فصل في تلاميذه
قرأ على أبي العلاء ببغداد والمعرة كثيرون، واشتهر جماعة منهم بالاختصاص به، والانتساب إليه في العلم؛ كأبي المكارم عبد الوارث بن محمد الأبهري، وأبي تمام غالب بن عيسى الأنصاري، والخليل بن عبد الجبار القزويني، ومحمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، وغيرهم. وممن روى عنه: القاضي أبو القاسم علي بن القاضي المحسن بن القاضي التنوخي، وكان من أقرانه، أخذ عنه وهو ببغداد، وصَحِبه، واتصلت صحبتُه بالتبريزي بسبب أبي العلاء. ولد القاضي المذكور سنة ٣٦٥ بالبصرة، كما في «وفيات الأعيان» لابن خلكان، أو في سنة ٣٥٥ كما في «فوات الوفيات» لابن شاكر، والأول أصح. وتوفي سنة ٤٤٧، قبل وفاة أبي العلاء بنحو سنتين. وكان صدوقًا في حديثه، وقُبلت شهادته عند الحكام في حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولًا إلى آخر عمره، وتولى قضاء عدة نواحٍ، منها المدائن وأعمالها، وأذْرَبِيجانُ والبَرَدان وغير ذلك. وكانت فيه دعابة؛ يُروى أن إسكافًا اجتاز بداره وهو نائم، فصاح شرَّاك النعال وأزعجه بصياحه، فقال لغلامه: اجمع كل نعل في الدار وأعطها لهذا يصلحها ويشتغل بها، ثم نام واشتغل الإسكاف بإصلاحها إلى آخر النهار، فلما كان في اليوم الثاني فعل كذلك، ولم يدعه ينام، فقال للغلام: أدخله، فلما دخل قال له: أمس أصلحت كل نعل عندنا، واليوم تصيح على بابنا، هل بلغك أننا نتصافع بالنعال ونقطعها؛ يا غلام، قفاه.
وسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر ابنتك؟ فقالت: رُزِقْتُها يوم صُفع القاضي وضرب بالسياط، فقال لها: أصار صفعي تاريخًا لك، ما وجدتِ تاريخًا غيرها؟
وممن قرأ على أبي العلاء، وهو ببغداد: الأديب المشهور بابن فورجة البَرُوجِرْدِي؛ ذكر ذلك السيوطي. وهو صاحب «الفتح على أبي الفتح»، و«التجني على ابن جني»، يرد فيهما على ابن جني في شرح شعر المتنبي. واختلفوا في اسمه، فقيل: محمد بن حمد، وسماه مجد الدين الشيرازي في كتابه «البلغة في أئمة اللغة»: حمد بن محمد، ومن شعره:
قال السيوطي: هذا الشعر يؤيد أن اسمه حَمَد. واختلفوا أيضًا في اسم جده فورجة؛ فقال السيوطي: بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المهملة وفتح الجيم. وقال ابن شاكر في «فوات الوفيات»: «فوزجة» بالفاء المضمومة، وبعد الواو والزاي جيم مشددة. وفي النسخ خلطٌ في ميلاده ووفاته.
وأشهر تلاميذ أبي العلاء: أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، صاحب المصنفات النفيسة، كشرح الحماسة والمعلقات، وتهذيب ألفاظ ابن السِّكِّيت، وغيرها. ولد سنة ٤٢١، وتوفي فجأة ببغداد سنة ٥٠٢، ودخل مصر في عنفوان شبابه، ثم استوطن بغداد، ودرَّس الأدب بالنظامية، وكان إمامًا في اللغة ثقة فيها، إلا أنه كان مُسْتَهْتَرًا بالشراب. وكان سبب رحلته إلى أبي العلاء أنه تَحصَّل على نسخة من كتاب «التهذيب» للأزهري في اللغة في عدة مجلدات، وأراد تحقيق ما فيها، وأخذها عن رجل عالِم باللغة، فدَلُّوه على أبي العلاء، فجعل الكتب في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوبًا، فنفذ العَرَقُ من ظهره إليها، فأثَّر فيها. وكانت ببعض الوقوف ببغداد، إذا رآها من لا يعرف صورة الحال ظن أنها غريقة، وليس بها سوى عرق التبريزي.
وقال العلامة عبد الهادي نجا الأبياري من شيوخ هذا العصر المتوفى سنة ١٣٠٥، في كتابه «القصر المبني على حواشي المغني» عند كلامه على أبي العلاء المعري: «ومما يدل على فضله، أن الخطيب أبا زكريا يحيي التبريزي قرأ الأدب عليه ورحل إليه من تبريز، وسيدي عبد القادر الجيلاني قرأ الأدب على التبريزي هذا، فالشيخ شيخ شيخ الجيلاني، والله أعلم».
قلت: والذي قاله الشيخ من قراءة الجيلاني الأدب على التبريزي صحيح؛ ذكره ابن شاكر في ترجمة الجيلاني من «فوات الوفيات».