المعالجة العاطفية
تُمارِس جميعُ الأساليب التي تستثير العاطفة تأثيرًا تلقائيًّا فينا على مستوى اللاشعور.
يتفق جميع مَن في صناعة الإعلان على أن العاطفة تحتلُّ موقعًا مهمًّا في الإعلان، وقد ثار الكثير من الجدل حول «سبب» تلك الأهمية.
ينظر المبدِعون إلى العاطفة باعتبارها مكونًا مهمًّا من مكونات الإبداع، بل وتُعَدُّ الاستجابة العاطفية لأحد الإعلانات جزءًا حيويًّا على ما يبدو في عملية التواصل الناجح (كوفر، ١٩٩٥). وبالنظر إلى أسلوبَيْ كوفر المختلفين في جذْب الانتباه — بالإجبار تارةً وبالتأثير العاطفي تارةً أخرى — يصبح من الجليِّ أن كِلَا الأسلوبين يعتمدان في الأصل على العاطفة في نجاحهما. ولكن، كيف نتعامل بالضبط مع المضمون العاطفي في الإعلان؟
قبل خمسة وثلاثين عامًا، كان علماء النفس يظنون أننا نتعامل مع مشاعرنا من خلال أفكارنا، وأن الشعور والعاطفة بالتالي يعقبان المعرفة (شاكتر وسينجر، ١٩٦٢). ومن عدة نواحٍ، يبدو هذا الأمر منطقيًّا إلى حدٍّ كبير، فالأفكار هي التي تجعل الإنسان واعيًا بما يشعر به في أي وقت؛ لذلك فمِن المفترض أن الأفكار هي التي تنشأ أولًا.
ولكن يتضح أن ما يحدث فعليًّا يختلف عن هذا تمامًا، ففي عام ١٩٨٠ أتى أول تحدٍّ للاعتقاد القائل بأن العاطفة تلي المعرفة من قِبَل زايونتس (١٩٨٠). ذهب زايونتس في بحثه الرائد إلى وجود عددٍ من الأسباب التي تدحض الاعتقاد القائل بأن العاطفة تعقب المعرفة.
في بادئ الأمر، أوضح زايونتس أن الاستجابات الوجدانية (العاطفية) أولية بطبيعتها، بمعنى أنها أول ما ينشأ في أي عملية تفكير؛ فقد أشار إلى أنه «عندما نحاول تذكُّر أو فهم أو استرجاع حدث أو شخص أو مقطوعة موسيقية أو قصة أو اسم أو أي شيء، تكون السمة العاطفية للمدخل الأصلي أول عنصر يَظهَر» (زايونتس، ١٩٨٠). مثلًا، أتذكَّر أنه منذ نحو ستين عامًا تعرضتُ للتوبيخ لأنني كنتُ فظًّا مع البستاني الذي كان يعمل في حديقة والدي. لا أعلم بالضبط ما تفوَّهتُ به، ولكني ما زلتُ أذكر إلى الآن الشعور بالخِزْي والذُّلِّ الذي صاحب الموقف.
أشار زايونتس أيضًا إلى أن الاستجابات العاطفية لا يمكن تجنُّبها «فقد يتمكن البعض من التحكم في التعبير عن مشاعره، ولكن لا يمكنه تجنُّب الإحساس بها على الإطلاق» (زايونتس، ١٩٨٠). لو فكرنا في الأمر لِلَحظة لتأكدنا من صحة ذلك. فعلى سبيل المثال، إنْ ذهبتَ إلى جنازة أحد أصدقائك وسمعتَ خطبةً عن المتوفَّى، فلا يمكنك التحكُّم بما ينتابك من حزن حتى وإن استطعتَ منْع نفسك فعليًّا من البكاء. وبالمثل، عندما تستمع إلى نكتةٍ ظريفةٍ ولكن غير مهذَّبة نوعًا ما، فربما تكون قادرًا على منع نفسك من الضحك، بل ربما تكون قادرًا على إخبار نفسك بعد ذلك بأن النكتة لم تكن مُضحِكة بالفعل، ولكنك لا تستطيع أن تمنع نفسك من الشعور بأنها مضحكة في المرة الأولى التي سمعتَها فيها.
ثالثًا: أوضح زايونتس أن الاستجابات العاطفية يصعب التعبير عنها لفظيًّا، فهي تعتمد عمومًا على وسائل التعبير غير اللفظية (زايونتس، ١٩٨٠). فعلى سبيل المثال، عندما تُقابِل أحدًا فإنك تعلم على الفور إن كنتَ تحب هذا الشخص أم لا، ولكن يكاد يكون من المستحيل أن تفهم «من الناحية الإدراكية» سبب حبك له. وإن سألك أحدٌ لِمَ تحب هذا الشخص؟ فإن الإجابة تتلخَّص في صفاتٍ مثل أنه شخصٌ «لطيف» أو «مَرِح» أو «مُثِير للاهتمام». ولكن بناءً على ما جاء على لسان زايونتس، «فإن تلك الصفات توضح ردود أفعالنا إزاء هذا الشخص ولا تَصِف الشخص نفسه، ولا تُعَدُّ تلك الصفات وسائل لفظية دقيقة للتعبير عن «سبب» إعجابنا ببعض الأشخاص والأشياء وما يعجبنا فيها» (زايونتس، ١٩٨٠).
أبدى زايونتس أيضًا بعض الملاحظات بخصوص عملية التواصل، فأشار على سبيل المثال إلى أن «الفشل الذريع في تحقيق تغييرٍ ملموس في السلوك من خلال الأنماط المختلفة للتواصل أو الإقناع يُعَدُّ مؤشِّرًا إلى أن العاطفة مستقلَّة إلى حدٍّ كبير ولا تتأثر بالمعرفة في أغلب الظروف» (زايونتس، ١٩٨٠).
واختتم زايونتس ملاحظاته بالإشارة إلى أن المعرفة والعاطفة تعتمدان على أجهزةٍ نفسية وبيولوجية منفصلة. صقل جوزيف لودو (١٩٨٨) تلك الفكرة لاحقًا، فافترض أن هناك دائرتين عاطفيتين تعملان في حالةٍ من التوتر؛ أولاهما: الاستجابة السريعة التأثير التي تمر بجوار قشرة الدماغ المسئولة عن جزء «المعرفة» وتسمح لنا بالاستجابة السريعة في المواقف التي تنطوي على أي تهديد. وثانيتهما: دائرة الاستجابة بطيئة التأثير التي تمر من خلال قشرة الدماغ وتنتج تقييمًا مفصَّلًا عن المعنى العاطفي للموقف وتسمح لنا أيضًا بالتصرف في تلك المواقف على النحو الأنسب.
فسَّر لودو النظامين من خلال شرح ردِّ فعل أحد الأشخاص إنْ شَاهَدَ عصًا وحسِبَها ثعبانًا على ممر في الأدغال، فالصدمة الأولى تولِّد استجابة سريعة التأثير متمثِّلة في القفز إلى الوراء والتصبب عرقًا. ثم تتعرف الاستجابة المعرفية بطيئة التأثير على الشيء باعتباره عصًا ويَهدَأ روع هذا الشخص. يُلاحظ أن كلتا الاستجابتين يمكن أن توصفا بأنهما نوع من «الإثارة»، ولكن الاستجابة الأولى غريزية بطبيعتها والثانية يدفعها الإدراك أو المعرفة. يستشهد القائمون على صناعة الإعلان بأفكار لودو على نطاق واسع، ولكن جديرٌ بالذكر أنه قد تم تطوير هذا النموذج خِصِّيصَى لتوضيح الاستجابات المرتبطة بالتوتر. تنشأ هذه الاستجابات للعاطفة الشديدة الوطأة من آنٍ لآخَر في بعض أنواع الإعلانات (مثل إعلانات الخدمة العامة)، لكن قلَّما يكون ذلك المضمون العاطفي الشديد حاضرًا في الإعلانات الخاصة بعلامات تجارية.
العاطفة والشعور
ينظر معظم الناس إلى كلمتي «العاطفة» و«الشعور» باعتبارهما لفظتين مترادفتين، وعندما يتعرض الناس لضغط غالبًا ما يقولون إن مشاعرهم هي السبب في استجاباتهم العاطفية. أما في علم النفس، فالعكس صحيح، فالاستجابات العاطفية هي التي تقود مشاعرنا.
يرجع الفضل لأنطونيو داماسيو في فهم الفرق بين العواطف والمشاعر لما بذله من جهودٍ جبَّارةٍ في هذا الصدد. انتقل داماسيو البرتغالي المولد إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بالعمل في مركز أبحاث أفيجا في بوسطن، وأمْضَى بعدَها ٢٩ عامًا من العمل بجامعة آيوا. وهناك توصل داماسيو إلى فهمٍ موضوعيٍّ للكيفية التي يتم بها التعامل مع العواطف والدور الذي تؤدِّيه في حياتنا.
إذن لماذا نمتلك عاطفةً؟ بدايةً، تلعب العاطفة دورًا هامًّا في بقائنا، فبدونها لن نمتلك آلية رصد أي تهديدٍ، ولن نمتلك أي شيء يولِّد لدينا رغبة في الهرب من هذا التهديد. بدون العاطفة لا يمكنك اكتشاف إحساسك بالجوع وضرورة البحث عن الغذاء، ولن تصبح قادرًا على التعرف على أحد أفراد الجنس الآخر والتزاوج. بكل بساطة، لا يمكننا أن نبقى بدون عواطف.
يرى داماسيو أن أهمية العاطفة لا تقف عند تنظيم أجسادنا، بل تمتد لتصل إلى سلامة المجتمع ورفاهيته؛ فنحن نمتلك قدرة خاصة تمكننا من رصد عواطف الآخرين، بل ويصل الأمر أحيانًا إلى أن نخبر شخصًا ما بمشاعره من تعبير وجهه قبل أن يعلم بها هذا الشخص نفسه. تلعب هذه القدرة الرصدية دورًا محوريًّا في تنظيم سلوكنا. فإن لمستَ ألَمًا — على سبيل المثال — في وجْه أحدهم، فإنك تعرف في الحال أنه يُعانِي من إصابة ما، وإن لمستَ خوفًا، فإنك أيضًا تعرف أنه يشعر بتهديد أو بخطر ما، وإن لمستَ غضبًا من جانب شخص ما، فقد تستنتج أنه ينبغي عليك التوقف عما تفعله، وإن لمستَ سعادةً أو نشوةً لديه، فربما تدرك أنه ينبغي عليك الاستمرار فيما تفعل.
تُبرز ردود الأفعال العاطفية دومًا نوعًا من التغير البيولوجي في حالتنا السلوكية، وحتى إن لم ترصد عاطفةً في وجه شخصٍ ما، يمكنك بكل بساطة ملاحظة ردود أفعاله البيولوجية باستخدام وسائل مختبرية. ولكننا لا نَقدِر على رؤية وجوهنا؛ ومِن ثَمَّ لا يمكننا رصد حالتنا العاطفية على الإطلاق. وهنا يأتي دور المشاعر التي عرَّفها داماسيو بأنها الإدراك الحسي العقلي للتغير السلوكي الناتج عن «العاطفة».
هذا يعود بنا مرةً أخرى إلى السؤال نفسه: «أيهما يحدث أولًا؟» من جديد، يجيب داماسيو إجابة قاطعة إذ يقول إنه على الرغم من أننا قد نعتقد أن الشعور يسبق العاطفة، فإن العكس صحيح؛ فالمشاعر استجابة للعاطفة، ودائمًا تسبق العاطفة المشاعر.
كيف تتولد العاطفة؟
يمكن أن تتولد العاطفة نتيجةً لعددٍ من المُثِيرات المختلفة، فقد تكون استجابة لمُثِير فيسيولوجي مثل العقاقير أو الأقراص الدوائية أو لمُثير ذهني مثل نكتة أو قصة. بل إنه لا يُشترط لتولُّد العاطفة أن يكون هناك سبب خارجي، فمن السهل أن تُستثار عواطفنا بمجرد تذكر شيءٍ ما أو من خلال توقع حدوث أمرٍ ما؛ لذا قد تؤدي الأحلام العادية أو أحلام اليقظة، الخيالية تمامًا والمختَلَقة داخل عقل الإنسان، إلى تولُّد استجابة عاطفية لديه.
يستخدم داماسيو مصطلح «المثير المؤثِّر عاطفيًّا» لوصف أي شيءٍ خارجي قد يؤدي إلى استجابة عاطفية. وأوضح أن هناك نوعين من المثيرات العاطفية: النوع الأول يشمل مثيرات مثل الأصوات العالية، والهزَّة التي تُحدِثها الزلازل، ونئيم الفهد، وجميعها مُثِيرات تولِّد خوفًا لديك، حتى وإنْ لم تكن قد سمعتَها مِن قبلُ. يولد الإنسان بحساسية لهذا النوع الأول من المثيرات العاطفية لأن رد الفعل العاطفي تشكَّل بداخلنا أثناء عملية التطور. وأما النوع الثاني فيشمل مثيرات مثل الموسيقى والرسم، اعتدْنا على أن يَصدر عنَّا إزاءها استجابة عاطفية من خلال رصدنا ردود أفعال الآخرين. في بعض الأحيان تكون المثيرات العاطفية مزيجًا من ردود الأفعال الفطرية والمكتسبة. يطرح داماسيو مثالًا في هذا الصدد وهو صغار القردة التي ترتعد خوفًا إنْ رأتْ ثعبانًا، ولكنها ترتعد خوفًا أيضًا إن شاهدتْ والدتها ترى ثعبانًا. بل ومن المُثير للانتباه أيضًا أنها إنْ لم تَرَ — وهي في مرحلة الرضاعة — والدتها ترتعد خوفًا عند رؤيتها ثعبانًا، فإن هذه الصغار لن تكتسب رد الفعل هذا أبدًا.
من الضروري أن يُؤخَذ بعين الاعتبار أن المُثِيرات العاطفية ليست شرطًا لتولُّد عاطفة ما، فمن الممكن أن تتولد على الفور، ومن الممكن أيضًا استدعاؤها من الذاكرة العرضية.
يمكن استدعاء حادثةٍ وقعتْ لك منذ سنوات وتسبَّبت في إخافتك من الذاكرة فينتابك شعور بالخوف من جديد. وسواء كانت تلك الحادثة وقعتْ لك للمرة الأولى أو استدعيتَها من الذاكرة، يظل لها التأثير نفسه. (داماسيو، ٢٠٠٣)
ومن ثَمَّ فإن التعرُّض لمثيرات مؤثرة عاطفيًّا قد يكون له تأثير مؤجَّل، وهذا أمر له أهميته فيما يتعلق بالإعلان.
كيف تتحول العواطف إلى مشاعر؟ يرى داماسيو أن استجابتنا لمُثير مؤثِّر عاطفيًّا تمر بعدة مراحل معقدة: المرحلة الأولى هي التقييم، وهذا على ما يبدو نوعٌ من الاستجابة المعرفية العقلانية يحدث على مستوى الشعور، وهو على الأرجح أحد الأسباب التي تفسِّر مدى صعوبة الاقتناع بفكرة أن العاطفة تسبق المعرفة. ولكن الحقيقة هي أنه على الرغم من إمكانية حدوث عملية تقييم المثير المؤثر عاطفيًّا على مستوى الشعور، فإنه في كثير من الأحيان تحدث هذه المرحلة الأولى تلقائيًّا على مستوى اللاوعي.
بطريقة أو بأخرى، فُسرت فكرة التقييم تفسيرًا حرفيًّا للغاية للدلالة على التقييم الواعي، وكأن المهمة الرائعة لتقييم موقف ما والاستجابة تلقائيًّا له تُعَدُّ إنجازًا بيولوجيًّا ثانويًّا. (داماسيو، ٢٠٠٣)
السبب واضح، وهو أنه إنِ انتظرنا إلى أن يصبح عقلنا قادرًا على إجراء تقييم واعٍ لمثير مؤثر عاطفيًّا يهددنا، فلن يكون هناك وقتٌ كافٍ للهرب أو الدفاع عن أنفسنا أو غير ذلك. تعليقًا على فكرة التقييم، كتب داماسيو يقول: «لا يشترط لظهور عاطفة ما أن يتم تحليل الشيء المولِّد لتلك العاطفة على مستوى الوعي، ناهيك عن تقييم الموقف الذي يَظهَر فيه هذا الشيء» (داماسيو، ٢٠٠٣).
إن أفضل طريقة لفهم مسألة التقييم هذه تكمن في مجموعة من العمليات الترشيحية يتم خلالها المقارنة بين المثير المؤثر عاطفيًّا وبين ردود الأفعال الفطرية والمكتسبة المخزنة في الذاكرة الدلالية. تكمن أهمية تلك العملية في أنها تؤكد أن العاطفة قد تتولد لديك في أي وقت نتيجة تعرضك لأحد المُثِيرات العاطفية مع «عدم» وعْيِك بأنك تعيش هذه العاطفة أو ذلك الشعور.
أما بالنسبة للمرحلة الثانية من الاستجابة، فيُطلِق عليها داماسيو اسم «الإثارة»، وفي هذه المرحلة تتفاعل مختلف أجزاء المخ لتستجيب وتُصدِر عاطفة أو انفعالًا. مرةً أخرى، هذه عملية تلقائية تمامًا، وهي تُماثِل تولُّد المفاهيم من الذاكرة الدلالية كما أوضحنا في القسم السابق. والعاطفة — مثل الذاكرة الدلالية — لا توجد في جزءٍ واحدٍ فقط من المخ، فالمواضع المختلفة من المخ تثير عواطف مختلفة، وتحدث الكثير من العمليات الترشيحية والتحويلية بين أجزاء المخ المختلفة. وبالطبع إنْ قررتْ تلك العمليات الترشيحية التلقائية أن المثير المؤثر عاطفيًّا ليس مهمًّا أو مهددًا أو جذَّابًا، فقد تبقَى غير مُدرِك بأن عاطفة ما تنتابك مثل ما يحدث عندما تبقى مصابيح فرامل السيارة مضيئة دون أن تفعل شيئًا.
أما المرحلة الثالثة فيأتي دورها عندما تتولد العاطفة ذاتها في نهاية المطاف (أي عندما يصبح لها تواجد فعلي بفعل الوطاء أو جذع الدماغ)، وحسبما يقول داماسيو، عندما يحدث هذا نبدأ في الإحساس بالمشاعر.
لماذا نمتلك مشاعر؟
يمكن للاستجابات العاطفية والسلوك أن يُنقِذا حياتك ويُساعِداك على اقتناص الفُرَص المتاحة أمامك، ولكنهما لا يُعطِيانك الفرصة لتأمُّل حقيقة أن أشياء معينة تتسبب في الشعور بالحزن أو الفرح وغيرهما، ولا يعطيانك الفرصة أيضًا في استخدام التأمل في تشكيل «انشغال» عقلي بأحد الأشياء أو المواقف. ولا يتم هذا الأمر إلَّا من خلال تحويل عاطفتك إلى شعور.
تُعَدُّ المشاعر — مثل العواطف — جزءًا أساسيًّا من بشريتنا. وفقط من خلال تحول عواطفنا إلى مشاعر، نستطيع أن نشكل عالمًا نَعِي فيه حقيقة أن هناك أشياء تولِّد لدينا ولدى الآخرين حالات من الفرح والحزن وما إلى ذلك. وهذه بدورها خطوة مهمة تساعدنا على الاهتمام بالآخرين وعلى وضع أساليب وتقاليد تجنِّبنا وتجنِّب الآخرين المعاناة.
لذا فالمشاعر تُتِيح للشخص الاهتمام الذي يكفي لإثارة حالة من الفرح لدى الآخرين ومنع الألم عنهم. وهذه المشاعر تولِّد لدينا أيضًا نوعًا من الشفقة والتعاطف عند حزن الآخرين، والمشاركة الوجدانية عند فرحهم. أوضح داماسيو أن مشاعر مثل الاهتمام والتعاطف لا تكون مكتسبة بالضرورة لأنها تَظهَر تلقائيًّا في الكثير من الأحيان؛ بمعنى أنه خلال عملية تطورنا، ظهرت لدينا بعض أنماط ردود الأفعال مثل التعاطف عندما ترى شخصًا ما يعاني، والاستياء أخلاقيًّا عند ممارسة أحد الغش. وبالطبع إنْ لم نكن نعرف مشاعر مثل الفرح والحزن والاستياء والخوف، فإن وجودنا سيكون «حياديًّا» جدًّا.
غالبًا ما نكون على وعي بمشاعرنا، وعندما يحدث هذا الوعي تكون تلك المشاعر قادرة على ممارسة أكبر تأثير علينا، ولكن هذا الوعي أيضًا له دور في صنع التوازن، فقد أظهر بحثٌ علمي أجراه روبرت بورنستين (١٩٩٢) حقيقة أنه في حال وعينا «المفرط» بالتأثير على مشاعرنا، فإن هذا التأثير يتضاءل. ويكمن السبب في ذلك أننا حينما نعلم أن مشاعرنا يتم التأثير عليها، فإننا يمكن أن نعارض هذا التأثير عقلانيًّا ونُضعِف من رد الفعل الناتج عنه (كيلستروم، ١٩٨٧). على سبيل المثال، إن علمتَ أن أحد الأشخاص يحاول أن يُنافِقك، فإنك ستكون مُستعِدًّا للدفاع عن نفسك إن كانت لديك الرغبة. ولهذا الأمر علاقة وطيدة بصناعة الإعلان كما سيتضح لنا لاحقًا.
لذا فنحن نكون أكثر عرضة للتأثر فقط عندما نكون مدركين على نحو مبهم غير واضح أن عواطفنا يتم التأثير عليها، ويزداد تعرضنا للتأثر عندما لا يكون لدينا أي فكرة أن تأثيرًا ما يُمارَس على عواطفنا. يشير داماسيو إلى أن معظم الناس يفترضون أنه في حال وجود مشاعر فلا بد أننا سنكون على وعي بها، ولكن ليست تلك هي الحال دومًا.
ألا تدل الحالة الشعورية حتمًا على أن صاحبها واعٍ تمامًا بالعاطفة والشعور اللذين يَظهَران لديه؟ أرى أنها لا تدل على ذلك، فلا يوجد دليل على أننا ندرك كافة مشاعرنا، وهناك الكثير من الأمثلة التي تُعزِّز رأيي. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما ندرك على نحو مفاجئ أننا نشعر بالقلق أو عدم الارتياح أو السعادة أو هدوء الأعصاب، ومن الواضح أن تلك الحالة الشعورية لم تكن بدأت في لحظة الدراية بها بل قبلها. ولم تكن الحالة الشعورية والعاطفة اللتان أدَّتَا إلى تلك الحالة الشعورية الجديدة قد تولَّدتا على مستوى «الوعي». (داماسيو، ٢٠٠٠)
من جديد، هذا الأمر له أهمية بالغة فيما يتعلق بصناعة الإعلان، ويمكن أن أوضحها بالعودة إلى المثال الخاص بموسيقى الخطوط الجوية البريطانية. لقد أشرتُ من قبل إلى أن الموسيقى تُعَدُّ مثيرًا عاطفيًّا مؤثرًا ينتج عنه مشاعر مختلفة كالشعور بالارتياح والسرور وهدوء الأعصاب. كما أوضحت أن مشاهدي الإعلانات التليفزيونية لا يدرون عمومًا بالموسيقى التي تعزف في خلفية الإعلان، وفي أفضل الأحوال يتعاملون معها بمستويات منخفضة جدًّا من الانتباه. باستخدام نموذج داماسيو للمعالجة العاطفية، من المؤكد أن عواطف هؤلاء المشاهدين تمت إثارتها بالموسيقى، ومن المرجح جدًّا أن ذلك أدى إلى توليد مشاعر لديهم. ولكن نظرًا لأن انتباههم منصبٌّ على شيءٍ آخَر، فمن غير الوارد أن تكون تلك المشاعر قد تم المرور بها على مستوًى آخَر بخلاف المستوى نصف الواعي.
إذن ما الذي يحدث للمشاعر «نصف الواعية»؟ بناءً على النسبة الهائلة من الناس الذين أدركوا أن الموسيقى التي تم عزفها هي موسيقى الخطوط الجوية البريطانية، يتضح أن هذه الموسيقى باقية في ذاكرتهم. ومن المرجح أن المشاعر التي أثارتْها الموسيقى ظلت مخزنة على مستوًى ضمني ما داخل الذاكرة الدلالية أيضًا. ولكن، هل ترتبط تلك المشاعر بشكل أو بآخر بالخطوط الجوية البريطانية؟
عندما تشاهد الإعلان وتسمع الموسيقى للمرة الأولى، فمن المحتمل ألَّا يكون لذلك تأثير كبير عليك، ولكن يتراوح متوسط عدد مرات مشاهدة إعلان تليفزيوني بين ثلاث مرات إلى ثلاثين مرة؛ ومن ثَمَّ يصبح السؤال الأكثر أهمية هو: ما الذي يحدث بعد مشاهدة إعلان الخطوط الجوية البريطانية خمس عشرة مرة مثلًا؟ الإجابة أنه يكون قد تم «تكييفك» على مشاهدة الإعلان.
الإشراط العاطفي
يُعَدُّ الإشراط (التكييف) من الظواهر المعروفة، وأغلبنا سمع عن تجربة بافلوف الشهيرة، حيث كان يدق الجرس قبل أن يرش مسحوق اللحم على أفواه الكلاب. ومسحوق اللحم كان يُسِيل اللعاب، وقد اكتشف أنه بعد تكرار هذه التجربة عدة مرات كان لعاب الكلاب يسيل لدى سماعها رنين الجرس حتى وإنْ لم يتم رش مسحوق اللحم على أفواهها (سولومون، ٢٠٠٦).
الإشراط في الأساس هو تحويل استجابة من مثير شرطي إلى مثير غير شرطي. ومسحوق اللحم من المثيرات غير الشرطية لأنه بطبيعة الحال قادر على جعل الكلب يستجيب بسيلان لعابه، أما بالنسبة للجرس فإنه من المثيرات الشرطية لأنه ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمسحوق اللحم وسيلان اللعاب.
يُعتقد أن الآلية التي يستند إليها الإشراط الكلاسيكي — أو التعلم الترابطي كما يُطلق عليه أحيانًا — تتضمن خلايا عصبية مرآتية (ريتسولاتي وكريجيرو، ٢٠٠٤). عندما «يفعل» الحيوان شيئًا ما، تنطلق خلايا عصبية متنوعة في دماغه لتمكينه من أداء هذا الشيء. وقد اتضح في الرئيسيات أنه إن راقب أحد الرئيسيات كائنًا آخر من الرتبة نفسها وهو يفعل شيئًا ما، فإن الخلايا العصبية نفسها تنطلق في دماغ الكائن «المراقِب» كما يحدث في دماغ الكائن «المؤدي» للفعل. بمعنًى آخَر، «تعكس» الخلايا العصبية لدى الكائن المراقِب الخلايا العصبية لدى الكائن المؤدي للفعل.
ويُعتقَد بأن العملية نفسها تحدث مع البشر؛ فعلى سبيل المثال، عندما نرى شخصًا يبكي، تقوم الخلايا العصبية المرآتية لدينا بمحاكاة هذا الفعل ونشعر نحن أنفسنا بالحزن، وعندما نشاهد الأب ونيكول يقومان بتصرفات مثيرة في إعلان سيارة رينو كليو، فإن الخلايا العصبية المرآتية تنطلق في أدمغتنا لتسمح لنا بتخيُّل «التجربة» التي يمُرَّان بها.
بينما تتطور الكائنات وتتفاعل، تكتسب خبرات واقعية وعاطفية من خلال تعاملها مع الأشياء والمواقف المختلفة وتكون لديها فرصةٌ لربط العديد من الأشياء والمواقف المحايدة عاطفيًّا مع الأشياء والمواقف التي يُعرَف عنها أنها تُثِير العواطف. ثمة شكل من أشكال التعلُّم يُعرف ﺑ «الإشراط» وهو أحد الطرق التي يتم بها تحقيق هذا الارتباط؛ ومن ثَمَّ فإن وجه شخص رائع لا تعرفه يشبه وجه شخص ما يرتبط بحدث مخيف قد يسبب لك شعورًا بعدم الارتياح أو التوتر، وقد لا تدري ما السبب أبدًا. (داماسيو، ٢٠٠٠)
هذا بالضبط ما يحدث في حالة موسيقى إعلان الخطوط الجوية البريطانية، حيث إن العواطف التي تُثار على مستوى اللاوعي عن طريق الاستماع إلى موسيقى الإعلان تصير مشاعر، وهذه المشاعر يتم ربطها على المستوى نصف الواعي بالخطوط الجوية البريطانية؛ لذا فنحن في نهاية المطاف، نكون قد تكيَّفنا على الربط بين إعلان الخطوط الجوية البريطانية ومشاعر الارتياح وهدوء الأعصاب والسعادة، ولكن كما قال داماسيو، قد لا ندري أبدًا سبب ذلك.
دراسة حالة: أندريكس
من ضمن الأمثلة الجيدة على الإشراط العاطفي حملة أندريكس بوبي في المملكة المتحدة. تُعد أوراق التواليت أندريكس من ضمن أكثر العلامات التجارية نجاحًا في المملكة المتحدة، وقد اعتادت في مرحلة ما أن تتفوق في مبيعاتها على أقرب منافسيها، كلينيكس، بنتيجة ٣ مقابل ١ على الرغم من أنها أغلى ثمنًا. وحتى في الوقت الحالي، تهيمن هذه العلامة التجارية الناجحة هيمنة كاملة على كافة متاجر المملكة المتحدة.
أوضحت بعض دراسات الحالة بمعهد ممارسي الإعلان أن سِرَّ نجاح أندريكس يكمن في حملتها الإعلانية طويلة الأمد التي تزعم دومًا أن منتجاتها «ناعمة، وقوية، وتدوم لفترة طويلة». بالمناسبة، لاحظ أن الشركة لم تدَّعِ أبدًا أن منتجاتها «أنعم، وأقوى، وتدوم لفترة أطول»؛ لأن تلك المزايا لم تكن موجودة. فالمناديل تحتوي على عدد الورقات نفسه الموجود في كلينيكس، وقد أثبتت الاختبارات أن مناديل كلينيكس كانت أنعم من أندريكس. إذن كيف كان لحملة أندريكس الإعلانية هذا التأثير الهائل على نجاح العلامة التجارية؟
كان المكوِّن السِّرِّي الذي ميَّز إعلان أندريكس على مدى أكثر من عشرين عامًا هو جرو لبرادور ذهبي اللون، فكان يتميز بالقدْرة على فعل الكثير من الأشياء اللطيفة مثل النوم في أوراق التواليت أو سرقتها من طفل صغير يجلس في دورة المياه. ولكن لا أظن أن هذه الأفعال اللطيفة هي ما جعلت الحملة الإعلانية ناجحة على هذا النحو؛ فباستخدام ما تعلَّمناه عن العاطفة، أعتقد أنني قادر على إثبات أن أكثر عنصر مؤثر في هذه الحملة هو الإشراط العاطفي.
إليك وجهة نظري؛ أي شخص وضع يده على جرو لبرادور (وهو النوع الأكثر شعبية في المملكة المتحدة) يعلم أن فروه شديد النعومة. علاوةً على ذلك، تُشتَرَى الجِرَاء الصغيرة عادة كهدايا للأطفال ويُعتقد أن هذه الجِرَاء تعبير عن قِيَم الأسرة السعيدة؛ ومن ثَمَّ فإنني أعتقد أن الربط بين الجرو وأوراق التواليت أندريكس قد أدَّى إلى تكيُّفنا على فكرة أن أوراق التواليت أندريكس ليست مجرد مناديل ناعمة بل منتج لشركة تحرص على سعادة الأسرة.
لا يوجد شخص في المملكة المتحدة لا يعرف جرو أندريكس، لا سيما وأن صورته تَظهَر على وجه العبوة التي تسيطر على كافة متاجر المملكة المتحدة كما أشرتُ سابقًا. ولكن المثير للاهتمام أنك إذا سألتَ أحدًا إذا ما كان يشتري أوراق التواليت أندريكس بسبب هذا الجرو، فإنه يُنكِر ذلك تمامًا. لا عجب من هذا الجواب، فلا أحد يريد أن يَظهَر بمظهر الساذج إنْ هو قال إنه اشترى أوراق التواليت أندريكس لمجرد اشتمال الإعلان على جرو. ما يقوله الناس هو أنهم يشترون أوراق التواليت أندريكس؛ نظرًا لأنها أعلى جودة أو أفضل قيمة أو بسبب تفضيل الزوج أو الأطفال لها، أو لأي أسباب عقلانية أخرى.
بالطبع إن سُئِلتَ إذا ما كنتَ تشتري ورق تواليت ذا علامة تجارية معينة لأن الإعلان عنها يتضمن جروًا، فربما تفكر بطريقة أكثر عقلانية فيما تفعله. ربما ستدقِّق أكثر في الأسعار أو حتى تجرِّب علامة تجارية أخرى لترى إذا ما كانت أنْعَم أو أقوى. ولكن إلى أن تُتَحرى مسألة تأثير الجرو، يظل الإشراط مؤثرًا على نحو غامض وعلى مستوى اللاوعي. بمعنى أنك تشتري المنتج مفترِضًا بطريقة أو بأخرى أنه الأفضل من نوعه وأنت جاهل تمامًا أنه «خلف الكواليس» يتم التأثير على قرارك بواسطة القِيَم المرتبطة بالجرو؛ ومن ثَم إن لم يتم طرح السؤال على الإطلاق، فسوف تستمر في شراء المنتج، وكما يقول داماسيو، قد لا تعرف أبدًا سبب ذلك.