فصل في مولده ووفاته وحليته
وحكى السِّلفي عن أبي محمد الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره، فرآه قاعدًا على سجادة لِبْدٍ وهو شيخ. قال: فدعاني ومسح على رأسي، وكنت صبيًّا، وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما بارزة والأخرى غائرة جدًّا، وهو مُجدر الوجه، نحيف الجسم.
ونقل الثعالبي عن المصيصي الشاعر، قال: رأيت بمَعَرة النعمان عجبًا من العجب، رأيت أعمى شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء. وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر. انتهى.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته الكبرى المسماة بالحقيقة والمجاز، في رحلة الشام ومصر والحجاز، عند كلامه على القدس وما فيها: «ودخلنا إلى المدرسة المسماة بالفخرية، وهي في غاية من الحسن والإتقان، وكمال البهاء وجمال البنيان، وفيها جملة من الكتب. ورأينا فيها ديوان أبي العلاء المعري وشرحه، ورأينا هناك مكتوبًا له هذين البيتين، وهما قوله:
ويناسبه قوله أيضًا:
انتهى كلام الشيخ. والبيتان الأوَّلان اختلفوا في قائلهما، فنسبهما الصفدي في شرح لامية العجم (ج٢، ص٣٨٤) لأبي العلاء كما ذكر الشيخ، ولكن روايته: «ما في الوجود» بدل «ما في الأنام».
ونسبهما الشريشي في شرح المقامات لبشار بن برد، وروايته: «ما في البلاد»، ونسبهما الوطواط «في الغرر والعرر ص١٦١» لأبي العيناء، وروايته: «والله ما في الأنام حر»، والله أعلم.
والبيتان الآخران لم أجدهما في شعر أبي العلاء، ولعلهما من شعره المفقود. فإن قيل: كيف كان يَحمد اللهَ على العمى، وهو القائل في عكسه يتمنى الإبصار:
قلنا: ليس هذا من التناقض في شيء، ولكل مقام مقال؛ لأنه أبان في الأول عن مذهبه ورأيه في الوجود، وجرى في الثاني على طريقة الشعراء في مدائحهم؛ إذ كان المقام يقتضيه. ومن هذا تعلم فرق ما بين شعريه في سقط الزند واللزوميات، لاختلاف المقامين وتبايُن الوجهتين. وإن صحت نسبة البيتين السابقين لأبي العيناء كما ذكر الوطواط، فقد جرى على مثل هذا أيضًا في قوله للمتوكل وقد سأله عن أصعب ما مر عليه في فَقْدِ بصره، فقال له: فقدي لرؤيتك يا أمير المؤمنين.
ومن قول أبي العلاء في عماه، وهو مما رواه له الصفدي:
يشير بذلك إلى أن العميان عُوِّضوا عن البصر الذكاءَ وسرعة الحفظ. وقريب منه ما ينسب لسيدنا عبد الله بن عباس، وكان أصيب في بصره في آخر عمره:
وغاية الغايات في هذا الباب قول بشار بن برد فيمن عيَّره بالعمى، وإن كان من غير هذا المعنى:
ومن طرائف أبي العلاء أنه لما فرغ من تصنيف كتابه اللامع العزيزي في شرح ديوان المتنبي، وقُرئ عليه، أخذ الجماعة في وَصْفه، فقال: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
وكان أبو حزم مكِّي بن ريان المقري الضرير الملقَّب بصائن الدِّين يتعصب لأبي العلاء، ويطرب إذا قُرئ عليه شعره للجامع بينهما من العمى والأدب، فسلك مسلكه في النَّظْم. كذا ذكر ابن خلكان نقلًا عن ابن المستوفي.
وتوفي — رحمه الله — يوم الجمعة، ثالثَ، وقيل ثانيَ، وقيل ثالثَ عشرَ ربيع الأول، سنة ٤٤٩ بالمعرة، في خلافة القائم العباسي، وله من العمر نحو ست وثمانين سنة، ومرض ثلاثة أيام، ولم يكن عنده غير بني عمه، فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عني. فتناولوا الدُّوِيَّ والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال لهم القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت. فمات من غده، ودُفن في ساحة من دور أهله. قال القفطي: أتيتُ قبره سنة خمسين وست مئة، فإذا هو في ساحةٍ من دُور أهله وعليه باب، فدخلتُ فإذا القبر لا احتفال به، ورأيت عليه خُبازى يابسة، والموضع على غاية ما يكون من الشعث والإهمال. وقال الذهبي: وقد رأيت قبره بعد مئة سنة من رؤية القفطي، فرأيت نحوًا مما حكى. انتهى. ويقال إنه أوصى أن يُكتب عليه:
ونقل الصفدي عن خط علاء الدين الوداعي، قال: زرت قبره بالمعرة — رحمه الله تعالى — في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وست مئة، ولم أر عليه شيئًا من ذلك، وقد دُثر ولصق بالأرض، وعملت هذين البيتين:
قلت: وقبره معروف إلى اليوم، أي سنة ١٣٢٧ بالمعرة، ولأهلها اعتقاد كبير فيه، ويزعمون أن الماء إذا بيت في قارورة عند قبره، وشَرِبه في الغد صبيٌّ به حبْسةٌ في لسانه، أو بَلادة في ذهنه، زال ذلك عنه ببركة أبي العلاء.
ونقل ياقوت في «إرشاد الأريب» عن ابن الهبارية، أن السبب في وفاة أبي العلاء مكاتبات جرت بينه وبين أبي نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، دعتْ إلى الأمر بإحضاره إلى حلب، وَوَعْده على الإسلام خيرًا من بيت المال، فلما علم أنه يحمل للقتل أو الإسلام سَمَّ نفسه فمات. قال ياقوت: وقد ظفرت بتلك الرسائل، فلم أجد بها ما يدل على ما ذهب إليه ابن الهبارية. انتهى. وأقول: هذه الرسائل هي التي لخَّصها ياقوت في كتابه المذكور، وقد ظفرتُ بها أنا أيضًا، وهي عندي تامة في نسخة مخطوطة، وليس فيها شيء من ذلك. وبعدُ فأيُّ إسلام كان يريده منه داعي الدعاة، وهو رئيس الباطنية في الدولة الفاطمية، والداعي إلى مذهبهم، ونحلة القوم معروفة لا تحتاج لبيان. ومن راجع دعواتهم في خطط المقريزي عَلِمَ كيف كانوا يأخذون الداخل في مذهبهم بتشكيكه في دينه أولًا، ثم الخروج به رويدًا رويدًا من الإسلام، حتى ينتهوا به إلى الإلحاد. فهل كان ما عليه هؤلاء القوم هو الإسلام في نظر ابن الهبارية حتى يتبجح بهذه الدعوى؟
وكان — رحمه الله — قصير القامة، نحيف الجسم ضعيفه، مُشوَّه الوجه بآثار الجدري، ومُنِيَ في آخر عمره بالإقعاد، ولما مات خَتَم عند قبره في أسبوع واحد مئة ختمة، وفي رواية: مئتان، واجتمع عليه خَلْق كثير، وأنشد أربعة وثمانون شاعرًا مراثيهم فيه. منها قصيدة طويلة لتلميذه علي بن همام، يقول فيها:
قال ياقوت: كأنه يقول إنَّ ذِكْرَك طيب، والطيب لا يحل للمُحرم، فتجب عليه فدية. ورثاه أبو الرضى عبد الرحمن بن نوت المعري بقصيدة نذكر منها ما وقفنا عليه في «الكوكب الثاقب» لعبد القادر السَّلَوي، وهو:
ورثاه الأمير أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة المعري بقوله: