نسبه الأرغيُّ
كان مُلْك مقدونيا مستقرًّا في أفراد سلالة واحدة وهي الأرغيُّون. وينتسب الإسكندر إلى ملوك أرغيِّين يمكن تتبُّع نسبهم بشيء من الدقة إلى أواخر القرن السادس. كان أبوه فيليب أرغيًّا، وانتمت أمه أوليمبياس إلى هذه السلالة بالزواج؛ ومن ثَمَّ كانت الصلةُ بالميلاد عاملًا جوهريًّا في تحديد كلِّ مَن يتولى عرش البلاد. كان منصب الملك، بمجرد أن يُضمَن، يجلب مزايا غير متاحة للآخرين، لكنه كان يتمخض أيضًا عن تهديدات خطيرة تحيق بالاحتفاظ بالسلطة. وإذ نستهلُّ بتاريخ العشيرة الأرغيَّة وطبيعتها، سنلتفت إلى الطريقة التي استعمل بها فيليب الثاني السلطةَ الملكية ودلالة إنجازاته لابنه وخليفته، ثم إلى الشق الآخَر من نسبه؛ إذ بحلول زمن أمينتاس الثالث أبي فيليب، لم يكن دور الملكة الأم بالشيء الهيِّن، ولم تكن أوليمبياس استثناءً من هذا.
(١) السلالة الأرغيَّة
ينتمي الإسكندر، من ناحية أبيه، إلى السلالة الأرغيَّة، وهي العشيرة الحاكمة للمكدونيين. ومع أن أمه أوليمبياس كانت إبيروسية، فلم يكن النَّسَب من جهة الأم على ما يبدو عاملًا يُفقِد ابن الملك أهليته كوريث محتمل لأبيه؛ إذ كانت أم فيليب نفسه تنتمي إلى أصول إليرية ولنكستية، ونُودِي بكلٍّ من أبنائها الثلاثة ملكًا.
كان لدى هيرودوت سببٌ وجيه، في وصفه الحروب الفارسية، لإيراد إشارات إلى مقدون وملكَيْها: أمينتاس الأول الذي حكم حتى ٤٩٧/٤٩٨، وابنه الإسكندر الأول الذي خلفه في المُلْك وتمتَّع بفترة حكم طويلة حتى حوالي سنة ٤٥٤. وإذ يصف هيرودوت مهمة الإسكندر، وهي إقناع الأثينيين بالانضمام إليه في قضيته الفارسية، يسرد أصلَ السلالة الأرغيَّة ومنزلةَ الإسكندر منها.
كان الإسكندر الأول ابن أمينتاس الأول ابن ألكيتاس، وكان أبو ألكيتاس يُسمَّى أيروبوس، وكان أبو أيروبوس يُسمَّى فيليبوس، وكان أبو فيليبوس يُسمَّى أرغايوس، وكان أبو أرغايوس يُسمَّى بيرديكاس، وهو أول مَن وليَ المُلْك. (الكتاب الثامن، ١٣٩)
ولِيَ أمرَ المقدونيين على هذا النحو: فرَّ ثلاثة من الأشقاء، وهم جفانيس وأيروبوس وبيرديكاس أبناء تيمينوس، من أرجوس [في اليونان] إلى إليريا، ومن هناك عبروا إلى مقدونيا العليا واستقروا في مدينة ليبايا. عملوا هناك في خدمة الملك مقابل أجر؛ فكان أحدهم يعتني بالخيول، وآخَر بالثيران، وأصغرهم وهو بيرديكاس ببقية القطيع … كانت زوجة الملك تطهو لهم الطعام، وعند الخَبْز، كان الخُبْز المخصَّص للصبي بيرديكاس يختمر حتى يصير مثلَيْ حجمه الطبيعي. ولما رأت هذا يتكرر دائمًا، أخبرت زوجها بالأمر، فخطر ببال الملك فور سماعه القصة أن هذا أمارة شيء مهم، فاستدعى الخَدَم وأمرهم بالرحيل عن بلده، فطلبوا منه — مُحِقِّين — أن يعطيهم أجرهم ليرحلوا. وبينما كان الملك يستمع إلى مُطالَبتهم بأجرهم، كانت أشعة الشمس تتخلَّل مَدخنةَ المنزل، فقال باستهتارٍ مشيرًا إلى الشمس: «أعطيكم هذه أجرًا لكم.» فوقف الأخوان الكبيران جفانيس وأيروبوس مبهوتَين لدى سماعهما هذا، وأما الصبي، الذي صادف أنْ كان ممسكًا بسكين، فقال: «أيها الملك، إننا نقبل ما تعطينا إياه.» ورسم خطًّا على الأرض بسكينه، وبعد أن اغترف في حِجْره ثلاثَ غرفات من أشعة الشمس، رحل هو والآخران. (الكتاب الثامن، ١٣٨، ١–٥)
استيقن الملك وجود شيء غريب في هذا كله، فأرسل رجالًا على ظهور الجياد لوقف الإخوة، وكان في الطريق نهرٌ تمكَّنَ الإخوة من عبوره، لكن مياهه ارتفعَتْ بعدئذٍ بشدة على نحوٍ حالَ دونَ قدرةِ مُطارِديهم على التقدُّم. وفي النهاية وصل الشباب إلى جزء آخَر من مقدونيا يُسمَّى حدائق ميداس، كانت وروده البرِّية التي تُخرِج زهورًا بها ٦٠ بتلة تبعث بأذكى عبير في الدنيا.
تحمل هذه الحكاية كثيرًا من أمارات الحكايات الفولكلورية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن وجهة النظر المقدونية بوجود صلة قرابة قديمة باليونان. وربما توحي أيضًا ببعض الشكوك المحيطة بأصول السلالة الأرغيَّة نظرًا لوجود روايات بديلة تتحدث عن الجد الأول لهذه السلالة؛ إذ توجد رواية أخرى تقول إن مؤسس الأسرة كارانوس، الذي يُوصَف أحيانًا بأنه شقيق طاغية أرغوس في القرن السابع؛ غير أن كلمة كارانوس الإغريقية تحمل معنى «حاكم» عمومًا. وأما نَسَب المكدونيين كما يورده هيسيودوس فيجعل من مكدون الجدَّ الأول للسلالة. كان مكدون ابنَ زيوس وحفيدَ ديوكاليون — من جهة أمه ثيا — ومن ثَمَّ هو ابن عم دوروس وأيولوس وكوتوس الذين كانوا الجدود الأوائل للدوريين والأيوليين والأيونيين (قصيدتا «قائمة النساء» و«إيواي»، شذْرة ٣). ربما تعكس كلتا الروايتين محاولاتٍ للربط بين المقدونيين والإغريق، ويتفق الكثيرون مع وجهة نظر يوجين بورزا أن هذه الروايات التي تتحدَّث عن أصل الأرغيِّين في أرجوس برزت في القرن الخامس، وتمحورت حول الإسكندر الأول الذي كان يُلقَّب بمُحِب الإغريق.
على الرغم من أن أصل أسرة مقدون المالكة يظل غير مؤكَّد، لا يمكن إنكار أهمية الانتماء إليه في الحكم المقدوني؛ إذ كان لزامًا أن يكون المرء من أبناء هذه السلالة لكي يطمح إلى ولاية المُلك. وفي الوقت نفسه تمخَّضَتِ الظروف المرتبطة بحجم السلالة المتزايد عن فروعٍ جانبية وتوتُّرات بين هذه الفروع، وكثيرًا ما تمخَّضَتْ عن صعوباتٍ بالغة في وجه أرغيِّين بعينهم.
ثمة ميزة تتجلَّى فورًا للعيان، وهي أن انتماء المرء إلى هذه السلالة كان يمنحه فرصةً لتولِّي الملك، وهو ما كان عاملًا بالغَ الأهمية. المعتاد أن ابن الملك يخلف أباه على نحو ما يتبين من رواية هيرودوت عن العلاقة بين الملوك الستة الأوائل، غير أن هذا لم يكن هو الحال دائمًا؛ إذ إنه لدى موت أمينتاس الثالث، آلَ المُلْكُ إلى ابنه الإسكندر الثاني، لكن مَن خلف الإسكندر كان أخاه. توجد ممارسة أخرى معتادة هي أيلولة المُلْك إلى أول مولود ذَكَر يُولَد للملك الحالي، لكنْ من جديدٍ كانت هناك استثناءاتٌ، وخصوصًا عند حدوث شجارات بين أبناء الملك المتوفَّى. علاوةً على ذلك، فإن طبيعة ما لدينا من شواهد حول شئون مقدون الداخلية تَحُول دون التيقُّن من تواريخ الميلاد، فمن الجائز على سبيل المثال أن الإسكندر الثالث كان الابن الثاني لفيليب.
زاد تكاثُر فروع الأسرة الحاكمة الخلافةَ تعقيدًا على تعقيدها؛ ففي الصراع الذي أعقب موت بيرديكاس الثاني، والذي أسلفنا وصفه في الفصل الثاني، ولِيَ المُلْكَ لفترات وجيزة أبناءُ ثلاثة أفرع أرغيَّة. وفيما بعدُ لدى موت فيليب الثاني، كان من الجائز أن يعود المُلْك إلى ذرية أخيه بيرديكاس الذي سبقه على العرش؛ إذ كان لبيرديكاس ابن هو أمينتاس، وتُخطِّيَ لصِغَر سنه لمصلحة عمه فيليب، وبحلول سنة ٣٣٦ كان أمينتاس هذا رجلًا يحقُّ له المطالَبة بالمُلْك. وفيما بعدُ لدى موت الإسكندر الثالث سنة ٣٢٣، وقع اختيار جمعية الجيش على ابن فيليب، وهو فيليب أريدايوس، وأما قواد الإسكندر فوقع اختيارهم على طفل الإسكندر، وكان لا يزال جنينًا في بطن أمه، شريطةَ أن يكون ذَكَرًا. وهكذا، فعلى الرغم ممَّا يبدو من انحصار الاختيار في أبناء السلالة الأرغيَّة لعدة قرون قبل زمن الإسكندر، كان المرشحون الأرغيُّون لوراثة العرش كثيرين.
(١-١) طبيعة الحكم الأرغي
كانت هذه الآصرة بين الملك الأرغيِّ وجمعية الجيش ضروريةً لوراثة العرش ومِن بعدها حُكْم المملكة. ولم يصف هيرودوت الإسكندر ﮐ «بازيليوس» (بمعنى حاكم) المقدونيين فحسب، بل أيضًا ﮐ «استراتيجوس» (بمعنى قائد) جيش المملكة (الكتاب التاسع، ٤٤). ولا يسعنا تمييز الفرق بين معنيَي الكلمتين في أذهان المقدونيين، بل من غير المؤكد أن المقدونيين أنفسهم كانوا يلقبون زعيمهم «بازيليوس»؛ لأن المسكوكات النقدية التي ضربها فيليب الثاني لا تحمل هذا اللقب، ولا نجد إلا قُرْبَ نهاية حكم الإسكندر الثالث مسكوكةً نقدية منقوشة تجمع بين كلمتَيْ ألكساندرو وبازيليوس. ومن ناحيةٍ أخرى، من المؤكد أن الواجبات والامتيازات المرتبطة بالقيادة كانت جزءًا لا يتجزَّأ من ولاية حكم المقدونيين.
كان مجمل صلاحيات الملوك المقدونيين وامتيازاتهم من نواحٍ كثيرة مماثلًا لصلاحيات أبطال هوميروس وامتيازاتهم؛ إذ اكتسب كلٌّ من أبطال الملاحم والحكام المقدونيين السلطة واحتفظوا بها بفضل مقدرتهم الشخصية، لا بصفتهم شاغلين لمنصب رسمي. كان الملوك المقدونيون دائمًا ناجحين بصورة أو بأخرى وفقًا لقدراتهم الفردية، وبفضل التهديد المستمر بالغزو من الشعوب المجاورة، كانت القيادة العسكرية المجربة متطلَّبًا جوهريًّا على الدوام. ومثلما رأينا، فإن تاريخ مقدون قبل حكم الإسكندر وبعده على السواء يبرهن تمامًا على الأخطار المتأصلة في موقع المملكة «الوسيط» بين أوروبا القارية وشبه الجزيرة اليونانية؛ ما كان يجتذب دومًا دخلاء من كل حدب وصوب.
تجسَّدَتْ هذه الحاجة إلى قوة عسكرية للحفاظ على المملكة في المؤسسات المقدونية؛ فبمجيء عهد فيليب الثاني، وربما في وقت مبكر من ذلك في عهد الإسكندر الأول، كان كل الرجال الأحرار القادرين على حمل السلاح ذوي أهمية بالغة في الحفاظ على كلٍّ من الدولة وسلطةِ أيِّ حاكمٍ بعينه بالتبعية. كانت تسميةُ الملك حقًّا مكفولًا لجمعية الجيش ومسئوليةً منوطة بها، وبما أن الرجل المختار سيقود الجيش إلى النصر أو الهزيمة، فلا بد من أن يحوز بوضوح خصال القيادة في الميدان؛ لأن المتوقَّع من الملك أن يقود رجاله لا بمعرفته باللوجستيات والاستراتيجيات فحسب، بل أيضًا ببراعته الشخصية في المعركة، فيقاتل في الطليعة مثلما فعل آخيل وديوميديس وكلُّ قادة الفِرَق الآخرين في طروادة.
ما زاد الحاجة إلى القوة العسكرية طبيعةُ الشئون السياسية الداخلية في المملكة؛ إذ وُجِدت عائلات نبيلة أخرى حتى في مقدونيا الدنيا قبل توسُّع المملكة إلى مقدونيا العليا، لكن هذا التوسُّع أضاف إلى الدولة عددًا من السلالات «الملكية» التي كان لكلٍّ منها في مملكتها ما للأرغيِّين في مقدون. كانت الدبلوماسية في التعامل مع هذه العائلات مهمة، لكنَّ الجنود المقدونيين تحت قيادة ملكهم كانوا الأساس الذي تنبني عليه الدبلوماسية الناجحة. تمتعت نخب المملكة الموسعة بمنزلة صحابة الملك أو «هيتايروي»، وبمرور الزمن اكتسبَتْ أواصر الولاء قوةً تجاوزَتْ حدودَ تهديد الانتقام البدني إذا ما قُطِعت هذه الأواصر. وسنبحث هذه التطورات بحثًا أتمَّ في الفصل الخامس.
جاء أحد سبل إقامة روابط أقوى مع اتساع رقعة المملكة؛ مما أتاح فرصة إقامة آصرة اقتصادية بين الملك والصحابة الجدد. وقيل إن الأرض التي اكتُسِبت بالفتح صارت بيد الملك يمنح مَن يشاء حقَّ استخدامها مقابلَ التزاماتٍ معينةٍ تُؤدَّى إليه. ومع توسيع الملوك المقدونيين من أمثال فيليب نطاقَ مُلْكهم، زادوا مقدارَ الأراضي المتاحة لتخصيصها لأغراض كثيرة من ضمنها إقامةُ مستوطنات مقدونية جديدة. ربما كان من بين شاغلي الأراضي المضمومة إلى المملكة حديثًا محاربون صحابة استُقطِبوا من أصقاع أخرى من محيط بحر إيجة؛ إذ استقر نيارخوس الكريتي في مستعمرة أثينا السابقة أمفيبوليس أثناء حكم فيليب. كان نيارخوس واحدًا من صحابة (هيتايروي) فيليب ومن بعده الإسكندر؛ إذ شغل منصب مستشار كبير لهذا الأخير. وكان الأخوان إريجيوس ولاوميدون ينتميان إلى ميتيلين في جزيرة ليسبوس الإغريقية، واستقرَّا هما أيضًا في أمفيبوليس وصارا من صحابة فيليب ثم الإسكندر.
من ضمن وسائل توثيق الأواصر مع العائلات النبيلة الأخرى ابتكارٌ يُنسَب إلى فيليب الأول، وهو سياسة إرسال أبناء العائلات المهمة بمقدونيا العليا إلى بيلا لتلقِّي التدريب كحاشيةٍ (حرَّاس شخصيين ثم ضباط مستقبليين) للملك ورفاقٍ لأبنائه. كان هذا الترتيب يحقِّق غايات عدة، فيوفر العناصر اللازمة للإدارة المدنية والعسكرية الفعالة في الحاضر وفي المستقبل القريب على السواء، ويضع بين أيدي الملك الأرغيِّ رهائن لضمان حُسْن سلوك آبائهم. كان من بين أبناء كبار النبلاء من أجزاء المملكة الأخرى كراتيروس وبيرديكاس وفيلوتاس، الذين سيكونون ضباطًا مهمين في جيش الإسكندر. ونشأ أيضًا هفایستیون، الشهير بأنه أقرب المقربين إلى الإسكندر، في هذه المنظومة في بيلا.
كان يقام منتدًى لتبادُل وجهات النظر بين عمداء العائلات النخبوية، ويبدو أنه كان بُعْدًا آخر من أبعاد الآصرة بين الملوك الأرغيِّين ومَن يدانونهم في المنزلة. وتذكر المصادر التي تتحدَّث عن حُكْم الإسكندر اجتماعاته المنتظمة مع كبار معاونيه. وعندما أحيط الإسكندر علمًا بتحرُّكات داريوس وجيشه قبل معركة إيسوس على سبيل المثال، جمع أصحابه لينبئهم بالأمر، فشجَّعوه على المضي قدمًا، وبعدها فضَّ الاجتماع (وكان يُسمَّى «سيلوجوس» بمعنى النادي) (آريانوس، الكتاب الثاني، ٦، ١). وفي وقت لاحق عندما ضرب المقدونيون الحصارَ حول صور، جاء رسل من لدن داريوس عارضين ١٠ آلاف وزنة والتخلِّي عن الأرض الممتدة من نهر الفرات إلى ساحل البحر الهيليني، فدعا الإسكندر ناديه لمناقشة العرض (آريانوس، الكتاب الثاني، ٢٥، ١-٢). وكما هو متوقَّع، كانت المرونةُ سمةَ عضويةِ هذه الاجتماعات وحضورها؛ إذ كان الضباط يُبتعَثون لتنفيذ مسئولياتٍ بعيدًا عن فسطاط الملك أو كان الموت يغيِّبهم نهائيًّا. والراجح أن فيليب وظَّفَ ناديًا مماثِلًا للنقاش بين كبار أصحابه، لكن يبدو مُستبعَدًا وجودُ هيئةٍ ثابتة تشكِّل مجلسًا رسميًّا في مقدون قبل الفترة الهلنستية. بدلًا من ذلك وعلى الطراز الهوميري، كان الملك يستشير، كما يهوى، مَن حضر من أصحابه من ذوي الحظوة.
كانت في صميم هذا الهيكل المؤلف من القيادة العسكرية وأواصر الولاء مع العائلات المهمة ملامحُ أخرى من ملامح السلطة الملكية، وأحدُها المسئوليةُ عن العلاقات مع الآلهة. يصعب تأكيد هُوِيَّة الآلهة المقدونية وخصوصًا في فترة ما قبل حكم أرخيلاوس (٤١٣–٣٩٩)؛ فمن ناحيةٍ، كانت الصلة بين الأرغيِّين والآلهة سلسلةَ نَسَبٍ طويلة؛ إذ كان الأرغيُّون يدَّعون أن هرقل، وهو من نسل زيوس، جَدُّهم لأبيهم. ومن خلال العائلة الأياكيدية التي تنتمي إليها أم الإسكندر أوليمبياس، كان نسبه ينتهي إلى آخيل، الذي كانت أمه حورية البحر ثيتس. لكن ثمة ما يسوِّغ اعتقادنا أن مِلل الأوليمبيين ازدادت أهميةً في المملكة في ظل الأغرقة التي اتبعها أرخيلاوس، الذي استحدث مهرجانًا لزيوس وألعابًا على شرف زيوس وربات الفنون (آريانوس، الكتاب الأول، ١١، ١). كان المقدونيون يدمغون نقودهم بصور أبولو وزيوس وديونيسيوس وهرقل، ولنا أن نستنتج أن ديونيسيوس كان مألوفًا لدى المقدونيين بما أن الكاتب التراجيدي يوربيديس ألَّفَ مأساته «الباخوسيات» وهو في بيلا. بحلول سنة ٣٣٦، كان آخِر احتفال يُقام في عهد فيليب يشتمل على تماثيل ١٢ إلهًا (الأولمبيين الاثني عشر لا شك) وتمثال ثالث عشر لفيليب (ديودورس، الكتاب السادس عشر، ٩٢، ٥). وكان الإسكندر يحرص على تقديم القرابين بانتظامٍ إلى الأولمبيين مثلما كان يحرص على تقديمها إلى أثينا في إليوم (آريانوس، الكتاب الأول، ١١، ٧). وتُبرهن المعابد المكرَّسة للآلهة التي عُبِدت في العالَم الإغريقي أيضًا على العلاقات بين الممارسات الدينية في الثقافتين.
لكن توجد آثار ممارسات أخرى ترتبط بجوانب جوهرية للمُلْك؛ إذ كان الملك يطهِّر الجيش بتقديم قربان على هيئة كلب، وكان يقود موكب الجنود وهم يسيرون بين شطرَيْ هذه الأضحية. علاوةً على ذلك، ظلَّتْ مِلَل الأبطال من الطراز العتيق أمثال مَن وصفهم هوميروس جزءًا من الممارسة المقدونية؛ إذ استحدث الإسكندر لتمجيد صاحبه هفایستیون طقوسًا تليق بالأبطال (آريانوس، الكتاب السابع، ٢٣، ٦-٧)، وكان يسعى جاهدًا للتفوق على إنجازات الأبطال المعروفين كهرقل. ودُفِن جده الإسكندر الأول في ضريح للأبطال (هيرون) في آيجي، وهي لا شكَّ ممارَسةٌ ارتبطت باليونان العتيقة، لكنها كانت إلى حد كبير قد أُبطِلت بحلول القرنين الخامس والرابع.
في اليوم التالي اغتسل وقدَّم القرابين … وفي اليوم الذي تلاه اغتسل من جديد وقدَّم قرابين لائقة على الرغم من الحمَّى الشديدة التي ألمَّتْ به. واغتسل في المساء، وبعد اغتساله كان في أشد حالات المرض. وفي اليوم التالي حُمِل إلى الحمام، ومن جديدٍ قدَّمَ قرابين لائقة. لكن في اليوم التالي حملوه إلى البقعة المقدسة فلم يَقْوَ على تقديم القرابين إلا بمشقة بالغة. (الكتاب السابع، ٢٥، ٤-٥)
كان الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الآلهة مسألة تهم أشخاصًا أكثر من الملك؛ إذ كان هناك طاقم من العرافين يشكِّل جزءًا من جهاز الحكم في بيلا أثناء حكم فيليب الثاني، ورافَقَ الإسكندرَ في حملته واحدٌ على الأقل من هذا الطاقم.
لهذه السمات العديدة التي اتسم بها الملوك الأرغيُّون جذورٌ عميقة، وكانت هناك سمة أحدث من ذلك برزت مع التطورات في أواخر القرن الخامس والقرن الرابع؛ إذ تمخضت السيطرة المتزايدة على رقعة متسعة من الأراضي وسكانها عن حاجات إدارية. كانت بيلا قد تحولت إلى مركز إداري منذ عهد أرخيلاوس، ونال أرخيلاوس ذاته من الأثينيين منزلة الضيف-الصديق والمعطاء. لم تكن بيلا مقر إقامة الملك الأرغيِّ وآل بيته فحسب، بل كانت آنذاك أيضًا مركز دواوين الدولة، فكانت تضم أمانة السر وسجلاتها، ومديري الموارد، ووحدات من قبيل ديوان المعدات الحربية، وأماكن إقامة الرسل. كانت تُجبَى ضرائب على الأرض واستخدام المرافئ والمناجم، وكانت الأراضي الملكية تُدار بتأجيرها لمَن يفلحها. على الرغم من عدم وضوح وسائل جمع الضرائب أو الإشراف على استغلال الموارد، إلا أن الأرغيِّين كانت لديهم يقينًا هذه الوسائلُ، وخصوصًا على عهدَيْ فيليب والإسكندر، اللذين احتفظا بجيشين كبيرين وشقَّا الطرق وأقامَا الحصون والقلاع، وبنيَا السفن واتَّخَذَا حاشية كبيرة من أفراد الأسرة والشباب الذين يجري تدريبهم ليصيروا صحابة وزوَّار بيلا، فضلًا عن الموظفين اللازمين لتلبية حاجاتهم اليومية.
(١-٢) تبعات النَّسَب الأرغي
كان الانتماء إلى السلالة الأرغيَّة يحمل في طياته مزايا وتوقعات رفيعة، وخصوصًا للذكران؛ فالذكر الذي يُولَد لهذه الأسرة سيُدرَّب في سن الشباب ليبرهن بوضوح على امتلاكه السمات التي تنبغي لزعيم مقدوني، وسيكون لزامًا عليه — كحال تيليماخوس بن أوديسيوس — تقوية قدراته العقلية والنفسية لكي يقضي على التهديدات التي تحيق به هو ذاته وبآلِ بيته، إما بالمكر والحيلة وإما في ساحة القتال. وفي غضون ذلك سيبرهن كمَلِكٍ على قدرته، كحال أوديسيوس، على القيام «بآلاف الأعمال المجيدة، بعقد اجتماعات مفيدة، وقيادة معارك مسلحة» (الإلياذة، ٢، ٢٧٢-٢٧٣). وحتى في زمن الصبا، سيكون بمقدوره ركوب فرسه بمثل كفاءة أبناء العائلات النخبوية الأخرى إن لم تكن أفضل منها، وسيكون بإمكانه قطع مسافات شاسعة مع جنود أبيه. وعندما يصل إلى سني المراهقة، سيُدعَى إلى ممارسة تلك المهارات في ساحة القتال؛ إذ استُدعِي فيليب وهو في هذه السن لمساعدة أخيه الأكبر، وتولَّى الإسكندر قيادة الخيَّالة الثقيلة في خيرونية سنة ٣٣٨ ولم يكن له من العمر إلا ١٨ سنة.
لكن الإسكندر أسرع إلى الحصان وأمسَكَ بلجامه وأداره نحو الشمس بعد أن لاحَظَ أنه يجفل من مرأى ظله أمامه يصاحبه أينما تحرَّك. ركض بجوار الحصان مسافة قصيرة، مهدِّئًا من روعه بالتربيت على جسمه، ولما رآه مفعمًا بالحيوية والعزم، ألقى رداءه جانبًا في هدوء وبوثبة خفيفة امتطى صهوته في أمان. ظل لفترة وجيزة يتلمَّس الشكيمة باللجام، دون أن يشد على فمه أو يوجعه، حتى أذهب روعه. وأخيرًا لما رأى الحصان وقد ذهبت عنه مخاوفه ويتلهف على إظهار سرعته، أرخى له العنان وحثَّه على الانطلاق قُدمًا، مستخدِمًا صوتَه الآمِر ولمسةً من قدمه. (بلوتارخُس، الإسكندر، ٦)
بحلول أواخر القرن الخامس وبداية القرن الرابع قبل الميلاد، كان ابن الملك يُدرَّب أيضًا على مهارات الحكم بالتعليم ذي الطابع الرسمي، وسنناقش أهمية التعليم الإغريقي للمقدونيين مناقشةً أتم في الفصل الرابع. أما الآن فنقول إن تمتُّع الملوك الأرغيِّين، وخصوصًا في القرنين الخامس والرابع، بمهارات القراءة والكتابة أمر لا شك فيه؛ إذ إنَّ المعاهدات المُبرَمة بين الحكام الأرغيِّين والدول أو الشعوب أو الأحلاف الأخرى كانت مسجلة، ومن ذلك مثلًا المعاهدة بين بيرديكاس الثاني والأثينيين سنة ٤٢٢ قبل الميلاد (النقوش الإغريقية، المجلد الأول، الإصدار الثاني، ٧١ب). وكتب فيليب الثاني خطابات إلى الأثينيين وتلقَّى خطابات جوابية من أعيان الأثينيين. ومارَسَ الإسكندر مجموعةً متنوعة من المراسلات أثناء سَيْره شرقًا.
كان الوريث المحتمل للعرش، الذي يُنشَّأ في بيلا، يحصل على تصور لموارد المملكة ويدرك إدراكًا متزايدًا أهمية السيطرة عليها. كانت بيلا تحتوي على أنواع كثيرة من الموارد بالإضافة إلى الدواوين الإدارية الكائنة هناك. وأحدُ الموارد الحيوية بوجه خاص شبابُ العائلات النبيلة من عموم المملكة، الذين كانوا يُنشَّئون في بيلا ويدرَّبون كحاشية للملك وليخدموا فيما بعدُ كأصحابٍ له وضباطٍ ومستشارين. كان آباء هؤلاء الصبيان يَفِدُون بين الحين والآخر لحضور المجالس أو الندوات مع أبيه، وكان أبناء الملك يشهدون وفود الرسل من الدول البعيدة ورحيلهم بمعدل متزايد. سيكون وجود أشخاص في أجزاء أخرى من القصر يحتفظون بسجلات أو يخططون أدوات حربية جديدة أمرًا معروفًا. كان الوريث المرتقَب يسافر من بيلا إلى موقع آيجي القديم مع أهله، وخصوصًا لحضور المناسبات الطقسية، كدَفْن جَدَّة في أحد التلال الترابية، أو تطهير الجيش، أو المباريات الرياضية، أو قربان كبير يُقدَّم إلى أحد الآلهة، أو احتفال كبير. خلاصة القول أنه سيبدأ في إدراك مكانته المميزة، وهي مكانة تناسب سليل هرقل وآخيل.
لكن كانت هناك عقبات تقف في طريق الوصول إلى تلك المكانة؛ إذ كانت ممارسة تعدد الزوجات تتمخض غالبًا عن أكثر من وريث محتمل للحكم؛ ففيليب كان واحدًا من ستة أبناء أنجبهم أمينتاس الثالث، وكان للإسكندر الثالث منافسون من بينهم ابنٌ آخَر لفيليب من زوجته فيلينا، وأمينتاس ابن عمه. وستكون المكائد التي تدبِّرها زوجاتُ فيليب لتقديم أبنائهن خطرًا مصيريًّا في مساكن الأرغيِّين في بيلا. وكانت هناك تهديدات أخرى تنبع من أبناء فروع العشيرة الأرغيَّة الأخرى الذين كانوا يزدادون عددًا، وذكرنا أن أبناء ثلاثة أفرع من العشيرة الأرغيَّة تناوبوا على المُلْك في أقل من عقدٍ واحدٍ من الزمن لدى موت أرخيلاوس؛ ففي البداية، اعتُرِف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس ملكًا على البلاد، بينما تولَّى أيروبوس — ربما كان عمه — منصبَ الوَصِي على العرش، لكنه لم يقنع بالوصاية على العرش، فتخلَّص من ابن أخيه ليصير مَلِكًا، ودام حكمه أقل من أربع سنوات؛ ثم وَلِي الحكمَ أمينتاس الثاني من نسل الإسكندر الأول لفترةٍ ما حتى قُتِل على يد أحد الإيليميين؛ فخلفه على العرش بوسانياس بن أيروبوس لبضعة أشهر إلى أن أُزِيح بتهمة الخيانة. ومن وتيرة الأحداث وكثرة الأسماء الملكية يتضح لنا تمامًا عدم استقرار الحكم.
كان نظام الحاشية الذي يُنتج حراسًا خصوصيين للملك وصحابة لأبنائه، على مزاياه، ينطوي أيضًا على تداعيات كارثية؛ إذ لو قرَّرَتِ الأسرة المالكة لإحدى الممالك التي ضُمَّت إلى مقدونيا العليا تأكيدَ استقلالها عن بيلا، فمن الجائز تمامًا أن يتآمَر سليلها، الذي صار آنذاك يعيش في المدينة الملكية، ليقضي على أفراد السلالة الأرغيَّة. كان درداس الإيليمي، قاتِلُ الملك أمينتاس الثاني الذي سبقت الإشارة إليه، ينتمي على الراجح إلى هذه الفئة من الأُسَر النبيلة التي تنتمي إلى ممالك كانت ذات يوم مستقلة؛ ومن ثَمَّ ستكون الريبة في الآخَرين وعداوتهم — وخصوصًا الصحابة الذين هم على اطِّلاع على حياة المرء الخاصة — خطرًا آخَر معروفًا جيدًا لأفراد الأسرة المالكة.
في ظل كل هذه التهديدات الحقيقية، سيكون لزامًا على الابن الناجح للملك المتربِّع على العرش أن يطوِّر وعيًا ثاقبًا بحاجته إلى حماية نفسه من الأخطار المتصوَّرة. كانت تلك الأخطار حقيقية ومستمرة، ومن دأبها أن تَحُلَّ دون سابق إنذار كبير. كان من شبه المستحيل أن يصبح المرء ملك مقدون دون انتماءٍ إلى السلالة الأرغيَّة؛ لكن كما رأينا، فإن كون المرء سعيدَ الحظ بأن يكون أكبر أبناء الملك الحاكم لم يكن كافيًا لضمان وراثته المُلْك؛ ففي البداية كان يتعين على هذا الابن أن يبرهن على امتلاكه السمات المطلوبة لقيادة شعبه، وثانيًا أن يستبين أيَّ تحديات تواجِه مطالبته بالحكم ويتصدَّى لها.
(١-٣) فيليب الثاني
على الرغم من أن انتساب المرء إلى السلالة الأرغيَّة كان شرطًا شبه حتمي، كان عامل الأبوة والأمومة أيضًا حاسم الأهمية في الخلافة؛ فمنذ أن وَلِي أبناء هذه العشيرة الحكم، تكاثرت عشيرتهم وانتشرت؛ ومن ثَمَّ أتى الملوك من مختلف فروع هذه الأسرة الواحدة. وفوق ذلك كان لإنجازات الملك الحاكم — أو افتقاره إلى الإنجازات — دور حاسم في نجاح خليفته أو إخفاقه. وكثيرًا ما نجح أرغيُّون من فروع أخرى غير الفرع الذي ينتمي إليه المَلِك في تولِّي الحكم أثناء فترات التحديات الخطيرة التي واجهَتْ سلامةَ أراضي المملكة، على نحو ما يتبيَّن لنا من حالة أمينتاس الثالث. ومن ناحية أخرى، فالنجاحُ العظيم الذي قد يحقِّقه الأب ربما يتمخَّض عن طفرةِ تأييدٍ لابنه؛ لكن في هذه الأحوال، كان يمكن أن يشكل النجاح الذي حقَّقَه أبٌ نشيط صعوباتٍ حقيقيةً أمام ابنه وخليفته من حيث البناء على هذه النجاحات والتوسُّع فيها. كان للإسكندر الثالث أبٌ غير عادي؛ فكان المؤرخ ثيوبومبوس، الذي عاش في القرن الرابع وألَّفَ تاريخًا لفيليب في ٥٨ كتابًا (لم تصلنا منها إلا شذرات)، يؤمن بأن «أوروبا لم تعرف قطُّ رجلًا مثل فيليب بن أمينتاس».
وُلِد فيليب الثاني سنة ٣٨٢، وكان ثالث أبناء أمينتاس الثالث ويوريديكا وأصغرهم. وينتهي نسب أمينتاس إلى الإسكندر الأول، الذي ضاعَفَ كما رأينا رقعةَ المملكة المقدونية وارتقى على الراجح بالدور المنوط بجنود المشاة في غضون ذلك. لكن بعد حكم الإسكندر، انتقل المُلْك إلى فرع آخَر من فروع العائلة الملكية. استفاد أمينتاس نفسه من ازدياد التنافس على العرش الذي رافَقَ اغتيال أرخيلاوس سنة ٣٩٩، وإذ تمكَّنَ ببراعة من النجاة من ست سنوات من التهديدات المستمرة التي واجهت مطالبته بالعرش، والتي كانت تنبع من أرغيِّين آخَرين ومن أعداء خارجيين على حد سواء؛ وطَّدَ دعائم حكمه في ٣٩٣-٣٩٢.
لم يكن عهده عهد سلام، ففي بداية حكمه، أُطِيح من السلطة بفعل غزوٍ إليريٍّ لمقدونيا أقام على العرش ملكًا آخر سهل الانقياد. فاستطاع أمينتاس تأمينَ عَوْنِ الدول المجاورة التي كانت في حد ذاتها قَلِقةً من عدوان الإليريين على أراضيها، وأعني مدينة أولينثوس الإغريقية القوية في جنوب شبه جزيرة خالكيذيكي، وربما ساعَدَه التيساليون في استعادة العرش؛ إذ إنه بالإضافة إلى استخدام القوة، وافَقَ على دفْعِ جزية سنوية إلى الإليريين في مقابل انسحابهم. كان أمنه الشخصي وأمن مملكته أيضًا في خطر مستمر مصدرُه الدولُ الإغريقية الكبرى، والقوى الأخرى المجاورةُ غير الإغريقية، والتنافُسُ الداخلي بين المناطق المضمومة حديثًا إلى المملكة، والتنافُسُ بين الأرغيِّين أنفسهم.
من الجائز تمامًا أن يوريديكا أم فيليب كانت تمثِّل في نسبها نفوذ القوى غير الإغريقية والنزعة الإقليمية التي كنت تفتُّ في تلاحُم المملكة المقدونية، بما أن المصادر تصفها بأنها تجري في عروقها دماء إليرية ولنكستية. وربما يمثِّل زواجُها من أمينتاس التحالُفاتِ التي كان الملك المقدوني يسعى إلى تقويتها. نُسِب تاريخ هذا الزواج إلى حوالي سنة ٣٩٠ على أساس أن الابن الأكبر الذي جاء ثمرة القِران وليَ الملك سنة ٣٦٩ كقائدٍ نَشِط، لا كبيدق غِرٍّ في أيدي الآخرين. واتخذ أمينتاس بالإضافة إلى يوريديكا زوجة ثانية وهي جايجيا، التي كانت على الراجح أرغيَّة وأنجبت له أيضًا ثلاثة أبناء. لم يكن تعدُّد الزوجات بين الأرغيِّين بالممارسة الجديدة؛ إذ أنجب بيرديكاس الثاني أولادًا من ثلاث نسوة، ومثله أرخيلاوس، ومن الجائز تمامًا أن أبناء الإسكندر الأول الخمسة كانوا ينتمون إلى أكثر من أم واحدة. وتوحي حقيقة أن ثلاثة فقط منهم شاركوا في الحكم في حياة أبيهم، وأن اثنين فقط منهم كانا مرشَّحَيْن لخلافته بعد موته، بتساوي النسب من جهة الأم والنسب من جهة الأب في الأهمية.
تحتلُّ يوريديكا مكانة بارزة في المصادر القديمة، وخصوصًا التأريخات المتأخرة، وتكشف الشواهد التي تعود إلى عهد زوجها عن مكانتها المرتبطة بالدين؛ إذ يوجد بين أطلال معبد صغير في آيجي نقشٌ يعود إلى أوائل القرن الرابع يقول: «يوريديكا ابنة سيراس من أجل يوكليا.» ويُستخدم «يوكليا» لقبًا للربات الإغريقيات، كأرتميس، أو ربما يمثل اسم ربة معينة.
إن نجاح يوريديكا في التعامل مع الشئون السياسية العائلية والنجاة من مكائدها كشف عن دهائها في الحفاظ على نفوذها، وأيضًا حياتها، بعد موت أمينتاس الثالث. والحقيقة أنها عاشت بعده عشرين سنة أخرى أو أكثر، وهي سنوات تطلبت منها يقظة مستمرة حفاظًا على حياتها وحياة أبنائها الثلاثة، الذين قُتِل أكبرهم، وهو الإسكندر الثاني، بعد ولايته الحكم لمدة سنتين أو نحو ذلك. من الجائز أنه قُتِل على يد رجل يُدعَى بطليموس ربما كان ابن أمينتاس الثاني، الذي حكم لفترة وجيزة في ٣٩٥-٣٩٤. ولأسباب غير واضحة — لعلها تكون الضرورة — تحالفت يوريديكا سياسيًّا وغراميًّا مع بطليموس، الذي ربما شغل منصب الوصي على عرش ابنها الثاني بيرديكاس لدى إعلانه ملكًا سنة ٣٦٥. وفي غضون سنة، قرر بيرديكاس أن يحكم البلاد حكمًا مباشرًا فقتل بطليموس، ثم قُتِل هو نفسه في معركة مع الإليريين بعد ذلك بخمس سنوات؛ عندئذٍ صار المطالِبون بالعرش المقدوني هم: أمينتاس الرابع ابن بيرديكاس الصغير، وفيليب الثاني أخا بيرديكاس، وابنا أمينتاس الثاني المتبقيان على قيد الحياة من زوجته جايجيا، ومنافسون عديدون من فروع العائلة الأرغيَّة الأخرى. وعاشت يوريديكا حتى عهد ابنها الثالث فيليب الثاني.
إن مجرد بقاء فيليب على قيد الحياة لكي يتنافس على العرش في حد ذاته يُعتبَر إنجازًا. كان أخواه الشقيقان قد قُتِلا، وصار آنذاك بمقدور إخوته الثلاثة غير الأشقاء أن يطالبوا بالعرش خلفًا لأبيهم. وفضلًا عن التهديدات النابعة من المطالبين الآخرين بالعرش، ربما لم يكن ليستطيع النجاة مما تعرَّض له في سنوات صباه؛ إذ تعرَّض للخطر في سنوات استبقائه كرهينة مَلكية في طيبة بين عامَيْ ٣٦٩ و٣٦٧، وبعدَ إرساله لتولِّي منصب في مكان بعيد عن بيلا كان يمكن أن يُودِي بحياته، خصوصًا أن وجوده هناك كان يهدف إلى ضمان ولاء منطقة إيليميا، التي كانت لا تزال مُصِرة على الاستقلال عن السيطرة المقدونية. لكن كما يتبين من الأحداث، من الجائز تمامًا أن إبعاد فيليب عن بيلا أعفاه من الانضمام إلى أخيه بيرديكاس عندما قاد الجيش المقدوني ضد الجيش الإليري سنة ٣٥٩.
نجا فيليب من هذه المجموعة المتشابكة من التهديدات؛ إذ رأى اثنان من إخوته غير الأشقاء أن من الحكمة الرحيل عن مقدونيا، وعمد إلى القضاء على المطالِبين الآخرين بالعرش من فروع السلالة الأرغيَّة الأخرى، لكنه ترك ابن أخيه يعيش. نادت جمعية الجيش بفيليب وصيًّا على عرش ابن أخيه الصغير أو ملكًا بالطريقة التقليدية. لم يكن أمامه وقت للقضاء على جميع منافسيه على السلطة لوجود خطر آخَر أشد من هؤلاء وهو الإليريون، الذين قد يستغلون ميزتهم بالعودة إلى اجتياح الأراضي المقدونية. لكن الغريب أنهم لم يقوموا بمحاولةٍ ضد هذه المملكة الهشة.
يتضح ضعف فيليب وجيشه في تعاملاته الأولى مع الإليريين، فهو لم يَقُدْ جيشًا ضدهم، وهذا منطقي بالنظر إلى شدة ضعف الجيش المقدوني، بل آثر التفاوض على تسوية مؤقتة، وسيرًا على خطى أبيه غير المسبوقة، اتخذ زوجة إليرية تُسمَّى أوداتا لتوطيد هذا التحالف، وربما تزوَّج قبل ذلك بفيلا ابنة حاكم إيليميا لترسيخ اتحاد إيليميا مع مقدونيا الكبرى. في نهاية المطاف أقام فيليب سبعة تحالفات وطَّدها بالزواج، وسنعود إلى الوضع الذي تمخَّضَتْ عنه هذه الزيجات المتعددة عند تمحيص دور أوليمبياس أمِّ الإسكندر في موضعٍ لاحق من هذا الفصل. من المهم أن ننوِّه في هذه المرحلة إلى أن العامل الأهم في كل حالة كان دبلوماسيًّا؛ إذ أقام فيليب تحالفات أو عزَّزَها مع أُسَر مهمة في أجزاء أخرى من مقدونيا، ومع زعماء الممالك أو الدول المنافسة، ومع فرع آخَر من فروع السلالة الأرغيَّة. وربما لعب الغرام الحقيقي دورًا في بعض الأمثلة، لكنه لم يكن الدافع الأوليَّ.
كان كثير من التهديدات التقليدية يلوح مُنذِرًا بالخطر؛ فالمطالبون بالعرش ظلوا موجودين؛ إذ عاوَدَ أرغايوس — ولعله الشخص الذي خلف أمينتاس الثالث على العرش لفترة وجيزة في ثمانينيات ذلك القرن — الظهورَ بمساندةٍ من أثينا لاستعادة العرش، فتعامل فيليب مع هذا المدعي وجيشه دون صعوبة. كانت أقاليم مقدونيا العليا مهيأة دائمًا للانفجار، زِدْ على ذلك ضغوطَ التراقيِّين في الشرق والبيونيين في الشمال والدول الإغريقية على حدود مقدونيا ذاتها، وكذلك الدول-المدن القوية الأبعد شُقَّة، وخصوصًا أثينا وطيبة. تمخضت المفاوضات المقرونة بالهدايا النقدية عن تسويات مع البيونيين والتراقيِّين، وأُبرِمت معاهدة مع أثينا سنة ٣٥٩، وعُقِد زواج بامرأة تيسالية على الراجح سنة ٣٥٨. وشهدت تلك السنة ذاتها استخدامَ القوة بنجاحٍ ضد البيونيين ومن بعدهم الإليريون. كان هذا المزيجُ من الدبلوماسية والقوة النمطَ الذي وسم بقية عهد فيليب.
يوجد من الشواهد ما يكفي لأن نستعرض سنوات حكم فيليب الثلاثة والعشرين بالتفصيل؛ إذ تُظهِر خارطةٌ لحدود المملكة سنة ٣٣٦ بوضوحٍ انخراطَ مقدونيا في جميع الاتجاهات. لكن لرسم صورة أعم، سنتتبَّع علاقات فيليب وهي تتسع من التعاملات مع الشعوب المجاورة إلى أعداء بعيدين كدولة فارس الأخمينية، لكي نميِّز الطبيعة العامة لمهام فيليب ومسوغات نجاحه أخيرًا في إقامة مملكة واسعة مهيبة. من المهم أن ننوِّه إلى ضرورة أن يكون الجيش المقدوني ناشطًا في اتجاهات عديدة في آنٍ واحدٍ للتعامل مع أعداء لم يكونوا مجرد أعداء خطرين في حد ذاتهم، بل كان دأبهم إقامة تحالفات فيما بينهم ضد مقدونيا.
ففي الشمال الغربي، ظل الإليريون يشكلون تهديدًا مستمرًّا طوال حكم فيليب. وعلى الرغم من أن الحملة التي شنَّتْها مقدونيا في إليريا سنة ٣٥٨ أسفرت عن هزيمة الملك الإليري وجيشه البالغ ٧ آلاف رجل، تحالَفَ الإليريون بعد ذلك بسنتين مع أعداء مقدونيا الشماليين الآخَرين، وأعني التراقيِّين والبيونيين، وانضمت أيضًا إلى هذا التحالف أثينا من المحيط الإغريقي. وبعد ذلك بأكثر من عشرين سنة، شهدت السنة التي مات فيها فيليب شنَّ حملةٍ ضد الإليريين. وعلى الرغم من أنهم لم يهدءوا، فمن الجائز تمامًا أن احتواء فيليب تهديد اجتياحاتهم المستمرة لمقدونيا العليا والدنيا، كان شديد الأهمية في تلاشي العداء طوال عهده من جانب أقاليم مقدونيا العليا التي كانت ذات يوم مستقلة. استُقطبت إبيروس، الواقعة أيضًا جهة الغرب، بسهولة أكبر إلى المحيط المقدوني سنة ٣٥٧ بالتحالف مع العائلة الأياكيدية الحاكمة والزواج بأوليمبياس، ابنة ملكها. وأما على الجبهة الشرقية، فستشغل تراقيا الجنود المقدونيين دومًا حتى أواخر أربعينيات ذلك القرن. من التضليل أن نتحدث عن تراقيا ككيان واحد، بل كان التراقيُّون جماعات عديدة يقودها شيوخ عشائر وتحارب بعضها بعضًا، وأحيانًا تتحالف ضد عدو أجنبي، أو ترى نفعًا في إقامة روابط مع شعوب قاصية. ولم يستطع فيليب الاتجاه بأنظاره إلى ما وراء تراقيا، وتحديدًا إلى سكيثيا، إلا قرب نهاية عهده.
في إطار التعامل مع الدول الإغريقية، شن فيليب غزواته ضد المنطقة الأقرب إلى حدود مملكته وهي تيساليا سنة ٣٥٨. ويمكن ربط اثنتين من زيجاته بهذه الغزوات المبكرة، هما زواجه سنة ٣٥٨ بفيلينا التي تنتمي إلى الأسرة الحاكمة في لاريسا الواقعة شمال تيساليا، ثم بنيكيسيبوليس ابنة مدينة فيراي في جنوب تيساليا بعد ذلك بست سنوات. وعلى الرغم من هذه التحالفات، تطلبت تيساليا مزيدًا من الحملات في أربعينيات ذلك القرن. وفي ٣٥٧ وجَّه فيليب أيضًا اهتمامه إلى الدول الإغريقية شمال بحر إيجة، وهي الدول-المدن العريقة الواقعة في شبه جزيرة خالكيذيكي والمستعمرات الأثينية، أو الحلفاء الأثينيون الموجودون على الساحل المقدوني ذاته، وكذلك شرق شبه جزيرة خالكيذيكي. تدريجيًّا جر الصراعُ المقدوني-الأثيني فيليب وقواته أكثر صوب الشرق إلى شرق بحر إيجة ومنطقة بحر بروبونتيس؛ حيث كان الأثينيون يتمتعون بوجود قوي.
في البر الإغريقي الرئيس، نال فيليب بفضل نجاحه المتزايد في تيساليا قرب نهاية الخمسينيات منصبًا رسميًّا آخر وهو «تاجوس»، بمعنى قائد جيوش مناطق تيساليا الأربع جميعها؛ مما مكَّنَه من التصرف رسميًّا في شئون تيساليا. وجرَّتِ الأعمال العدائية من جانب الدول-المدن الشرقية أرجل المقدونيين إلى الشئون الإغريقية في خالكيذيكي؛ إذ استولى فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة ٣٤٨. وتمخضت انتصارات مماثلة في أجزاء أخرى من شمال منطقة بحر إيجة عن ضم خالكيذيكي فعليًّا إلى المحيط المقدوني، فلا غرو أن هبَّ الإغريق الجنوبيون ممَّن لديهم مصالح في شمال بحر إيجة لحماية تلك المصالح.
في الوقت نفسه أيقنت بعض الدول-المدن الإغريقية أن قوة الجيش المقدوني يمكن أن تكون أداةً تُستعمَل نيابةً عنها، فينصر قضية طرف من الأطراف في الحروب التي لا تنتهي أبدًا بين هذه الدول. وفي مطلع الأربعينيات جُرَّت أرجل الجيش المقدوني إلى الحرب الأهلية الإغريقية في وسط اليونان بدعوته إلى خوضها؛ دارَتْ رحى هذه الحرب المعروفة باسم «الحرب المقدسة» بين أعضاء الكيان العريق المسمى الحلف الأمفكتيوني الدلفي، وهم حماة حمى موقع دلفي المقدس؛ إذ أقدمت المشاة الثقيلة التابعة لدولة فوكيس، بمساعدةٍ من مرتزقة، على الاستيلاء على دلفي وكنوزه سنة ٣٥٦ ردًّا على غرامة باهظة فرضها أعضاء الحلف الأمفكتيوني الآخرون؛ مما أشعل فتيل حرب في عموم وسط اليونان دامت عقدًا من الزمن. أتت الدعوة التي تلقاها فيليب للمساعدة على التعامل مع الدولة الآثمة بالجيش المقدوني إلى وسط اليونان سنة ٣٤٧، وفي العام التالي استسلمت فوكيس؛ فاكتسب المنتصر، وهو فيليب، دورًا رسميًّا في الشئون الإغريقية من خلال عضويته في مجلس الأمفكتيونية الدلفية العريق.
وجَّهَ فيليب خلال ما تبقَّى من ذلك العقد اهتمامه إلى إليريا من جديد، فشنَّ حملةً ضد الملك الإليري، ورتَّبَ لتسوية سياسية في تيساليا، وقاد جيشه إلى إبيروس في الغرب وتراقيا في الشرق، زاحفًا إلى سكيثيا، ودخل في أحلاف جديدة كالاتفاق الذي أبرمه مع ملك جيتاي، وأسس مستعمرات جديدة. توافد السفراء من جنوب اليونان للتفاوض على اتفاقيات، ودُعيت ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، كمثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.
لكن فيليب جدَّ في الوقت نفسه لتقوية الوجود المقدوني في البحر الأسود، فضرب سنة ٣٤٠ حصارًا على بيرينثوس وسيليبريا، وهما اثنتان من الدول-المدن الإغريقية المجاورة لبيزنطية، التي لم تنجُ هي ذاتها من هجماته. أعلنت أثينا الحرب وطفقت تمارس الضغط لدى الإغريق الآخرين لاتخاذ موقف منسق ضد مقدونيا. وعندما اشتعل فتيل القتال في وسط اليونان من جديد في مطلع الثلاثينيات، قاد فيليب جنوده المقدونيين عائدًا إلى اليونان بصفته ملك مقدونيا ومسئولًا إغريقيًّا في المجلس الأمفكتيوني الدلفي على حد سواء. فتزعَّم الأثينيون — إيمانًا منهم بأن أهداف فيليب تتجاوز مجرد إلحاق هزيمة بدولة واحدة صغيرة نسبيًّا — تشكيلَ ائتلاف برئاسة أثينا وطيبة بالإضافة إلى الوابيين والآخيين والكورنثيين والميغاريين والليفكاديين والكوركيريين، فالتقى جيشان متقاربان في العدد قوامهما بين ٣٠ ألف رجل و٣٥ ألفًا، أحدهما إغريقي والآخَر مقدوني، في سهل خيرونية وسط اليونان في صيف ٣٣٨.
كان النصر المقدوني حاسمًا بما يتجاوز حدود النتيجة العسكرية؛ إذ أتاح لفيليب إعادةَ تنظيم طبيعة الحكم في اليونان، فأبرم أولًا معاهدات رسمية مع أعدائه في خيرونية تبعًا لتاريخ علاقاتهم المختلفة مع مقدونيا، وأقام حاميات في بعض هذه الدول كطيبة، وعمد إلى تغيير الحكومات في بعضها الآخر، ومنح بعضها الثالث استقلالًا اسميًّا كأثينا. ثم اتجه فيليب إلى التسويات السياسية الطويلة الأجل، فمهَّدَتِ الترتيبات مع الدول والمناطق المنفردة الساحةَ لتنظيم جماعي جديد لليونان. وحُددت الحدود بين الدول استنادًا إلى أسس يقال إن أرسطو أعَدَّها لفيليب، فتسنَّى إزالة دواعي الحرب بين هذه الدول في ظل وجود حدودٍ معترف بها. يتساوى مع هذا في دلالته التوازنُ الدقيق الذي أُقِيم؛ إذ أُضعِفت القوى الكبرى وقُوِّيت الدول الضعيفة؛ وعندئذٍ اتحدت كل هذه الدول، كبيرها وصغيرها، في حلف جديد يُسمَّى الحلف الكورنثي، وكان حلفًا هجوميًّا ودفاعيًّا على السواء. وبهذا ستظل الدول تتمتع بالاستقلال الذاتي، لكن مع القضاء على الصراعات على السلطة التي شهدها القرنان السابقان؛ إذ سيتشكل مجلس عام يشارك فيه مندوبون عن كل عضو في الحلف يتوقف عددهم على أهمية دولتهم، وسيكون فيليب القائد الأعلى للحلف. ولضمان القوة العسكرية في مواجهة الأعداء الخارجيين، لم يُسمح لمواطني الدول الأعضاء بالخدمة لدى قوة أجنبية ضد فيليب أو الحلف، وهو عنصر كان جوهريًّا في الحملة الهجومية التي شُنت ضد دولة فارس وأرسَلَ فيليب تحضيرًا لها قوةً متقدِّمةً سنة ٣٣٦.
إن محصلة معركة خيرونية، عسكريًّا ودبلوماسيًّا على السواء، مقارَنةً بهزيمة الجيش المقدوني بقيادة بيرديكاس أخي فيليب الأكبر على أيدي الإليريين سنة ٣٥٩؛ لَهِي من أمارات عبقرية فيليب. ثمة أمارة أخرى على عبقريته تمثلت في توسيع رقعةُ المملكة التي فاقت ١٦٦٠٠ ميل مربع (أكثر من ٤٣ ألف كيلومتر مربع)؛ أيْ أكثر من مثلَيْ رقعتها في نهاية الحرب البيلوبونيزية. وثمة أمارة ثالثة هي توحيد ما كانت ذات يوم أقاليم مستقلة شديدة التباين تحت قيادة رجل صار آنذاك يحمل العديد من شارات السلطة.
(١-٤) أسس نجاح فيليب
لم تكن إمكانية التعامل مع التهديدات المستمرة بالغزو والتمرد تتطلَّب إعادة بناء قدرات القوات المسلحة المقدونية فحسب، بل توسيعها أيضًا. كان الجيش الذي ورثه فيليب يشتمل على مشاة وخيَّالة، وقلنا إن مهارات الفئة الأولى صُقلت قبل ذلك بقرنٍ على يد الإسكندر الأول، وأما الفئة الثانية فظلت حكرًا على النخبة، لكن قوام أيٍّ من الفئتين لم يكن كبيرًا. كان بيرديكاس قد فقد ٤ آلاف رجل في قتاله ضد الإليريين سنة ٣٥٩، مما اقتضى من فيليب تعويض تلك الخسارة، بل اقتضى أيضًا حشْدَ قوة أكبر استباقًا لغزو إليري جديد، واستباقًا كذلك للتهديدات النابعة من الشعوب الأخرى المجاورة. وعلى ما يبدو كانت بين يديه سنة ٣٥٨ قوةٌ قوامها نحو ١٠ آلاف رجل. وكما رأينا قاد جيشًا قوامه بين ٣٠ ألف رجل و٣٥ ألفًا في خيرونية سنة ٣٣٨، وهذه زيادة صارت سهلة المنال مع ضم المزيد من الأقاليم والسكان إلى المملكة المقدونية؛ فمن ذلك الرقم على سبيل المثال، كان عدد خيَّالته قد ازداد من نحو ٦٠٠ في بداية حكمه إلى ٣ آلاف بنهايته، ويعود بعض الفضل في ذلك إلى نجاحه في تيساليا، الذي أتى بقوة الخيَّالة اليونانية الأشد فعاليةً إلى الجيش المقدوني.
ليست الأعداد وحدها هي التي تغيَّرت في بداية حكم فيليب، بل تغيَّر أيضًا التدريب والتنظيم على ما يبدو. لا نستبعد احتمال أنه كان يضع نصب عينيه التغييرات التي سيُحدِثها، حتى من قبل تولِّيه المُلْك؛ إذ تزامنت إقامته الجبرية في طيبة مع نجاح تشكيل «الفلنكس» الطيبيِّ بعد إصلاحه في إقامة إمبراطورية مترامية الأطراف. كانت أوجه التشابه واضحة بين جيش فيليب وجيش المشاة الثقيلة الطيبيِّ في القرن الرابع عشر الذي أنشأه بيلوبيداس وإبامينونداس؛ إذ كان أفراد المشاة الثقيلة في كلا الجيشين يحملون حربةً أطول لكن يحملون درعًا أخف من المشاة الثقيلة التقليدية، وربما ساعَدَ تخلِّيهم عن أحد دروع منطقة الصدر على جعلهم أسرع وأخف حركةً. وأثناء المعارك كانت تتموضع وحدات تتراوح بين ٢٥٠ و٣٠٠ رجل على هيئة صفوف بعمق ١٦ رجلًا. وكانت لقوات النخبة أهميتها في التشكيلات الطيبية والمقدونية على السواء؛ ففي طيبة كانت «العصابة المقدسة»، المؤلَّفة من ١٥٠ زوجًا من الذكور المتحابين، تشكِّل وحدة من القوات الخاصة، وأما في مقدون فكانت قوات مشاة النخبة تتألف من ٣ آلاف جندي مشاة ملكي. وبالإضافة إلى الابتكارات التي سبق أن رآها فيليب في سِنِي مراهقته وهو رهينة في طيبة، استخدَمَ عناصرَ أخرى موروثة بأساليب جديدة؛ إذ كان ينشر أفضل الجنود في الجناح الأيسر، ويحميهم بالخيَّالة على الجنب، وتوسَّعَ في استخدام المشاة الخفيفة (رماة السهام ورماة المقاليع والمناوشون) مع استخدامه أيضًا بعض الخيَّالة ككشافةٍ.
هناك شواهد على تشجيعه الترقِّي في مراتب الجندية من خلال الحوافز؛ إذ كان الترقِّي من جندي مشاة عادي إلى جندي مدرَّع (أحد حرَّاس الملك المدرَّعين) مثلًا يجلب راتبًا أكبر وشرفًا أعظم. كان الحافز الآخَر هو قيادةَ الملك جيشه بنفسه في الميدان، فتلك كانت مسئولية لا تُفوَّض إلى الغير، لكن ازدياد الانخراط في أعمال عسكرية في اتجاهات مختلفة اقتضى إسناد بعض السلطة في ساحة القتال إلى معاوِنين. كانت الرابطة الثنائية بين جنود المشاة والملك تحقِّق غايةً سياسية وتلبِّي حاجةً عسكرية في آنٍ واحد؛ إذ ورث فيليب — شأنه شأن جميع الملوك المقدونيين — هيكلًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا تتمتع فيه الأُسَر الأرستقراطية بجانب السلالة الأرغيَّة بمنزلة وثروة كبيرتين. كان يحقُّ لعمداء تلك الأُسَر، وخصوصًا في أقاليم مقدونيا العليا التي كانت ذات يومٍ ممالكَ مستقلةً، المطالَبة بمَنزلةٍ تضاهي مَنزلة الملك الأرغيِّ، وكان الظفر بتعاون هؤلاء الشخصيات مهمةً تتطلَّب جهدًا عظيمًا لم يتسنَّ لكثيرٍ من الملوك الأرغيِّين إنجازُها، وذلك على نحو ما يكشف لنا حكْمُ أمينتاس الثالث أبي فيليب. ومن الجائز تمامًا أن زيادة فيليب عددَ الجنود المشاة ورفعه مكانتهم كانا عنصرَيْ تعزيزٍ للسلطة الملكية في مواجَهة تطاوُل الأرستقراطيين.
وربما اكتسب فيليب وسيلةً أخرى لبناء قاعدة دعم ملكية تقوم على أصحاب المناصب القيادية في ظل إضافة أراضٍ جديدة إلى المملكة المقدونية؛ إذ قال بعض الباحثين إن الأراضي المفتوحة صارت أرضًا مَلَكية يُمنَح الأفرادُ إمكانيةَ استخدامها في مقابل أداء التزامات عينية، وكان هذا يقينًا منظور الإسكندر الثالث وخلفائه. وتوجد شواهد على منح الأراضي بغرض اجتذاب الأجانب الراغبين في الاحتراف في الجيش — مثل نيارخوس الكريتي — إلى مقدونيا. لكن لم يكن جميع صحابة فيليب وضباطه من المستجدِّين، بل ظل يعتمد، مضطرًّا، على عمداء الأُسَر النبيلة لتولِّي المسئوليات الكبيرة. وتتضح حقيقة أنهم أحسنوا خدمته في مقابل حوافز مماثلة للمستجدِّين من بقائهم حتى صاروا أنصارًا للإسكندر، ثم صاروا بعد ذلك مباشَرةً من رجالات الإسكندر لدى موت فيليب.
عزَّزَتِ الأراضي المكتسبة حديثًا قاعدةَ موارد فيليب من نواحٍ أخرى مهمة؛ إذ أضافت إلى المملكة مزيدًا من السكان والمواشي والموارد الطبيعية، وتسنَّى استخدام الأرض المكتسبة لتأسيس أو إعادة تأسيس مستوطناتٍ بالقُرْب من الموارد الثمينة لتوفير الرقابة عليها والعمال لاستغلالها. كما كان للمستوطنات الجديدة للمقدونيين ميزة إضافية أيضًا بوصفها مراكز ولاء في أقاليم لم تكن من قبلُ مقدونيةً. في زمن مبكر وذلك سنة ٣٥٦، دمج فيليب مستوطنات عدة لإنشاء مدينة فيليبوي في شمال بحر إيجة، غرب الأملاك التراقيَّة مباشَرةً. كانت المعادن الخام المستخرَجة من منطقة جبل بانجايو تدرُّ ١٠٠٠ وزنة كلَّ سنة للخزانة الملكية، وأما المستوطنة نفسها فكانت بمنزلة دعاية للوجود المقدوني في المنطقة التي كانت آنذاك غير مأهولة بين مقدون وتراقيا. وعندما شنَّ المقدونيون غاراتٍ على الأراضي التراقيَّة ذاتها، أُقِيمت حاميات في المناطق النائية، وصارت المستوطنات الكائنة في بيروي وفيليبوبوليس مراكزَ سيطرةٍ ونفوذٍ مقدونية مهمة. بعد ثلاث سنوات أو أربع من إنشاء فيليبوي الأولى، تمخضت أنشطة فيليب في تيساليا عن المستعمرة الكائنة في جومفوي، التي غُيِّر اسمها إلى فيليبوي أو فيليبوبوليس. وفي اتجاه الغرب أيضًا، زُرِعت حصون عسكرية في الممرات الجبلية. وإدراكًا من فيليب لقيمة المستعمرات من خلال وجود مستعمرات إغريقية في المنطقة المتاخمة للمملكة مباشَرةً، استولى على المستوطنات القديمة لأغراض مماثلة. ومع استيعاب نجاحاته للمستوطنات الإغريقية الكائنة على الساحل المقدوني في شبه جزيرة خالكيذيكي، صار فيليب حرًّا في مزاولة التجارة البحرية مباشَرةً دون الاستعانة بوسطاء، وباستحواذه على المرافئ أضاف رسومَ مرافئ إلى خزانته.
مع اتساع ضلوع فيليب في مناطق جديدة ومختلفة من بحر إيجة، أدرك أهمية التكنولوجيا. وجلبت الصِّلاتُ المبكرة بين المملكة وتيساليا خدماتِ بولييديس، الذي يُنسَب إليه الفضلُ في وضع تصميمات ميكانيكية جديدة ومبسطة. وربما أُنشِئت في بيلا ما وُصِفت بأنها «دائرة فيليب للهندسة الميكانيكية»؛ حيث كان بولييديس ينفِّذ تصميماته ويدرِّب أيضًا طلابًا سيخدمون الإسكندر فيما بعدُ. على الرغم من عدم اكتمال الشواهد، فلا شك أن فيليب استعمل مجانق تُطلق السهام، وربما طُوِّرت في عهده آلة حصار الأسوار الالتوائية. كان جيش فيليب يستعين لأغراض الحصار بأبراجٍ يصل ارتفاعها إلى ١٢٠ قدمًا (أكثر من ٣٦ مترًا) ومدقَّاتٍ وسلالمَ.
كانت هذه وغيرها من «دوائر» الهيكل الإداري المركزي ضرورية لإنشاء مملكة قوية والحفاظ عليها. والشواهدُ على طبيعة هذا الهيكل ضئيلةٌ نظرًا لنُدْرة المعلومات الكتابية التي وصلَتْنا من مقدونيا أثناء القرن الرابع عشر حتى عهد فيليب، لكن هناك شواهد آثارية، وتحتوي السجلات الإغريقية التي وصلتنا من تلك السنوات على معلومات مفيدة، وفي الأوضاع المحلية والوطنية المعروفة لنا مؤشراتٌ دالةٌ.
كانت بيلا قد تحوَّلَتْ إلى مركز المملكة، وربما حدث ذلك مبكرًا وتحديدًا في عهد أرخيلاوس (٤١٣–٣٩٩)، وفي عهد فيليب اتسعت المدينة. وبما أنها ظلت عاصمة المملكة المقدونية حتى الفترة الهلنستية، فإن معظم الموقع الذي يعود إلى القرن الرابع بُنِي فوقه؛ ومن ثَمَّ لم يتسنَّ تحديد موضعه والتنقيب فيه. ومع ذلك فمخطط المدينة واضح نسبيًّا؛ ففي وسط المدينة كانت هناك ساحة عامة تزيد على ١٧ آكر (٧ هكتارات) يقطعها شارع واسع، وهو جزء من الطريق الملكي، وكان يحيط بالساحة العامة رواقٌ، وكان القسم الشمالي من هذا الرواق ذا طابع إداري، وأما الجنوبي الغربي فكان أرشيفًا، وكانت الأقسام الأخرى من المجمَّع تضمُّ حوانيت ومشاغل. كانت الوحدات الإدارية توجد على الراجح في أجزاء من هذا الرواق. وبالإضافة إلى الأرشيف، كان موظفو أمانة السر يحتاجون إلى مكاتب. كان يُنفَق مبلغٌ لا بأسَ به من أموال الخزانة انطلاقًا من العاصمة، وكانت إدارة الخزانة ومخازنها تشغل وحدة أخرى. وربما كانت «الدوائر» التي تُنتَج وتُصمَّم فيها الأسلحةُ والمعداتُ العسكرية الأخرى وآلاتُ الحصار؛ موجودةً في منطقةٍ ما بالرواق الضخم.
يغطي القصر، المقام فوق رابيةٍ شمالَ الساحة العامة، نحو ١٥ آكر (٦ هكتارات). كان هناك فناء أوسط كبير تحيط به ثلاثة مجمَّعات منفصلة يطلُّ كلٌّ منها على فناء كبير؛ كانت إحدى هذه الوحدات تضم حمام سباحة، وربما كانت وحدة أخرى تُستخدم كمدرسة مصارعة أو قاعة للتمارين الرياضية. ويمكن استنتاج استخداماتها العديدة من الروايات الكتابية عن الحياة في بيلا. استُخدم قسمٌ لا بأسَ به من هذه المساحة كمسكن لفيليب وزوجاته السبع وأطفالهن وأقاربه الآخرين والعدد الكبير من طواقم العمل المنزلية التي تستلزمها هذه الأعداد. كان هناك رُسُل يَفِدُون بانتظامٍ للقاء الملك المقدوني؛ ومن ثَمَّ خُصِّصَ مكانٌ يلبِّي حاجاتهم أثناء وجودهم في بيلا، ومكانٌ آخر مناسب لعقد الاجتماعات مع الملك وموظفي ديوانه. كان هناك شطر من طاقم معاوِني فيليب يتعيَّن وجودهم أيضًا في أيِّ وقت بعينه، بالإضافة إلى شباب العائلات الأرستقراطية الذين أُرسِلوا إلى عاصمة المملكة لتلقِّي التدريب كقادة مستقبليين، والذين كانوا في واقع الأمر في خدمة الملك أثناء سنوات تدريبهم هذه. كانت الندوات الشهيرة التي يعقدها المقدونيون تتطلَّب مفروشات خاصة وغيرها من التجهيزات، فضلًا عن مخازن تستوعب كميات الخمور التي يحتسونها. ضم القصر أيضًا مكانًا مناسبًا لإقامة المناسبات الكبرى كالزفاف والاحتفاء بامتيازات الشرف التي يمنحها فيليب بنفسه. وتُظهِر أرضياتُ الفسيفساء المنمقة، والرسومُ الجدارية التي رسمها الفنان الإغريقي زيوكس (الذي استُقطِب إلى مقدون أثناء حكم أرخيلاوس)، والمشغولاتُ الأنيقة الموجودة في بيلا وغيرها من مراكز المملكة؛ العنايةَ التي بُذِلت والثروةَ التي استُثمِرت لخلْقِ درجةٍ معقولة من الأبهة. كانت المزارات المقدسة — كالمنطقة الدائرية المكرَّسة للرَّبَّة ديميتر — والمقابر أيضًا، جزءًا من مشهد مدينة بيلا في القرن الرابع. ليس من الواضح هل كانت بيلا محصَّنة في مراحلها الأولى أم لا؛ فالشواهد التي بين أيدينا يعود تاريخها إلى الجزء الأخير من القرن الرابع.
تعود بدايات نشأة الكثير من معالم بيلا إلى العاصمة السابقة آيجي، ويوحي مخطط آيجي بأن بيلا كانت محصَّنة في مطلع القرن الرابع. من المفيد أن ننوِّه إلى أن المركز السكني والإداري في العاصمة القديمة كان يقع على هضبة تَحُول دون وصول الزوار غير المرغوب فيهم إليه، وبالإضافة إلى ذلك كان المركز محصنًا بسور جيد البناء. كانت هناك بوابة في الجانب الشرقي يحميها برج دائري، وكان القصر يحتوي على مساكن، وغرف كبيرة للفعاليات الرسمية، ومشاغل. ويدل ما وصل إلى أيدينا من فسيفسائيات وملامح معمارية على كلٍّ من الثروة والعناية اللتين استُثمِرتا في إنشائه. كان المسرحُ المقام عند سفح الأكروبول وحرمُ يوكليا — التي أسلفنا ذكرها عند الحديث عن أم فيليب — يشغلان جزءًا أساسيًّا من آيجي. تنمُّ المدافن وما اكتُشِف من قرابين يعود تاريخها إلى الضريح المرتبط بالإسكندر الأول، عن القوة الصاعدة التي كان يتمتع بها الملوك الأرغيُّون؛ مما كان يستدعي بدوره مركزيةَ الأنشطة واتساعَ الاتصالات الثقافية. خلاصة القول أنه مع اشتمال بيلا على هذه الملامح ذاتها وإنْ كانت مكبَّرة، لم يأتِ هذا من فراغ.
ومع ذلك وصَفَ شهود عيان السلطةَ المنبثقة من بيلا أثناء حكم فيليب الثاني. وفي الروايات الإغريقية التي وصلت إلى أيدينا، وخصوصًا روايات الأثينيين ديموستيني وإيسُقراط وإيسخينيس، برهانٌ على أن فيليب كان بارعًا في الفوز بالدبلوماسية وبالقوة العسكرية، وكلتاهما مهارتان كانتا مطلوبتين من الحكام الأرغيِّين منذ نشأة المملكة الصغيرة. شارَكَ الملوك المقدونيون قبل زمن فيليب في مفاوضات وأبرموا معاهدات وتحالفات بأسمائهم، ويوجد نقشٌ يتناول المعاهدةَ المُبرَمة بين بيرديكاس الثاني والأثينيين يقول: «الآن بموجب العهود والمواثيق التي تلزم بيرديكاس هذا نفسه والملوك الحاضرين مع بيرديكاس …» وفيما بعدُ: «اتفق أمينتاس بن أريدايوس والخالكيذيكيون على أن يكون كلٌّ منهما حليفًا للآخَر ضد الجميع لمدة خمسين سنة». ودخل فيليب في أحلاف مماثلة منذ سنواته الأولى على العرش. لا ريب أن الملك كان الممثل الطبيعي لمملكته، ويُفترَض أنه كان يتصرَّف بما يخدم مصالح المقدونيين ورفاههم؛ لكنْ على ما يبدو لم تكن هناك هيئة رسمية غير الملك ترتِّب مثْلَ هذه المفاوضات؛ ومن ثَمَّ كانت هذه السمة من سمات الحكم على ما يبدو امتيازًا ملكيًّا. الأهميةُ المتزايدة لتقوية التحالفات الجديدة من خلال الزواج عنصرٌ آخَر من عناصر الدبلوماسية المقدونية التي اقتصرت فيما يبدو على الحكام الأرغيِّين؛ وفي ضوء هذا يمكن — ولو جزئيًّا على الأقل — إدراك الغرض من معظم زيجات فيليب السبع، إن لم يكن فيها كلها. علاوةً على ذلك، فإن عدد زيجاته أمارة تنمُّ عن دور مقدون المتنامي بسرعةٍ في محيطها الأكبر، وهو شمال شرق منطقة البحر المتوسط.
بالإضافة إلى المهارات الدبلوماسية واكتساب المناصب الرسمية، كانت هناك سمة أخرى مفيدة يتسم بها الملك الناجح؛ وهي القدرة على المكر. وتشير الروايات إلى أن فيليب كان بارعًا بشدة في الحِيَل؛ إذ كان يستعمل على سبيل المثال رسائل خداعية لكي يعترضها العدو. فلاكتساب موقع مميز لخيَّالته في المعركة التي وقعت أخيرًا في سهل خيرونية سنة ٣٣٨، «سمح» بأن يعترض العدو الإغريقي كتابًا بعث به إلى قواته؛ إذ كشفَتِ المعلومات التي جاءت في الكتاب عن أنه يوشك على الانسحاب من موقعه الحالي، وبتلقِّي هذه الأخبار السعيدة، تراخت قوات العدو، وفي تلك الليلة ذاتها، اقتحم فيليب وجنوده فرجة ضيقة بين الجبال للاستحواذ على الموقع المنشود. وكان قد أرسل كتابًا خداعيًّا آخَر في السنة السابقة عندما سيق أسطوله إلى البحر الأسود، وشُلَّتْ حركته هناك على أيدي الأسطول المُعادي، فساعدت التعليمات التي جاءت في الرسالة على إلهاء قادة أسطول العدو بما يكفي لتتمكَّن السفن المقدونية من الإفلات. كان فيليب بارعًا أيضًا في إثارة الفرقة بين أعدائه، وفي دعم الجماعات المؤيدة للمقدونيين في اليونان. وكانت التكتيكات الأخرى تسير جنبًا إلى جنب مع القوة العسكرية، وتعززها.
سمح مزيج من هذه المهارات لفيليب بإضافة مناصب رسمية أخرى إلى جانب مُلك مقدونيا؛ إذ صار «تاجوس» تيساليا سنة ٣٥٢، وهو منصب موثَّق منذ القرن السادس عشر، ويمكن تعريفه بأنه وسيلة للجمع بين مناطق تيساليا الأربعة، التي تتمتَّع بدرجة كبيرة من الاستقلال، في عملٍ تعاوُنيٍّ في المواقف التي تتطلَّب قوةً أكبر ممَّا يمكن لمنطقة منفردة حشده. ونرجِّح أنه كان يجري في البداية انتخاب تاجوس «فيدرالي» للحالات الطارئة المؤقتة فقط، لكن قيام تحالفات أكبر في اليونان بوجه عام في القرنين الخامس والرابع حوَّلَ هذا المنصب إلى منصب دائم. وفَّرَ منصب تاجوس في يدي فيليب الأساسَ اللازم لعملية إعادة تنظيم تيساليا سنة ٣٤٤. وجلبت التسوية المقدونية للحرب بين دول وسط اليونان سنة ٣٤٦ معها منصبًا رسميًّا آخر للملك المقدوني؛ إذ مُنِح فيليب لدى هزيمته دولةَ فوكيس المارقة الصوتين اللذين تتمتَّع بهما في المجلس المؤلَّف من ١٢ عضوًا المشرف على أمن دلفي. وُجِّهت إليه أيضًا الدعوة لتنظيم دورة الألعاب البيثية الجديدة، وشرع في إنشاء نُصب فيليبون داخل حرم أوليمبيا. وزيادةً على حماية الموقع المقدس، كان بوسع أعضاء المجلس القيام بعمل منسق للحفاظ على أمنه.
غير أن الأكثر إثارةً للإعجاب كان إنشاء فيليب حلفًا جديدًا باسم الحلف الكورنثي مع توليه شخصيًّا منصبَ زعيم الحلف أو قائده الأعلى. كان هذا الحلف، الذي جاء في أعقاب الانتصار المقدوني في خيرونية سنة ٣٣٨، أحدَ مظاهر السلطة المقدونية على الدول الإغريقية، وكان أيضًا محاولةً لإنشاء نظام جديد داخل اليونان تكون مقدون وملكها جزءًا لا يتجزأ منه. كان ترتيبُ تسويات مع الدول الإغريقية منفردة خطوةً أولى حتمية؛ فرُسِمَت حدود هذه الدول، ربما بمساعدة أرسطو وتلاميذ مدرسته، للقضاء على واحد من أهم أسباب الشقاق في اليونان. وفي إطار عملية تحديد رقعة كل دولة ومكانتها، كافأ فيليب بعضها وعامل بعضها الآخر بقسوة على أساس علاقاتها السابقة مع مقدونيا، فأُقِيمت حامية في طيبة على سبيل المثال، أما الأيتوليون فأُعطوا موقعَ نافباكتوس الاستراتيجي على الخليجي الكورنثي، وعُومِلت أثينا بسخاء على الرغم من دورها القيادي في الصراع ضد فيليب، وأما إسبرطة فجرى تجاهلها أساسًا. على نحو ما سنبين فيما بعدُ، كان فيليب على دراية بعقد المعاهدات في العالم الإغريقي، والحقيقة أنه كان بالفعل طرفًا في العديد من التحالفات، ومنها الحلف الأمفكتيوني الدلفي العريق، ومعاهدة الهجوم والدفاع المشترك مع الحلف الخالكيذيكي، واتفاقية السلام المشترك بين فيليب وحلفائه وأثينا وحلفائها المعروفة باسم «سلام فيلوكراتيس». واستخدم فيليب هذه الممارسات المألوفة في بناء حلفه الجديد الذي جمع بين معاهدةٍ للسلام المشترك ومعاهدةٍ للهجوم والدفاع المشترك.
بعد التوصُّل إلى اتفاقات فردية، أُنشِئ مجلس حاكم يتألَّف من مندوبي الدول المتحالفة، وكانت تُتَّخَذ قرارات بشأن العمل المشترك في المجلس، الذي كان يقوم أيضًا بدور محكمة التحكيم في النزاعات ويتخذ إجراءً ضد مَن ينتهك مراسيم الحلف، وكان زعيمُه فيليب يجمع بين منصبَي المسئول الأول والقائد الأعلى للقوات المسلحة. التقى مندوبو الدول الأعضاء في كورنثة لحضور مؤتمر في شتاء ٣٣٨ / ٣٨٧، ومن بين كل الدول الكبرى لم ترسل إسبرطة مندوبين عنها. وأعلن فيليب عن اتفاقية سلام مشترك تضمنها مقدون. وإدراكًا للحاجة إلى قوةٍ للحفاظ على السلام، تأسَّسَ مجلس مؤلَّف من ممثلين من جميع الدول الأعضاء، وكانت الأصوات تُخصَّص تبعًا لقوة الدولة العسكرية. ويوجد نقش وصل إلى أيدينا (تود، الطبعة الثانية، ١٧٧، ١٧–٢٢) يصف القسَم الذي يؤديه الأعضاء: «إذا تصرَّفَ أحد بطريقة تناقض الاتفاقيات، سأقدِّم مساعدةً عسكرية على النحو الذي يحتاج إليه المتضرِّر، وسأخوض الحربَ ضد منتهِك معاهدة السلام المشترك على النحو الذي يقتضيه المجلس العام ويأمر به القائد الأعلى.» وهكذا كان الحلف أيضًا حلفًا للهجوم والدفاع المشترك، ويتولَّى فيليب باعتباره قائدَه الأعلى حشدَ قوةٍ مناسبة لأداء المهمة. كانت الاتفاقية تشتمل أيضًا على الاعتراف بالتسويات الفردية التي رتَّبَ لها فيليب في أعقاب انتصاره في خيرونية، وهي ترسيم الحدود وتحديد الهيكل السياسي لكل دولة داخل هذه الحدود. كانت هذه الشروط تسري على مقدون كما تسري على اليونان، وهكذا ضُمِن مُلْك فيليب وذريته مستقبلًا مثلما ضُمِنت دساتير الدول اليونانية، وعُيِّن مسئولون مخصوصون — ربما اختيروا من بين أعضاء المجلس العام — لترصُّد انتهاكاتِ هذه الاتفاقيات.
كان أحد الإجراءات الأولى التي اتخذها المجلس العام للحلف إعلان الحرب على بلاد فارس في ٣٣٧ / ٣٣٦ بناءً على أوامر فيليب. وعلى الرغم من إرسال فيليب قوةً متقدِّمةً إلى شمال غرب الأناضول، فإنه لم يَعِشْ ليجرِّد الحملةَ بكامل قوتها، وكان خليفته هو مَن اضطلع بهذه المهمة.
(١-٥) إنجازات فيليب الثاني
يقال إن ديموستيني وصف فيليب بأنه أذكى الرجال أو أعظمهم مهابةً؛ لأن كلمة «دينوس» الإغريقية تحمل المعنيين. ويمكننا أن نلخص تلخيصًا مباشرًا إنجازاته على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية والشخصية لنحصل على فهمٍ أتمَّ للرجل الذي سيخلفه.
جعل فيليب من مقدونيا مملكة مستقرة بعد توليه السلطة في أعقاب هزيمة كارثية أودت بحياة أخيه، الذي كان ملك البلاد آنذاك، ومعه ٤ آلاف رجل، فاستطاع إعادة تأكيد السيطرة على المناطق التي انفصلت فعليًّا عن المملكة أثناء العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع، ثم إضافة مساحات كبيرة من الأراضي الجديدة. ضاعفَتْ نجاحاتُه مساحةَ المملكة إلى أكثر من ضعفِ ما كانت عليه في نهاية الحرب البيلوبونيزية، وازداد أيضًا سكان المنطقة الخاضعة للسيطرة الفعلية زيادةً حادة من نحو ٢٢٨ ألفًا في نهاية القرن الخامس إلى نحو ٧٠٠ ألف أثناء حكم فيليب الثاني. بالإضافة إلى المساحة، عُزِّزت آلياتُ السلطة المركزية، فأُعِيد إصلاح الجيش، وأُصِّل الولاء للمَلِك، وزادَتِ الاستثماراتُ في الطرق والحصون والمستوطنات الجديدة في الأراضي المفتوحة إمكانيةَ مواصَلةِ السيطرة من بيلا، ووفَّرَتِ الإدارةُ الملكية للموارد ما يلزم لتنفيذ هذه الخطوات.
بتوسيع فيليب رقعةَ مملكته وزيادةِ قدرتها على البقاء، وسَّعَ مجالَ النفوذ المقدوني ليشمل اليونان وتراقيا وإليريا وإبيروس على الساحل الأدرياتي. ومكَّنَتْه مهاراته الدبلوماسية الرفيعة من اكتساب الأنصار حتى من بين الإغريق، والأكثر من ذلك أنها جلبت له مناصب رسمية في هيئات مهيبة مهمة. كان فيليب يعرف المؤسسات الإغريقية معرفةً جيدة بما يكفي ليُقِيم الهيئات المقدونية الجديدة على غرار تلك المؤسسات، وفوق ذلك فإن براعته في ترتيب المعاهدات، التي سانَدَها غالبًا الزواجُ من إحدى بنات الطرف الآخَر، خدَمَتْه جيدًا.
يُثنِي المؤرخ ديودورس الصقلي على مناقب فيليب الشخصية وشجاعته و«تألُّق شخصيته» (الكتاب السادس عشر، ١، ٦). قاد فيليب قواته في الحرب وأُثخِن بالجراح ليُثبِت أنه كان يحارب في الطليعة، ومن ذلك فقدانه إحدى عينيه في معركةٍ خاضها في ميثوني. كان يتعامل مع معاوِنِيه مباشَرةً في مسائل الحرب والإدارة، جامِعًا الخدمات والموارد الضرورية من حوله في العاصمة بيلا. ولعب دورًا مباشرًا في مجالس كبار مسئوليه، وكذلك في الندوات الضخمة المتكررة وفي الاحتفالات التي كانت ترافق المناسبات الكبرى.
ولدى موته سنة ٣٣٦، كان يهيِّئ موارد مملكته وحلفائه في الحلف الكورنثي لشنِّ المزيد من الغارات، التي كانت هذه المرة شرقًا داخل أراضي الإمبراطورية الفارسية.
من نافلة القول أن فيليب كان أكثر بكثير من مجرد جزء من عالَم الإسكندر؛ إذ أضفى على ذلك العالَم شكلَه وهيئتَه. كانت مقدون مملكةً متراميةَ الأطراف، لديها من القوات المسلحة والتنظيم ما يبشِّر بالبقاء، وتمكَّنَ ملكها من إخضاع أعدائه السابقين من إليريا إلى تراقيا، ومن بيونيا إلى جنوب اليونان. كان النصر العسكري يستند إلى جيشٍ أُعِيد تكوينه وهيكلته وعُزِّز ولاؤه لزعيمه، وهو الملك المقدوني، باستحداث نظامٍ لتجنيد أبناء الأُسَر المقدونية الأرستقراطية، والفلاحين الذين تحمَّسوا لترْكِ الرعي واحتراف الجندية، والجنود المحترفين غير المقدونيين. كانت بيلا آخِذة في التحوُّل إلى مركز أنشطةٍ لا غنى عنه لدولة جيدة التنظيم. واستحدث فيليب خارج مقدون ذاتها أشكالًا جديدة من التحالف مع الأقاليم التي كانت ذات يوم مستقلة، وصار القوة الموجِّهة في تلك التحالفات. كان نجاحه آخِذًا في تحويل بيلا إلى مركز نشاط دولي.
كان فيليب، بالتحوُّل الذي أحدَثَه في القوة المقدونية، نموذجًا لما يمكن أن ينجزه ملك أرغيٌّ، وسيكون لزامًا على خليفة ذلك الرجل أن يكون رجلًا مدهشًا بالقدر ذاته. بلور فيليب إرثًا للملك الأرغيِّ الذي سيرثه أعظمَ بكثيرٍ من الإرث الذي ناله سنة ٣٥٩، لكنه رفع بذلك أيضًا مستوى المهارات الشخصية والاحترافية الضرورية للحفاظ على نفوذ المملكة.
(٢) أوليمبياس
كان النصف الآخَر من نسب الإسكندر مهمًّا بالقدر نفسه؛ إذ شكَّلَتِ الأم مستقبلَ ابنها بطرقٍ تتجاوز تمامًا حدودَ كونها الواهبة لحياته. كان زواجها بفيليب عنصرًا أساسيًّا من عناصر التحالف بين إبيروس ومقدون، الذي جمع بين أسرتين حاكمتين بالوسائل السِّلْمية لا العسكرية. لكن كما رأينا، أبرم فيليب ست زيجات دبلوماسية أخرى، ممَّا تمخَّض عمَّا يمكن رؤيته كبيئة تنافسية تناضِل فيها الزوجاتُ ليضمنَّ لأنفسهن المكانةَ ولأولادهن النجاحَ في المستقبل. كان لزامًا على الأم أن تحمي نفسها وأبناءها وبناتها أثناء طفولتهم وشبابهم، وتشكِّل الظروفَ التي يمكن لأبنائها أن يترعرعوا فيها ويبرهنوا على قدراتهم لكي يرثوا العرش أو ليصير بناتها زوجات لرجال مهمين. لم تكن تلك بالمهمة السهلة في ظل أحسن الظروف، بل كانت أصعب على أم الإسكندر؛ لأنها لم تكن أرغيَّة.
كانت أم الإسكندر تُدعَى أوليمبياس، لكن من الجائز أن اسمها الأصلي كان ميرتل، ولم تكن مقدونية المولد بل كانت من إبيروس، الواقعة في المنطقة الشمالية الغربية من اليونان في البر الرئيس قبالة كورفو، وهي ملاصقة تقريبًا لتيساليا وإن كانت تفصلها عن تيساليا جبال بيندوس. عدَّدَ المؤرخ ثيوبومبوس، الذي عاش في القرن الرابع، ١٤ قبيلة هم سكان المنطقة، وكانت قبيلة المولوسيين إحدى هذه القبائل، ونجحت هذه القبيلة في إقامة دولة قوية بقيادة ملكها نيوبتوليموس بحلول عام ٣٧٠ تقريبًا. كانت أوليمبياس واحدة من ثلاثة أبناء أنجَبَهم نيوبتوليموس؛ كانت لها أخت تُسمَّى ثواس وأخٌ يُسمَّى الإسكندر تُوِّج ملكًا على المولوسيين سنة ٣٤٢، وبعدها نجح في توحيد إبيروس وتوسيعها أثناء حكمه الذي دام ١٢ سنة. يمكن تأريخ زواج فيليب بأوليمبياس حوالي سنة ٣٥٧، ووُلِد ابنهما سنة ٣٥٦ وابنتهما كليوباترا بعده بنحو سنتين أو ثلاث. ورُتِّب هذا الزواج بين فيليب وعمِّ أوليمبياس الذي خلف أبيها على العرش.
شجَّعَ على عقد هذا الزواج الكثيرُ من المنافع المتبادَلة، وتُوحِي الصعوباتُ المستمرة التي واجَهَها المقدونيون مع الإليريين شمالَ إبيروس بأن المنفعة المحقَّقة من اتخاذ حليفٍ مقرَّب على الحدود الجنوبية للأرض الإليرية كانت عاملًا مهمًّا. كانت العلاقة بين مقدون وإبيروس قوامها الود لا العداوة، وازدادت وثاقةً بزواجٍ عُقِد سنة ٣٣٧ جمع كليوباترا ابنة فيليب وأوليمبياس بالإسكندر شقيق أوليمبياس الذي كان آنذاك مَلِكًا على مولوسيا. كان النفوذ الهيليني القوي آصرةً أخرى بين المملكتين بحلول خمسينيات ذلك القرن. كان المولوسيون، أو على الأقل النخب منهم، يتحدثون الإغريقية، ويعود نسبهم إلى نيوبتوليموس بن آخيل، على نحوٍ يشبه الصلة الأرغيَّة بهرقل. والروايةُ التي ذكرها بلوتارخُس عن وقوع فيليب في حبِّ أوليمبياس أثناء تكريسهما في طقوس دينية في جزيرة ساموثراكي الإغريقية؛ قد تنمُّ عن مستوى الأغرقة في كلٍّ من إبيروس ومقدونيا الدنيا بحلول منتصف القرن الرابع (الإسكندر، ١). من الواضح، في عيني بلوتارخُس على أية حال، أن هذا برهانٌ على أن الزواج الدبلوماسي يمكن أن يشتمل على غرام شخصي.
سواء أكان هذه الزواج يشتمل على عنصر غرامي أم لا، من المهم أن نتذكَّر أن أوليمبياس لم تكن سوى واحدة من زوجات فيليب السبع. ومع أن ترتيب الزيجات ليس مؤكدًا بالكلية، فبحلول وقت زواجه بأوليمبياس كانت تحته ثلاث زوجات أخريات، وهنَّ: أوداتا ابنة الملك الإليري، وفيلا ابنة العائلة الإيليمية الحاكمة في مقدونيا العليا، وفيلينا ابنة إحدى العائلات التيسالية الحاكمة المهمة. وفي مرحلة متأخرة من عهده تزوج بثلاث نسوة، وهن: نيكيسيبوليس ابنة مدينة فيراي التيسالية، وميدا التراقيَّة، وكليوباترا المقدونية، التي ربما كانت أرغيَّة، أو التي إنْ لم تكن من السلالة الحاكمة فربما كانت من أسرة مقدونية نبيلة. تذكر المصادر أن هذا كان زواجًا قائمًا على حب، لكن كما رأينا فإن الملك يجب أن يضمن عقد علاقات طيبة مع نخب مملكته.
لا يبدو أن نسب الزوجة كان عاملًا حاسمًا في مسألة الخلافة؛ فيوريديكا أم فيليب كانت من أصل إليري ولنكستي، وأما جايجيا زوجة أبيه الثانية، فربما كانت من بنات السلالة الأرغيَّة، وقد خلف أبناءُ يوريديكا أباهم، وأما أبناء جايجيا فحاكوا المؤامرات للفوز بالعرش لأنفسهم. كذلك كانت أوليمبياس إبيروسية، وأما زوجة فيليب السابعة فكانت من أسرة مقدونية ذات نفوذ. إذن فالقرار بشأن الخلافة كان يتوقَّف على عوامل أخرى غير الانتماء إلى السلالة الأرغيَّة، وكان نفوذ الأمهات النسبي لدى فيليب يقينًا ذا شأن كبير. على الرغم من أن وجود أمارات واضحة على ما يتمتَّع به وَرَثةُ العرش المحتملون من مقدرةٍ سيكون أيضًا حاسمًا، كنت ترى في الوقت نفسه كل زوجة لفيليب لها ابن منه تسعى جاهدةً للارتقاء بمهارات ابنها، وربما كان الإضرار بفرص المنافسين من بين السبل التي استخدمْنَها.
ليس معروفًا في أيِّ مكان من مجمَّع القصر كانت تعيش أوليمبياس وزوجات فيليب الأخريات، ولعل أحد الأجنحة الثلاثة كان مصمَّمًا لاستخدامه كمسكن. وحتى لو كان لكل واحدة من الزوجات العديدات وأولادهن بيتٌ منفصل، فمن المؤكد أن الوضع كان سيتمخض عن منافسة؛ فكما رأينا، كانت الثقافة المقدونية ثقافة تنافسية بعمق من نواحٍ كثيرة. ويدل دور يوريديكا في تأمين وراثة العرش لأبنائها بدلًا من أبناء جايجيا، على أن زوجات الأُسَر النخبوية وبناتها كنَّ يتصرَّفن بأسلوبٍ مماثل للمقدونيين الذكور. وتُبرهن أدوارُ أوليمبياس وابنتها، وكانت تُسمَّى كليوباترا أيضًا، على أن النساء كنَّ يستطعن الحكمَ في غياب الملوك، ويستطعن قيادة الجيوش وقتل المنافسين.
على الرغم من أن الغرض الأوليَّ من زيجات فيليب والملوك المقدونيين الآخرين المتعددة يكمن في قيمتها في إقامة التحالفات مع الدول الأخرى؛ يوجد غرضٌ ثانٍ صار مساويًا لذلك في الأهمية، وهو ضمان سلسلة من وَرَثة العرش المقدوني. كانت لدى فيليب شواهد قوية على أن أيَّ ملك مقدوني ليس آمنًا على حياته؛ إذ مات أبوه وأخواه الكبيران قتلى، وكان له في ابن أخيه منافس محتمل. وكما رأينا فإن من مهامه الأولى كملك القضاء على المنافسين المحتملين الآخرين، وخصوصًا إخوته لأبيه من جايجيا. كان يقينًا على درايةٍ أيضًا بأن أطفالًا كثيرين لا يطول بهم العمر أكثر من سنواتهم الأولى لأسباب طبيعية؛ ومن ثَمَّ فمن المسئوليات الأساسية المنوطة بزوجات الملك أن يلدن الأبناء ويحافظن على حياتهم. كان الشطر الثاني من هذه المسئولية صعبًا حتى لو لم توجد إلا زوجتان، كما في حالة أمينتاس أبي فيليب. وتمخض هذا التنافس بين زوجات فيليب السبع عن وضعٍ أكثر تعقيدًا.
علاوةً على ذلك، يبرهن هذا على خصلة أخرى من خصال أوليمبياس، فتفانيها في العناية بولدَيْها وإصرارُها على تأمين نجاحهما سمةٌ بارزة في قصة حياتها منذ مولد طفلها الأول الإسكندر إلى وفاتها سنة ٣١٥. يقال إنها كانت تدسُّ لفيليب أريدايوس، وريث فيليب المحتمل الآخَر، عقاقيرَ لتُضعِف عقله وجسده (بلوتارخُس، الإسكندر، الفصل ٧٧). عند زواج فيليب زيجته السابعة والأخيرة بكليوباترا سنة ٣٣٧، أدَّى الشجارُ الذي نشب بينه وبين الإسكندر إلى رحيل أوليمبياس والإسكندر عن مقدونيا، ثم جرَتْ ترضيةٌ في السنة التالية اقترنَتْ بزواج كليوباترا ابنة فيليب وأوليمبياس بخالها أخي أوليمبياس.
بعد مقتل فيليب سنة ٣٣٦، وإعلان الإسكندر ملكًا، مارست أوليمبياس وابنتها نفوذًا كبيرًا في مولوسيا ومقدون عندما كان الإسكندر على رأس حملته ضد الفرس. وتمكنت أوليمبياس من النجاة من العشر سنوات الوحشية التي تمخض عنها موت الإسكندر؛ إذ كانت تعمل بالتنسيق مع ابنتها كليوباترا وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على حياة حفيدها الإسكندر الرابع ابن الإسكندر ورُخسانة لكي يخلف أباه، وكان ذلك يتطلَّب القضاء على المرشحين الآخرين. وتتحمل أوليمبياس المسئولية عن موت زوجة فيليب السابعة ووليدها بعد مقتل فيليب بفترة وجيزة. وفي الفترة التي أعقبت موت الإسكندر، عملت أوليمبياس بالتنسيق مع طامح آخر إلى الخلافة، وهو كاساندروس، لإنهاء حياة فيليب أريدايوس وزوجته، ثم ماتت أوليمبياس أخيرًا على يدَيْ شريكها المتآمِر هذا ذاته، بينما سُمِح للإسكندر الرابع وأمه بالعيش خمس سنوات أخرى قبل أن يُقضَى عليهما. وأما ابنتها فتمكنت من النجاة فترة أطول — وإنْ كانت رهينة في آسيا الصغرى — حتى سنة ٣٠٩ تقريبًا.
ربما كان النجاح في تنشئة أطفال فطنين وأذكياء مهمة تشغل وقت الأم كاملًا، ولا تشير الشواهد إلى لعب النساء دورًا رسميًّا في حكم المملكة. ولعل الواقع أن النفوذ غير الرسمي الذي تتمتع به أم الملك كان يزاد غالبًا أثناء حكم ابنها؛ إذ شهد رجل الدولة والخطيب الأثيني إيسخينيس أن يوريديكا، زوجة أمينتاس الثالث وأم فيليب الثاني، أقنعت القائد الأثيني إفيكراتيس بحماية العرش لابنيها اللذين تبقيا على قيد الحياة بعد مقتل ابنها الأكبر الإسكندر (إيسخينيس، «عن السفارة» الكتاب الثاني، ٢٦–٩). وربما نستدل على نفوذ أوليمبياس لدى فيليب مما قام به هذا الأخير من رفع أخيها الإسكندر على العرش المولوسي.
لعبت أوليمبياس، شأنها شأن يوريديكا، دورًا أبرز أثناء حكم ابنها الإسكندر؛ ففي بداية ذلك الحكم كان قتْلُ زوجة فيليب الأخيرة ورضيعها مدفوعًا، جزئيًّا على الأقل، برغبة أوليمبياس في تأمين الحكم لابنها. وبمجرد أنْ سار الإسكندر في حملته ضد بلاد فارس، باتت أوليمبياس وكليوباترا صاحبتَيْ نفوذ باسميهما. ومع أن الإسكندر أسند الوصاية على عرش مقدون إلى أنتيباتروس بعد ٣٣٤، تُحدِّثنا رواية بلوتارخُس عن تآمُر أوليمبياس وكليوباترا عليه؛ إذ يقول بلوتارخُس إنهما «اقتسمتا المملكة فيما بينهما» (الكتاب الثامن والستون، ٣). وتشير خطابات يُزعم تبادلها بين أوليمبياس والإسكندر — إنْ صحت نسبتها — إلى آصرة دائمة بينهما، وإنْ كنا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت آصرةَ حبٍّ أم احتياجٍ متبادَلٍ. ويقال إن أوليمبياس قدمت قربانًا في دلفي من غنائم الحرب التي أرسلها ابنها. ووليت أوليمبياس بجانب ابنتها المسائلَ العامة باسمها في مقدون وإبيروس على السواء. ويورد نقشٌ (مطبوعة سوبليمنتوم إبيجرافيكوم جرايكوم، المجلد التاسع، ٢) أسماءَ مستلمي الحبوب المجلوبة من قوريني في شمال أفريقيا؛ إذ نجد أن جميع المستلمين دِوَل، لكن أوليمبياس وكليوباترا مسجلتان بالاسم، وهو وضع لا يختلف عن الشواهد المستمَدة من المعاهدات التي تأتي على ذِكْر الملك المقدوني بالاسم كواحدٍ من الأطراف.
حتى من دون مظلة دعم الإسكندر، ظلت أوليمبياس تلعب دورًا كبيرًا في الأحداث بعد موت غريمها أنتيباتروس سنة ٣١٩، ولدى عودتها إلى مقدونيا من إبيروس سنة ٣١٧، تولت حماية حفيدها الإسكندر الرابع، محاوِلةً تأمينَ العرش له وحده بدلًا من استمرار تقسيم السلطة الذي استُقِر عليه في بابل، والذي تمخَّض عن تقاسُم الإسكندر الرابع وفيليب أريدايوس الحكمَ. يختار المقدونيون صف أوليمبياس والإسكندر الرابع، ربما بدافع العاطفة تجاه ابن الإسكندر الثالث، وإنْ كان أيضًا بفعل الإعجاب بقوة شخصية أوليمبياس ذاتها. ونظرًا لأن الملك الصغير الإسكندر كان بالكاد في السادسة من عمره، كانت أوليمبياس تسيِّر الشئون، التي بدأت بمقتل أريدايوس وزوجته حفيدة فيليب الثاني من زوجته الإليرية أوداتا. ويُروَى أن أوليمبياس كانت أيضًا وراء مقتل مائة من أنصار كاساندروس بن أنتيباتروس، ومقتل أشقاء كاساندروس، الذين كانوا خصومًا مؤكدين لغريمة أبيهم. وفي ٣١٥ أُجبِرت أوليمبياس على الاستسلام لكاساندروس هذا ذاته، وماتت بعد ذلك بفترة وجيزة.
وفقًا للتقدير القائل بأن أوليمبياس كانت تبلغ من العمر ١٦ أو ١٧ سنة عند زواجها بفيليب، تكون قد ناهزت ٧٠ سنة أثناء جهودها نيابة عن حفيدها. وتقدِّم لنا هذه المعلومة فكرةً ثاقبة عن طبيعتها وشخصيتها؛ إذ كانت في كامل قواها البدنية والعقلية، وقد شحذتها لا شك طبيعة الحياة في إبيروس ومقدونيا وكذلك نضالها للحفاظ على حياتها وحياة ولدَيْها وجَعْلهما مرشَحين مناسبين للخلافة كما في حالة الإسكندر، أو لزواجٍ مهم كما في حالة كليوباترا.
ومن الجائز تمامًا أن معتقداتها الدينية قوَّتْ إحساسها بالنفوذ. وتبيِّن الإشاراتُ التي يوردها بلوتارخُس إلى أوليمبياس أنها كانت، كحال نساءٍ كثيراتٍ في «هذه المنطقة»، من أتباع الديانتين الأورفية والديونيسية في آنٍ واحد. ولو تذكرنا أن الشاعر يوربيديس استلهم مأساته «الباخوسيات» من الأحداث التي جرت أثناء إقامته في مقدونيا، فربما يؤكد هذا عمومًا صحة ارتباط أوليمبياس بالطقوس الديونيسية. يمضي بلوتارخُس قائلًا: «كان من عادة أوليمبياس أن تدخل في حالات من التلبس وتسلِّم نفسها لإلهام الإله بانفعالٍ أشدَّ جموحًا حتى من الآخرين، وكانت تُشرِك في المواكب الاحتفالية أعدادًا من الثعابين الكبيرة التي روَّضَتْها بيدها؛ ما كان يرعب المتفرجين الذكور» (الإسكندر، الكتاب الثاني). ويقال إن فيليب اكتشف ذات ليلة أحدَ هذه الثعابين ممددًا بجوار أوليمبياس وهي نائمة (الإسكندر، الكتاب الثاني). ويُروَى أنها أخبرت الإسكندر بحقيقة حملها به، فقالت: «إن صاعقةً أصابت رحمها، فتلا ذلك وميض يخطف الأبصار خرج من نار عظيمة.»
والمنطقي أنها كانت تفخر بانتماء أسرتها إلى نيوبتوليموس ابن آخيل، وتذكِّر ابنها وبنتها بنسبهما البطولي. ومن الجائز تمامًا أنها أكَّدَتْ هذه المعلومات وغيرها كتابيًّا حتى وهي بعيدة عن ولديها، وتدل الروايات التي تتحدَّث عن تراسُلها والإسكندر فيما كان في حملته؛ على تلقيها تعليمًا رسميًّا لمبادئ القراءة والكتابة، وهو شيء يمكن توقُّعه بين أفراد الأُسَر الحاكمة في إبيروس ومقدونيا اللتين تطبَّعَتَا بالثقافة الإغريقية.
خلاصة القول أن أوليمبياس كانت شخصية قوية في أسرتين مالكتين. وبما أن نساء الأسرة المالكة المقدونية لم يكنَّ يشغلْنَ مناصبَ سلطةٍ رسمية معترفًا بها، كان نفوذها مستمَدًّا من سماتها ومناقبها الشخصية. ومن الجائز تمامًا أن النساء كنَّ يمارسن سلطةً أكبر، حتى وإنْ لم يشغلن منصبًا رسميًّا، خصوصًا في خضم الاضطراب الذي تمخض عن مقتل فيليب، ثم عند رحيل الإسكندر إلى الشرق، وفي الفوضى التي وقعت في أعقاب موته. كان العالمان السياسيان اللذان عاشت فيهما أوليمبياس وكليوباترا يتيحان فرصًا غير عادية؛ إذ تُرِكت كليوباترا كوصية على عرش مولوسيا عند رحيل زوجها لشنِّ حملة منكوبة في إيطاليا، واستمرت في السلطة عندما مات أثناء تلك المغامرة. واكتسبت كليوباترا أيضًا أهميةً إضافيةً بعد موت زوجها كزوجة محتملة لأحد خلفاء الإسكندر، لكن لم يَعِشْ أيٌّ من الأزواج المحتمَلين طويلًا ليتزوَّجها.
لم تُطلَب أوليمبياس كزوجة، بل فتح الصراع على العرش المقدوني بابًا لنشاطها ما دامت رغبتها قوية في الاحتفاظ بالحكم في ذرية فيليب. ونجحت كما رأينا في القضاء على جميع المرشحين المحتملين سوى ابن الإسكندر، وربما كان مقتلها سنة ٣١٥ هو الذي قلَّلَ فرص البقاء أمام الإسكندر الرابع. أيقن كثير من الخلفاء الذين كانوا قد وطَّدوا دعائمَ سلطتهم الفعلية آنذاك في أجزاء من الإمبراطورية بحلول ٣١٠ / ٣٠٩؛ أن بوسعهم اتخاذَ اللقب وولاية الملك حتى من دون نسب أرغيٍّ؛ ونتيجةً لهذا الإدراك قُضِي على كلِّ مَن تبقَّى من ذرية فيليب والإسكندر. وفي ٣٠٦ / ٣٠٥ اتخذ اثنان من الخلفاء لقبَ بازيليوس أو ملك، وتلاهما آخرون. لكن بنات فيليب ظللْنَ فترةً من الزمن يتمتعن بأهميةٍ كزوجات محتملات لخلفاء الإسكندر. كانت الهالة المحيطة بالنساء الأرغيَّات ما زالت قوية، ومن المعقول أن نتفق مع ما قالته إليزابيث كارني من أن «حياة أوليمبياس السياسية الطويلة كانت أشبه بمرحلة فاصلة؛ إذ كادت نساء الأسرة المالكة المقدونية قبلها يكنَّ عديمات الحضور، وأما بعدها في الفترة الهلنستية، فتولَّتِ الملكات غالبًا أدوارًا مهمة كمشارِكات في الحكم ووصيات على العرش» (١٩٨٧: ٣٨).
(٢-١) تأثير أوليمبياس على الإسكندر
لعل من الأهمية بمكان أن نتذكَّر أنه مع ما يقال من أن زيارة الإسكندر إلى عرافة آمون-زيوس في واحة سيوة المصرية كشفت له عن هوية أبيه الحقيقة، وهو تحديدًا زيوس، فإن اسم أمه لم يكن قطُّ محلَّ شكٍّ. وبالإضافة إلى أن أوليمبياس واهبة الحياة لابنها، فإنها مكَّنَتْه من البقاء خلال مرحلة الطفولة، ومن أن يصير الخليفة المرجح لفيليب الثاني. وجاء جزء من هبتها هذه من خلال أفعالها المدروسة، ومن ذلك ربما عملها على إضعاف القدرات العقلية والبدنية لابن فيليب الآخَر الوحيد. وهناك جوانب أخرى من هبتها فرضتها الظروف عليها؛ ومن ثَمَّ على ابنها.
من هذه الظروف أنه سيقضي غالبية سنوات عمره الأولى في بيئة المجمَّع الملكي المشحونة بالتوترات في بيلا. لا توجد وسيلة لقياس مقدار ما أدركه الإسكندر من ذلك الجو المشحون في شبابه، لكنه لم يكن منفصلًا عن الآخرين من أفراد البيت المالك. ولا نرجِّح أن أوليمبياس سكتَتْ على ذلك الوضع. ونتبين حقيقة أنها كانت هي والإسكندر ضالعَيْن سويًّا في منافسة مستمرة من حياتهما في المنفى الاختياري بعيدًا عن بيلا إبَّان زواج فيليب بكليوباترا؛ فمع أن الزواج كان إحدى أدوات الدبلوماسية، لم تكن زوجات الملك مضطرات إلى أن يَبقينَ مخلوقاتٍ سلبياتٍ، ولم يكن الموقف يشجِّع كذلك على السلبية.
أتاح الترعرع في القصر في بيلا فرصًا مهمة للإسكندر، كالاتصال بأترابه من أبناء النخبة، ومن ذلك غلمان الملك (صبيان بيوت النبلاء) والأُسَر التي لجأت إلى بيلا، كأسرة أرتبازوس، أحد مرازبة ملك فارس، الذي كانت ابنته براسين قريبةً من عُمْر الإسكندر. كان القصر أيضًا مكان إقامة الندوات التي تحضرها النخبة ومكان استقبال السفراء، وعلى الرغم من عدم مشاركة الإسكندر في هذه الفعاليات ريثما نضج، فلا بد من معرفته بأمرها ومن مشاركته فيها عندما كبر، وفوق ذلك صار على درايةٍ بالأنشطة التي تُمارس في وسط بيلا، وبمَن يمارسونها.
عززت أوليمبياس نسب الإسكندر البطولي من خلال انتساب أسرتها إلى سلالة آخيل، مما يجعل ابنها وريثَ أعظمِ بطلٍ في طروادة وبطل المستحيلات الإغريقي هرقل في آنٍ واحد. وكان انتساب أمه إلى ديانة ديونيسيوس مصدرَ إلهامٍ قويًّا آخَر طوال حملته. ولنا أن نضيف، مطمئنين، إلى هذه العناصر تأثيرَ أوليمبياس شبه المؤكد على التعليم الرسمي الذي تلقَّاه ابنها لمعرفة القراءة والكتابة وفهم العناصر الثقافية الإغريقة، التي كانت ذات شأن في إبيروس وفي مقدونيا على السواء.
نتيجة دور أوليمبياس الأمومي، لنا أن نتأكد من أن الإسكندر كان على بصيرةٍ بنسبه البطولي، وببعض الصعوبات المتعلقة بدور الزواج، وبأن العالم الأرغيَّ مفعم بالتنافس، وبأن الأصدقاء محلُّ ترحيبٍ لكنهم ليسوا موضعَ ثقةٍ، وبأن وراثة الملك تتطلَّب يقظةً عقلية مقرونةً بمقدرة بدنية تتوِّجهما تشكيلة عظيمة من المهارات. كان يدين بفضل عظيم لأوليمبياس، وربما كان يخشاها بقدر ما كان يحتفي بحرصها على حياته.