الغداء في «السمكة الحمراء»
جلس العجوز يقصُّ ذكرياته على الشياطين، ثم همس: هل أعرض عليكم صداقتي؟ وكتم الشياطين ضحكتهم، وهم يرقبون المكان في حذر.
قال «خالد» وهو يُقلِّده: نعم، ونحن أيضًا نعرض عليك صداقتنا.
لقد كان «أحمد»، هو نفسه الرجل العجوز، فلقد انصرف وتنكَّر، ثم عاد؛ ليتأكد أن هؤلاء البحَّارة هم أعضاء عصابة «سادة العالم»، وأنهم الذين قاموا بتنفيذ غرق «القمر»، وقال «أحمد»: دعونا نفترق الآن، إن هذه فرصة!
افترق الشياطين، وأسرع «أحمد» يأخذ نفس الطريق الذي سار فيه البحَّارة، فرآهم يخرجون من البوابة المنقسمة إلى قسمين، واحد للدخول، والآخر للخروج … فكَّر لحظة؛ أنه إذا اقترب من البوابة الآن فسوف تسأله شرطة البوابة عن أوراقه، فنظر حوله، وكانت إحدى العربات تقترب، وهي مشحونةٌ بحمولةٍ من الصناديق، فأسرع في اتجاهها وعندما مرَّت أمامه، وتجاوزته، كان قد اختفى. وعندما وقفت عند البوابة، سمع الحديث الذي يدور بين شرطة الميناء وبين السائق، في الوقت الذي كان مختبئًا فيه بين الصناديق، وتحرَّكت السيارة، وهي تغادر البوابة، وعندما أحسَّ أنه ابتعد، أخرج رأسه، فرأى البوابة، وكانت العصابة تتجاوزها في طريقها إلى الخارج، سيرًا على الأقدام.
انتظر لحظة، كانت السيارة تُهَدِّئ من سرعتها لتنحرف يمينًا، فأسرع بالقفز إلى الأرض، واتَّخذ هيئة الرجل العجوز، فانحنى قليلًا في مشيته وسار ببطء. ولمح بعينيه مجموعة البحَّارة تقترب، فكَّر قليلًا: تُرى إلى أين سوف يتجهون؟! لحظة، أوقف فيها البحَّارة تاكسيًا، ركبه بعضهم، وكان من بين الذين اختفَوْا في التاكسي «براك» و«ديك»، أما الباقون فقد تقدَّموا حتى اقتربوا منه، فأشار إليهم: إلى أين؟
نظروا له، وضحك واحدٌ منهم: هل تصحبنا؟ فضحك «أحمد» بنفس الصوت الذي يُشبه الصراخ وقال: يا ليت! إنني بلا مكان، فقد كنت أنتظر باخرة الأمس! فنظروا إلى بعضهم، ثم قال أحدهم: هل ندعوك للغداء، إننا في الطريق إلى مطعم «السمكة الحمراء»! فضحك «أحمد» وهو يردِّد: السمكة، «السمكة الحمراء» هل تذهبون مشيًا؟ فردَّ واحد: لا، إنه بعيد، في الطرف الآخر من المدينة!
أحمد: لعلكم تلتقون بصديقنا الشرس!
فردَّ الرجل: تقصد «براك»؟ لا بأس، سوف يكون موجودًا.
أحمد: إذن، لا داعي …
ضحِك البحَّارة، ثم انصرفوا وفكَّر «أحمد» بسرعة، من الضروري أن يذهب إلى مطعم «السمكة الحمراء». فأشار إلى تاكسي وانطلق إلى الفندق، ولم يكن الشياطين قد وصلوا بعد، فغيَّر ماكياجه ولبس ملابس بحَّار شاب، ووضع شاربًا رفيعًا، ولبس كابًا أبيض، وفانلة نصف كم وبنطلونًا أزرق. كتب رسالةً سريعةً للشياطين ثم انصرف، فأوقف أول تاكسي قابله، ثم قال للسائق: مطعم «السمكة الحمراء»؟ قال السائق متسائلًا: أي سمكةٍ تعني؟ ردَّ بسرعةٍ «الحمراء». قال السائق: إنها مجموعة من المطاعم، اسمها «السمكة الحمراء» فأي سمكةٍ تعني؟
مرَّت لحظة صمتٍ، قال السائق في نهايتها: يبدو أنك لست من هنا! ردَّ «أحمد» بسرعة: نعم، إن الباخرة وصلت هذا الصباح، ولقد فكرت في تناول غداء من السمك المشوي! قاطعه السائق قائلًا: إذن لقد عرفت! انطلق السائق، غير أنَّ «أحمد» كان يفكِّر في مجموعة المطاعم هذه، سأل: هل كل مطعم له شهرة خاصَّة؟ قال السائق: نعم. «السمكة الحمراء المشوية»، «السمكة الحمراء المقلية» … «السمكة الحمراء المتوحشة»! وهكذا كل مطعم يقدِّم نوعًا واحدًا من السمك.
ابتسم «أحمد» وهو يقول: إنها فكرةٌ طيبةٌ! وصمت لحظةً ثم سأل: هل هي متباعدةٌ؟ فأجاب السائق: ليس كثيرًا، إنها كلها منتشرة على الشاطئ، ويمكن قطع المسافات بينها سيرًا! وصمت «أحمد»، وظلَّ يرقب الطريق الذي كانت السيارة تقطعه في سرعة، بعد قليلٍ قال السائق: ها نحن نقترب من مطعم «السمكة المشوية». إنه أول المطاعم!
توقَّفت السيارة، فغادرها «أحمد» في هدوء، بعد أن أعطى السائق مبلغًا طيبًا، جعله يبتسم قائلًا: هل أنتظر؟ ابتسم له، وقال: أشكرك، إنني سوف أبقى بعض الوقت.
انصرف السائق، وتقدَّم «أحمد» من المطعم، وكانت رائحة السمك المشوي تملأ المكان، خصوصًا وأن رياح المحيط كانت تنقُل الرائحة … كان المحيط يمتدُّ هادئًا، وعندما اقترب من الباب، استقبله الجرسون بابتسامة مرحبة، ردَّ عليها «أحمد» بابتسامة ودخل المكان وجرت عيناه بسرعة، كان الموجودون قلة، ولم يكن بينهم من يعرفه، واقترب منه الجرسون قائلًا: هل تبحث عن أحد؟ ردَّ بسرعة: نعم، بعض الزملاء! قال الجرسون بابتسامته التي لم تفارقه: إذا كانوا من الزبائن، فإنني أعرفهم.
نظر له «أحمد» قليلًا، ثم قال: أحدهم يُدعى «براك».
اختفت ابتسامة الجرسون، وجذب «أحمد» جذبةً خفيفةً من ذراعه إلى خارج المكان. عرف «أحمد» أن الجرسون له عَلاقة ﺑ «براك»، وعندما أصبحا خارج المطعم، قال الجرسون في حذر: هل هو صديقك؟ أجاب «أحمد» بسرعة: نعم، لقد عملنا معًا! صمت الجرسون لحظة، ثم قال: إنه في مطعم «السمكة المتوحشة»! شكره «أحمد»، وعندما أراد الانصراف، سأله الجرسون: هل أتعرَّف إليك؟ فربما جاء إلى هنا! فكَّر بسرعة ثم قال: أدعى «جاكو»، «جاكو جالينال»! قال ذلك، ثم انصرف، وأسرع في مشيته على كورنيش المحيط … كان الهواء رائعًا، فاستنشق بعمق، وكانت رائحة المحيط مثقلةً باليود، وبعد قليلٍ ظهر أمامه مطعم، كان مكتوبًا عليه: «السمكة المقلية»، فأسرع أكثر، فقد كان يُريد أن يلحق بهم، قبل أن يتركوا المكان، لكنه في نفس الوقت فكَّر: يكفي أنني عرفت أين أجدهم!
بعد نصف ساعة من المشي، ظهر مطعم «السمكة المتوحشة»، كان مطعمًا صغيرًا، لكنه أنيق. تقدَّم ناحيته حتى دخل، ووقف عند الباب يرقب المكان بسرعةٍ، فوقعت عيناه عليهم … كانوا يجلسون حول عدة مناضد متجاورة، وقد انهمكوا في الأكل. اقترب من الجرسون مبتسمًا، وهو يشير إلى منضدةٍ قريبة. ونظر «أحمد» حوله، حتى اختار منضدة بعيدة قليلًا، وعندما جلس، كان الطعام قد حضر، فنظر إلى شرائح السمك التي أمامه، وكانت كلها مقليَّة، فسأل الجرسون: أي أنواع السمك هذه؟ أجاب الجرسون بابتسامة هادئة: إنها شرائح سمك القرش! هزَّ «أحمد» رأسه، ثم انهمك في الأكل.
كان السمك ساخنًا جدًّا، وكان يتتبع أفراد العصابة وهم يأكلون بشهية كبيرة، وكان «براك» يجلس مقابلًا ﻟ «أحمد»، وبجواره «ديك»، وحولهما جلس الآخرون. شاهد هؤلاء الذين دعوه إلى «السمكة الحمراء»، وفجأة ارتفع صوت أحد البحَّارة ضاحكًا بعنف وهو يقول: «براك»، هل تدري أننا قابلنا العجوز … ودعوناه للغداء؟!
قال «براك» دون أن يرفع عينيه عن الطعام: أي عجوزٍ تعني؟ أجاب البحَّار: البحَّار العجوز الذي لقيناه في الميناء! فصمت «براك» لحظةً، ثم رفع رأسه، وقال: إنني أشكُّ في هذا الرجل، إنه يُخفي شيئًا!
صمت الجميع، ومرَّت دقيقةٌ قبل أن يقول «براك»: لعله يأتي حتى نتخلص منه نهائيًّا! … وسكت ثم قال بابتسامةٍ خبيثة: هناك! أوقفت كلمة هناك سمْعَ «أحمد»، وفكَّر وهو يمضغ: لا بُدَّ أنهم سيغادرون المكان، إلى مكانٍ آخر …
فجأة، سمع سؤال: ومتى نبحر إذن؟ ضحك «ديك» ضحكته الخشنة، ثم قال: بعد أن نشبع طبعًا! فعلَّق «براك» في سخرية: إذن سوف لا نبحر اليوم، وضحك البحَّارة، فتردَّدت ضحكاتهم في جوانب المطعم الصغير.
فكَّر «أحمد»: إنَّ هذا يعني أن نكون على استعداد، فأخرج جهاز الإرسال الدقيق، ووضعه على ركبته، ثم أرسل رسالة إلى الشياطين: «استعدَّا للرحيل، لا بُدَّ من وجود سيارة، حتى لا تضيع فرصتنا! اتصلوا برقم «ع». سوف أرسل رسالةً أخرى.» وأخفى الجهاز، ثم أخذ يأكل في هدوء.
مرَّ بعض الوقت، قبل أن يتمطَّى «ديك» وهو يقول: لقد شبعت! وعلَّق أحد البحَّارة ضاحكًا: إذن، لقد اقتربت ساعة الرحيل! فضحك الباقون، وقبل أن يقف «براك» متجهًا إلى الحوض، حيث يغسل يديه، كان «أحمد» يُرسل رسالةً أخرى: «تحرَّكوا الآن، اللقاء عند النقطة «ك».»
قام البحَّارة الواحد وراء الآخر، وعاد «براك» لكنه توقَّف لحظة ونظر إلى «أحمد» الذي انهمك في الأكل، ثم استمرَّ «براك» في سيره، حتى عاد إلى مكانه السابق وتجمَّع البحَّارة، فأسرع «أحمد» ليغسل يديه، وكان يقف عند الحوض وعيناه تراقبهم … تحرَّك البحَّارة جميعًا في اتجاه الباب، وظلَّ «أحمد» مكانه حتى خرجوا، فأسرع بالخروج، وقدَّم الحساب للجرسون، ثم تجاوز باب الخروج، وكانوا يقفون عند الرصيف الآخر، أمامه تمامًا.
لحظة، ثم ظهر تاكسي، وقف أمامهم، فاختفى داخله «براك» و«ديك». واثنان آخران، وفكَّر «أحمد» بينما التاكسي ينطلق: إن اختفاء «براك» الآن ليس في صالحنا! وجاء تاكسي آخر، ووقف أمام الباقين، فاختفَوْا داخله، وانطلق بهم.
في نفس اللحظة، كانت سيارة زرقاء اللون يركبها بعض البحَّارة تقف عند الرصيف الآخر، وعرف أنهم الشياطين، فأسرع يقطع الشارع الذي كان خاليًا، وألقى نفسه داخل السيارة … كان الشياطين يلبسون ملابسَ مشابهةً لملابسه، وأسرعت سيارة الشياطين في نفس الاتجاه.
كان التاكسي الأخير يظهر أمامهم، وكانت المسافة بينهم وبين العصابة مناسبة، حتى لا يلفتوا نظرهم، وظلوا خلفهم. تردَّد صوت باخرة، فقال «عثمان»: إننا نقترب من الميناء.
مرَّت ربع ساعة، ثم ظهرت البوابة التي دخلوا منها في الصباح، فتوقَّف تاكسي العصابة الأول، ثم الثاني، وتقدَّم البحَّارة يدخلون. كان الشياطين قد توقَّفوا عند جانب الشارع، بمحاذاة البوابة، وكان عليهم أن يتصرفوا بسرعة، فرفع «أحمد» سماعة التليفون في السيارة، ثم أدار القرص، على رقمٍ معينٍ، وجاءه صوت، فقال: المجموعة «ب» تتحدث، لا بُدَّ من دخول الملعب الآن! واستمع لحظة، ثم نظر في ساعةِ يده، ووضع السماعة.
نقل إلى الشياطين الرد الذي سمعه من عميل رقم «صفر»، وكان الرد: إنَّ عليه أن يتقدم من شرطة البوابة بعد دقيقتين. ونظر في ساعة يده مرة أخرى، ثم قال: سوف أنزل الآن، عليكم بالبقاء هنا حتى أرسل لكم! ثم قفز من السيارة بسرعة، واتجه إلى البوابة، وحيَّا الشرطي الواقف فنظر له لحظة، ثم سأل: «ع»؟ ردَّ «أحمد» بسرعة: نعم! قال الشرطي: تفضل! أسرع إلى الداخل، لكنه لم يرَ أحدًا منهم، ففكَّر قليلًا، ثم اتَّجه ناحية الكافيتريا. كان عدد كبير من البحَّارة يَملؤنها تمامًا، فظلَّت عيناه تدوران بحثًا عن أحد منهم، لكنه لم يجد أحدًا، وظلَّ واقفًا يفكِّر في احتمالاتٍ كثيرةٍ، هل أبحروا، أم لهم مكان آخر غير الكافيتريا.
أخذ طريقه إلى أحد أرصفة الميناء التي كانت الحركة فيها نشيطة، وكانت الأوناش تنقُل البضائع من السيارات إلى البواخر وحركة العمال لا تهدأ. أخذ يدور في المكان، غير أن أحدًا من البحَّارة لم يظهر، ولم تكن مساحة الرؤية كافيةً بالنسبة إليه، حتى يستطيع أن يكشف الميناء، أو خارجه، فنظر حواليه، كان يبحث عن مكانٍ مرتفعٍ … وفجأة، سمع صوت محرك لنش يرتفع، فوجَّه بصره في نفس الاتجاه فرأى اثنين من البحَّارة لم يكن يعرفهما، ينطلقان باللنش، فقال في نفسه: إنها مسألة عادية!
ومن جديد، بدأ يفكِّر في مكان مرتفع، فتوقَّفت عيناه عند برج الميناء، كان يرتفع عند نهايتها بعيدًا عنه.
أسرع في خطوته في اتجاه البرج، وكان يسير قريبًا من رصيف الميناء، وتناهى إلى سمعه صوت لنش، وتوقَّف يبحث عن مصدر الصوت. توالت أصوات عدد من اللنشات كانت تتحرَّك في وقتٍ واحدٍ، فوجَّه بصره إليها، غير أنه لم يستطع أن يتعرَّف على ركابها، كان كل لنشٍ يحمل أربعة أو خمسة من البحَّارة. ظلَّ يتابعها، ليعرف اتجاهها، كانت جميعها تأخذ اتجاه الخروج من بوغاز الميناء، وكانت تبدو كسرب من الأسماك الضخمة تسير في طابور، فكَّر: هل يكون «براك» أو «ديك» بين هؤلاء!
ظلَّ واقفًا في مكانه لا يتحرَّك، وشعر بدفء جهاز الإرسال في جيبه، ثم بدأ يتلقَّى رسالةً. كانت الرسالة من الشياطين. «خرج القرش وتابعه معًا!» فأرسل رسالة سريعة إليهم: «اتبعوهما.» وفكَّر: هل هذه لُعبة يلعبانها؟ إن «براك» الذي يبدو عليه الدهاء، لا بُدَّ أن يتصرف بهذه الطريقة!
أخذ يتحرَّك في هدوء، إن حركته الآن تتوقف على رسالة من الشياطين، وفكَّر مرة أخرى: من الضروري أن يكون هناك لنش جاهز للإقلاع في أيِّ لحظة؛ فأرسل رسالة سريعة إلى عميل رقم «صفر»: «نحتاج إلى حوت جاهز للسباحة.» بعد قليل جاءه الرد: «الحوت جاهز، حدِّد المكان.» أخذ طريقه إلى بوابة الميناء، حتى خرج، واستقلَّ أول تاكسي قابله إلى الفندق؛ فهو أقرب مكان يمكن أن ينطلق منه.
عندما دخل كان جهاز الإرسال يستقبل رسالةً: «القرش وتابعه، انطلقا بلنش صغير من النقطة «ف»!» ردَّ على الشياطين: «إنني قادمٌ»! ورفع سماعة التليفون، وتحدَّث إلى عميل رقم «صفر»: النقطة «ف». وسمع صوت العميل يقول: «سيكون الحوت هناك بعد ربع ساعة.» فوضع السماعة ونزل مسرعًا إلى النقطة «ف»، حيث ينتظر الشياطين.