لا تُرهِق أدمغتنا كثيرًا عند أدائها.
ومن خلال تجميع أنظمة الذاكرة مثل الذاكرة العرضية والدلالية معًا تحت راية الذاكرة التقريرية فهذا يعني ضمنًا أنها جميعًا قادرة على أن تكون «معلنة» (أي يتم تذكُّرها ووصفها). وأعتقد أن هذا خطأ كبير؛ لأنه يعني أن أنواع الذاكرة المهمة هذه يمكن أن تتشكل بشكل صريح «فقط»؛ أي عندما «نعي» أننا نتعلم شيئًا ما. ويتضح أن الحال ليست كذلك، كما سنرى عند دراسة التناقض بين الذاكرة الصريحة والذاكرة الضمنية.
الذاكرة الضمنية
تختلف الذاكرة الضمنية عن الذاكرة الصريحة في أنها لا تحتوي على تذكُّر واعٍ، وتتضمن المقاييس التقليدية الخاصة بالذاكرة (مثل الإدراك والتذكُّر الحر والتذكُّر بالتلميح) استخدام تعليمات مباشرة لاسترجاع معلومات حول خبرات محددة؛ ومِن ثَمَّ يمكن اعتبارها جميعًا المقاييس الخاصة بالذاكرة الصريحة. وتتكشف الذاكرة الضمنية عند تسهيل أداء إحدى المهام في حالة غياب التذكُّر الواعي. (آيزنك وكين، ٢٠٠٠)
تختلف الذاكرة الضمنية عن الذاكرة الصريحة من ناحيتين مهمتين أخريين: الناحية الأولى هي أن سعتها تكون أكبر بكثير، ويجب أن تكون كذلك لأنها تحمل جميع المعرفة الإجرائية التي نستخدمها في حياتنا. فإذا كان لا بد من ملء ذاكرتنا الضمنية فقد ننسَى كيفية التنفُّس أو كيفية الاستيقاظ من النوم في الصباح.
وقد تم تسليط الضوء على سعة الذاكرة الضمنية في سبعينيات القرن العشرين من خلال تجربة شهيرة قام بها ليونيل ستاندينج (١٩٧٣). فقد استخدمت تجربة ستاندينج الإدراك، ووظيفة الإدراك إحدى وظائف الذاكرة التلقائية التي تصل مباشرة إلى الذاكرة الضمنية. وقد عُرض على الأشخاص الخاضعين للتجربة مجموعة أولية من الصور، وبعد مرور يومين عُرض عليهم مجموعة ثانية من الصور. تتكون المجموعة الثانية من أزواج من الصور، كل زوج يحتوي على صورة واحدة كانوا قد رأَوْها في المجموعة الأولى، والصورة الأخرى لم يَرَوْها من قبلُ. وطُلب من المشاركين تحديد الصورة التي رأَوْها من قبلُ. فإذا كان أداؤهم في تحديد الصور التي عُرضت عليهم في المجموعة الأولى أفضل من المتوسط، زيد عدد الصور. وفي نهاية المطاف نَفِدَ التمويل الخاص بستاندينج عندما بلغتِ المجموعة التي يتم عرضها بشكل أولي إلى ١٠ آلاف صورة، واستمر أداء المشاركين عند هذا المستوى أفضل من المتوسط في تحديد الصور التي عُرضت عليهم لأول مرة.
يتعارض هذا الأمر مع اعتقاد معظمنا (بما في ذلك المسوِّقون) أن تلك الذاكرة الصريحة هي مخزن الذاكرة الأكثر سعة؛ ففي الواقع، تكون الذاكرة الصريحة محدودة للغاية. وقد اكتشف ستيفن روز (١٩٩٢)، مستشهدًا بلعبة التذكُّر التي تختبر الذاكرة الصريحة وتسمى لعبة كيم، أن الأشخاص الخاضعين للتجربة الذين عُرضت عليهم مجموعة من الأشياء العشوائية لمدة دقيقتين وطُلب منهم حفظها يمكنهم تذكُّر نحو ١٨ شيئًا فقط في المتوسط، ونادرًا ما يمكنهم تذكر ما يزيد عن ٢٥ شيئًا ما لم يتلقَّوْا تدريبًا خاصًّا على هذه المهمة.
الناحية الثانية التي تختلف منها الذاكرة الضمنية عن الذاكرة الصريحة هي أن الأولى تكون أكثر ثباتًا وأطول أمدًا. وقد اكتشف ألين وريبر (١٩٨٠) هذا الأمر لأول مرة في اختبار تعلُّم قواعد اللغة الاصطناعي. وقد ثبت أنه بعد مرور عامين، تُنسَى العديد من القواعد التي تم تعلُّمها بشكل جيد، لكن السلوك النحوي الذي تم تعلُّمه تلقائيًّا و«ضمنيًّا» يستمر تواجده في الذاكرة ويمكن أن يواصل ظهوره بعد مرور عامين.
وقد تأكد لاحقًا الدور الذي يلعبه التعلُّم الضمني في هذا الصدد من خلال اختبارات استكمال أجزاء الكلمات التي أجراها تولفينج وآخرون (١٩٨٢)، ويصف دانيال شاكتر (١٩٩٦) هذه الاختبارات على النحو التالي: تم عرض مجموعة من الكلمات على الأشخاص الخاضعين للاختبار مثل «قاتل»، «أخطبوط»، «أفوكادو»، «غموض»، «عمدة المدينة»، «مناخ»، ثم تمَّتْ دعوتهم مرة أخرى وعُرض عليهم قائمة أخرى تحتوي على بعض الكلمات الأصلية وبعض الكلمات الجديدة، على سبيل المثال: «أخطبوط»، «غسق»، «ديناصور»، «غموض» وسُئلوا عن الكلمات التي يتذكرونها، وقد قاس هذا الاختبار الوعي والذاكرة الصريحة. بعد ذلك عُرض عليهم أجزاء من الكلمات، بعضها من القائمة التي تم عرضها سابقًا وبعضها لم يكن بالقائمة. ويسمح هذا الاختبار بفحص ذاكراتهم الضمنية.
اختبرنا الأشخاص بعد مرور ساعة وبعد مرور أسبوع على دراستهم للقائمة. بالطبع كانت الذاكرة الواعية بعد مرور أسبوع أقل دقة بكثير منها بعد مرور ساعة، ولكن كان هناك تميُّز في اختبار استكمال أجزاء الكلمات بعد مرور أسبوع كما كان بعد ساعة. وقد كان مضمون هذه النتيجة رائعًا: ثمة شيء بخلاف الذاكرة الواعية لرؤية الكلمة هو المسئول عن التميُّز في اختبار استكمال أجزاء الكلمات. (شاكتر، ١٩٩٦)
كانت هذه النتيجة بمثابة مفاجأة؛ لأن الحس السليم يقول إن «تعلُّم» الأشياء بفعالية يرسِّخها في الذاكرة بشكل أكثر قوة من «اكتسابها» ضمنيًّا. في الواقع، يبدو العكس صحيحًا؛ فهذه النتائج تتعارض مجددًا بشكل مباشر مع الافتراضات التي أدلى بها المتمسكون بنموذج الإقناع الدعائي، وهي أن الرسائل التي تتم معالجتها باهتمام تدوم طويلًا، وأن المحتوى الذي تتم معالجته بإهمال يساهم بشكل ضئيل أو ينعدم تأثيره على المدى الطويل في القرارات المتعلقة بالعلامة التجارية.
مع مرور الوقت، نقوم بتشفير وتخزين الخبرات الجديدة التي تتداخل مع قدرتنا على تذكُّر سابقاتها. أستطيع أن أتذكر ما تناولتُه خلال وجبة الإفطار اليوم، ولكن لا أستطيع أن أتذكر ما تناولتُه خلال وجبة الإفطار في اليوم نفسه من العام الماضي؛ لأنني مررت بالعديد من وجبات الإفطار منذ ذلك الوقت التي تتداخل مع قدرتي على اختيار وجبة واحدة من وسط هذا العدد الكبير من الوجبات. ويبدو أنه مع مرور الوقت، سيؤدي التداخل الناتج عن الخبرات الجديدة تدريجيًّا إلى زيادة صعوبة العثور على إشارة استرجاع تستنتج الإنجرام الغامض غموضًا متزايدًا. (شاكتر، ١٩٩٦)
وباستخدام الصورة التمثيلية التي أوردناها من قبلُ، فإن ما يُشير إليه شاكتر هو أنه كلما زاد عدد المسارات الأخرى التي يتم إنشاؤها عبر حقل الأعشاب، زادت صعوبة رؤية المسار الأصلي واتباعه.
قد يفسر هذا الأمر السبب وراء زيادة ثبات الذاكرة الضمنية في الذهن، فحفظ شيء ما في الذاكرة الصريحة يُعَدُّ عملًا واعيًا؛ لذلك يمكنك «تذكُّر» كل ما تريد تذكُّره، فأنت تمتلك فعليًّا السيطرة على الحقل ويمكنك ضبط المسارات والإضافة إليها بقدْر ما تشعر بأهميته. ولكنْ لأن الذاكرة الصريحة تكون أصغر من الذاكرة الضمنية، يكون الحقل أكثر محدودية، وهذا يعني أنَّ من السهل نسبيًّا حجبَ المسارات القائمة، وهذا هو السبب في أن من السهل نسبيًّا نسيانَ بعض الأشياء مثل الإعلانات أو الاعتقادات، ولكن الذاكرة الضمنية لا تكاد تنضب وهي ليست واعية، وهذا يعني أن الحقل يكون أكبر بكثير ولا تملك السيطرة عليه؛ لذلك ستبقى المسارات كما هي حتى يتصادف ظهور شيء آخر واستخدام هذا الجزء ذاته من الحقل.
أُجرِيَتْ تجارب شاكتر وتولفينج في أوضاعٍ استطاع فيها الأشخاص الخاضعون للتجربة إيلاء أكبر قدْر من الانتباه كما أرادوا؛ لذلك لم يكونا قادرَيْن على اختبار مقدار الانتباه الذي تم إيلاؤه. ومع ذلك، فقد تكررت هذه التجارب في بيئة ذات انتباه كامل وبيئة ذات انتباه مشتَّت (جاكوبي وآخرون، ١٩٩٣). ولكن النتائج كانت بمثابة مفاجأة أخرى، حيث أظهرتْ أن الانتباه في وقت التعلُّم يمكن أن يكون ذا أهمية حاسمة للتذكُّر الواعي اللاحق، ولكنه لا يتعلق بالذاكرة الضمنية.
ما هي آلية عمل الذاكرة الضمنية؟
-
أشياء ممكنة، يمكن أن تتواجد في الواقع.
-
أشياء مستحيلة (كتلك التي صمَّمها إم سي إيشر) لا يمكن أن تتواجد في الواقع.
أسفرتْ هذه التجارب عن أن الأشياء الممكنة تهيِّئ الإدراك تمامًا كما فعلتِ الكلمات، ولكن الأشياء المستحيلة لا تفعل ذلك. ومن هذا المنطلق فقد وضعا نظريةً مفادها أن التهيئة تعتمد على نظام الذاكرة القائم على الإدراك الذي يخزِّن المعلومات الخاصة «بالبنية» العامة للأشياء، فلا يمكن للنظام تخزين الأشياء المستحيلة نظرًا لعدم وجود بنية عامة واحدة يمكن تخزينها.
يسمح لنا نظام التمثيل الإدراكي بتحديد الأشياء المتواجدة في بيئتنا اليومية، والتعرف على الكلمات المألوفة؛ [فهو] متخصص في التعامل مع شكل الكلمات والأشياء وبنيتها، ولكنه لا «يعرف» أي شيء حول ما تعنيه الكلمات أو استخدامات الأشياء. يتم التعامل مع الارتباطات ذات الدلالة من خلال الذاكرة الدلالية التي تتعاون بشكل وثيق مع نظام التمثيل الإدراكي. (شاكتر، ١٩٩٦)
ومع وضْع هذا الأمر في الاعتبار إلى جانب ما تعلمناه من قبلُ عن الذاكرة الضمنية، يتم البدء في وضْع نموذج يمكن أن نطبِّقه على العلامات التجارية والإعلان، فلدينا هنا نظام يعمل بشكل جيد عند مستويات الانتباه المنخفضة أو المشتتة، وينتج عنه وجود ذكريات تتضمن معلومات هيكلية خاصة بكلمات وأشياء على نحو مدهش، ولكنه لا يعرف بالضرورة أي شيء عما تعنيه هذه الكلمات والأشياء. ويشير ذلك إلى أن الذاكرة الضمنية هي نظام يمكن أن يشكِّل ارتباطات قوية للغاية بين العلامات التجارية والعناصر الملموسة في الإعلان، ولكن دون فهم المزيد عن أهميتها.
تكمن المشكلة المتعلقة بهذا الأمر برُمَّته في أنه يعزِّز آراء ساذرلاند وسيلفستر وبلاكستون، القائلة بأن الإعلانات التي تتم معالجتها بشكل سطحي، وبمستويات منخفضة أو معدومة من الانتباه، لا ترتبط بأي «معنًى»؛ ومن ثَمَّ تكون غير قادرة على تحقيق أي شيء مهم للتأثير على السلوك. لكن شاكتر وتولفينج قاما بتجربة أخيرة دحضت هذه الفكرة؛ فقد كانت هذه التجربة عبارة عن اختبار لمعرفة ما إذا كان التعلُّم الضمني يمكن أن يتصل بالذاكرة المفاهيمية أم لا.
الذاكرة المفاهيمية
الذاكرة المفاهيمية هي جزء من الذاكرة الدلالية، ويمكن تعريف المفاهيم ببساطة بأنها الأفكار التي تربط المعنى بأي شيء يمكن أن ندركه بحواسنا. إننا نبدأ في تعلم المفاهيم منذ المَهْد، وهي تشكِّل جزءًا مهمًّا من قدْرتنا على الحكم على قيمة الأشياء من حولنا. ولأن المفاهيم ترتبط بتخزين القواعد والإشارات المرجعية والمعاني، فإنها بحُكم تعريفها تندرج ضمن الذاكرة الدلالية.
كان شاكتر وتولفينج يُدرِكان أن الفكرة الراسخة عن التعلُّم الضمني تتمحور حول كونه تعلُّمًا إدراكيًّا بحتًا لا يمكن أن يتفاعل مع الذاكرة الدلالية أو يساهم بأي شيء فيها؛ لذلك فقد قرَّرا اختبار هذه الفكرة والتأكد مما إذا كان بإمكان الذاكرة الضمنية التعامل مع التهيئة «المفاهيمية» أم لا. وللقيام بذلك فقد استخدما أشخاصًا مصابين بفقدان الذاكرة؛ لأن هناك أدلة على أن فقدان الذاكرة يدمر الذاكرة الصريحة وليس الذاكرة الضمنية (شاكتر، ١٩٩٦).
قاما بعرض جُمَل لا تحمل أي معنًى على مرضى مصابين بفقدان الذاكرة، ومن بين تلك الجمل الجملة التالية: «كانت النغمات رديئة لأن حاشية القماش قد تفككت.» ثم عَرَضَا عليهم كلمة دليلية، وقد كانت في هذه الحالة كلمة «مزمار القربة الاسكتلندي». وقد وجدا أنه عندما عُرضت الجُمَل بمفردها، استطاع المرضى المصابون بفقدان الذاكرة في الكثير من الأحيان تذكُّر الكلمة الدليلية حتى بعد مرور عدة أيام، وذلك على الرغم من نفْيِهم المتكرِّر لرؤية الجملة أو الكلمة الدليلية من قبلُ.
كرر فيديا وآخرون (١٩٩٥) هذه التجارب لتوضيح التحولات الأربعة جميعها التي طرأت على المرضى المصابين بفقدان الذاكرة: الإشارات المفاهيمية والإدراكية الضمنية والإشارات المفاهيمية والإدراكية الصريحة. وقد كان أداء مرضى فقدان الذاكرة سيِّئًا في اختبارَيِ الإشارات الصريحة كليهما، وجيدًا في اختبارَيِ الإشارات الضمنية كليهما.
قد يبدو هذا الأمر أبعدَ ما يكون عن موضوع الإعلان، ولكنه في الواقع قد يكون أهم التجارب النفسية المذكورة في هذا الكتاب بأكمله. وكما قلنا سابقًا، تحتاج التهيئة المفاهيمية إلى الوصول إلى الذاكرة الدلالية من أجْل السماح لنا بفهم «معنى» الإشارة. وتوضِّح الآثار المترتبة على هذه التجارب أن الذاكرة الضمنية لا تعمل داخل النطاق «الإدراكي» لنظام التمثيل الإدراكي الذي وضعه شاكتر فحسب، بل أيضًا داخل المجال المفاهيمي للذاكرة الدلالية.
ويؤثر ذلك تأثيرًا ملحوظًا على الطريقة التي نستخدمها في معالجة الإعلان. وكما ترى، فإن مواقفنا تجاه العلامات التجارية تعتمد على المفاهيم التي تعطيها معنًى، فلن تشتري سيارة فيراري للتمتُّع بإثارة القيادة إذا لم يكن لديك «شعور» بمعنى الإثارة. ولكننا الآن قد حددنا الطريقة التي يمكن من خلالها للتعلُّم الضمني الغافل اللاواعي، الذي يرتبط بالذاكرة الضمنية، أن يُخزِّن الأشياء المُدرَكة حسيًّا، وكذلك «المعنى» الموجود في أذهاننا. وقد اكتشفنا بالفعل آلية عقلية قد يكون الإعلان من خلالها قادرًا على التأثير علينا دون أن يكون لدينا أدنى فكرة عن قيامه بذلك.