فصل في مبلغ علمه وذكائه
اتفق مُحِبُّوه ومُبْغِضُوه على أنه كان وافِرَ البضاعة من العلم، غزير المادة في الأدب، إمامًا فيه، حاذقًا بالنحو والصرف، نسيج وحده في الذكاء والفهم وقوة الحافظة. أما اللغة وحفظ شواهدها وتقييد أوابدها، فقد كان فيها أعجوبة من العجائب. وحسبك أنهم إذا عددوا مَنْ رزقوا السعادة في أشياء، لم يأت بعدهم مَنْ نالها — عدُّوا أبا العلاء ممن تفرد بسعة الاطلاع على اللغة. وكلامُه الذي أورده في رسالة الغفران في بيتي النمر بن تولب، وتغييره القوافي، وتنزيلها على سائر حروف المعجم خلا حرف الطاء — يدل على اطلاع كبير، وتمكُّن من اللغة والأدب، قلَّ أن يتفق نظيره لشخص. وخلاصة ما ذكره أن خلفا الأحمر تذاكر يومًا مع أصحابه في قوله النَّمِر:
فقال لهم: لو كان موضع أم حِصن، أم حَفْص؛ ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حُوَّارى بِلَمْصِ، يعني الفالوذج. والحوارى: الدقيق الأبيض وهو اللُّباب. فغيَّر أبو العلاء قوافي البيتين على حروف المعجم، وربما أتى في الحرف بالقافيتين والثلاث، ولا يتفق هذا إلا لمن رزق حظًّا وافرًا من الاطلاع. والمسألة مبسوطة في الرسالة، فارجِعْ إليها إن شئت لتعلم صحة ما قلناه.
وذكر غير واحد من اللغويين أن أبا العلاء لما دخل بغداد، اعترضوا عليه في حلقة ابن المحسِّن، لقوله:
ويُوح ويُوحى — بضمهما — من أسماء الشمس. فقالوا له: صحفت، إنما هو «بوح» بالباء الموحدة. واحتجوا عليه بكتاب الألفاظ لابن السِّكِّيت. فقال لهم: هذه النسخ التي بأيديكم غيَّرها شيوخكم، ولكن أخرجوا ما في دار العلم من النسخ العتيقة. فأخرجوها فوجدوها مُقيدة كما قال.
واحتج به ياقوت في معجم البلدان في تصحيح لفظة الضُّراح ردًّا على من قال إنها بالصاد المهملة. فقال: ألا ترى إلى أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري، كيف جمع بين الضُّراح والضَّريح إرادة للتجنيس والطباق، فقال:
والنَّثا مقصورًا وبتقديم النون على الثاء: الخبر. ومن غريب ما يَرْوُونه عنه في ذلك أنه دخل على الشريف أبي القاسم المُرْتَضى أخي الشريف الرضى؛ وهو ببغداد، فعثر برجُل فقال: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا. وسمعه المرتضى فأدناه واختبره، فوجده عالمًا مُشْبَعًا بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالًا كثيرًا. قلت: ومن هذا هرب جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، فجمع أكثر من ستين اسمًا للكلب، ونظمها في أرجوزة سمَّاها: «التبرِّي من معرة المعري»، رأيت أن أُوردها هنا إتمامًا للفائدة لعزة وجودها، ثم أُعقبها بشرح يميط اللثام عن الأسماء الواردة فيها، وأُتبعه بما استدركته على الناظم من أسماء الكلب، وهي:
تمت الأرجوزة. ولنشرع في شرحها معتمدِين على ما دَوَّنوه في كتب اللغة والأمثال والحيوان، وقد وضعنا أرقامًا للأبيات يُرجع إليها في هذا الشرح، فنقول:
(١) الباقِع والأبْقَعُ من الكلاب الذي خالط بياضَه لونٌ آخر، والبَقَع في الطير والكلاب بمنزلة البَلَق في الدواب، وقول الأخطَل:
قيل أراد الكلب، وقيل غير ذلك، والعرب تقول: لا خير في بقْع الكلاب. وترى التَّبْقِيعَ هُجْنةً فيها، وخيرُ الكلاب عندها ما كان لونه يذهب إلى لون الأسد، وخير كلاب الصيد البيض. وفي المخصص: البَقَعُ بياض في صدر الكلب الأسود، وهي البُقعة، وكلبٌ أبقَع والجمع بُقعان. والوازع الكلب لأنه يَزَعُ الذِّئب عن الغنم، أي يَكفُّه، ويقال له ابن وازع أيضًا. والكلب كل سَبع عقور، ثم غلب على هذا النابح، كما في القاموس. وقال شارحه: قال شيخنا: بل صار حقيقة لُغوية فيه لا تحتمل غيره، ولذلك قال الجوهري وغيره: هو معروف، ولم يحتاجوا لتعريفه لشهرته. انتهى. وهو من الأسماء التي تَسمَّتْ بها العرب؛ فمن مشهوريهم في ذلك: كُلَيْبُ بن ربيعة من بني تَغْلِب بن وائل، وهو الذي ضربوا به المثل، فقالوا: أعَزُّ من كليب وائل، وقامت الحرب بسببه بين بَكْرٍ وتغلِب. وكان اسمه في الأصل وائلًا، وإنما سموه كليبًا؛ لأنه بلغ من عزه أنه كان يحمي الكلأ فلا يقرب حماه، ويجير الصيد فلا يُهاج. وكان إذا مر بروضة أعجبته، أو غدير ارتضاه، كنَّع كُليبًا ثم رمى به هناك، فحيث بلغ عواؤه كان حِمًى لا يُرعى، فلما حمى كليبه المرميُّ الكلأَ قيل: أعز من كليب وائل. ثم غلب هذا الاسم عليه حتى ظنوه اسمه؛ كذا في مجمع الأمثال للميداني. وقوله: كنَّع، هو بمعنى بضَّع وكوَّع، أي ضربه فصَيَّره مُعَوَّج الأكواع. ومنهم كليب بن حبشية بن سَلُول في خُزاعة. وكلب بن عمرو بن لُؤَي في بَجيلة. وبنو كلب، وبنو أكلب، وبنو كلبة، وبنو كلاب، قبائل معروفة، منها في قريش كلاب بن مُرة، وفي هَوازن كلاب بن ربيعة بن صَعْصَعة. أما ذو الكلب فهو عمرو بن العَجْلان أحد شعراء هذيل، لُقِّبَ به لأنه كان له كلب لا يفارقه. وعائد الكلب هو عبد الله بن مُصعب، كان واليًا للرشيد على المدينة، لُقِّب بذلك لقوله:
وهو أحد من نَطقوا في الشعر بكلمات غلبت شهرتها عليهم، فلُقِّبوا بها، وربما جمعتُ ما وقفت عليه من ذلك في رسالة مستقلة. والسبب الذي دعا العرب إلى تسمية أبنائها بمثل هذه الأسماء المُستكرَهة كالكلب والذئب والحجر والصخر، هو ما ذكره الراغب وغيره أن أعرابيًّا سُئل: لِمَ سمَّوْا أبناءهم بالأسماء القبيحة، وعبيدهم بالحسنة؟ فقال: لأن أبناءهم لأعدائهم، وعبيدهم لأنفسهم. قلت: وقد فصَّل الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية مذاهب العرب في تسمية أبنائها تفصيلًا ترتاح إليه النفس ويَثلج به الفؤاد، فقال في آخر كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» عند الكلام على الفأل والطِّيرة، ما نصه: وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم: فمنهم من سموه بأسماء تفاؤلًا بالظفر على أعدائهم، نحو: غالب وغلَّاب ومالِك وظالم وعارِم ومنازِل ومُقاتِل ومعارك ومسهَر ومؤرق ومصبح وطارق. ومنهم من تَفاءل بالسلام كتسميتهم بسالم وثابت ونحوه. ومنهم من تفاءل بنَيْل الحظوظ والسعادة: كسعد وسعيد وأسعد ومسعود وسعدي وغانم ونحو ذلك. ومنهم من قصد التسمية بأسماء السباع ترهيبًا لأعدائهم، نحو: أسد وليث وذئب وضرغام وشبل ونحوها. ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن من الأجسام تفاؤلًا بالقوة: كحجر وصخر وفهر وجندل. ومنهم من كان يخرج من منزله وامرأته تمخض، فيسمى ما تلده باسم أول ما يلقاه، كائنًا ما كان، من سبع أو ثعلب أو ضبٍّ أو كلب أو ظبي أو حشيش أو غيره. انتهى المقصود منه.
وأما ما سمي بالكلب أو أضيف إليه من البقاع والسيوف والأنهار وغيرها، فقد تركنا ذكره طلبًا للاختصار، ونقتصر منها على قرية بحلب تسمى جُبَّ الكلب، تعد من العجائب لاشتهارها ببئر فيها إذا شرب منها المكلوب قبل أن يأتي عليه أربعون يومًا برأ. كذا ذكر صاحب القاموس في مادة «ج ب ب».
وقال ياقوت في معجمه: حدثني مالك هذه القرية ابن الإسكافي، وسألته عما يحكى عن هذا الجب وأن الذي نهشه الكَلب الكَلِب إذا شرب منه برأ، فقال: هذا صحيح لا شك فيه. قال: وقد جاءنا منذ شهور ثلاث أنفس مكلوبين يسألون عن القرية، فدُلُّوا عليها، فلما حصلوا في صحرائها اضطرب أحدهم وجعل يقول لمن معه: اربطوني لئلا يصل إلى أحدكم مني أذًى، وذلك أنه كان قد تجاوز أربعين يومًا منذ نُهش، فرُبط، فلما وصل إلى الجُب وشرب من مائه مات. وأما الآخران فلم يكونا بلغا أربعين يومًا، فشربا من ماء الجُبِّ فبَرآ. قال: وهذه عادته، إذا تجاوز المنهوش أربعين يومًا لم تكن فيه حيلة. إلى أن قال: وهذه البئر هي بئر القرية التي يشرب منها أهلها. انتهى. قلت: ولا أدري ما فعل الله بالقرية والبئر، وإنما خصصتها بالذكر دون غيرها تنبيهًا لأطباء هذا العصر، لعلهم يتوفقون للبحث والتنقيب عنها، حتى إذا وجدوها امتحنوا ماءها، فربما كان فيه من الأملاح أو غيرها ما من خاصيته شفاء هذا المرض، وعسى ألا تأخذهم حميَّة جاهليَّة فيضربوا بهذا القول عرضَ الحائط بغير حجة سوى ما اعتادوه من احتقار أقوال علمائنا المتقدمين. فلولا تجربة هذا الماء وظهور نفعه في المصابين قبل أن يجاوزوا أربعين يومًا، أي قبل استفحال الداء وتمكُّنه منهم، لما استفاض خبره، ونقله هؤلاء الأعلام، ولا فائدة لمثلهم في التواطؤ على الكذب في مثله.
والزَّارِع، بتقديم الزاي على الراء: الكلب. وفي القاموس: زارع اسم كلب، ومنه قيل للكلاب: أولاد زارع، وفيه أيضًا في مادة «ذرع» بالذال المعجمة: أولاد ذارع. وذِراع بالكسر: الكلاب. وفي المخصص: قال علي بن حمزة: ابن زارع وابن ذراع وابن وازع: الكلب، وربما سمِّي وازعًا أيضًا. انتهى.
(٢) الخَيْطَل بفتح الخاء المعجمة وسُكون الياء المثناة التحتية وفتح الطاء المهملة وبعدها لام: الكلب. والسُّحام بضم السين المهملة، وبعدها حاء مهملة، مأخوذ من السُّحْمة وهي السَّواد، والذي يؤخذ من نصوص كتب اللغة أنه عَلَمٌ على كلب معيَّن لا اسم جنس للكلاب. قال الجوهري: سُحَام اسم كلب، واستشهد بقول لبيد:
ووافقه في ذلك شُرَّاح المعلقات، وهو ظاهر من سياق البيت. وفي لسان العرب: سُحَيْمٌ وسُحامٌ من أسماء الكلاب، ثم أنشد بيت لبيد. وذهب صاحب القاموس إلى أن صوابه بالمعجمة، قال: ووَهِمَ الجوهري. قلت: لا وَهَمَ؛ فقد ذكر بعض شراح المعلقات أنه يُروى بهما، ووافقه الميداني في مجمع الأمثال عند تفسير قولهم: «هَنِيئًا لسُحَام ما أكل»، فإنه أورد البيت ثم قال: ويروى سُخامها بالخاء. وهذا المثل يضرب في الشماتة بهلاك العدو. وقول الزَّوْزني في شرح المعلقات إنه اسم كلبة، يخالف ما أجمعوا عليه من أنه اسم كلب ذَكَر، والله أعلم. والأسد لم أعثر في كتب اللغة على أنه يطلق على الكلب، وإنما الذي فيها أن الكلب من أسماء الأسد. والعُرْبُجُ بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الباء الموحدة وبعدها جيم: الكلب الضخم، كما في القاموس، أو كلب الصيد، كما في اللسان. والعَجُوز بفتح العين المهملة وضم الجيم وبعدهما واوا ساكنة وزاي: من أسماء الكلب. والأَعْقَد بالعين المهملة، والقاف، والدال المهملة: الكلب؛ لانعِقاد ذَنَبه، جعلوه اسمًا له معروفًا، قال جرير:
قالوا: ليس شيء أحب إلى الكلب من أن يبول على قتادة أو على شجيرة صغيرة غيرها. وروى الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمساور بن هند يهجو قومًا بأكل الكلاب:
يُخرِّسها، أي يصنعن لها الخُرسة، وهي طعام النُّفَساء، ودُبَيْر بالتصغير أبو قبيلة من أسد، والوَضَم بالتحريك: ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير، والثُّمام نبت ضعيف لا يطول كانوا يفرشونه تحت الأساقي ونحوها، وربما حَشَوْا به وسدُّوا خَصاصَ البيوت.
(٣) الأعْنَقُ بالعين المهملة والنون والقاف: الكلب في عنقه بياض، ويقال للقلادة التي توضع في عنق الكلب: مِعْنَقَة، وقد أَعْنَقَهُ إذا قلده إياها، ويقال لها أيضًا الجِدَّة بالكسر، وكذلك الأُرْبَة بالضم: قلادة الكلب التي يقاد بها.
والدِّرْباس، بكسر الدال المهملة وسكون الراء وبعدهما باء موحدة وألف وسين مهملة: الكلب العقور. والعَمَلَّس، بفتح العين المهملة والميم واللام المشددة، وبعدها سين مهملة: كلب الصيد كما في القاموس، أو الكلب الخبيث كما في اللسان. على أنه أنشد بعد ذلك قول الطِّرِمَّاح يصف كلاب الصيد:
وقال في تفسير يوزع: يكف، ورواه في مادة ودع: يودع، ثم قال: أي يقلدها وَدَعَ الأمراس.
والقُطْرُبُ، بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء، وبعدها باء موحدة: الصغير من الكلاب. وفي المخصص: القَطْرَبُ (أي بفتح القاف والراء) صغار الكلاب، زعموا أن الواحد قُطْرُب، وليس هو جمع بل اسم للجمع. انتهى مُلَخَّصًا.
والفُرْنِيُّ، بضم الفاء وسكون الراء وبعدها نون وياء مشددة: الكلب الضخم، قال العَجَّاج:
قال ابن بَرِّي: أراد الضخم من الكلاب، وقال غيره: إنما أراد الرجل الغليظ الضخم.
والفَلْحَسُ، بفتح الفاء وسكون اللام وفتح الحاء المهملة وبعدها سين مهملة: الكلب. قال الجاحظ في كتاب الحيوان: ويقال للكلب فَلْحَس، وهو من صفات الحرص والإلحاح، ويقال: فلان أسأل من فَلْحَس. وفلحس رجل من شيبان كان حريصًا رغيبًا ومُلحِفًا مُلِحًّا، وكل طُفَيْلي فهو عندهم فلحس. انتهى. قلت: وإنما سَمُّوا الكلب بذلك لأنه موصوف عندهم بالحرص والإلحاح، حتى قالوا في أمثالهم: «ألَحُّ من كلب».
(٤) الثَّغِم: بفتح الثاء المثلثة وكسر الغين المعجمة وبعدها ميم: الكلب الضاري. والطَّلْقُ بفتح الطاء المهملة وسكون اللام وبعدهما قاف: كلب الصيد.
والعَوَّاء بالعين المهملة وبالمد، ويقال أيضًا بالقصر: الكلب يعوي كثيرًا. وللوزير أبي الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الأشبيلي في فتى عضه كلب في خدِّه:
هكذا رواها صاحب «نفح الطيب» في موضع من كتابه، منسوبة للوزير المذكور، وأعادها في موضع آخر منسوبة لأبي القاسم بن هشام، وروى المحاسن بدل المباسم، والأسياف بدل الأرواح. والله أعلم.
والصُّمات بالضم والصَّمت والصُّموت: السكوت، يشير بذلك إلى قولهم: لا يضر القمر نبح الكلاب. وأصل المثل: «لا يضر السحاب نبح الكلاب»؛ لأن كلاب البادية تتأذى بالمطر لمبيتها أبدًا تحت السماء، فإذا أبصرت غيمًا نبحته؛ لأنها قد عرفت ما تلقى من مثله. وتنبح أيضًا القمر؛ لأنه إذا طلع من المشرق يكون كقطعة غيم، ومنه قول بعضهم:
(٥) البَصير بفتح الباء المُوَحَّدة، وكسر الصاد المهملة، وبعدهما ياء ساكنة وراء مهملة، لم يذكره القاموس، وأنشد صاحب اللسان لتَوَبة:
ثم قال نقلًا عن ابن سيده: يعني كلبها؛ لأن الكلب من أحدِّ العيون بصرًا. انتهى.
قلت: وقد جاء في أمثالهم: «أبصر من كلب». وقول الناظم: «وفيه لغز قاله خبير»، يريد بذلك قول الحريري في المقامة الثانية والثلاثين في فتاوى فقيه العرب: «قال: أيُسْتَباحُ ماء الضرير؟ قال: نعم، ويُجتَنَبُ ماءُ البصير»، فالمتبادر أن الضرير هو الأعمى وهو لا يستباح ماؤه الذي يملكه بدون علمه. ومراد الشيخ به: حرف الوادي، وكذلك المتبادر في البصير أنه ضد الأعمى، وماؤه إذا أخذ للوضوء باطلاعه لا يجتنب، وإنما أراد به الكلب. هكذا فسره الحريري نفسه في المقامة.
(٦) هكذا رواية البيت في نسختين من الأصل، ولم يظهر لي وجه تسمية العرب للكلب في نفيرهم بداعي الضمير أو داعي الضميرة كما يُفهم من سياقه، فلعل الكلام محرَّف، وقد دخل البيت التذييل، وهو من علل الزيادة، ودخوله في الرجز مغتفَر للمولدين.
(٧) قوله: داعي الكَرَم، إنما سموه بذلك على ما يظهر؛ لأن نباح الكلب يبشرهم بقدوم الضيف، ويرشده إلى منزلهم، فيكون سببًا للكرم وداعيًا إليه. وقد كان الرجل من العرب إذا ضل وتحيَّر في الليل، فلم يدر أين البيوت، أخْرَجَ صوته على مثل النباح، فتسمعه الكلاب وتظنُّه كلبًا، فتنبح، فيستدل بنباحها ويهتدي إلى المكان. وهو الذي تسميه العرب بالمستَنبِح. وأنشد أبو علي القالي في أماليه:
يعني كلبًا، ويريد نبحتُ له فنبح فاهتديتُ به، فكأنه دعاني بنباحه، وأنشد أبو علي أيضًا:
انتهى. وقد اتفق أكثر علماء الأدب، كابن رشيق وأضرابه، على أن أهجى بيت قالته العرب، قول الأخطل في بني يربوع قوم جرير:
وقال آخر يوصي بالكلب، وأنشدهما الجرجاني في كناياته، وقال ابن المرزبان: إنهما لأعرابي قالهما لأكبر ولده في كلبه:
وفي معنى «استنبح» أيضًا: كلَب الرجل يُكْلِبُ من باب ضرب، واستكلب، أنشد ابن سيده على الأول:
وأنشد صاحب اللسان على الثاني:
انتهى.
قلت: وكما يكون الكلب سببًا لإيصال الخير وتشييد الذِّكْر، فقد يكون أيضًا سببًا للشر، كما جَنَتْ على أهلها بَراقِشُ، وهي كلبة كانت لقوم من العرب، فأُغِيرَ عليهم، فهربوا وهي معهم، فاستدل العدو عليهم بنباحها، فهجموا عليهم واصطلموهم، فقالوا: «على أهلِها تجني بَراقِشُ»، هكذا رواه الميداني في مجمع الأمثال. ورواه ابن سيده في المخصص، والجاحظ في كتاب الحيوان: «على أهلها دلَّت براقش». على أن نباح الكلب على الضيف، وإن جعلوه من دواعي الكرم، لما سبق ذكره، فقد رأيناهم يعدونه في نفسه من خصاله المذمومة؛ لأنه لا ينبح على القادم إلا كراهة منه في الغريب. ومن أحسن ما يُروى في هذا الصدد نادرة أبي عبد الله محمد بن مرزوق عالم الغرب مع أهل تونس لما ورد عليهم وسألوه قراءة درس في التفسير بحضرة السلطان، فأجابهم إلى ذلك، وعينوا له محل البدء، فطالع فيه، فلما حضروا قرأ القارئ غير ذلك، وهو قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ … الآية. وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به، فوجم هنيهة ثم تفجر بينابيع العلم، إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة، وساقها أحسن مساق، وأنشد عليها الشواهد، وجلب الحكايات، حتى عدَّ من ذلك جملة. ثم قال في آخرها: فهذا ما حضر من محمود أفعال الكلب وخصاله، غير أن فيه خَصْلة ذميمة، وهي إنكاره للضيف. انتهى.
وعندي أن ذمهم له بإنكاره الضيف لم يقصدوا به إلا معنى من المعاني الشعرية، وإلا فأي فائدة من الكلب أعظم من حراسته أهله، ودفعه عنهم؟!
(٨) الثَّمْثَم، بفتح الثاءين المثلثتين وسكون الميم الأولى: كلب الصيد. والكالب ليس اسمًا للكلب، بل هو والكليب كأمير: جماعة الكلاب. وفي اللسان: الكليب كالعبيد، جمعٌ عزيز. وأنشد في وصف مفازة:
والمكلِّب بكسر اللام المشددة: معلِّم كلاب الصيد، ومُكاؤُه: صفيره. وقال شارح القاموس نقلًا عن شيخه: إنهم اختلفوا في الكليب هل هو جمع أو اسم جمع، وصححوا أنه إذا ذُكِّر كان اسم جمع كالحجيج، وإذا أنثَ كان جمعًا كالعبيد. انتهى.
وهِبْلَع كدِرْهَم، أي بكسر الهاء وسكون الباء وفتح اللام وبعدها عين مهملة: الكلب السَّلُوقي، واسم كلب بعينه. ومُنْذِر كأنه من إنذار أهله لطارق. وأهْوَج لم يذكروه، وذكره الجاحظ على أنه الكلب في بيت أنشده في كتاب الحيوان. والهِجْرَع بكسر الهاء وسكون الجيم وفتح الراء وبعدها عين مهملة: الكلب السَّلوقي الخفيف.
(٩) كُسَيْب مُصغَّرًا: اسم كلب، كما في المخصص، وفي اللسان: كُسَيْبٌ من أسماء الكلاب، ومراده من الأعلام التي تسمى بها الكلاب، كما وضحه الناظم في البيت. وقد خصوه بذكور الكلاب كما خصوا كَسَاب وكَسْبَة بإناثها. وسيأتي قول الناظم فيهما، وإنما كانوا يسمون كلابهم بذلك تفاؤلًا بالكسب والاكتساب.
(١٠) القَلَطِيُّ، بفتح القاف واللام وكسر الطاء المهملة وبعدها ياء مشددة، والقُلاط كغُراب، والقِيلِيط بكسر القاف واللام؛ كل ذلك القصير المجتمع من الناس والسنانير والكلاب، وقد جاء به أبو الشمقمق في قوله من أبيات:
وفي حياة الحيوان أن القَلَطِيَّ نوع من الكلاب السَّلُوقية صغير الجِرْم قصير القوائم، ويقال له: الصِّيني.
والسَّلوقي، بفتح السين المهملة، نسبة إلى سَلوق، وهي أرض أو قرية باليمن، وذهب الجوهري إلى أنها مدينة بالشام، قال القُطامي:
والنَّصِيبي بفتح النون وكسر الصاد المهملة، نسبة إلى نَصِيبين، ويقال في النسبة إليها: نَصِيبينيّ أيضًا. وهي ثلاثة مواضع: مدينة من بلاد الجزيرة، وقرية من قرى حلب، ومدينة بشاطئ الفرات، تُعرف بنصيبين الروم. ولم أر أحدًا نصَّ على اشتهار واحدة منها بنوع من الكلاب ينسب إليها؛ فإما أن يكون الناظم رآه في كتاب لم نطَّلع عليه، أو يكون أراد الصِّيني، فحرَّفه الناسخ. وعلى هذا يكون الشطر: «كذلك الصِّيني بذاك أشْبَه» أو نحو ذلك. وقد مر بك عن الدميري في «حياة الحيوان» أن القلطي يقال له: الصيني. فقول الناظم: «بذاك أشبه» بعد ذكره القلطي، يرجح أنه أراد الصيني. على أن كثيرًا من أئمة اللغة لم يذكروا الصيني إلا في معرِض ردِّه وتغليط قائله، فقالوا: كَلْبٌ زِئْنِيٌّ: قصير، ولا تقل صيني. ورأيت الجاحظ جمع بينهما في كتاب الحيوان فقال: «والكلب الزِّئْنِيُّ الصيني يُسرَج على رأسه ساعات كثيرة من الليل، فلا يتحرك. وقد كان في بني ضبة كلب زئني صيني يُسْرَج على رأسه، فلا ينبض فيه نابض، ويدعونه باسمه، ويُرْمى إليه ببَضعة اللحم، والمسرجة على رأسه، فلا يميل ولا يتحرك، حتى يكون القوم هم الذين يأخذون المصباح من رأسه؛ فإذا أزيل عن رأسه وثب على اللحم فأكله. دُرِّبَ فدَرِبَ، وثُقِّفَ فثَقُفَ، وأُدِّبَ فقَبِلَ». وعلى كل حال فالصيني ذَكَّرُوه، وإن خطَّأ بعضهم قائِلَه، بخلاف النَّصيبي، فإنا لم نر أحدًا ذَكَّره فيما نعلم.
(١١) المستطير بالسين والطاء والراء المهملة جميعها: الكلب الهائج، أي طالب السِّفاد. وأراد الناظم بالعباب: كتاب العباب الزاخر في اللغة، وهو كتاب كبير يقع في عشرين مجلدًا للإمام حسن بن محمد الصَّاغاني أو الصغاني، المتوفى سنة ٦٥٠، بلغ فيه إلى الميم، ووقف في مادة بكَم، ومات قبل إتمامه؛ ولهذا قيل:
(١٢) الدَّرْصُ بتثليث الدال المهملة وسكون الراء وبعدهما صاد مهملة: ولد الكلب، وكذلك الجِرْوُ مثلَّث الأول.
(١٣) السِّمْعُ بكسر السين المهملة وسكون الميم وبعدهما عين مهملة، أورده الناظم على أنه من أسماء ولد الكلب، نقلًا عن الصُّولي. والذي في مادة «س م ع» من كتب اللغة أنه سَبُعٌ مركَّب، وهو ولد الذئب من الضَّبُع، ومن أمثالهم: «أَسْمَعُ من سِمْع» وممن السِّمْع: الأزَلّ. قال:
ثم رأيت في مادة «خ ي هـ ف ع» من اللسان أنه ولد الكلبة من الذئب نقلًا عن الأزهري، ورأيت أيضًا في جزء للناظم سماه «التهذيب في أسماء الذيب» أن السِّمع بين الذئب والكلب. وأبو خالد: من كُنَى الكلب، ذكره الناظم في المزهر، وقال أبو السعادات المبارك بن الأثير في المرصّع: أبو خالد هو الكلب، من قولك: أخلد الرجل بصاحبه إذا لزمه، وأخلد بالمكان إذا أقام به. وهو كنية الثعلب أيضًا. انتهى.
قلت: وللكلب كنى أخرى سنَذْكرها فيما استدركناه على الناظم بعد تمام الشرح.
(١٤ و١٥) في نسختين من الأصل بإسقاط لفظة «أيضًا» من عجز البيت، فيصير الشطر: «وكلبة قيل لها كَسَاب»، ولا بد في هذه الحالة من كسر باء كساب للوزن، وهو مع هذا لا يلتئم مع الصدر؛ لأن العروض دخلتها إحدى علل الزيادة وهي التذييل، ودخوله في الرجز مغتفر للمولدين. والبيت مُصَرَّع، ولا بد في التصريع من مطابقة الضرب للعروض في الوزن والقافية؛ فلهذا اضطُرِرْنا لزيادة «أيضًا» مع التنبيه عليها في الشرح ليَلْتَئِمَ الشطران في الوزن. ويمكن أن يقال بإسقاطها:
إلا أن احتمال سقوط لفظة من قلم الناسخ سهوًا أقرب من تغيير «الزاهدون» بالزُّهَّاد. أما وصف الكلب بالزهد، فقد وقفت في مجموع على رسالة في خصال الكلب المحمودة، تُنسب للحسن البصري، جاء فيها ما نصه: «الخَصْلة الرابعة، أنه إذا مات لا يكون له ميراث، وذلك من أخلاق الزاهدين». وكنت في ريب من أمر هذه الرسالة، حتى رأيتها في نفح الطيب مسوقة في ترجمة أبي عبد الله الراعي الغرناطي، وذكر أنه أوردها في باب العَلَم من شرحه على الألفية، منسوبة للحسن البصري. والله أعلم.
ومن أمثالهم في ذلك: «أشْكَرُ من كلب» إلا أن الأكثرين على وصفه بالحرص والشَّرَهِ، ومن أمثالهم فيه: «أحْرَصُ من كلب على جيفة». ومن كلب على عَرْقٍ، والعَرْق بالفتح: العظم عليه اللحم، أو الذي أُكل لحمه. وقالوا أيضًا: «أَلْأَمُ من كلب على عرق»، و«أنْهَمُ من كلب». وكَسَاب كقَطَام مبنيًّا على الكسر: الذئب، كما في القاموس. وفي الصحاح والمخصص أنه اسم كلبة، وهو الذي أراده الناظم. وقد مر بك بيت لَبيد الذي ذكر فيه كلبة تسمى بهذا الاسم. ومثله كَسْبَة بالفتح، قال الأعشى:
(١٦) العَوْلقُ بفتح العين المهملة وسكون الواو وفتح اللام وبعدها قاف: الكلبة الحريصة. والمعاوية الكلبة المستَحْرِمة تعوي إلى الكلاب. ومن طريف ما يحكى أن جارية بن قُدامة دخل على أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فقال له: ما كان أهْوَنَك على أهلك إذ سموك جارية! فقال: وما كان أهْوَنَك على أهلك إذ سموك معاوية! وهي الأنثى من الكلاب. ويروى أن شريك بن الأعور دخل عليه وكان دميمًا، فقال له معاوية: إنك لدميم والجميل خير من الدميم، وإنك لشريك وما لله شريك، وإن أباك لأعور والصحيح خير من الأعور، فكيف سُدْتَ قومك؟ فقال له: إنك معاوية، وما معاوية إلا كلبة عَوَتْ فاستعوت الكلاب، وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب والسّلم خير من الحرب، وإنك لابن أُمَيَّة، وما أمية إلا أمَة صُغِّرت، فكيف صِرْتَ أمير المؤمنين؟!
ويشبه هذا ما رواه أبو هلال في الصناعتين: أن رجلًا من قريش قال لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد. وإن أباك لَصفوان، وهو حجر، وإن جَدَّك لأهتم، والصحيح خير من الأهتم. قال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال: فمثلك يشتم تميمًا في عزِّها وحَسَبِها، وقد هشمتك هاشم، وأَمَتْك أُمَيَّة، وجمحتْ بك جمح، وخَزَمَتْكَ مخزوم، وأَقْصَتْكَ قُصي، فجَعَلَتْكَ عبدَ دارها، وموضعَ شنارها؛ تَفتح لهم الأبواب إذا دخلوا، وتُغلقها إذا خرجوا. انتهى.
واللَّعْوة: بفتح اللام وسكون العين المهملة، واللَّعاة بفتحتين: الكلبة من غير تخصيص بَشَرهٍ وحرص، وقال الجاحظ في كتاب «الحيوان»: يقال أحرص من لَعْوة، وهي الكلبة. وفي اللسان ومجمع الأمثال للميداني: «أجوع من لَعْوة».
(١٧) العُسْبُورةُ: بضم العين وسكون السين المهملتين وضم الباء الموحدة وبعدها واو ساكنة وراء وهاء: ولد الكلب من الذئبة، ويقال له: العسبور أيضًا، ولهذا قال الناظم: «وإن تزل ها لا تلم» أي إن نطقتَ به بدون هاء لا يلومك إنسان؛ لأنه مسموع.
(١٨) الخَيْهَفَعَى، بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة التحتية، وفتح الهاء والفاء والعين المهملة مقصورًا: ولد الكلب من الذئبة. وقد سُمع أيضًا بالمد. وفي اللسان: حكى الأزهري عن أبي تراب قال: سمعت أعرابيًّا من بني تميم يكنى أبا الخَيْهَفَعَى، وسألته عن تفسير كنيته، فقال: يقال إذا وقع الذئب على الكلبة جاءت بالسِّمْع، وإذا وقع الكلب على الذئبة جاءت بالخيهفعى. قال: وليس هذا على أبنية أسمائهم مع اجتماع ثلاثة أحرف من حروف الحلق، وقال عن هذا الحرف وعما قبله في باب رباعي العين في كتابه: وهذه حروف لا أعرفها، ولم أجد لها أصلًا في كتب الثقات الذين أخذوا عن العرب العارِبة ما أودعوا كتبهم، ولم أذكرها وأنا أحقها، ولكني ذكرتُها استندارًا لها وتعجبًا منها، ولا أدري ما صحتها. انتهى.
(١٩) الدَّيْسَم، بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة التحتية وفتح السين المهملة وبعدها ميم: ولد الثعلب من الكلبة، أو ولد الذئب منها. هكذا في القاموس واللسان، وقال الجوهري في الصحاح: الدَّيْسَم: ولد الدُّبِّ، قال: وقلت لأبي الغَوْث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة، فقال: ما هو إلا ولد الدُّبِّ. انتهى. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة، وهو أغبر اللون، وغبرته ممتزجة بسواد.
(٢٠) الهَرَاكِلَة، بفتح الهاء والراء وكسر الكاف وفتح اللام: كلاب الماء، وقول ابن أحمر الباهلي يصف دُرَّة:
فسره الأزهري في التهذيب بكلاب الماء. وقال الصاغاني في العُباب: هي جِمال الماء، وقيل: هي ضخام السمك.
(٢١) القُنْدُس كقُنفُذ، أي بضم القاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعدها سين مهملة: كلب الماء. أهمله القاموس واللسان والمخصص، وذكره شارح القاموس والدميري في حياة الحيوان، ونسبا تفسيره بذلك لابن دَحْية. كما ذكره الناظم، وعبارته تفيد أنه أُهْمل ونُسِي.
(٢٢) القُضاعة، بضم القاف وفتح الضاد المعجمة والعين المهملة: اسم كلبة الماء.
(٢٣) شرع الناظم في هذا البيت وما بعده يُعدِّد أسماء ابن آوى، تبعًا لمن عدَّه نوعًا من الكلاب، فذكر من أسمائه: الدال بفتح الدال المهملة وسكون الهمزة وبعدهما لام. والدُّئِل بضم فكسر، وقد نصُّوا على أن لا نظير لها إلا: رُئِم. والدُّؤُل بضمتين. والدَّأَلان محرَّكةً، ويقال فيه الذَّأْلَان بفتح الذال المعجمة، والذُّؤْلان بضمها، إلا أن الهمزة فيهما ساكنة. والعِلَّوْض، بكسر العين المهملة وفتح اللام المشددة، وسكون الواو وبعدها ضاد معجمة. والنَّوْفَل بفتح النون وسكون الواو وفتح الفاء وبعدها لام. واللَّعْوَض، بفتح اللام وسكون العين المهملة وفتح الواو، وبعدها ضاد معجمة. والسُّرْحُوب بضم السين المهملة وسكون الراء وضم الحاء المهملة وبعدها واو ساكنة وباء مُوَحَّدة. والوَعُّ، بفتح الواو وبعدها عين مهملة مشددة. والعِلَّوْش، بكسر العين المهملة وفتح اللام المشددة وبعدهما واو ساكنة وشين معجمة. والوَعْوَع بفتح الواوين وإسكان العين الأولى المهملة. والشَّغْبَر، بفتح الشين وإسكان الغين المعجمتين، وفتح الباء الموحدة وبعدها راء؛ وبالزاي المعجمة تصحيف. والوَأْوَاء، بفتح الواوين وسكون الهمزة الأولى. وكلها من أسماء ابن آوى.
- الأول: أن الناظم — رحمه الله — مع استيفائه لكثير من أسماء الكلب قد أدرج فيها بعض صفات يشترك فيها الكلب مع غيره، ولم نجد مع كثرة البحث نصًّا على أنها غلبت عليه، حتى يمكن عدُّها في أسمائه؛ كذكره الزاهد والمنذر، وداعي الكرم، ومشيد الذِّكر ونحوها. فالظاهر أنه تسامح في إيرادها، أو يكون وقف فيها على ما لم نقف عليه. وفوق كل ذي علم عليم.
- الأمر الثاني: إيرادُه أربعة أعلام مشهورة للكلاب نصَّ منها على ثلاثة، وهي: كُسَيْب وكَساب وكَسْبة، وسكت عن واحد وهو سُحام، فدل بسكوته على عَدّه من أسماء الأجناس، وكلاهما لا يبرئه من مَعَرَّة المَعَرِّي؛ لأن جعل سُحام اسم جنس وَهَمٌ ظاهر. وإيراد ثلاثة أعلام خارج عن مقصود أبي العلاء، إلا أن يكون أوردها زيادة منه في الفائدة. وهو أيضًا تقصير، لاقتصاره عليها، مع وجود ما هو أشهر منها.
- الأمر الثالث: ما فاته من أسمائه، وهو ما نريد استدراكه هنا، وبعضه مر أثناء الشرح، فمنها:
- «الدِّرْوَاسُ» بكسر أوله، وهو الغليظ العنق من الكلاب،
وقيل الكبير الرأس منها، وقول بعضهم:
بِتْنَا وباتَ سَقِيطُ الطلِّ يَضْرِبُناعند النَّدُولِ قِرانَا نَبْحُ دِرْوَاس
قيل: إن أولى ما يُفسَّر به: الكلب، لقوله: قِرانَا نَبْحُ دِرْوَاسِ؛ لأن النبح إنما هو في الأصل للكلاب. وقوله: النَّدُول، يجوز أنه عنى به امرأة أو رجلًا من النَّدْل وهو شبيه الوسخ، أو عَنَى به كَلْبة. ورواه الجاحظ في كتاب الحيوان: «بين البيوت». ودِرْواسٌ أيضًا: اسم كلب بعينه. والأظهر أن البيت قيل فيه، أو في كلب آخر يسمى بهذا الاسم.
- و«الأَرْشَم» قالوا: سمي بذلك لتشمُّمه الطعام وحرصه. وقد يطلق أيضًا على الذئب.
- و«العِفْراسُ» بالكسر، وهو الشديد العنق الغليظُه من الكلاب، ومثله «العَفَرْنَسُ». و«القُلَاظُ» بالضم و«القِيلِيطُ» بالكسر، كلاهما القصير المجتمع، ويقال فيهما: القَلَطِيُّ، وقد ذكره الناظم.
- «والأَغْضَفُ» ومثله «الغاضِفُ» وهو المسترخِي الأُذُن
من الكلاب. وفرَّقَ بينهما ابن الأعرابي فقال: الغاضف من
الكلاب المتكسِّر أعلى أُذُنه إلى مُقَدَّمه، والأغضَف إلى
خلفه، كذا في اللسان. ثم قال: والغُضْف، كلاب الصيد من ذلك
صفة غالبة. انتهى. وقول لبيد:
حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأرسَلواغُضْفًا دَواجِنَ قَافِلًا أَعْصامُها
أراد كلاب الصيد.
- و«ابن بُقَيْع» بالتصغير، ذَكَره ابن الأثير في المرصَّع. و«ابن وازِع وابن زارِع وابن ذارع وابن ذِرَاع وابن بَوْزَع وابن عَوْلَق».
فهذه خمسة عشر اسمًا للكلب فاتت الناظم.
وفاته من أسماء أولاده:- «الضِّرْوُ» بالكسر، وهو الضَّاري من أولاد الكلاب. ومثله «الضَّرِيُّ» و«الأسبُورُ» وهو ولد الكلب من الضَّبُع، كما في حياة الحيوان ومجمع الأمثال، عند تفسير قولهم: «أسمَع من سِمْع».
وفاته من أسماء ابن آوى:- «البُرْعُل» بالضم، وهو ولد الوَبْر من ابن آوى.
وفاته من أسماء الكلبة:- «اللَّعَاة» بفتحتين، وهي الكلبة الحريصة، أو الكلبة مطلقًا من غير تخصيص.
- «والبَوْزَعُ» وهي الكلبة الحريصة، كما في المرصَّع.
- وفاته من كُنَى الكلب: «أبو حاتِم»، و«أبو ذِرَاع»،
و«أبو قيس»، و«أبو عامر»؛ لأنه يعمر بيت صاحبه بحراسته
إياه. و«أبو عِطاف» بكسر العين والتخفيف؛ لأنه يعطف على
أصحابه، قال العَجَّاج يصف صائدًا:
ذا أكْلُب كالأَسْهُمِ العِطافيُشْلِي عِطافًا وأبا عِطاف
كذا في المرصَّع. ورواية الديوان: ذا أكْلُب نواهِزٍ خِفاف.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: «آلَفُ مِن كَلْبٍ».
ولهم في وفاء الكلب وعطفه على صاحبه أقوال ونوادر كثيرة، وربما فضلوه في ذلك على الصاحب والخليل. وقد جمع منها ابن المرزبان جملة صالحة في كتاب سماه: «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» وقفت عليه ونقلت منه في هذه الرسالة. ومن وقف على ما كتبه الجاحظ عن الكلب في كتاب «الحيوان» رأى عجبًا عجابًا. ويذكرون من نوادر وفائه أن الربيع بن بدر كان له كلب قد رباه، فلما مات جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات. ولما مات عامر بن غبرة لزمت كلابه قبره حتى ماتت عنده، وتفرق عنه الأهل والأقارب. وقال الشعبي: خير خصلة في الكلب أنه لا ينافق في محبته. وأنشد القالي في أماليه لأعرابي:
كلابُ الناس إن فَكَّرْتَ فيهمأضرُّ عليك من كَلْب الكلابلأن الكلب لا يؤذي صديقًاوأن صديق هذا في عَذَابويأتي حين يأتي في ثيابوقد حُزمت على رجل مُصابفأخزى الله أثوابًا عليهوأخزى الله ما تحت الثيابومن أغرب ما رأيته ما حكاه الجرجاني في كناياته عن محمد بن حرب، قال: رأيت العَتَّابي يُنادِم كلبًا، يشرب كأسًا ويُولِغه كأسًا. فكلَّمْتُه في ذلك، فقال: إنه يكف عني أذاه وأذى سواه، ويشكر قليلي، ويحفظ مبيتي ومقيلي، فهو من بين الحيوان خليلي. قال ابن حرب: فتمنيتُ أن أكون كلبًا لأحوزَ هذا النعت. وقد ذكر ابن المرزبان هذه القصة لإبراهيم الموصلي مع الفضل بن يحيى ببعض اختلاف. والله أعلم.
ولم يذكر الناظر من كُنَى الأنثى شيئًا وهي:- «أم عولق» و«أم ذِراع» و«أم الهَمَّرِش» بتشديد الميم
المفتوحة كما في المرصع، وفي القاموس واللسان: الهَمَّرشُ
اسم كلبة. و«أم يَعفور» قال في المرصع: هي الكلبة،
وأنشد:
يا أم يَعْفُورٍ سقاكِ العَهْدُلا زال من صَيْدٍ عَلَيْكِ لِبْدُ
يقول: لا زال عليك مما تصيدين لِبْدٌ من وَبَر الأرانب وغيرها. واليَعفور في الأصل: ولد الظبية وولد البقرة الوحشية. و«أم العاويات» والعاويات أولادها.
وكذلك لم يذكر من كُنى ابن آوى شيئًا، وهي:- «أبو ذُؤيب» و«أبو كَعْب» و«أبو معاوية» و«أبو أيوب» و«أبو وائل». والله أعلم.
- «الدِّرْوَاسُ» بكسر أوله، وهو الغليظ العنق من الكلاب،
وقيل الكبير الرأس منها، وقول بعضهم:
-
سُحَيْمٌ، وطِحالٌ، وأكدَرُ، وواشِقٌ، وزُهْمانُ، ومَيْلَعُ، وبَراقِشُ، وجَدْلاء: كَلَبات. والمُخْتَلِس، وغَلَابٌ، والقَنِيصُ، وسَلْهَبٌ، وسِرْحانُ، والمِغْناطِيسُ، هي خمسة أكلُب كانت لرجل اسمه ذريح، وآخَر اسمه أبو دُجانة، يَصيدانِ بها الظباء.
-
وقَرْحان: اسم كلب له قصة تحاميت عن ذكرها، حَبَس سيدُنا عثمان بن عفان بسببها ضابِئ بن الحارث البُرْجُمِيّ.
-
وضمْران بالضم وبالفتح، ورُوي بهما في قول النابغة:
فهاب ضُمْرانُ منه حِينَ يُوزِعُهطَعْنُ المعارِكِ عند المُجْحَر النَّجِدهو اسم كلب.
-
وضَبَّار، بتشديد الباء الموحَّدة، الذي قال فيه الحارث بن الخزرج الخفاجي:
سفرتْ فقلت لها هَجٍ فتَبَرْقَعَتْفذكرتُ حين تَبَرْقَعَتْ ضَبَّاراوتَزَيَّنَتْ لتَروعَنِي بجَمالِهافكأنَّما كُسِيَ الحمار خِمارًافخرجتُ أعثُر في قَوادِمِ جُبَّتِيلولا الحياء أَطَرْتُها إحضارًاهو اسم كلب له، وقوله: هَجٍ زجرٌ للكلب. وكان لسليمان بن داود الهاشمي كلبُ صيد يسمى زُنْبُورًا، وفيه يقول أبو نواس:
إذا الشياطين رأتْ زُنْبُوراقد قُلِّدَ الحَلْقَةَ والسُّيُورَا
من أرجوزة يقول في آخرِها:
ومن طرائفهم ما رواه الراغب في محاضراته لأبي مِحْجَن، في رجل اسمه: وثَّاب واسم كلبه: عمرو، ورواهما في موضع آخر من هذا الكتاب لابن أبي عتيق، باختلاف في الرواية:
وقلت: تذكرت بهذين البيتين قصة ظالم، لما جاء إلى النبي ﷺ يريد الإسلام، وكان معه كلب له اسمه: راشد، فسأله — عليه السلام — عن اسمه واسم كلبه، فلما أخبره ضحك عليه السلام، وقال: اسمك راشد واسم كلبك ظالم. وفي رواية أنه كان يسمى غاوي بن ظالم، فسماه — عليه السلام — راشد بن عبد الله. وسبب إسلامه أنه كان سادِنًا لصنم اسمه سواع، فرأى يومًا ثعلبًا يَعْدُو عليه ببوله، فكَسَرَهُ، وقال فيه:
وفي القصة، ورواية هذا البيت ونسبته لراشد، اختلافٌ ليس هذا محلُّ ذِكْره.
وكان لميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها كلب اسمه مِسْمار. قال صاحب القاموس: إنه مرض، فقالت: وارَحْمَتَا لمِسْمار. وفي كتاب «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» لابن المَرْزَبان، أنها رضي الله عنها كانت إذا حجَّتْ خرجت به معها؛ فليس يطمع أحد في القرب من رَحلها مع مسمار، فإذا رجعت جعلته في بني جَديلةَ، وأنْفَقَتْ عليه، فلما مات قيل لها: مات مسمار، فبكت وقالت: فُجِعْتُ بمسمار.
وفي هذا القدر كفاية، فقد كدنا نخرج عن المقصود. ولولا خوف الإطالة لذكرت أيضًا ما ورد من أمثالهم في الكلب، وهي كثيرة تربو على خمسة وخمسين مثلًا، على أن ما ذكرناه وإن طال فلا يخلو من فائدة، وفي التنقُّل جِمام للأنفس.
رَجْعٌ إلى أبي العَلاء
وعلى الجملة فلا يختلف اثنان في علمه وفضله، ووقوفه على دقائق العربية، ولا عبرة بمن لحَّنه في قوله:
بأن مذهب الجمهور وُجوب حذف الخبر بعد «لولا»، بناء على أنه لا يكون إلا كونًا مطلقًا، فإذا أُريد السكون المقيد جعل مبتدأ، فكان عليه أن يقول: فلولا إمساك الغمد إياه لسال، أي موجود. وأما التركيب الذي أتى به فتركيب فاسد. انتهى.
قلت: وهذا المخَطِّئُ هو المخْطِئُ لاحتمال تقدير يمسكه جملة معترضة بين المبتدأ والجواب والخبر محذوف، أو تقدير يمسكه بدل اشتمال على أن الأصل أن يمسكه، ثم حذفت «أنْ» وارتفع الفعل، وعلى هذا فالخبر محذوف أيضًا. والمعنى: فلولا الغمد إمساكه موجود لسال. انتهى ملخصًا من المغني وحواشيه. هذا إذا خرَّجْنا البيت على مذهب الجمهور الذي تمسك به المعترض، والمذهب الحق ما ذهب إليه ابن مالك والرَّماني وابن الشجري والشلوبين؛ بأن الخبر إذا كان كونًا مقيدًا، ولم يدل عليه دليل، وجب ذكرُه، وإن دل عليه دليل جاز إثباته وحذفه. وعليه فلا وجه للتخطئة في البيت، فضلًا عن ورود مثله في الكلام الموثوق به.
وأما ذكاؤه وسرعة فهمِه وقوة حافظته؛ فقد رووا فيها غرائب، منها ما ينبو العقل عن تصديقه. وقد صرح صاحب معاهد التنصيص بأن للناس في ذلك حكايات مشهورة يضعونها، وغالبها مستحيل. إلا أن اشتراط استيفاء أخباره يقضي بذكر ما وقفنا عليه منها، وعلى القارئ تمييز الغثِّ من السمين.
فمن ذلك: ما نقل عن تلميذ التبريزي أنه كان قاعدًا بين يديه في مسجد بمعرة النعمان يقرأ عليه شيئًا من تصانيفه. قال: وكنت أقمت عدة سنين لم أر أحدًا من أهل بلدي، فدخل المسجدَ بعضُ جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: أي شيء أصابك؟ فأخبرتُه خبر الرجل، فقال: قم وكَلِّمْه، فقلت: حتى أتمم النسق، فقال: قم وأنا أنتظرك. فقمت وكلمتُه بلسان الأذْرَبيَّة شيئًا كثيرًا، إلى أن سألت عن كل ما بدا لي. فلما رجعت إليه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أَذْرَبِيجانَ. فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد، فتعجبت غاية العجب، كيف يحفظ ما لم يفهمه.
ومنه: ما رواه بعض طلبَتِه، أن جارًا له أعجميًّا غاب عن المعرة، وحضر رجل من بلده يبحث عنه، فوجده غائبًا، ولم يمكنه المقام، فأشار عليه أبو العلاء أن يذكر حاجته، فجعل الرجل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء مصغٍ إليه، ولم يكن يعرفها، إلى أن فرغ من كلامه، ومضى الرجل. وقدم جاره الغائب، فجعل أبو العلاء يردد عليه ما سمعه بلفظه، والرجل يبكي ويستغيث ويَلْطِم، إلى أن فرغ من الحديث. وسئل عن حاله، فأخْبَرَ أنه أُخْبِر بموت أبيه وإخوته وجماعة من أهله.
وهذه الحكاية حكاها الوطواط في «الغرر والعرر» على غير هذا الوجه. قال: ومن عجيب حكاياته أن أبا زكريا التبريزي كان يقرأ عليه فأتاه رسول من عند أهله من تبريز، فجاء حَلْقة أبي العلاء، فسأل عنه، فأخبر أنه غائب في بعض شأنه. فقال له أبو العلاء: ما تريد به؟ قال: جئت برسالة من عند أهله، فقال: هاتِها حتى نُوصِلَها إليه. قال: إنها مشافَهة. قال: فأسمِعْناها حتى نُوصِلها إليه. قال: إنها بالفارسية. قال: لا عليك أن تسمعَناها ولا تسقط منها حرفًا. فأوردها عليه. فلما جاء التبريزي أُخبر أن رجلًا جاء من تبريز ومعه رسالة من أهله، فقال: ليتكم أخذتموها منه، فإني مشوق لما يرد من أخبارهم. فقيل له: إنه قال إنها مشافهة. فتأسف لذلك، فلما رأى أبو العلاء تأسُّفَه، قال له: لا عليك، إني سمعتُها منه وحفظتها، ثم أملاها عليه. فجعل التبريزي يضحك مرة، ويبكي مرة! فسأله أبو العلاء عن ضحكه وبكائه؟ فقال: تارة تخبرني بما يسرني فأضحك، وتارة تخبرني بما يحزنني فأبكي. انتهى.
ومنه: ما حكاه الأمير أسامة بن مُنْقِذ، قال: كان بأنطاكية خزانة كتب، وكان الخازن بها رجلًا عَلَويًّا. فجلستُ يومًا عنده، فقال لي: قد خبأت لك خبيئة لم تسمع بمثلها في تاريخ. فقلت: وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ ضرير يتردد إليَّ، وقد حفَّظْته في أيام قلائل عدة كتب، وذلك أني أقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة، فلا يستعيد إلا ما شك فيه، ثم يتلو عليَّ ما سمعه. قلت: فلعله يكون محفوظًا له! فقال: سبحان الله! كل كتاب في الدنيا يكون محفوظًا له، ولئن كان كذلك فهو أعظم. ثم حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدَّر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدريِّ، كأنه ينظر بإحدى عينيه، وهو يتوقد ذكاء؛ يقوده رجل طويل أحسبه من أقاربه. فقال له الخازن: يا ولدي، هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتُك له، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك. فقال: سمعًا وطاعة، فلْيَخْتَرْ ما يريد. قال ابن مُنْقِذ: فاخترتُ شيئًا وقرأته عليه وهو يموج ويستزيد، فإذا مر بشيء يحتاج إلى تقريره في خاطره، يقول: أعِدْ هذا، فأعيده عليه، حتى أتيت على ما يزيد على كراسة، ثم قلت: يُقنع هذا من قبل نفسي. قال: أجل حرسك الله. وتَلَا عليَّ ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفًا حرفًا، فكاد عقلي يذهب لما رأيت منه، وعلمت أن ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا إن شاء الله. وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري من بيت العلم والقضاء والثروة والغنى. هكذا يروون هذه الحكاية، والأمير أسامة المذكور ولد سنة ٤٨٨، أي بعد موت أبي العلاء بنحو تسع وثلاثين سنة، فالقصة على هذا موضوعة، اللهـم إلا أن تكون وقعت مع بعض أمراء بني منقذ، ممن تقدم أسامة.
ومنه: أن سَمَّانًا حاسب عميلًا له برقاع كان يثبت فيها ما يأخذه منه عند حاجته، وكان أبو العلاء في غرفة يسمع محاسبتهما، وبعد مدة ضاعت الرقاع من السَّمان، فأخذ يتململ ويتأذى. وبلغ أبا العلاء خبره، فقال له: ما عليك بأس، أنا أملي عليك حسابه. وجعل يمليه عليه على ما في الرقاع رقعة رقعة، والسَّمَّان يكتبها. ثم وجد بعد ذلك رقاعه، فإذا هي مطابقة لما أملاه أبو العلاء. وهذا إن صح، فهو غاية الغايات في قوة الحفظ والتعليق.
وقريب مما تقدم، ما روي عن أبي تمام حين سمع البحتري ينشد قصيدته التي أولها:
فلما فرغ من إنشادها، أقبل عليه باللوم والتقريع، واتهمه بسرقة شِعره، ثم اندفع يعيد القصيدة حتى أتى على أكثرها. والقصة مشهورة. ومثله ما روي عن المتنبي في حفظه كتابًا عرض عليه للبيع في نحو ثلاثين ورقة. وروى مثله الإمام أبو العباس المبرِّد، وهو الثقة فيما ينقل، فذكر في كامله أن ابن عباس رضي الله عنه لما أنشده عمر بن أبي ربيعة كلمته: «أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرُ». ولم يكن سمعها من قبل، استظهرها من مرة واحدة، وأعادها على الحضور. إلا أن ما نقل عن المعرِّي يفوق كل ذلك.
وذكروا أن أبا نصرة أحمد بن يوسف المنازي، دخل على أبي العلاء وهو بالشام في جماعة من أهل الأدب، وأنشده قوله:
فقال أبو العلاء: أنت أشعر مَنْ بالشام. ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد، فدخل عليه المنازي في جماعة من أدبائها، وهو لا يعرف منهم أحدًا، فأنشدوه من أشعارهم، وأنشده المنازي:
وقال كمال الدين بن العديم في تاريخ حلب: بلغني أن المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء، فلما وصل إليه أنشده إياها، فجعل كلما أنشده المِصراع الأول من كل بيت، سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه. ولما أنشده: «نزلْنَا دَوْحَهُ فحَنا علينا»، قال أبو العلاء: «حنُوَّ الوالدات على الفطيم». فقال المنازي: إنما قلت على اليتيم. فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن. انتهى، والله أعلم.
قلت: الشيء بالشيء يُذْكَر، والحديث ذو شجون. والذي ذكره ابن العديم له نظائر، منها ما رواه طيفور في تاريخ بغداد عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدة فيها مديح له تبلغ مئة بيت، فابتدأت بصدر البيت فبادرني إلى قافيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما سمعها مني أحدٌ قط. قال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم أقبل عليَّ، فقال: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها:
فقال ابن عباس:
ثم قال المأمون: أنا ابن ذاك. وفي «تحرير التحبير» لابن أبي الإصبع أن ابن عباس لما كمل البيت، قال له ابن أبي ربيعة: هكذا والله قلت. فقال عبد الله: وهكذا يكون.
ورُوي أن جريرًا والفرزدق حضرَا مجلس الوليد بن عبد الملك، وعَدِي بن الرِّقاع ينشد قصيدته:
فلما انتهى إلى قوله: تُزْجِي أغَنَّ كأنَّ إبْرَةَ رَوْقِه.
ما تراه يقول؟ فقال: أراه يستلب بها مثلًا، فقال الفرزدق: يا لُكَع! إنه سيقول: قَلَمٌ أصاب من الدواة مِدَادَها. ثم عاد الوليد إلى الاستماع، وعاد عدي إلى الإنشاد، فنطق بالعجُز كما قال. فقال جرير للفرزدق: وَيْحَك! فكأن سمعك مخبوء تحت لسانه، فقال له: اسكت، شغلني سبُّك عن جيد الكلام، واللهِ لما سمعت صدر بيته رَحِمْتُه، فلما أنشد عجُزَه انقلبت الرحمة حسدًا. وفي رواية العقد الفريد عن الأصمعي أن جريرًا هو السابق لعجز البيت لا الفرزدق. وقال زكي الدين بن أبي الإصبع في «تحرير التحبير» الذي أقوله: إن بين ابن عباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزينِ كما بينهما في مطلق الفضل، وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلومٌ، وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرِّقاع من جملة قصيدة تقدم سماع معظمها، وعلم أنها دالية مُردفة بألف موصولة مخرجة بألف منصوبة الرويّ من وزن معروف، ثم تقدم في صدر البيت ذكرُ ظبية تسوق خِشفًا لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه مع العِلم بسواده، وفي ذلك ما يدل على عجز البيت بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حُذَّاق الشعراء. وبيت عمر مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي، ولا رويُّه من أي الحروف، ولا حركة رويِّه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالًا في غاية العُسر، ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله به هؤلاء القوم من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم. ومن حِذق عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ودقيق معرفته باختيار الكلام، جَعْله قافية الذي أتى به «أبْعَد» ولم يجعلها «أنْزَح»، وكان ذلك ممكنًا له، لكون «أبعد» أسرع وُلُوجًا في السمع، وأسبق الذهن، وأدخل في القلب، وأكثر استعمالًا، وأعرف عند الكافة، وبها جاء القرآن العزيز دون أنزح، وهي أحب إلى اللسان، وأولى بالبيان.
وقد عنَّ لي أن أورد هنا قصيدة عَدِي بن الرِّقاع؛ لأنها لا توجد برمتها في كتب الأدب المتداولة في الأيدي، مع تشوق كثير من الأدباء للوقوف عليها. قال عَدِي بنُ الرِّقاع يمدح الوليد بن عبد الملك أحد الخلفاء من بني أمية:
تمت القصيدة. ويروى أن عَدِيًّا أنشدها الوليد وعنده كُثيِّر، وكان قد بلغه عن عدي أنه يطعن على شعره، ويقول: هذا شعر حجازي مقرور، إذا أصابه قُرُّ الشام حمد وهلك، فلما أتى عدي على قوله:
قال له كثير: لو كنت مطبوعًا أو فصيحًا أو عالمًا، لم تأتِ فيها بميل ولا سناد، فتحتاج إلى أن تقومها. ثم أنشد:
فقال كثير: لا جرم أن الأيام إذا تطاولت عليها عادت عوجاء، ولأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها. ثم أنشد:
فقال كثير: كذبت وربِّ البيت الحرام، فليمتحنك أمير المؤمنين بأن يسألك عن صغار الأمور دون كبارها حتى يتبين جهلك، وما كنتَ قط أحمق منك الآن حيث تظن هذا بنفسك. فضحك الوليد ومَنْ حضر، وقُطع عدي بن الرِّقاع حتى ما نطق.
وروي عن محمد بن المنجِّم أنه قال: ما ذُكر لي أحد فأحببت أن أراه، فإذا رأيته أمرت بصفعه؛ إلا عدي بن الرِّقاع، لقوله:
وعلمت حتى ما أسائل … البيت. فكنت أعرض عليه أصناف العلوم فكلما مر به شيء، ولا يحسنه، أمرت بصفعه.