فصل في المُكَرَّر في معانيه
تكرير المعاني وقع لكثير من الشعراء، ولم نر أحدًا عابهم به، إلا إذا كان المعنى في
نفسه ساقطًا مرذولًا، يؤاخذ الشاعر عليه، فتكون مؤاخذته على تكريره وترديده أولى. ومن
الشعراء من يكرر الألفاظ فيعمد إلى بيت أو شطر بيت سبق له، فيعيده في قصيدة أخرى؛ إما
بتغيير قافية، أو بجعل الصدر عجُزًا، أو بالعكس. وهذا النوع يسميه أصحاب البديع
بالتفصيل، فإذا كان مأخوذًا من شعر الغير سموه: إيداعًا، أو تضمينًا، على اختلاف بينهم
فيه. ولم نقصد هنا التكلم عليه، بل اقتصرنا على ما كرره أبو العلاء من معانيه.
فمنها قوله في تشبيه مسامير حلق الدروع بعيون الجراد:
سليميةٌ من كل قَتْرٍ يحوطها
قَتِيرٌ نبَتْ عنه الغواني العوانس
تُخيِّلُ أبصارَ الدَّبَى فمسهَّدٌ
ومُغْفٍ وشيء بين ذينك ناعِسُ
وكرره فقال:
كأن الدَّبى غرقى بها غير أعين
إذا رُدَّ فيها ناظر يستبينها
وكرره فقال:
كأثواب الأراقم مَزَّقَتْها
فخاطتها بأعينها الجرَادُ
وكرره أيضًا فقال:
بدلاص كأنها
بعض ماء الثماد
حُلَّة الأيم خُيِّطت
بعيون الجراد
وكرره فقال:
أتأكل درعي أنْ حسبت قتيرها
وقد أجدبت قيس عيونَ جراد
•••
وقوله في تشبيه الدرع بالمبرد:
وما بُرْدَةٌ في طيها مثل مبرد
بعاجزة عن ضم شخص وأوصال
كرره فقال:
مُضاعَةٌ في نشرها نِهْيُ مُبْرِدٍ
ولكنها في الطيِّ تُحسَب مِبْرَدَا
•••
وقوله:
ذكي القلب يخضبها نجيعًا
بما جعل الحرير لها جِلالا
كرره وبالغ فيه فقال:
غذاهنَّ محمرَّ النجيع قوارحًا
كما كُنَّ يُغْذَيْنَ الضريبَ مِهَارَا
•••
وقوله في تشبيه فرند السيف بآثار دبيب النمل:
ودبت فوقه حمر المنايا
ولكن بعدما مُسخت نمالا
كرره فقال:
كأن المنايا جيش ذرٍّ عرمرم
تخذن إلى الأرواح فيه مسارا
وكرره أيضًا فقال:
ما كنت أحسب جفنًا قبل مسكنه
في الجفن يطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النمل يمكنها
مشيٌ على اللُّجِّ أو سَعْيٌ على السُّعُر
١
•••
وقوله في تشبيه طحلب الماء باللثام:
وملتثم بالغَلْفَق الجَعْد عرَّست
عليه فلم تكشف خفيَّ لثامه
وكرره فقال:
وكم أوردتَها عِدًّا قديمًا
يلوح عليه من خَزٍّ خِمارُ
•••
وقوله:
فالنفس تبغي الحياة جاهدة
وفي يمين المليك مِقْوَدُها
فلا اقتحام الشجاع مُهْلِكها
ولا توقي الجبان مُخْلِدُها
كرره فقال:
فكن في كل نائبة جريئا
تُصِبْ في الرأي إن خَطِئَ الهِدَانُ
٢
وسائل من تنطَّس في التوقي
لأية علة مات الجبان
•••
وقوله:
تمتع أبكار الزمان بأيْده
وجئنا بوهن بعد ما خَرِفَ الدهر
كرره فقال:
كأنما الخير ماء كان واردَه
أهلُ العصور فما أبقوا سوى العَكَر
وقوله:
وكل ما يريد العَيْش والعيش حتفه
ويستعذب اللذات وهي سِمامُ
كرره فقال:
تود البقاءَ النفسُ من خيفة الرَّدى
وطول بقاء المرء سَمٌّ مُجَرَّبُ
•••
وقوله:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم
والبدر في الوَهْنِ مثل البدر في السَّحَرِ
كرره فقال:
وما البدر إلا واحد غير أنه
يغيب ويأتي بالضياء المجدَّد
فلا تحسب الأقمار خلقًا كثيرة
فجملتها من نيّر متردد
•••
وقوله في رثاء أمه:
مضت وقد اكتهلتُ فخلت أنِّي
رضيع ما بلغتُ مدى الفِطام
وكرره في رثائها أيضًا فقال:
دعا الله أمًّا ليت أنِّي أمامَها
دُعِيتُ ولو أنَّ الهواجر آصال
مضت وكأني مُرْضَعٌ وقد ارتقت
بي السِّنُّ حتى شكلُ فَوْدَيَّ أشْكالُ
هوامش