فصل في بقية أخباره
لما دخل أبو العلاء بغداد أقبل عليه علماؤها وأدباؤها، معجبين بفطنته، وسعة علمه. واختص بصحبته جماعة منهم؛ كأبي القاسم علي بن المحسِّن القاضي التنوخي، وكخازن دار العلم؛ والشريفين الرضى والمرتضى ابني أبي أحمد الموسوي، وغيرهم. وكان المرتضى شديد الاختصاص به، وله معه مباحثات ومداعبات.
رُوي أنه حضر مجلسه يومًا، وجرى ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضى، وجعل يتتبع عيوبه؛ لبغضه له، وتعصبه عليه. وكان أبو العلاء على عكسه يتعصب للمتنبي، ويزعم أنه أشعر المُحدثينَ، ويفضله على بشار ومن دونه؛ كأبي نواس وأبي تمام. فقال: لو لم يكن للمتنبي إلا قوله: «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفاه فضلًا. فغضب المرتضى، وأمر به فأُخرج من مجلسه، ثم التفتَ إلى من بحضرته، وقال لهم: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة، مع أن لأبي الطيب ما هو أجود منها؟ فقالوا: النقيب السيد أعرف، فقال: أراد قوله في هذه القصيدة:
قلت: ومن التلميح المستعذب بهذا البيت، ما وقع للفتح بن خاقان مع ابن الصائغ، وقد ذكره بسوء في كتابه قلائد العقيان، فمر عليه ابن الصائغ يومًا وهو في جماعة، فضرب بيده على كتفه، وقال: إنها شهادة يا فتح. ثم مضى في سبيله، فتغير لون الفتح، وقال: والله ما بلغت بوصفي له في كتابي عُشْرَ ما بلغ مني بهذه الكلمة!
ويشبه قصة المعري مع المرتضى ما وقع للخالدين مع سيف الدولة، لما عاتباه في تفضيله المتنبي، وقالا: ليختر الأمير ما شاء من قصائده، حتى تنظم ما هو أجود منها، فاقترح عليهما أن يعارضا قوله:
فلما كررا النظر فيها لم يجداها من غرر قصائده، ثم فطنا إلى أن سيف الدولة أراد بهما قوله فيها:
فأحجما عن المعارضة ولم يعاوداه. وفي رواية أن هذه القصة وقعت للسَّرِيِّ الرَّفَّاء لا الخالديين. وحكى بعضهم، قال: خرجت على سبيل الفرجة، فقعدت على الجسر ببغداد، فأقبلت امرأة من جانب الرَّصافة تريد الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجَهْم، فقالت في الحال: ورحم الله أبا العلاء المعري. ولم يقفَا، ومرَّا مشرِّقًا ومُغَرِّبةً، فتتبعتُ المرأة وقلت لها: أخبريني عافاك الله عما قال لك، وعما أجبتِ به. فقالت: نعم، رحم الله علي بن الجهم، أراد قوله:
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
ورُوِيَ أن أحد الشرفاء سقط منه خاتم في الحرم، فقال له أحد بني عمه:
لِمَ لَمْ تقف على طلب هذا الخاتم الثمين؟ فقال له: ألَست من أبناء أمير المؤمنين؟ أراد الأول قول المتنبي:
وأراد الثاني قوله من قصيدة أخرى:
يريد: أن الندى ملازم لأكفهم، كما أن خطوط الرواجب ملازمة لها.
وفي البيت الأول نادرة لأبي العلاء، وذلك أنه بلغ من ولوعه بالمتنبي أنه كان إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبو نواس كذا، قال البحتري، قال أبو تمام، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعر. فقيل له يومًا: لقد أسرفت في وصفه، فقال: أليس هو القائل:
كم يقف الشحيح على خاتمه؟ يقف عليه أربعين يومًا. فقيل له: ومن أين علمت ذلك؟ قال: سليمان بن داود عليهما السلام وقف على طلب الخاتم أربعين يومًا، فقيل له: ومن أين علمت أنه بخيل؟ قال: من قوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي، وما كان عليه أن يهب الله لعباده أضعاف ملكه!
ولما بلغ أبا العلاء وفاة أبي أحمد الطاهر أبي الشريفين الرضى والمرتضى سنة ٤٠٣، رثاه وهو بالمعرة بقصيدة فائية طويلة، أجاد فيها كل الإجادة، وأنفذها إليهما، مطلعها:
ومن غريب قوله فيها يخاطب الغراب:
وممن صحب أبا العلاء وأخذ عنه وهو ببغداد القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي المتقدم ذكره، وكانت بينهما رابطة اتحاد. وحمل إليه مرة جزءًا من أشعار تنوخ في الجاهلية، مما كان جمعه والده أبو علي المحسن، فلما تعجل أبو العلاء الرحيل عن بغداد تركه عند أبي أحمد عبد السلام، وسأله ردَّه إلى أبي القاسم، وسار عن بغداد، فخشي أن يكون أغفله، فكتب يخاطب أبا القاسم بقصيدة ضمنها أغراضًا، يقول فيها:
وروى ابن خلكان وابن الوردي في تاريخهما، نقلًا عن كتاب للحافظ أبي طاهر السِّلَفي، وضعه في أخبار أبي العلاء، قال فيه مسندًا عن القاضي أبي الطيب الطبري: كتبت إلى أبي العلاء المعري حين وافى بغداد، وقد كان نزل في سُوَيْقةِ غالب:
فأجابني، وأملى على الرسول في الحال:
قال القاضي أبو الطيب: فأجبته عنه، وقلت:
فأملى أبو العلاء على الرسول مرتجلًا:
والقاضي أبو الطيب المذكور كان أديبًا ورعًا، عارفًا بأصول الفقه وفروعه، صنف في الأصول ومذهب الشافعي والخلاف والجدل — كتبًا كثيرة. وكان يقول الشعر على طريقة الفقهاء، وولي القضاء بربع الكرخ ببغداد، ولم يزل عليه إلى أن مات سنة خمسين وأربع مئة، بعد ما عاش مئة سنة وسنتين، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ، ويقضي، ويحضر المواكب في دار الخلافة. رحمه الله تعالى.
ومن أخبار أبي العلاء قصته مع أسد الدولة صالح بن مرداس صاحب حلب، وقبوله شفاعته في أهل معرة النعمان بعد أن كاد يبطش بهم سنة ٤١٧. والسبب في ذلك أن امرأة صاحت يوم الجمعة بجامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد اغتصابها، فنفر كل من في الجامع وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان الأمير أسد الدولة في نواحي صيدَا، فوصل المعرة، وخَيَّم بظاهرها، واعتقل من أعيانها سبعين رجلًا برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة. فشق على المسلمين هذا الأمر، حتى دعوا لهؤلاء المعتقلين على منابر آمد ومَيَّارِقِينَ. وقطع تادرس عليهم ألف دينار، ففزع أهل المعرة إلى أبي العلاء، وسألوه تلافي الأمر بالخروج إلى الأمير، والتوسط لهم عنده. فخرج من أحد أبواب المدينة، ويده في يد قائده، وأبصره صالح. فرأى شيخًا قصيرًا يقوده رجل، فقال: هذا أبو العلاء، جيئوني به. فلما مثلَ بين يديه سَلّم عليه ثم قال: «الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع، قاظ وسطه وطاب إبراده، أو كالسيف القاطع، لان متنه وخَشُن حداه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. فقال صالح: «لا تثريب عليكم اليوم، قد وهبت لكَ المَعَرةَ وأهلها»، وأمر بتقويض الخيام ورحل. فرجع أبو العلاء وهو يقول:
ورواية اللزوميات في البيت الأول:
وفيها أيضًا: ألبسهم، بدل: ألحفهم. ولم يعلم أبو العلاء أن المال قد قطع عليهم، وإلا كان قد سأل فيه أيضًا. وفي هذه القصة يقول وضمنها لزومياته:
وصالح هذا هو أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس الكِلابي أول ملوك بني مرداس بحلب، كان من عرب البادية، وكانت له عشيرة وشوكة، فقصد مدينة حلب وانتزعها من مرتضى الدولة بن لؤلؤ، نائب الظاهر بن الحاكم الفاطمي خليفة مصر، وتملكها سنة ٤١٧. ثم جهز الظاهر الجيوش ووجهها إليه، وجرت مقتلة انجلت عن قتل صالح سنة ٤٢٠، وقيل سنة ٤١٩.
وهو الذي عناه أبو العلاء بقوله في لزومياته:
وذكر السيوطي في بغية الوعاة في ترجمة نصر بن صدقة القابسي النحوي، أنه كان ممن يعاني الأدب، فقدم مصر وأخذ عن علمائها، ثم توجه إلى المعرة فلازم أبا العلاء، وأخذ عنه ديوانه سقط الزَّنْد، وكتب منه نسخة جيدة، ورجع إلى مصر، فقدمها للحاكم وقرأها عليه، فأعجبه نظمه، وأرسل إلى عزيز الدولة الوالي بحلب، أن يحمله إلى مصر، فاعتذر فكفَّ عنه. هذا ما ذكره السيوطي. وفي مقدمة رسالة للمعري تسمى بالفلَّاحية: أن القابسيَّ المذكور لما رجع إلى مصر بنسخته سقط الزند، أهداها للوزير أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، فأُعجب بها، واستدعى كاتب الديوان، وأمره أن يكتب إلى عزيز الدولة متولي حلب وأعمالها في حمل أبي العلاء إلى مصر، ليبني له دار علم، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعده، فوصلت الأوامر إلى ديوان الشام بكَتب السجل، فكُتب، وجهز على البريد. فلما وقف عليه عزيز الدولة نهض للوقت، حتى دخل معرة النعمان، وقرأ السجل على أبي العلاء، فقال: أمهلني حتى أكتب جواب السجل إلى مجلس الوزارة، فلعل العفو يسامحني بالمقام في بلدي؛ إذ لا يمكنني الخروج منه. فأمهله الأمير، فأحضر الكاتب للوقت، وأملى عليه هذه الرسالة يعتذر فيها عن عدم الرحيل بعجزه عنه. والوزير الفلاحي المذكور وُزِّرَ للمستنصر سنة ٤٣٦ وعزل سنة ٤٣٩. ولم تسبق له وزارة مدة الحاكم بأمر الله، حتى يمكن الجمع بين الروايتين. وقد تقدم أن المستنصر بذل لأبي العلاء ما ببيت مال المعرة من الحلال، فلم يقبله. فلعل ذلك كان بسعي هذا الوزير، وفيه ما يرجح الرواية الثانية. إلا أن يكون مراد السيوطي مطلق حاكم بمصر، لا الحاكم بأمر الله على الخصوص. وكان هذا الوزير في أول أمره يهوديًّا، ثم أسلم. وفيه يقول الحسن بن خاقان الشاعر المصري:
وكان معه أبو سعد التستري اليهودي يدبر الدولة له، فقال بعض الشعراء:
وممن ارتبط مع أبي العلاء برابطة الود، وجمعته به آصرة الأدب؛ الوزير أبو القاسم الحسين بن علي العالم الأديب المشهور بالوزير المغربي، صاحب مختصر إصلاح المنطق، وأدب الخواص، والمأثور في ملح الخدور، وكتاب الإيناس، والديوان الشعر. وهو الذي كتب له أبو العلاء رسالته المسماة بالمَنِيح، ورسائل أخرى. ولما فرغ من تأليف مختصر إصلاح المنطق لابن السكيت أنفذ إلى أبي العلاء نسخة منه، فقرظها برسالة طويلة سماها بالإغريضية، أثنى عليه فيها ثناء جمًّا، ووصف المختصر، وبالغ في مدحه. ووقفت في رسائل لأبي العلاء مخطوطة على كتاب أرسله له هذا الوزير، يتشوق إليه وإلى أخيه، ويشتكي من الدهر وصروفه، ويسأل الله أن يجمعه بهما، وضمنه كثيرًا من شعره في هذه الأغراض. ولولا خوف الإطالة لأثبته هنا.
وكان الوزير المذكور من الدهاة العارفين، محبًّا للفتن، مثيرًا للقلاقل، قتل الحاكم بأمر الله أباه وعمه وأخويه، فهرب إلى الرملة، ثم انتقل إلى الحجاز، وهو يفسد نيات الولاة على الحاكم حتى أقلقه. ودخل العراق فاتهمه القادر العباسي بالسعي في إفساد الدولة العباسية، فلم يزل منتقلًا في البلاد حتى مات بِمَيَّافَارِقينَ سنة ٤١٨ على الأصح. ونقل إلى الكوفة بوصية منه، ودفن في تربة مجاورة لمشهد الإمام كرم الله وجهه؛ وأوصى أن يكتب على قبره:
ورثاه أبو العلاء بأبيات أثبتها في لزومياته، وهي:
وكان ابن القارح صاحب الرسالة المشهورة للمعري يؤدب الوزير المغربي في صباه، ثم صار يذمُّه ويعدد معايبه، حتى قال في هجوه:
وبلغ أبا العلاء كلامه فيه فامتعض وتألم. فلما كتب ابن القارح رسالته قال فيها في هذا الخصوص مخاطبًا أبا العلاء: «بلغني عن مولاي الشيخ — أدام الله تأييده — أنه قال وقد ذُكِرْتُ له: أعرفه خبرًا، هو الذي هجا أبا القاسم الحسين بن علي المغربي. فذلك منه أدام الله عزه رائع لي، خوفًا أن يستشرَّ طبعي، وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر، وهو بتعريف التنكير أنفع لي عنده، لجلالة قدره ودينه ونسكه. وأنا أُطْلِعه طِلْعَه، ليعرف خَفْضه ورَفْعه، وفُرادَاه وجمعه». ثم ساق بعد ذلك نوادر عن هذا الوزير في تهوره ومحبته للفتن، ونقضه للعهود. فأجابه أبو العلاء في رسالة الغفران بأن هذا الصديق قد مات، وأولى بمن يغفر الذنب للحي أن يغفره له وهو ميت.
ومات أبو الخطَّاب في ذي القعدة سنة ٤٣٩. كذا ذكر ياقوت في معجم البلدان.