وظهر طائر النورس
غادر التاكسي، حيث وقف بعيدًا عن سيارة الشياطين ثم قطع الطريق إليهم مشيًا. في نفس اللحظة، كان اللنش قد وصل، وخرج منه أحد البحَّارة في هدوء، ثم قفز إلى الشاطئ … حيث ركب السيارة واختفى.
نزل الشياطين إلى اللنش، وأخذ «خالد» مكانه أمام عجلة القيادة، وضبط بعض المؤشرات في التابلوه أمامه ثم انطلق في سرعة. وجلس بقية الشياطين حوله في کابينة القيادة … كان الوقت بعد الظهر بقليل، ولا تزال أشعة الشمس الحارة تنعكس على سطح المحيط، فيبدو لامعًا جدًّا. لم تكن هناك موجات مرتفعة، وهذا ما جعل اللنش ينطلق بسرعة فائقة.
كانت «بوصلة» اللنش محددة الاتجاه على خطي ١٠ درجات عرض و٥٠ درجة طول، فسأل «أحمد»: هل انطلقوا في نفس الاتجاه؟ أجاب «عثمان»: نعم.
ضغط «أحمد» على زر الرادار الموجود أمامه، فظهرت الشاشة خالية من أي أثر، فقال «بو عمير» يبدو أنهم الآن خارج دائرة الرادار! لكنه لم يكد ينتهي من كلامه حتى ظهرت علامة سوداء على الشاشة جعلت «عثمان» يهتف في فرح: ها هم! نظر له الشياطين مبتسمين: فعلَّق قائلًا: إنني في شوقٍ إلى اشتباكٍ جديدٍ! قال «أحمد» يخاطب «خالد»: أعتقد أننا يجب أن نكون بعيدين عنهم خلال النهار.
ردَّ «خالد» مبتسمًا: هل تقصد أن أحافظ على المسافة بيننا وبينهم؟ ثبَّت «خالد» سرعة اللنش، وظلت أعين الشياطين فوق شاشة الرادار، لكن فجأة، ظهرت نقط صغيرة متعددة، وكانت كلها تتجه إلى العلامة السوداء.
فكَّر «أحمد»: ماذا تعني هذه النقط! هل هي اللنشات التي ركبها البحَّارة من الميناء؟ أم هي ألغام مائية؟! لكن، لماذا توضع الألغام المائية هنا بالذات؟ ولماذا تتجه ناحية العلامة السوداء؟ ولاحظ الشياطين ذلك … فسأل «خالد» هل تفكر في النقط! فابتسم «أحمد»، غير أن «خالد» قال: لا بأس. إننا في الطريق إليها!
ظلَّت النقط تقترب من العلامة، حتى أُلصقت بها، كان واضحًا أن لنش الشياطين يقترب من العلامة بسرعةٍ، فقال «أحمد»: يجب ألا نقترب! فخفض «خالد» سرعة اللنش، لكنه حافظ على ظهور العلامة فوق شاشة الرادار، وبعد قليلٍ تحرَّكت العلامة من مكانها. أخرج «أحمد» من جيبه خريطة صغيرة تعمل بالبطاريات، وضغط على زر جانبي فيها فأضاءت. ظهرت المنطقة التي ينطلق اللنش فيها الآن وظهرت جزيرة «مدغشقر» والشاطئ الجنوبي الشرقي ﻟ «أفريقيا»، كما ظهرت أيضًا جزر «کومورو» …
نظر «أحمد» إلى شاشة الرادار وقال: إنها تتجه إلى الجزيرة! ولم يعلِّق أحد من الشياطين. لقد كانوا فقط يتتبعون تحرُّك العلامة في الاتجاه الذي حدَّده على الخريطة. ضغط نفس الزر في الخريطة الصغيرة فأطفئت، وظلت المسافة ثابتة بين تحرُّك العلامة وبين اللنش. كانت المطاردة هادئةً حتى الآن، لم يحدث اللقاء المكشوف بين العصابة والشياطين.
انقضى النَّهار وبدأت أشعة الشمس تختفي. كانت ألوان المغيب تملأ المكان؛ الأحمر، والبرتقالي، والرمادي. كان الوجود يبدو كلوحةٍ رائعة. ثم أخذت الألوان تختفي هي الأخرى ليبدأ الظلام. كانت بداية الليل ساكنةً رقيقة، حتى إن «خالد» ضغط زرًّا في التابلوه فانسابت موسيقى هادئة.
قال «بو عمير»: أظن أننا يجب أن نسرع! ولم يعلق أحد، فرفع «خالد» سرعة اللنش، ولم تنقضِ نصفُ ساعة حتى ظهرت باخرةٌ متوسطة الحجم، كانت تبدو ككتلةٍ سوداء في الليل، ولم يكن يظهر من تفاصيلها سوى بعض الأضواء التي تبدو كنقط صغيرة، في نفس الوقت لم يكن يصدر من اللنش أي ضوء. لقد كان يتقدم تبعًا للبوصلة، وعلى هدى تلك الأضواء التي تأتي من الباخرة.
لحظات ثم بدأت تظهر على سطح الرادار تلك النقط السوداء الصغيرة، ثم أخذت تبتعد عن العلامة. وحاول الشياطين أن يرصدوا شيئًا بأعينهم على سطح المحيط، إلَّا أنَّهم لم يستطيعوا. غير أن إحساسهم القوي جعلهم يشعرون بالخطر.
قال «عثمان»: إننا نقترب من شيء ما! وترك مكانه في كابينة القيادة، ثم اتَّجه إلى مؤخرة اللنش. خرج إلى الهواء، وبدأ يدقِّق بعينيه في الماء، لم يكن هناك شيءٌ، وانضم له «بو عمير»، ثم «أحمد»، وجلس الثلاثة يحدِّقون في الماء. قال «بو عمير»: هل تظن أنها ضفادعُ بشرية! لم يردَّ «أحمد» مباشرة، لكنه قال بعد قليلٍ: أظن أنها نفس اللنشات التي التصقت بالباخرة عند إقلاعها.
تحدَّث «أحمد» في التليفون الداخلي الخاص باللنش: هل لا تزال النقط على الشاشة؟ وأجاب «خالد» الجالس أمام عجلة القيادة: لقد اختفت! ووضع «أحمد» السماعة، وقال: إنها إذن ضفادع بشرية، قد تظهر حولنا في أي لحظة، علينا أن نتصرَّف بسرعة!
أسرع «عثمان» إلى الجانب الأيسر من اللنش، بينما أخذ «بو عمير» الجانب الأيمن، وبقِيَ «أحمد» في المؤخرة، وتحدَّث إلى «خالد» بالتليفون: إننا موزَّعون الآن على جوانب اللنش! وجاءه ردُّ «خالد»: إنني أعتقد أنهم في الطريق إلينا!
ظلَّ اللنش في انطلاقه، وكانت الباخرة لا تزال تظهر بنقط الضوء الصغيرة. فجأة قفز «أحمد» من مكانه مسرعًا في اتِّجاه «خالد» وهو يقول بسرعة: يجب تشغيل جهاز كاسح الألغام. إنهم يستطيعون أن يصطادونا بأي لغمٍ بحْري!
ضغط «خالد» زرًّا في التابلوه، فبدأت موجات كهربية تصدر، فتصنع مجالًا كهربيًّا في دائرة واسعة حول اللنش، ولم تكد تمضي بضع دقائق، حتى ارتفع عمود من الماء إلى قلب الفضاء، وصاح «خالد»: لقد انفجر أحدها، لقد كنت على صواب!
تجمَّع الشياطين بسرعة في كابينة القيادة، وقال «عثمان»: كان يمكن أن ننتهي!
وانفجر لغمٌ آخر، فقال «أحمد»: لقد بدأت المواجهة! وصمت الشياطين، فلقد كانوا يفكِّرون في لحظاتهم المقبلة.
قال «بو عمير»: إن المواجهة الآن ليست في صالحنا، إننا نريد الجزيرة! وقال «أحمد» بعد لحظة: هذا صحيح. يجب أن نختفيَ فورًا؛ فالمؤكد أنهم رصدونا، وإلَّا ما وضعوا هذه الألغام!
صمت لحظةً ثم أكمل: إنهم قد يستخدمون قنابل موجهة؛ علينا أن نغوص في الأعماق! وأسرع يضغط عددًا من الأزرار، فتحول اللنش إلى غواصةٍ صغيرةٍ، أخذت طريقها بسرعة إلى قلب المحيط، ولم تكد تغادر سطح الماء، حتى رصد الرادار طوربيدًا مائيًّا يندفع بسرعة فائقة في اتجاههم، لكنه لم يكد يدخل المجال الكهربي للغواصة حتى انفجر انفجارًا قويًّا، جعل الغواصة ترتج، وظلت تغوص إلى أعماق أبعد …
كان الرادار لا يزال يرصد الباخرة، التي كانت تظهر كعلامة سوداء فوق الشاشة المضيئة، وكان هذا يعني في نفس الوقت أن الباخرة يمكن أن ترصدهم أيضا، فقال «عثمان» يجب أن نخرج عن مدى الرصد!
رفع «خالد» سرعة الغواصة، وأخذ اتجاهًا بعيدًا عن مدى الباخرة. وانقضت نصف ساعة، قبل أن تختفيَ الباخرة من فوق شاشة الرادار، وفي نفس الوقت كانت تأخذ اتجاه جزيرة «کومورو». أضاء «خالد» الأنوار الأمامية للغواصة فبدت أعماق المحيط. كانت أسماكٌ كثيرةٌ تدور حولها في مجموعات وهي تلمع وسط النور، وكان الشياطين يرقبون ذلك الاستعراض الطبيعي الممتع. فجأة قال «عثمان»: سوف أنام قليلًا! فنظم الشياطين أنفسهم، وجلس «بو عمير» إلى عجلة القيادة، وجلس معه «أحمد». وانصرف «عثمان» و«خالد» ليأخذا دورهما في النوم.
كان الوقت قد اقترب من منتصف الليل، وهدوء مريح قد شمل كل شيء. ألوان الأسماك في سباقها مع الغواصة والموسيقى الرقيقة التي تنبعث من مسجل التابلوه الأمامي. فجأة اهتزت الغواصة اهتزازًا شديدًا، حتى إن «عثمان» و«خالد» انضمَّا إليهما وظلَّت الغواصة تهتز، وظهرت على شاشة الرادار كتلة سوداء ضخمة … قال «بو عمير»: لا أظن أنها غواصة غارقة.
ردَّ «عثمان»: هل يكون أحد الأحياء المائية الضخمة حوتًا أو سمكة قرش!
ضغط «أحمد» زرًّا، فتوقَّفت الموجات الكهربية، وهدأت الغواصة، فقال: إن أحد الأجسام قد مسَّه المجال الكهربي؛ فأحدث هذا الاهتزاز. تقدمت الغواصة في اتجاه الجسم الأسود، الذي كان يظهر على شاشة الرادار، فظهرت سفينة غارقة. ظلوا يقتربون منها، حتى اتَّضحت تمامًا فتوقفوا بجوارها. كانت تبدو قديمة تمامًا، وقد ظهرت عليها بعض النباتات البحرية، والقواقع … فجأة، لاحظ «بو عمير» نقطة صغيرة تظهر على شاشة الرادار، كانت تندفع بقوة في اتجاههم، فلفت أنظار الشياطين إليها، فقال «أحمد» بسرعة: إنها طوربيد، في طريقه إلينا! وبسرعة، ضغط زر المجال الكهربي، فحدثت موجة قوية، هزَّت الغواصة بعنف. لقد انفجر الطوربيد.
قال «أحمد» وهو يمسك أحد الأعمدة المعدنية بقوة حتى لا يسقط: إنهم يطاردوننا. يجب أن ننطلق مرةً أخرى ثم نرى! رفع «بو عمير» سرعة الغواصة، فانطلقت. ظلوا متحفزين. إنهم يمكن أن يواجهوا العصابة في أعماق المحيط. كانت أعينهم مركزة على شاشة الرادار، التي كانت تبدو لامعةً بيضاء، لا يظهر عليها شيء. قال «أحمد»: اذهبا للنوم. إن أمامنا معركةً تحتاج للاستعداد! فانصرف «عثمان» و«خالد»، وظلَّ «أحمد» بجوار «بو عمير» الذي كان يجلس إلى عجلة القيادة. وكان «أحمد» يفكِّر، تُرى أين تقف الآن باخرة العصابة، ما دامت لا تظهر على شاشة الرادار!
ضغط زرًّا، فانطلقت موجة صوتية، وتحرَّك مؤشر في التابلوه. بعد لحظات، كان المؤشر يتوقَّف عند رقم معين. جعل «أحمد» يقول: إننا بعيدون عنها جدًّا! فتساءل «بو عمير»: لكنهم يطاردوننا بطريقة أو بأخرى، وإلَّا ما أطلقوا هذا الطوربيد!
لم يعلق «أحمد» بكلمة، لكنه في نفس الوقت كان يفكِّر في طريقة للصدام. إن هذه المحاورة قد لا تؤدي إلى نتيجةٍ حاسمةٍ غير أنه فكَّر في تأجيل الصدام إلى الصباح، ومرَّ الوقت سريعًا. وعندما كان «بو عمير» ينظر في الساعة التي أمامه، كانت عقاربها تقترب من الخامسة، فقال ﻟ «أحمد»: هل نصعد الآن؟ إننا يمكن أن نُعد خطتنا القادمة على أساس معلومات السطح!
كان «بو عمير» يقصد سطح الماء، ففكَّر «أحمد» قليلًا قبل أن يقول: هذا حقيقي! وبدأ «بو عمير» يطفو إلى السطح في هدوء، في نفس الوقت الذي كان «أحمد» يرقب حركة الرادار. لم يكن يسجِّل شيئًا. وقليلًا قليلًا، كانت الغواصة تقترب من السطح. وانتقل «أحمد» إلى حيث منظارها، حتى إذا اقتربت من السطح تمامًا، بدأ ينظر فيه، ويوجهه إلى كل الاتجاهات. لم يكن يظهر على السطح أي شيء.
أعطى إشارة ﻟ «بو عمير» حتى يطفو، وعندما أصبحت الغواصة طافية، ضغط «بو عمير» عدة أزرار، فعادت لنشًا كما كانت. كانت أضواء الفجر الخافتة تنتشر في هدوء، وكان الأفق يبدو مُعتِمًا في لون السواد، وجاء صوت «خالد» من داخل اللنش: هل وصلنا؟ ردَّ «أحمد» أظنُّ أننا نقترب!
أخرج الخريطة الصغيرة من جيبه ثم حدَّد المكان الذي يسيرون فيه الآن. وحدَّد موقع جزر «کومورو» … أرسل موجةً صوتيةً، أعطته المسافة بعد قليل، ونظر إلى مؤشر السرعة، ثم قال: أمامنا ثلاث ساعاتٍ، لنصبح على مشارف الجزيرة. استيقظ «عثمان» هو الآخر، واقترب الاثنان من «أحمد» و«بو عمير»، فقال «خالد»: يجب أن ترتاحا قليلًا، إننا نقترب من نقطة الصدام!
أخذ «عثمان» مكان «بو عمير» الذي انصرف هو و«أحمد» ليرتاحا قليلًا، وكان ضوء النهار يزحف في بطءٍ على سطح المحيط. فقال «خالد»: هذا هو مضيق «موزمبيق». إننا نقطعه منذ بداية الليل! ظل اللنش يتقدَّم بسرعة، وأضواء النهار التي تتسرب إلى الوجود تكشف سطح الماء أكثر فأكثر، حتى بدأت الألوان الحمراء تنتشر عند الأفق، وظهر طائر النورس الأبيض، فقال «عثمان»: إننا نقترب؛ فهذا هو طائر النورس يدلُّنا على المكان.
فجأة، امتلأت شاشة الرادار باهتزازاتٍ جعلت «خالد» يقول: إن هناك حالةَ تشويشٍ علينا، وهذا يعني أن العصابة في مكانٍ قريبٍ! واستمرت حالة التشويش حتى إن «خالد» أيقظ «أحمد» و«بو عمير»، فقال «أحمد»: يجب أن نستعدَّ! وأخذ الثلاثة يلبسون ملابس الغوص، ثم تقدَّم «بو عمير» فأخذ مكان «عثمان» حتى يستعدَّ هو الآخر …
فجأة، سمع الشياطين صوت طائرةٍ، فأنصت «أحمد» بتركيزٍ، ثم قال: إنها طائرةٌ صغيرةٌ. يبدو أنها للاستطلاع! واتَّجه إلى مؤخرة اللنش، ثم أخذ ينظر في اتجاه الصوت. كانت هناك طائرةٌ تقترب، ففكَّر بسرعة: هل تقذفنا بشيء؟! ثم أسرع إلى مدفع رشاش ثُبِّت في وسط اللنش، ثم أخرج ماسورته من النافذة وانتظر. كانت الطائرة تأتي من ارتفاع متوسط في اتجاه اللنش مباشرة، فأحكم النيشان في اتجاهها، وعندما أصبحت في مدى المدفع، أطلق دفعة طلقات، أصابت خزان الوقود، فاشتعلت فيها النيران ثم انفجرت مُحدِثةً فرقعةً دوت في الفضاء، وسقطت متناثرةً فوق سطح الماء في نفس اللحظة، التي ظهرت فيها عند الأفق باخرةٌ ضخمةٌ جعلت «عثمان» يقول: ها قد بدأ الصدام!