ذكريات بحَّار عجوز
كانت الرحلة طويلةً جدًّا، ومُرهِقةً، فقد قطعوا قارةَ «أفريقيا» بطولها، حتى وصلوا إلى الجنوب، حيث نزلوا في فندق «كيب تاون» الذي يُطلُّ على المحيط الأطلنطي، لكنهم لم يستمتعوا بجمال المحيط في تلك الليلة، لقد كانوا في حاجة إلى النوم، ولذلك فعندما دخلوا حجراتهم، ألقَوْا بأنفسهم فوق الأسِرَّة، واستغرقوا في النوم مباشرة.
في الصباح، كان «عثمان» أول من استيقظ، وفتح النافذة العريضة، فظهر المحيط بمياهه الزرقاء العميقة، وكانت الزرقة تمتدُّ حتى نهاية البصر، وظلَّ «عثمان» يستنشق الهواء النقي في ذلك الوقت المبكر، وكانت الشمس قد ظهرت لتوِّها، وغطَّت سطح المحيط الهادئ بأشعتها الذَّهبية، فبدت المياه لامعة كمرآة، وظلَّ يتأمل المحيط، وهو يستعيد كلمات رقم «صفر»: لقد غرقت «القمر» عند التقاء خطَّيْ طول وعرض ٢٠ درجة؛ أي أنها يمكن أن تكون في خطٍّ مستقيمٍ معه الآن، حيث يقف في الشرفة.
سُمع صوت «بو عمير» يقول: صباحًا طيبًا! فردَّ دون أن يلتفت: نرجو أن يكون كذلك!
في لحظةٍ، كان «بو عمير» قد قفز من سريره، ووقف بجوار «عثمان»، وهو يقول: ما أعظم المحيط! ولم يكد ينتهي من جملته حتى رنَّ جرسُ التليفون: فقال «عثمان»: يبدو أنهما قد استيقظا! وأسرع إلى التليفون ورفع السماعة، فجاءه صوت «أحمد»: صباح الخير، هل استيقظتما منذ مدة! وقبل أن يردَّ «عثمان»، أكمل «أحمد»: سنأتي إليكما!
بعد لحظات، كان الشياطين يعقدون اجتماعًا سريعًا بينما كان الإفطار أمامهم، فقال «خالد» وهو يقضم لقمة من ساندوتش في يده: أعتقد أننا يجب أن نذهب إلى الميناء! ولم يُعلِّق أحد من الشياطين، فقد تحرَّكوا بسرعة وهم يشربون الشاي، وفي دقائق كانوا يأخذون في طريقهم خارج الفندق. كانت الحياة قد بدأت حركتها النشطة، فوقف الشياطين قليلًا أمام الفندق، يرقبون حركة المارة، ورأى «أحمد» تاكسيًا يقترب، فأشار إليه.
توقَّف التاكسي فركبوا، وقال «أحمد» للسائق: الميناء! وانطلق التاكسي سريعًا، ولكن لم تكد تمرُّ خمس دقائق، حتى توقَّف وقال السائق: هذا هو الميناء.
نظر الشياطين من نافذة السيارة، كان الميناء يبدو أمامهم، وارتفعت أصوات البواخر في الميناء. كان الصوت يتردَّد ضخمًا في جنبات الشوارع فنزلوا، وأخذوا طريقهم إلى هناك، واقتربوا من باب الميناء، إلَّا أنَّ أحد رجال الشرطة اعترض طريقهم وهو يطلب تصاريح الدخول، فتدارك «أحمد» ذلك، وقال بسرعة: إننا فقط نرقب الميناء من الخارج، فليست بنا حاجة إلى الدخول. فتركهم الشرطي وانهمك في عمله مع آخرين، وظلَّ الشياطين بعض الوقت، ثم ابتعدوا في هدوء.
سأل «خالد»: هل تتصل بعميل رقم «صفر»؟ فأجاب «أحمد» على الفور: لن نحتاج إليه! … كان طابور من عربات النقل الضخمة يقف ممتدًّا من باب الميناء حتى مسافة بعيدة، ونظر «أحمد» إلى العربات، وقال: هذه هي تصاريح الدخول!
ابتسم الشياطين عندما تحرَّكت أول عربة، وهي تأخذ طريقها إلى داخل الميناء، فاقتربوا من العربات، التي كانت تتحرَّك في بطء، ثم اختفَوْا وتوالى دخول العربات من البوابة، وعندما تجاوزت العربة العاشرة مكان الشرطي، كان الشياطين قد أصبحوا في الداخل، فلقد قفز كلٌّ منهم إلى عربة، واختفى بين حمولتها، وعندما أصبحت العربات في قلب الميناء، ظهروا الواحد بعد الآخر. وكانت هناك مجموعة بواخر، ترسو عند الأرصفة، في نفس الوقت الذي كانت فيه «الأوناش» الضخمة تنقُل البضائع من العربات إلى البواخر …
تشمَّمَ «أحمد» الهواء ثم قال: إن رائحة البُن قوية! وردَّ «بو عمير» وهو يتشمَّمُ أيضًا: والكاكاو كذلك! ظلوا ينتقلون وسط حركة الميناء، حتى ظهرت أمامهم كافيتريا متسعة، فاتَّجهوا إليها … كان هناك عددٌ من العمال، وعدد من البحَّارة، يتناولون المشروبات، واختاروا منضدةً تتوسط المكان، ثم جلسوا. جاءهم الجرسون، فطلبوا «كاكاو باللبن» بينما كانت أعينهم ترصد حركة الكافيتريا … تردَّد صوت باخرة، فاهتزَّ المكان. لحظة، ثم أقبل بعض البحَّارة، وجلسوا في منضدة قريبة منهم، وقال واحد منهم وهو يتمطَّى: أرجو ألَّا تطول الإجازة! كان ضخم الجسم، أحمر الوجه، يغطِّي نصفَ وجهه شاربٌ كثيف، وعندما كان يُشمِّر ساعديه، ظهر وشمٌ أخضرُ على ساعده الأيمن.
ردَّ بحَّار ضئيل الجسم، يبدو عليه الدهاء: ومتى كانت إجازتنا طويلة! فسأل ثالث: هل تظنُّ أنَّ «كيرولاس» قد رحل إلى هناك؟
نظر «أحمد» إلى الشياطين بسرعة، غير أن البحَّار الضئيل كان قد لاحظ نظرته، فتحدَّث «أحمد» بسرعةٍ إلى الشياطين بصوتٍ مرتفع، حتى لا يظن البحَّار شيئًا، وقال: لقد تأخرت الشحنة هذه المرَّة، مع أنهم قالوا إن المركب سوف تصل ليلة أمس! وفهم الشياطين. لماذا تصرَّف «أحمد» هذا التصرف، غير أن البحَّار الضئيل ظلَّ ينظر في اتجاههم.
قال «خالد»: إن البحر لا يظل على حالٍ واحدةٍ. إنه يتغير حسب الظروف، وقد يكون هناك ما عطَّلها!
فجأة، اقترب البحار، وكان يتقدَّم إليهم في هدوء، بينما البحَّار الضخم يقول: إلى أين يا «براك»؟
اقترب «براك» منهم، حتى وقف أمامهم تمامًا، وسأل في خبث: أي مركب تلك التي وصلت أمس؟
ردَّ «أحمد»: هل تنضمُّ إلينا؟
نظر «براك» له في دهشة، ثم قال: أنضم إليكم! ماذا تفعلون؟!
ابتسم «أحمد» وهو يقول: هل ندعوك لشرب شيء! هزَّ «براك» رأسه، وهو يسدد نظرةً حادَّةً ﻟ «أحمد» قائلًا: أنتم لستم من هنا! قال «بو عمير» في هدوء: هل تجلس، وتتحدث!
نادى البحَّار الضخم: ماذا هناك يا «براك»؟ ودارت عينا «براك» حول الشياطين، ثم قال: هل تعرفون كابتن «كيرولاس»؟
قال «بو عمير»: أظنُّ أنَّنا لا نعرف بحَّارًا بهذا الاسم! هل تبحث عن واحد بهذا الاسم؟ فابتسم «براك» في خبثٍ، ثم قال: يبدو أنكم أذكياء بما يكفي. هيَّا انضمُّوا إلينا! فهزَّ «أحمد» رأسه قائلًا: إننا في انتظار عمل!
براك: لا أظن أنكم في انتظار شيء، وهل …؟ لم يُكمل جملته، وإن كان «أحمد» قد فهم ماذا يريد أن يقول، فانتظر لحظة، ثم قال: هل ماذا؟
لم يردَّ «براك» مباشرة. في نفس الوقت الذي اقترب فيه البحَّار الضخم، وهو يسأل: ماذا هناك يا «براك»! لم يلتفت «براك»، ولكنه قال: لا شيء يا عزيزي «ديك»، يبدو أنهم أصدقاء لنا!
شعر الشياطين أنهم قد انكشفوا، وأن «براك» واحد من عصابة «سادة العالم» التي يلتقون مع أعضائها دائمًا؛ فقال «أحمد» في هدوء: يسعدنا أن نكون أصدقاء!
براك: أنتم أصدقاء بالفعل. إنني أعرف عنكم بعض الأشياء، وأظن أننا يمكن أن نفترق الآن، غير أننا سنلتقي بعد قليل! وظهرت الدهشة على وجه «ديك»، فقال بصوته الخشن، وهو يسوِّي شاربه: إنني لا أفهمك يا «براك»!
كانت لحظة غريبة، لم يواجهوها من قبل. وهزَّ «براك» رأسه وابتسم في خبثٍ قائلًا: لا بأس، يمكن أن نلتقيَ خارج الميناء. إلى اللقاء! وتركهم وعاد إلى منضدته، فانسحب «ديك» هو الآخر في هدوء خلفه.
ظلَّ الشياطين صامتين لحظة، إلَّا أنَّ «أحمد» كان يُفكِّر بسرعة، فقال: كثيرًا ما يلتقي الإنسان بالبعض، فيظن أنه يعرفهم! فقال «عثمان»: يخلق من الشبه أربعين!
كان «براك» يجلس وقد أعطاهم ظهره، فبدءوا يتحدثون بلغة الشياطين، واتفقوا على أن يبقوا في البداية، حتى ينصرف الآخرون، إلَّا أنَّ «أحمد» قال في النهاية: إنها فرصتنا ولا يجب أن تضيع، حتى لو بدأنا المواجهة من الآن، عليكم بالبقاء، وسوف أختفي لبعض الوقت!
انصرف في هدوءٍ بينما بقيَ الشياطين، وأخذوا يتحدثون في أشياءَ كثيرة، وكأنَّ ما حدث لا يعنيهم. في نفس الوقت كان «براك» وزملاؤه يجلسون في مكانهم، يحتسون المشروبات الباردة. ومضت نصف ساعة، وفجأة، كان بحَّار عجوز يقترب منهم وهو يسأل: هل وصلت باخرة الأمس؟ كان صوته رفيعًا، ويتحدث بطريقةٍ تُشبه الصراخ.
لفت سؤاله سمع «براك»، فالتفت ناحية الشياطين، وردَّ «عثمان»: إنها لم تصل بعد، وإن كنا في انتظارها! فنظر إليهم بسخرية، وهو يقول منصرفًا: يبدو أنكم لا تعرفون شيئًا! وأخذ طريقه إلى «براك» حتى وصل إلى هناك، وسأل نفس السؤال بنفس طريقة الصراخ، فنظر له «براك» لحظةً، ثم قال: من الذي أخبرك أن هناك باخرة، كان يجب أن تصل أمس! قال الرجل، وهو يبتسم برقة: يبدو أنك أنت الآخر لست من هنا، ولا تعرف شيئًا كالآخرين! ومدَّ يده فجذب كرسيًّا، ثم قال وهو يجلس: لا بأس لو قدَّمتم لي شيئًا!
أخذ الرجل يتحدث، كان يثرثر كثيرًا، ولم يكن كلامه يخرج عن مغامراته البحْرية، وعن حوت «العنبر» الذي صارعه حتى قضى عليه، وكان الشياطين يستمعون إليه وهو يتحدث بصوته المرتفع، حتى إن «براك» قال وهو يبدو عليه الغيظ: وماذا تريد في النهاية؟!
ابتسم الرجل قائلًا: من أين أنتم؟
براك: ولماذا تسأل؟
ضحك الرجل ضحكةً رفيعة طويلة، ثم قال: هل سمعتم عن «القمر» الذي غرق في المحيط؟ وظهرت الدهشة على وجه البحَّارة، والتفت «براك» ناحية الشياطين.
قال «ديك» في حِدَّة: هل تقول نكتة؟! فضحك الرجل مرة أخرى نفس ضحكته الرفيعة، وقال: نعم. إنها نكتة طيبة! فقال «براك» في غيظ: يبدو أنك تخرِّف، فهكذا نحن عندما نتقدَّم في السن! قال الرجل ضاحكًا: نعم. نعم. وأنت غدًا سوف تُصبح مثلي، تحكي ذكرياتك، وتسأل عن «القمر» الذي غرق في المحيط!
فجأة كان «براك» يقبض على رقبة الرجل، وهو يكاد يخنقه، إلَّا أن «ديك» أمسك بيده، وهو يقول بصوته الخشن: دعه. سوف نخرِّف غدًا مثله! فوقف «براك» في عصبية، ثم دفع الرجل دفعةً أوقعته على الأرض.
كان الشياطين يراقبون ذلك، عندما نظر لهم الرجل وهو يضحك قائلًا: لا تندهشوا. لقد كنت أفعل ذلك عندما كنت شابًّا مثله!
انصرف البحَّارة يتقدَّمهم «براك»، فأسرع الشياطين إلى الرجل، الذي كان لا يزال راقدًا على الأرض، وانحنى «عثمان» يساعده على الوقوف، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الدهشة على وجه «بو عمير» و«خالد»، وعندما جلس الرجل على الكرسي، كانت الدهشة قد غطَّت وجه «عثمان» أيضًا.