فصل في معتقده في النبوات والرسل
يتهم الكثيرون أبا العلاء بجحد النبوات، وعدم الإيمان بالبعث والنشور؛ وكثيرًا ما يتعمدون تحريف كَلِمِه، أو صرفَ ظاهره إلى غير مراده، افتياتًا عليه، وانتصارًا لمدعاهم. فضلًا عما وضعوه على لسانه من الكذب والبهتان، كما أثبته نَقَلة أخباره. وقد مر بك حديثه مع القاضي المنازي، وكيف اقتضبه الرواة ليثبِتوا إلحاده وإنكاره للآخرة. ونقل ياقوت والسلوي عن القاضي أبي يوسف عبد السلام القزويني أنه قال: «قال لي المعري: لم أهج أحدًا قط. فقلت: صدقت، إلا الأنبياء عليهم السلام! فتغير لونه. أو قال: وجهه. ا.هـ.» ولا أدري ماذا يثبته هذا الحديث أو ينفيه.
وإليك ما ذكره العلامة ابن الوردي في تتمة المختصر، وهو من أدق الباحثين في أمره. قال: «قال لي يومًا بعض أصحابي من الأمراء ذوي الفهم: كيف كان أبو العلاء في اعتقاد البعث؟ فأنشدته قوله:
وبلغني أن بعضهم زعم أن أبا العلاء كان ينكر النبوات، فهذا مردود بقول أبي العلاء:
وقوله في شريف:
وقال في الشريف أبي إبراهيم العلوي الموسوي:
وقوله:
انتهى كلام ابن الوردي. وما ذكره من الشعر منقول من سقط الزند.
ولقائل أن يقول: ما لكم تنتصرون للرجل بكلامه في سقط الزند، وهو لم يقصد به بيانًا لمذهبه، أو شرحًا لمعتقده، بل جرى فيه مجرى الشعراء في أفانينهم الشعرية، وأخرجه مخرج هيامهم في كل وادٍ من القول وضربٍ من الخيال؛ وهم كما تعلمون يُجوِّزون الكذب، ويقولون ما لا يفعلون؛ فشأنه في ذلك شأنهم ودعواه دعواهم؛ فإذا مدح شريفًا لم يكن له بُدٌّ من تقديس آبائه، والإقرار لجدهم ﷺ بالنبوة والرسالة، تعظيمًا لشأن الممدوح؛ كما لا مندوحة له في الرثاء عن وصف ما لقيه المرثيُّ من التكريم في جنات النعيم، ليكون قوله مقبولًا لدى من يخاطبهم، وأدعى للحظوة عندهم، وإن لم يكن هو معتقدًا له. وما يقال في هذا يقال في غيره، وإلا للزمكم أنه كان على غير ما تَدَّعُون له من الزهد والتقوى، لما أثبته في هذا الديوان من الغزل والتشبيب وبكاء الشباب والفخر، وهي والزهد على طرفي نقيض. فلو اقتصرتم على ما في لزوم ما لا يلزم ونحوه من الكتب التي وضعها لبيان فلسفته وآرائه، لسلمتم من مثل هذا النقد.
ونقول في رد ذلك: ربما كان لما ذكرتَ وجه من الصحة، إلا أنا لما رأيناكم آخذتم الرجل على بعض ما جاء في هذا الديوان، واستدرجتم به إلى الطعن في عقيدته، مع أنه لا يخرج عن الغلو المألوف للشعراء كما بيناه آنفًا — استجَزْنا أيضًا أن نحجَّكم بما جاء فيه من صريح ذكر الحشر، والإيمان بالرسل وإثبات المعجزات لهم عليهم السلام. وشتان ما بين حجتينا. على أن ما ادعيتموه لا يصح الحكم به على مطلق شعر يقوله الشاعر، وإلا فالويل للشعر والشعراء بعدئذٍ.
•••
وبعد، فإنا لم نحكم لأبي العلاء بصحة إيمانه بالرسل والنبوات إلا من أقواله المثبتة لذلك، المصرحة به. فلا ريب في أن ما يوهم في ظاهره نقيضها من أقواله الأخرى، مؤول بما يحتمله لفظه؛ وكثير منها لم يرد به الطعن على الأديان نفسها، بل أراد أهلها ومنتحليها، لتفريطهم فيها أو إفراطهم، كما صرَّح به في أقوال أخرى، سنأتي عليها في هذا الفصل.
وقد رأيت بعض المتعصبين عليه يظفر بالبيت الموهِم، فيرويه فذًّا من غير نظر لما قبله أو بعده. ولو تدبر ذلك لظهر له مراده، ولم يجد سبيلًا للطعن عليه.
على أنا مع هذا لا نُبرِّئه رحمه الله من بعض سقطات زلَّ بها لسانُه، ليس فيها جحد للنبوات، ولكن ذِكْرها لا يخلو من شناعة. فكان الأولى له التفادي عن نظمها في هذا السمط. ولا مشاحة في عذر من أنكر عليه فيها، وإنما كلامنا فيمن يرميه بالإلحاد، وهو براء منه، بدليل ما ذكرناه من كلامه وما سنذكره.
•••
أما من استدل على إنكاره النبوات، وتحكمه العقل في التحسين والتقبيح، بقوله:
فقد أخطأ المرمى، ونكب عن سبيل القصد، فإن مراده بقوله «فكل عقل نبي» أن العقل كافٍ في الإخبار والدلالة على وجود صانع لهذه الكائنات، ولا عذر للعبد في جهله بخالقه، ما دام له عقل ينظر به ويستخبره، كما يدل عليه سياق الأبيات عند التأمل.
وهذه المسألة من المسائل التي قام فيها الخلاف بين أئمة الكلام، وانقسم فيها أهل السنة إلى قسمين. فذهب جمهور الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند إلى أنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولًا لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته واتصافه بما يليق به من الحياة والعلم والقدرة وغيرها، وكونه محدثًا للعالم؛ وهو أيضًا أرجح قولي الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب جمهور مشايخ الأشاعرة إلى أنه لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل بعث الرسل. ولا يرد على الأول أنه لو كان العقل حجة كافية ما أرسل الله الرسل، ولاكتفى به؛ لأنه يقال في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل على العقل وحده، إلا بعظيم تأمل فيه، وكذلك أنواع العبادات والحدود ونحوها لا تنال بمجرد العقل — كان إرسال الله تعالى رسله وإنزال كتبه، لبيان ذلك. وأصل الخلاف إنما هو في الإيمان بالله، لا في أحكام الشرائع. فإن قيل لو كان العقل كافيًا في ذلك لاقتصرت الشرائع على بيان ما ذكرتم، ولم تتعرض لأحكام الإيمان بالله تعالى وتنزيهه، واتصافه بصفاته اللائقة ونحوها، اكتفاء بدلالة العقل عليها. قلنا: كان ذلك لزيادة التمكين وتتمة البيان، من قبيل توارد الأدلة وتعاقبها. فإنه تعالى لم يدعنا والبيان بآية واحدة، بل مَنَّ علينا سبحانه بآيات متكررة، وكذلك لم يدعنا ورسولًا واحدًا من أول الأمر إلى آخره، والحجة كانت قائمة بالواحد، كما بقيت بنبينا ﷺ إلى القيامة؛ فلا يدل ذلك على أن الرسول الواحد أو الآية الواحدة لم يكونا حجة كافية.
هذا محصل ما ذكروه في هذا المقام، ولكل من الفريقين أدلة من الكتاب والسنة يحتج بها لمذهبه، فاطلبها إن شئت في كتب الكلام، خصوصًا فيما أُلِّف منها في الخلاف بين الماتريدية والأشعرية؛ وانظرها أيضًا في كتب التفسير عند قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا.