«القمر» يغرق في المحيط
كان الشياطين يجلسون في الشرفة الزجاجية الواسعة في المقرِّ السري، بينما كانت شمس الصباح الهادئة تُرسل حرارتها التي تُلهب الخلاء الواسع حول المقر، ففي هذا الوقت من السنة ترتفع درجة الحرارة إلى أقصى معدَّل لها، لقد كان الشهر هو شهر أغسطس … كان «مصباح» و«فهد» في مباراةٍ للشِّطْرنج، بينما التفَّ حولهما مجموعةٌ من الشياطين، في نفس الوقت كانت «إلهام» مشغولةً باللوحة التي أمامها وهي تضع الخطوط الأولى لمنظرٍ طبيعيٍّ، بينما شرد «أحمد» قليلًا وهو يضع صحيفة الصباح بجواره، حتى إن «زبيدة» نظرت له لحظة وهي تحاول أن تستشفَّ ما يفكِّر فيه، ثم أخيرًا قالت: هل قرأت شيئًا؟
نظر لها «أحمد» قليلًا، دون أن ينطق بكلمة، كان لا يزال شاردًا، فتقدمت «زبيدة»، وأخذت الصحيفة، ثم بدأت تقلبها، لكنها لم تتوقف عند شيءٍ معين، فعادت مرة أخرى، لنفس الصفحة التي كان يقرؤها «أحمد»، وأخذت تمرُّ بعينيها في بطءٍ على كل العناوين، ثم توقَّفت، وأخذت تقرأ بإمعانٍ، حتى إذا انتهت من قراءتها، رفعت عينيها إلى «أحمد» وهي تبتسم: لا أظن أنها مغامرةٌ جديدة!
كان «أحمد» ينظر إلى الخلاء الواسع، وكأنه قد استغرق فيه، فقام من مكانه متجهًا إلى حجرته، حتى إن الشياطين نظروا إليه لحظةً، ثم استغرقوا في مباراة الشِّطْرنج، واقتربت «زبيدة» من الشياطين، ثم قالت: هناك شيءٌ ما!
نظرت لها «إلهام» وهي مشغولةٌ بخطوطها: ماذا تقصدين! فبسطت «زبيدة» الصحيفة أمام الشياطين، وهي تقول: في هذه الصفحة يكمن السِّر!
وابتسم «خالد» وهو يقول: أي سر؟! وقبل أن تفتح «زبيدة» فمها لتردَّ، كان «أحمد» قد عاد، وبيده خريطة صغيرة … جلس «أحمد» وما كاد يبسط الخريطة حتى التفَّ الشياطين حولها … كانت الخريطة ﻟ «آسيا» و«أفريقيا»، أخرج «أحمد» من جيبه قلمًا صغيرًا، وأخذ يُحدِّد بعض النقاط فوق الخريطة، ورسم دائرة حول «الكويت» التي تقع في قارة «آسيا»، وكانت الحدود السياسية تحدِّد مكان «الكويت» دون تفاصيل … ثم رسم دائرةً أخرى حول «رأس الرجاء الصالح» في أقصى جنوب «أفريقيا»، ثم جرى بالقلم على الساحل الغربي للقارة السوداء، حتى توقَّف عند «أنجولا»، ورسم دائرة حول ميناء «لواندا»، وتوقَّف قليلًا يتأمَّل تلك الدوائر التي رسمها.
لم يكن أحد من الشياطين قد فهِم شيئًا مما يفعله، ومرَّت لحظة قبل أن يقول: يجب أن أنقُلَ أفكاري إلى رقم «صفر» أولًا، قبل أن أطرحها عليكم، إنني في حاجة إلى التأكد! وعندما كان يستعد للوقوف، جاء صوت رقم «صفر»: «إنَّنا في انتظار المعلومات من عملائنا، فما تُفكِّر فيه صحيح!» … نظر الشياطين إليه، وكان قد استغرق في أفكاره مبتسمًا، غير أن «ريما» أخذته من أفكاره عندما قالت: الآن ينبغي أن تطرح علينا أفكارك!
نظر لهم لحظةً، ثم مدَّ يده فأخذ الصحيفة، وبدأ يقرأ: «القمر» يغرق في المحيط! نظر الشياطين إلى بعضهم، وابتسم «فهد» قائلًا: «لقد علَّمنا «القمر» العوم»، ضحك الشياطين، وبدأ «أحمد» يُكمل القراءة: غرقت ناقلة البترول العملاقة «ذي مون» أو «القمر»، وهي تحمل شحنة من البترول الخام تصل إلى ٢٠٠ ألف طن. وكانت تنقُلها من ميناء «الأحمدي» بالكويت إلى ميناء «لواندا» ﺑ «أنجولا» … وهو يقع على المحيط الأطلنطي!
أسرع «خالد» بالسؤال: وأين غرقت؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: أمام «رأس الرجاء الصالح».
فقال «قيس»: لهذا كنت تحدِّد الأماكن على الخريطة؟
فهزَّ «أحمد» رأسه بالإيجاب … ثم ساد الصمت بين الشياطين، وكان كلٌّ منهم يفكِّر فيما قرأه «أحمد» ومدى علاقته بما قاله رقم «صفر»، غير أن الصمت لم يدُم طويلًا فقد جاءت إشارةٌ سريعة، تدعو إلى الاجتماع، وأسرع الشياطين إلى قاعة الاجتماعات، ودخلوا في هدوء، وأخذ كلٌّ منهم مكانه، ومرت الدقائق بطيئةً ثقيلةً. ثم جاء صوت أقدام رقم «صفر» وظلت تقترب، حتى توقفت، وظهر صوته يقول: أهلًا بكم، لعلَّكم عرفتم مغامرتكم الجديدة، لقد كانت عندنا أخبارُ غرَقِ «القمر» منذ أيامٍ، وكان عملاؤنا يجمعون المعلومات التي نحتاجها.
صمت رقم «صفر» قليلًا، فأضيئت الخريطة الكبيرة المثبَّتة في صدر القاعة، ثم ظهرت تفاصيل تجمع بين قارتي «آسيا» و«أفريقيا»، وظهرت نقط لامعة حول ثلاثة موانئ؛ «الأحمدي» في الكويت، ثم «رأس الرجاء الصالح» في أقصى الجنوب الأفريقي، وأخيرًا ميناء «لواندا» في «أنجولا» … خرج سهم أصفر، من ميناء «الأحمدي» وأخذ طريقه إلى الخليج العربي، ثم بحر العرب، فالمحيط الهندي، وهو يدور حول «أفريقيا»، ثم اتَّجه إلى ميناء «لواندا»، وتوقَّف …
جاء صوت رقم «صفر» يقول: هذا هو الطريق الذي كان يجب أن تقطعَه الناقلة «القمر»، حتى تنقُل شحنة البترول من مصدره في «الكويت» إلى «أنجولا»، تبعًا لعقد شركة «موما» الأنجولية، مع شركة «آرو» أو «السهم» التي يملكها «بول داسون الأمريكي».
صمت رقم «صفر» مرة أخرى، فظهر سهمٌ أحمر، خرج من ميناء «الأحمدي»، وأخذ نفس الاتجاه الذي قطعه السهم الأصفر، لكنه توقف عند «رأس الرجاء الصالح» حيث ظهر رسم صغير لباخرة تغرق، فقال رقم «صفر»: وهذا هو ما حدث، خرجت الناقلة «القمر» حتى «رأس الرجاء»، ثم غرقت هناك، في المحيط الأطلنطي، بينما كانت تأخذ طريقها إلى ميناء «لواندا» الأنجولي، وهذه مسألة يمكن أن تحدث بشكل طبيعي، وهذا ما حدث، لقد دفعت شركة «لايف» الأمريكية تأمين الشحنة لشركة «لواندا»، ودفعت في نفس الوقت تأمين الناقلة ﻟ «بول داسون» غير أن تحرياتنا أثبتت غير ذلك.
صمت رقم «صفر» قليلًا، وسمِع الشياطين صوت أوراقٍ تُقلب، ثم قال: لقد اشترى «بول داسون» ناقلة بترول بمبلغ ١٥ملیون دولار، منذ أربعة أشهر، وكان اسم الناقلة «ذي ستار» أو «النجم»، وتعاقدت معه شركة «موما» الأنجولية، لينقُل لها حمولةَ بترول تصل إلى ٢٠٠ ألف طن، قيمتها ٦٠ مليون دولار. يتم تسلُّم البترول من ميناء «الأحمدي» في الكويت، والتسليم في ميناء «لواندا»، وطبعًا، في مثل هذه الأعمال الكبيرة المعرضة للخطر، تقوم شركة النقل بالتأمين على ناقلتها، وعلى ما تحمله من بضائع …
سكت رقم «صفر» لحظات، وكان الشياطين قد ركزوا انتباههم تمامًا لكل كلمة يقولها، وأخيرًا قال: لقد غيَّر «بول داسون» اسم الناقلة عندما اشتراها من «ذي ستار» إلى «ذي مون»، ودائمًا يوجد سجل لكل ناقلة في الموانئ، حتى تعرف حركتها عندما تصل إلى الميناء، أو تخرج منه، وقد سجَّل ميناء «الأحمدي» دخول الناقلة إليه، وعليها طاقم مكوَّن من القبطان «ليرولاس» ومعه خمسة وعشرون بحارًا، ثم خروجها منه، بحمولتها، وعليها نفس الطاقم، وأخذت طريق رحلتها، ولكن المعلومات لدينا تقول إنها دخلت جزيرة «مدغشقر»، ولم تكن هذه في برنامج رحلتها، وأمضت هناك يومين، ثم أخذت خط سيرها، لتغرق أمام «رأس الرجاء الصالح» كما أُعلن، وقد تمكنوا من إنقاذ طاقمها، فلم يغرق منه أحد، والمعلومات لدينا تقول: إن بقعة الزيت التي ظهرت على سطح الماء تؤكد أن الناقلة كانت تحمل كميةً قليلةً جدًّا، لا يمكن أن تصل إلى ٢٠٠ ألف طن من زيت البترول، إذن لقد أفرغت الناقلة «القمر» حمولتها قبل أن تغرق، ثم واصلت رحلتها، لتغرق بعد ذلك بطريقة أو بأخرى أمام «رأس الرجاء الصالح»!
مرَّت لحظاتٌ صامتةٌ. كانت الخريطة لا تزال مضيئةً، تبين خط سير «القمر»، ومكان غرقها، الذي تحدد عند نقطة التقاء خط عرض ٢٠ درجة، وخط طول ٢٠ درجة أيضًا.
جاء صوت رقم «صفر»: لقد انتهى الموقفُ عند هذا الحد، واعتُبرت المسألة عادية، ودفعَت شركةُ التأمين ما دفعَت. إن المعلومات لدينا تفيد أن هذه حادثةُ نصبٍ ضخمة، وهذه هي مهمتكم.
صمت لحظة، ثم قال: «هل لديكم أسئلة؟» انتظر لحظةً، فلم يتحدث أحد من الشياطين، فقال: إذا وصلت معلوماتٌ جديدةٌ، فسوف أُخبركم بها، إلى اللقاء، وأتمنَّى لكم التوفيق.
أخذت أقدام رقم «صفر» تبتعد، حتى اختفت تمامًا، وكانت الخريطة لا تزال مضيئة، وكان الشياطين يتأمَّلونها لحظة، ثم وقف «مصباح» قائلًا: أظنُّ أننا يجب أن نتحرَّك!
نظر الشياطين له قليلًا، ثم بدءوا يتحرَّكون الواحد وراء الآخر، وغادروا القاعة، وكان النهار لا يزال في بدايته، فأخذوا طريقهم إلى قاعة الاجتماعات الصغرى، في نفس الوقت اتَّجه «أحمد» إلى قسم المعلومات في المقر السري فقد كان يحتاج إلى معلومات عن جزيرة «مدغشقر»، وكان قسم المعلومات يعتمد على ذاكراتٍ إلكترونيةٍ، فضغط «أحمد» الأزرار، فظهرت شاشة صغيرة، وبدأت المعلومات تتوالى عليها، وأخذ «أحمد» يقرأ، حتى إذا انتهى، ضغط الزِّر، فاختفت الشاشة، وخرج متجهًا إلى القاعة الصغرى …
كان الشياطين هناك يجلسون في شكل حلقةٍ، ودار حوارٌ سريع بينهم، تحددت في نهايته المجموعة التي سوف تنطلق، كانت المجموعة تضم: «أحمد»، «خالد»، «بو عمير»، «عثمان»، وتحرَّكت المجموعة، كل واحد إلى حجرته، على أن يتم اللقاء في السيارة بعد ربع ساعة.
أسرع «أحمد» إلى حجرته، وعندما كان يعد حاجياته وصلته رسالة من رقم «صفر»: المعلومات التي وصلت الآن تقول إن «القمر» أفرغت حمولتها في مكان مجهول، قريبًا من «مدغشقر»، وإنها قد تأخرت يومين، قبل وصول الجزيرة، مع أن الجو كان في صالحها!
قرأ «أحمد» الرسالة، فكَّر قليلًا، ثم أرسل رسالة إلى الشياطين: سوف أتأخر قليلًا، هناك رسالة هامة من رقم «صفر»! ثم اتجه بسرعة إلى مركز معلومات المقرِّ السرِّي، وضغط على زر، فظهرت خريطة لجزيرة «مدغشقر» وساحل «أفريقيا» الشرقي، وكانت تظهر عند مدخل مضيق «موزمبيق» مجموعات من الجزر، ثم ضغط زرًّا آخر، فظهرت الأسماء؛ جزر «الديرا» وجزر «کومورو»، فقال في نفسه: إذن، لقد أفرغت «القمر» حمولتَها في واحدة من هذه. إنها تصلح، فهي في طريق إبحارها من «الكويت» إلى «أنجولا»! وضغط زرًّا ثالثًا، فاختفت الخريطة، وأسرع بالخروج …
وعندما وصل إلى الشياطين، كانوا يأخذون أماكنهم في السيارة، في انتظاره، وفي نفس اللحظة التي أخذ مكانه بينهم، كانت الأبواب الصخرية تُفتح، لينطلق الشياطين إلى مغامرتهم الجديدة، بعد أن شرح لهم «أحمد» كلَّ شيء.