الفصل الأول

حياة رجل في كلافام

نُشِرت لأول مرة في صحيفة ذا ستاندرد، مايو ١٩٢١

«لا يجوز أن تقبل هيئةُ المحلَّفين اقتراحاتٍ لا تستند إلى أدلَّة — حتى التي لا تستند ولو إلى شهادة السجين في حالة عدم مُثوله في قفص الاتهام — وتتَّهِمَ السيد نواه ستيدلاند بالابتزاز وحصولِه على مبلغ كبير من المال من السجين عن طريق الابتزاز. جاء هذا الدفاعُ ردًّا على استجواب الشهود وليس عن طريق تقديم أدلة. ولم يذكر الدفاعُ حتى طبيعةَ التهديد الذي استخدمه ستيدلاند …»

تقيَّد ما تبقى من المُلخَّص بأفضلِ تقاليد هيئة المحكمة؛ وأصدرت هيئة المُحلَّفين حُكمًا باتًّا بإدانة المتهم.

امتلأَت المحكمة بجلَبة وثرثرة هامسة عندما عدَّل القاضي نظارتَه فوق أنفه وشرَع في الكتابة.

نظر الرجل من المقصورة الكبيرة المصنوعة من خشب البلوط، إلى وجه الفتاة الشاحب المُتعَب، التي استدارَت إليه من قاعة المحكمة وأهدَتْه ابتسامةً مُشجِّعة. من ناحيته، لم يدخل الخوفُ إلى قلبه وعاد ينظر جادًّا إلى الشخص على المنصَّة — شخص يرتدي رداءً باللون الأحمر الداكن وبرأسٍ اشتعل الشيبُ فيه — وهو يجدُّ كثيرًا في الكتابة. تساءل: ما الذي يكتبه القاضي في هذه الظروف؟ بالطبع ليس مُلخصَ الجريمة. وصل إلى حالةٍ نَفِد فيها صبرُه بسبب ما حلَّ به. شرَد بتفكيره في تلك المحاكمة الواهية والصفوف من ذَوي الوجوه المُحمرَّة التي تعجُّ بها عتمة الرِّواق العام، والمستشار القانوني اللامبالي، وخاصةً الرجلَين الجالسَين بجوار مقعد المحامي ويُشاهدانه بانتباه.

تساءل: يا تُرى مَن هما؟ وماذا يُهِمُّهما في القضية؟ ربما هما مؤلِّفان أجنبيان جاءا للحصول على أفكارٍ لقصص من مصدرها الأصلي. لا يوحي مظهرُهما بأنهما من أهل البلد. أحدهما فارِهُ الطول (عرَف ذلك لمَّا رآه واقفًا من قبل)، والآخر نحيل، ويقول مظهرُه بأنه في سنٍّ صغيرة على الرغم من الشيب في رأسه. كلاهما حليقُ الذقن والشارب، ومُتَّشحان بالسواد، ويضع كل واحدٍ منهما قبعة سوداء ذاتَ حواف عريضة وملمسٍ ناعم على ركبته.

لفتَت انتباهَه سَعْلةٌ أطلقها القاضي، ليرجع بنظره إلى المنصة.

قال سيادة اللورد: «يا جيفري ستور، إنني أتفق تمامًا مع حُكم هيئة المحلَّفين. إن دفاعك بأن ستيدلاند سرق مدَّخراتك، وأنك دخلتَ منزله عنْوة بغرض تحقيق العدالة بيدَيك وتأمين الأموال والوثيقة — التي لم تُحدِّد وصفها ولكنك تدَّعي أنها تُثبت إدانته — هو دفاعٌ لا تعتدُّ به أي محكمة. حكايتك تبدو وكأنك قرأتَ عن هذا الاتحاد الشهير، أو غيرِ الشهير، الذي يُطلَق عليه اسمُ «رجال العدالة الأربعة» الذي كان موجودًا منذ بضع سنوات، ولكنه قد تفرَّق الآن لحُسن الحظ. عيَّن هؤلاء الرجال أنفسَهم لمعاقبة من يجد ذريعةً يهرب بها من عدالة القانون. يا له من افتراء بأن القانون يفشل دومًا في بسطِ العدالة! لقد ارتكبتَ جريمة نكراء، وحقيقةُ القبض عليك مُتلبسًا وفي حيازتك مُسدَّس مُعبَّأ بالرصاص تَزيد كثيرًا من خطورة جريمتك؛ ومن ثَم حَكمْنا عليك بالأشغال الشاقة لمدة سبع سنوات.»

انحنى جيفري ستور، ومن دون إطالةِ النظر إلى الفتاة في قاعة المحكمة، استدار ونزل الدرَجات التي تقود إلى الزنزانة.

كان أولَ من غادر ساحةَ المحكمة هما الرجلان اللذان يبدو عليهما أنهما أجنبيان — اللذان أثارا اهتمامَ السجين واستياءه.

وبمجرد خروجهما إلى الشارع، توقَّف الأطولُ مرةً واحدة قائلًا: «أعتقد أننا يجب أن ننتظر الفتاة.»

سأل الرجلُ النحيف: «هل هي الزوجة؟»

ردَّ الطويل: «لقد تزوَّج في الأسبوع نفسِه الذي استثمر فيه استثمارَه التعيسَ الحظ. إنها لَمُصادفة غريبة؛ تلك الإشارة من القاضي إلى رجال العدالة الأربعة.»

ابتسم الآخَر.

وقال: «لقد حُكِم عليك بالإعدام يا مانفريد في هذه المحكمة نفسِها.»

أومأ الرجلُ الذي يُدعى مانفريد، وأجاب قائلًا: «تُرى هل يتذكَّرني حاجبُ المحكمة العجوز؟ إنه يشتهر بعدم نسيانه أيَّ وجهٍ يراه. من الواضح أن خَسارتي لِلِحيَتي كان لها أثرٌ معجز؛ لأنني تحدَّثت معه بالفعل. ها هي.»

لحُسن الحظ، خرَجَت الفتاة وحدها. توافق جمالُ وجهها مع ما توقعه جونزاليس؛ أصغر الرجلين. خرجَت شامخة الرأس ولم تكن ثمَّة إشارة إلى أنها سحَّت الدموع. ولمَّا كانت تسير مُسرعةً نحو شارع نيوجيت، تبعها الرجلان. عبرَت الشارع إلى حديقة هاتون، ثم تحدَّث مانفريد قائلًا: «معذرةً يا سيدة ستور.» فاستدارت وحدَّقَت بريبٍ في الرجل الأشبهِ بالأجانب.

وأجفلَت قائلةً: «إن كنتَ صحفيًّا …»

ابتسم مانفريد: «لستُ صحفيًّا، ولستُ صديقًا لزوجك كذلك؛ ولكنني فكَّرت في الكذب عليكِ في هذا الشأن كي أجد مبررًا للحديث معكِ.»

أثارَت صراحتُه اهتمامَها.

فقالت: «لا أرغب في الحديث عن المصيبة الرهيبة التي حلَّت بجيفري المسكين؛ وكل ما أُريده هو أن أبقى وحدي.»

أومأ مانفريد.

وقال بتعاطف: «أتفهَّم ذلك، ولكني أرغب في أن أكون صديقًا لزوجكِ، وربما تمكَّنتُ من مساعدته. إن الحكاية التي رَواها وهو في قفص الاتهام صحيحة. تظن ذلك أيضًا يا ليون، أليس كذلك؟»

أومأ جونزاليس.

وقال: «بالطبع صحيحة. لقد دقَّقت النظر إلى جَفنَيه؛ لأنه عندما يكذب المرءُ تَطرف عيناه في كل مرةٍ يُكرر فيها كذبته. ألاحظتَ يا عزيزي جورج أن الرجال لا يُمكنهم الكذبُ عند القبض على أيديهم، وأن النساء يُشبكنَ أيديَهن عندما يكذبن؟»

نظرت إلى جونزاليس في ذهول. ولكنها لم تكن في مِزاج يسمح لها بسماع محاضرة في تفسير تعبيرات حركات الجسم؛ حتى لو علمت أنَّ ليون جونزاليس ألَّف ثلاثة كتب كبيرة ترتقي في أهميتها إلى أفضلِ ما قدَّمه لومبروسو أو مانتيجازا للعالَم، فما كانت ترغب في السماع.

قال مانفريد مُفسِّرًا مِحنتَها الجديدة: «الحقيقة يا سيدة ستور هي أننا نُفكر في إخراج زوجك من السجن وإثباتِ براءته؛ ولكننا نحتاج إلى أقصى قدرٍ يُمكن الحصول عليه من الوقائع حول القضية.»

تردَّدَت لبُرهة فقط.

ثم قالت: «لديَّ مسكن في شارع جرايز إن، ربما سيكون من الأفضل أن تأتيا معي.»

لما اتَّخذ كلُّ واحدٍ منهما مكانًا بجانبها، واصلَت قائلةً: «لا يعتقد مُحامِيَّ أن ثمة فائدةً من استئناف الحكم.» هزَّ مانفريد رأسه.

وقال بهدوء: «ستُؤيد محكمة الاستئناف الحُكمَ؛ ومع الدليل الذي لديك، فلا يُحتمَل أن يُطلَق سراح زوجك.»

نظرَت إليه متفحصةً في فزَع، وقد رأى حينئذٍ أن دموعها توشك أن تنهمر.

استأنفت حديثها برعشةٍ بسيطة قائلةً: «ظننتُ … ألم تقل …؟»

أومأ مانفريد.

وقال: «إننا نعرف ستيدلاند، كما أننا …»

قاطعَه جونزاليس وهو غارقٌ في التفكير: «الغريب فيما يتعلق بالمُبتزِّين هو أن القفا تصعُب رؤيته؛ فحَصتُ اثنَين وستِّين رأسًا في السجون الإسبانية، وفي كل حالةٍ كان نُتوء القفا أكبرَ من مجردِ نتوءٍ عظمي. وفي رءوس مَن يميلون إلى القتل، يبرُز القفا كبَيضة حمامة.»

ابتسم مانفريد، وقال: «إن صديقي حُجة في تفسير هيكل الرأس. أجل، نحن نعرف ستيدلاند؛ وقد كانت تَصِلنا أخبارُ عملياته من حينٍ إلى آخر. أتتذكَّر قضية ويلينجفورد يا ليون؟»

أومأ جونزاليس.

سألت الفتاة: «أأنتما ضابطا تحرِّيات إذن؟»

ضحك مانفريد ضحكةً خفيفة.

وقال: «كلَّا، لسنا ضابِطَي تحريات؛ بل مُهتمَّان بالجريمة. وأعتقد أن لدَينا أفضلَ وأدقَّ سِجلٍ في العالَم للمجرمين الذين لم يقَعوا تحت طائلة القانون.»

استمرُّوا في السَّير في صمتٍ لبعض الوقت.

ثم أومأ جونزاليس وكأنه تيقَّن من الإدانة فجأةً، وقال: «ستيدلاند رجل سيئ. ألاحظتَ أذُنَيه؟ إن طولَهما غير عادي، ويُوجَد تدبيب في محيط الصوان؛ نتوء داروين يا مانفريد. وهل لاحظتَ يا صديقي العزيز أن قاع الحِلز يَقسِم المحارة إلى تجويفَين بارزَين، وأن شحمة الأذن كانت مُلتصِقة؟ إنها أُذن مجرِم بامتياز. وهذا الرجل ارتكب جرائمَ قتل، فمن المستحيل أن يكون للمرء مثلُ هذه الأذن ولا يكون قاتلًا.»

كانت الشقة التي استقبلَتْهما فيها صغيرةً ومفروشة بأثاث بسيط. ولما نظر مانفريد في أرجاء غرفة الاستقبال الصغيرة للغاية، لم يجد سوى الأثاث الأساسي الذي تُؤثَّثُ به الشقق «المفروشة» عادةً.

بعدما دخلَت الفتاة إلى غرفتها لتخلع عنها مِعطفها، عادت وجلست إلى الطاولة التي جلسا إليها بِناءً على دعوتها.

لم تكَد تُظهِر ابتسامتها، قالت: «أُدرِك أنني حمقاء، ولكني أشعر أنكما تُريدان مساعدتي بالفعل، ولديَّ شعور غريب أنكما تستطيعان مساعدتي! لم تكن الشرطة غيرَ رحيمةٍ أو غير عادلة معي ومع جيف المسكين؛ بل على العكس، فقد كانوا مُتعاونين للغاية. أظن أنهم اشتبَهوا في أن يكون السيد ستيدلاند مُبتزًّا، وكانوا يأمُلون في أن نتمكن من تقديم دليل. ولكن لمَّا لم نجد الدليل، لم يكن أمامهم شيء سوى المُضيِّ قُدمًا في الاتهام. والآن، ما الذي يُمكنني أن أُخبركما به؟»

ردَّ مانفريد: «الحكاية التي لم تُروَ في المحكمة.»

صمَتَت لبعض الوقت، ثم قالت أخيرًا: «سأُخبركما. لا يعلم الأمرَ سوى مُحامي زوجي، وأعتقد أنه كان مُرتابًا في صحة ما سأُخبركما به الآن.» ثم قالت في يأس: «وإن هو كان مُرتابًا، فكيف أتوقَّع أن أُقنِعكما؟»

لم ينزل جونزاليس عينَيه المُتحمستَين عنها، وكان هو من أجاب.

«إننا مُقتنعون بالفعل يا سيدة ستور.» وأومأ مانفريد.

ساد صمتٌ بسيط مرة أخرى. بدا أنها لا ترغب في سرد رواية لا يُمكن تصديقها حسب ظن مانفريد؛ وهو ما حدث بالفعل.

بدأت تسرد الحكاية: «عندما كنتُ فتاةً صغيرة، التحقتُ بمدرسة كبيرة للفتيات في ساسكس، أظن أنها تضمُّ ما يربو على مائتي تلميذة.» واستطردَت سريعًا قائلةً: «لن أُبرر أي شيءٍ فعلتُه؛ لقد وقعت في حبِّ صبي. حسنًا، كان ابنَ جزار! يبدو ذلك مُروعًا، أليس كذلك؟ ولكنكما تعِيان أنني كنتُ طفلة، طفلة سريعة التأثر. أوه، يبدو الأمر مُروعًا، أعلم، ولكني اعتدتُ على مقابلته في الحديقة في طريق الخروج من غرفة التحضير بعد الصلوات؛ كان يتسلق الجدار ليلتقيَ بي في تلك المقابلات، وكنا نتحدَّث كثيرًا، لساعةٍ في بعض الأحيان. لم يكن في الأمر شيءٌ سوى علاقة حُب بين صبيٍّ وفتاة؛ لا يُمكنني أن أشرح بالضبط لماذا ارتكبتُ مثل هذه الحماقة.»

همهمَ ليون جونزاليس قائلًا: «يشرح مانتيجازا الأمر بشكلٍ مريح للغاية في دراسته عن الانجذاب. ولكن سامحيني، فقد قاطعتُك.»

واصلَت قائلةً: «كما قلت، كانت صداقةً بين صبي وفتاة؛ نوعًا من الإعجاب ببطلٍ من وجهة نظري؛ إذ كنتُ أحسَبه رائعًا، فلا شكَّ أنه كان الألطفَ بين أبناء الجزارين.» ثم ابتسمَت مُجددًا وقالت: «لأنه لم يُسِئ إليَّ قط ولو بكلمة. انتهت الصداقة بعد شهرٍ أو شهرَين، وإلى هنا كان لا بد من أن ينتهي الأمر؛ ولكن بسبب حماقتي، أرسلتُ له خطابات. كانت خطابات عادية جدًّا، خطابات حُب ساذَجة وشديدة البراءة، أو على الأقل بدَت لي كذلك في ذلك الوقت. ولكن اليوم عندما أقرؤها بعدما ازدادت معرفتي بالحياة، أظل أضحك على تلك البراءة.»

قال مانفريد: «هل هي لديك الآن؟»

هزَّت رأسها.

وقالت: «عندما قلتُ أقرؤها كنتُ أعني خطابًا واحدًا، وليس لديَّ سوى نسخة منه أعطاها لي السيد ستيدلاند. الخطاب الوحيد الذي لم يُتلَف وقع في يد أم الصبي، وهي أخذَته إلى مديرة المدرسة ووقع بينهما شِجار مُروِّع. وقد هدَّدت بأن تكتب لأبَوَيَّ اللذين كانا في الهند، ولكن بناءً على وعدي الجِدِّي بقطع معرفتي بالصبي، لم تستمر العلاقة. أما عن كيف وصل الخطاب إلى أيدي ستيدلاند، فلا أعرف. في الواقع، لم أسمع قطُّ عن الرجل حتى قبل أسبوع من زواجي بجيف. لقد وفَّر جيف ما يقرُب من ألفَي جنيه، وكنا نتطلَّع ليوم الزواج عندما هبَّت هذه العاصفة؛ خطاب من رجل غير معروف على الإطلاق، يطلب مني أن أراه في مكتبه، حيث تعرفت لأول مرة على هذا النذل. كان عليَّ أن آخُذ الخطاب معي، وذهبتُ ولديَّ فضول وأتساءل عن السبب وراء استدعائي. ولكن لم يَطُل تعجُّبي. كان لديه مكتب صغير في شارع ريجينت، وبعد أن أخذ مني الخطاب الذي أرسله لي ووضعه جانبًا بعناية، شرح بدقةٍ وصراحة مَقصدَه من استدعائي.»

أومأ مانفريد.

وقال: «أراد أن يبيع لك الخطاب. بكم؟»

قالت الفتاة بحدَّة: «ألفَي جُنيه. ومن خباثته الشيطانية عِلمُه بكل بنسٍ يدَّخره جيف.»

«هل أراكِ الخطاب؟»

هزَّت رأسها.

وقالت: «لا، لم يُرِني سوى صورةٍ منه؛ وعندما قرأته وتذكرتُ ما قد تُفسَّر إليه هذه الورقة البريئة تمامًا، تجمَّد دمي. لم يكن أمامي سوى أن أُخبر جيف؛ لأن الرجل قد هدَّد بإرسال صورةٍ طبق الأصل إلى جميع أصدقائنا وإلى عمِّ جيف، الذي جعل جيفري وريثَه الوحيد. أخبرتُ جيف بالفعل بما حدث في المدرسة، حمدًا لله، ومن ثَم لم أكن خائفة من شكِّه. ذهب جيفري إلى السيد ستيدلاند، وأعتقد أن ثمَّة مشهدًا عاصفًا قد وقع بينهما؛ ولكن ستيدلاند رجل ضخم البِنية وقوي، على الرغم من عمره الكبير، وفي الشجار الذي نجم عن ذلك بات موقفُ جيفري الأسوأَ بعض الشيء. في النهاية، وافق جيفري على شراء الخطاب بألفَي جنيه بشرط أن يُوقِّع ستيدلاند على إيصالٍ مكتوب على صفحةٍ فارغة من الخطاب نفسه. كان هذا يعني خَسارة مُدَّخَرات عمره، ومن ثَم احتمالية تأجيل زفافنا، ولكن جيفري لم يكن يرغب في أن يسلك أي مسلك آخر. يعيش السيد ستيدلاند في منزل كبير بالقُرب من حديقة كلافام العامة …»

قاطعها مانفريد قائلًا: «١٨٤ بارك فيو ويست.»

قالت مندهشة: «هل تعرفه؟ حسنًا، اضطُرَّ جيفري أن يذهب إلى هذا المنزل لاستكمال الصفقة. لا يعيش مع السيد ستيدلاند سوى خادم؛ فتح الباب بنفسه، وقاد جيفري إلى الطابق الأول، حيث غرفةُ مكتبه. عندما أدرك زوجي أن النِّقاش لا طائل منه، دفع المال وفقًا لتعليمات ستيدلاند، بأوراقٍ نقدية أمريكية …»

قال مانفريد: «وهي الأصعب في تتبُّعها بالطبع.»

«وعندما دفع له، قدَّم ستيدلاند الخطاب، وكتب الإيصالَ على ورقةٍ فارغة ونشَّف الحبر، ثم وضعها في ظرفٍ وأعطاه لزوجي. وعندما رجع جيفري إلى المنزل وفتح الظرف، لم يجد به إلا ورقةً فارغة.»

قال مانفريد: «لقد غيَّر في الأمر.»

قالت الفتاة: «هذا ما قاله جيفري. ثم قرَّر جيفري أن يرتكب هذا العمل الجنوني. أسمِعتُما عن رجال العدالة الأربعة؟»

رد مانفريد بجِدية: «لقد سمعتُ عنهم.»

قالت: «يثق زوجي ثقةً كبيرة في أساليبهم، وهو من أشدِّ المُعجبين بهم كذلك. أعتقد أنه قرأ كل شيءٍ كُتب عنهم. وفي إحدى الليالي بعد يومَين من زواجنا — فقد صمَّمتُ على الزواج به في الحال عندما اكتشفتُ الوضع — جاء إليَّ.

قال: «جريس، سأُطبق أساليب الرجال الأربعة على الشيطان ستيدلاند».»

ولخَّص لي خُططَه؛ فمن الواضح أنه كان يُراقب المنزل، وعلِم أن الرجل ينام في المنزل وحدَه — باستثناء الخادم — وقد وضع خُطة للدخول. عزيزي المسكين، لم يحسِب لكل الاحتمالات؛ ولكنكما تسمعان اليوم عن مدى نجاحه في الوصول إلى غرفة ستيدلاند. أعتقد أنه كان يُريد إخافة الرجل بمسدسه.»

هزَّ مانفريد رأسه.

وقال بهدوء: «نال ستيدلاند لقبَ مُقاتل مسلَّح في جنوب أفريقيا. إنه أسرعُ رجل في سحب السلاح وممتاز في التصويب. لا شك أنه أخضعَ زوجَكِ تحت رحمته قبل أن يتمكن من وضع يدِه على جيبه.»

أومأَت.

وقالت بهدوء: «هذه هي الحكاية. إن كان باستطاعتكما مساعدةُ جيف، فسأدعو لكما طوال حياتي.»

نهض مانفريد ببطء.

وقال: «لقد كانت محاولةً جنونية؛ فلن يحتفظَ ستيدلاند بوثيقةٍ تُعرِّضه للخطر كتلك في منزله الذي يتركه لستِّ ساعاتٍ في اليوم. ربما يكون قد تخلَّص منها، على الرغم من أن هذا الاحتمال غيرُ وارد، ولكنه سيرغب في الاحتفاظ بالخطاب لاستخدامه فيما بعد. إن المُبتزِّين دارسون مُتعمِّقون في الطبيعة البشرية، وهو يعلم أن بإمكانه الحصولَ على المال ما دام الخطاب معه. ولكن إذا كان موجودًا …»

قالت مُردِّدة عبارته: «إذا كان موجودًا.» وظهر عليها الانفعالُ وكانت شفتاها ترتجفان.

قال مانفريد: «سيكون بين يدَيكِ في غضون أسبوع.» ثم تركها بعد أن وعدَها هذا الوعد.

غادر السيد نواه ستيدلاند المحكمة بعد ظهيرة ذلك اليوم، ولم يكن راضيًا بدرجةٍ كبيرة، باستثناء أنه قد غادرها من المدخل العام. لم يكن من الرجال الذين يخافون بسهولة، ولكنه كان سريعَ البديهة؛ وبدا له أن كلماتِ القاضي المُنتقاةَ بعناية قد تضمَّنَت توبيخًا خفيًّا، وبدا هذا التوبيخُ في نبرة القاضي أكثرَ من جوهر العبارات. ولكن لم تتعدَّ بديهته أكثرَ من تسجيل هذه الواقعة. جمع الرجلُ ثروة ضخمة بوَضعِ فُتات النقود بعضها فوق بعض حتى أصبح فاحشَ الثراء، ولكن كان هذا الفتات في بعض الأحيان كبيرًا للغاية، وذلك بمُمارَساتٍ لا تعتدُّ بتلك العوامل التي لا وزن لها؛ كالضمير أو الندم. إن الحياة لهذا الرجل الطويل العريضِ المنكبين الشاحبِ الوجه كانت لُعبة؛ وكان جيفري ستور، الذي لم يُكِنَّ له أيَّ استياء، خاسرًا.

جلس يُفكر بهدوءٍ في أمر ستور وهو مُرتدٍ ملابسَ السجن وقد أنهكَته سنواتُ الكرب؛ ولم يستطع بهذه الصورة الذهنية أن يُظهِر أي مشاعر أخرى غير مشاعر المُقامِر المنتصِر، الذي يُمكنه أن يُشاهد إفلاس منافسه برباطة جأش.

دخل إلى منزله ذي الواجهة الضيقة، وأغلق الباب وأوصَدَه جيدًا خلفه؛ ثم صعد الدرَج المفروش بالسجاد البالي إلى غرفة مكتبه. لا بدَّ أنَّ أشباح الذين دمَّر حياتهم قد احتشدت بالغرفة؛ ولكن السيد ستيدلاند لا يُؤمِن بالأشباح. فرَك بأصابعه على طاولةٍ من خشب الماهوجاني، ولاحظ أنها كانت مُتَّسِخة؛ وظهر الشبح أو الخادمة التي تتقاضى أجرًا جيدًا منذ تلك اللحظة.

عندما رجع إلى كرسيِّه متمدِّدًا وباسطًا ذراعَيه وقدمَيه، وضع سيجارًا كبيرًا بين أسنانه ذات الرقاط الذهبية، ثم حاول تحليلَ الإحساس الغريب الذي شعر به في المحكمة. لم يكن المسئولُ عن حالة انزعاجه الذهني هو القاضيَ، ولم يكن سلوكَ هيئة الدفاع، ولم تكن حتى احتمالية أن ينتقدَه العالَم. ولم يكن بالتأكيد السجينَ ومصيره المُحتمل، أو الزوجةَ الشاحبة الوجه. ولكنه شعر بوجود شخصٍ أو شيءٍ أدخل القلقَ إلى قلبه.

جلس يُدخِّن لمدة نصف الساعة؛ ثم رن جرس، فنزل الدرج وفتح الباب الأمامي. وجد أن الطارق المُنتظَر على الباب وعلى وجهه ابتسامةُ اعتذار؛ هو أحدُ وضعائه، ساقٍ ومُرابح وصبيُّ مهمَّات عام للرجل الجامدِ الوجه.

قال وهو يُغلق الباب وراء الزائر: «ادخل يا جوبي. هلا نزلتَ إلى القبو وأحضرتَ لي زجاجة ويسكي؟»

سأل المُتملقُ وهو يتكلف الابتسام مُترقبًا: «كيف كانت شهادتي يا صاحب العمل؟»

أجاب ستيدلاند مُتذمرًا: «هُراء. ماذا تعني بقولك إنك سمعتَني أطلب النجدة؟»

قال جوبي مُتذلِّلًا: «يا صاحب العمل، ظننتُ أنني بذلك أجعل موقفه أسوأ.»

السيد ستيدلاند ساخرًا: «النجدة! هل تظن أنني سأُنادي على رجل مثلِك لنجدتي؟ يا لك من شخص عديم الفائدة في منزلٍ بسيطٍ كهذا! أحضِر لي الويسكي!»

عندما صعد الرجل بزجاجةٍ وكأس، رأى السيد ستيدلاند يُحدِّق مُكتئبًا من النافذة التي كانت تُطل على حديقةٍ صغيرة وغير مُرتَّبة وتنتهي بجدارٍ عالٍ. خلفها، تُوجَد مساحة عليها بناءٌ في طَور التشييد عندما وضَعَت الهُدنة حدًّا لعمل الحكومة. صُمِّم المبنى ليكون مصنعًا صغيرًا لصناعة القواطع الكهربية، وكان كالقذى في عين السيد ستيدلاند؛ لأنه كان يملك الأرض التي بُني عليها.

قال مُستديرًا فجأةً: «هل كان في المحكمة أحدٌ نعرفه يا جوبي؟»

قال الرجل بعد توقُّف من المفاجأة: «كلَّا يا سيد ستيدلاند. ليس على حدِّ علمي، باستثناء المفتش …»

أجاب السيد ستيدلاند: «لا تَشغل بالك بالمفتش؛ فأنا أعرف كل رجال المباحث الذين كانوا هناك. هل كان هناك أحدٌ آخر، أعني أيَّ أحدٍ لديه ضَغينةٌ تجاهَنا؟»

أجاب جوبي الجريء: «كلَّا يا سيد ستيدلاند. ما الذي يُقلقك إن كان هناك أحدٌ آخر؟ أعتقد أننا ندٌّ لأيٍّ منهم.»

أجاب ستيدلاند غيرَ مسرور وهو يصبُّ لنفسه جرعة من الويسكي: «كم مضى على عملك معي؟»

تحوَّل وجه الرجل مُتصنعًا الابتسام.

وقال: «حسنًا، نحن معًا لبعض الوقت يا سيد ستيدلاند.»

تلمَّظ ستيدلاند شفَتَيه ونظر من النافذة مرةً أخرى.

ثم قال بعد برهة: «أجل، إننا معًا منذ وقتٍ طويل. في الواقع، لو كنتُ أخبرتُ الشرطة بما كنتُ أعرفه عنك قبل سبع سنوات، لكنتَ على وشك إنهاء عقوبتك …»

أجفَل الرجل، وغيَّر الموضوع. ولو فكَّر في الأمر، لأدرك أن سنوات السجن السبع استبدل بها ستيدلاند عبوديةً مدى الحياة؛ لكن السيد جوبي لم يكن كثيرَ التفكير.

أجاب قائلًا: «أهناك أيُّ شيء للبنك اليوم يا سيدي؟»

قال ستيدلاند: «لا تكن أحمقَ؛ فالبنك يُغلق في الساعة الثالثة.» ثم استدار له وقال: «حسنًا يا جوبي، من الآن ستنام في المطبخ.»

قال الخادم المذهول: «في المطبخ يا سيدي؟» ثم أومأ ستيدلاند.

وقال: «لستُ مُستعدًّا للمخاطرة باستقبال مزيدٍ من زوار الليل؛ فقد أجهَز ذلك الرجلُ عليَّ قبل أن أعرف أين كنت، وإن لم يكن في متناول يدي مُسدسٌ لضربَني. المطبخ هو المنفذ الوحيد للدخول إلى المنزل من الخارج، وأنا أشعر في قرارة نفسي أن شيئًا قد يحدُث.»

«ولكنَّه ذهب للسجن.»

قال ستيدلاند مُزمجرًا: «أنا لا أتحدَّث عنه. أتفهم؟ خُذ سريرك إلى المطبخ.»

أجفل جوبي قائلًا: «إنه عُرضة للهواء بعضَ الشيء …»

صرخ ستيدلاند مُحملقًا في الرجل وغاضبًا: «خذ سريرك إلى المطبخ.»

قال جوبي مُتلطفًا: «أمرك يا سيدي.»

وعندما ذهب خادمُه، خلع ستيدلاند معطفه وارتدى معطفًا آخر من صوف الألبكة المصبوغ، ثم فتح الخِزانة وأخرج كتابًا. كان دفترَ حسابٍ مصرفي من البنك، وقد أسَرَه تفحُّصُه للغاية. كان السيد ستيدلاند يحلُم بمزرعة مَواشٍ كبيرة في أمريكا الجنوبية وبحياة الرفاهية والهدوء. أصبح الرجل فاحشَ الثراء بالعمل الشاق في لندن لمدة اثنتَي عشْرة سنة؛ فقد تحلَّى بالحذر والصبر في العمل، واتخذ من الابتزاز مصدرَ رزقٍ دائمًا له، حتى أصبح له رصيدٌ نقدي في أحد أشهر البنوك الخاصة، ألا وهو بنك مولبري الذي يمتلكه السيد وليام مولبري وشركاؤه، وهو شركة ذات مسئولية محدودة. يشتهر البنكُ في المدينة بالحفاظ على الخصوصية وحتى في التكتُّم على أعمال العملاء، وهي الظروف التي تناسبَت تمامًا مع ما يسعى إليه السيد ستيدلاند. البنك من ضمن البنوك المُصمَّمة على الطِّراز القديم التي تحتفظ باحتياطيٍّ ضخم من المال في مَدافنَ لها تحت الأرض؛ وكانت هذه أيضًا ميزةً في نظر السيد ستيدلاند، الذي قد يرغب في تجميع أصوله السائلة في أقصر وقتٍ ممكِن.

مرَّ المساء والليلة من دون أي حوادثَ مشئومة، باستثناء ما ظهر عندما أحضر السيد جوبي الشاي لسيده في الصباح، وتحدَّث بصوتٍ أجشَّ بعض الشيء عن مروره بليلةٍ باردة وغير سارة. قال ستيدلاند بغِلظة: «أحضِر مزيدًا من بياضات السرير.» انصرف إلى مكتبة بالمدينة بعد الإفطار، وترك السيد جوبي يُشرف على أعمال الخادمة ويُؤكد عليها عددًا من الوقائع، بما في ذلك الأجر الذي كانت تتقاضاه، ووفرة الخادمات الجيدات في السوق، والعواقب التي ستتحمَّلها إذا ترَكَت غرفة مكتب السيد ستيدلاند غير نظيفة.

وفي الساعة الحادية عشرة من ذلك الصباح، أتى رجل مُحترمٌ ومُسن بعضَ الشيء يرتدي قُبعة حريرية، وقابله السيد جوبي على الباب.

الزائر: «أتيتُ من غرفة صناديق الأمانات.»

سأل السيد جوبي المُرتاب: «أيُّ صناديق أمانات؟»

ردَّ الآخر: «صندوق أمانات فيتير لين.» «نريد أن نعرف ما إذا كنتَ قد نسيتَ مفاتيحك في المرة الأخيرة التي أتيتَ فيها.»

هزَّ جوبي رأسه، وقال بثقة: «ليس لدَينا أيُّ صندوق أمانات، ونادرًا ما ينسى المدير مفاتيحه.»

قال الرجل المحترم مُبتسمًا: «إذن، من الواضح أنني قد أتيتُ إلى المنزل الخطأ. هل هذا منزل السيد سميثسون؟»

قال جوبي الفظُّ: «كلَّا.» وأغلق الباب في وجه الزائر.

نزل الزائر الدرَج إلى الشارع، وانضمَّ إلى رجلٍ آخر كان واقفًا في ركنٍ وقال: «إنهم لا يعرفون شيئًا عن صناديق الأمانات يا مانفريد.»

قال الرجل الأطولُ بينهما: «لا أعتقد أنها في صندوقٍ للأمانات. في الواقع، أكاد أجزم أنه يحتفظ بجميع أوراقه في البنك. رأيتَ جوبي، أليس كذلك؟»

قال جونزاليس مُفكرًا: «بلى، إنَّ له وجهًا مُثيرًا للاهتمام؛ فذقنه صغير، ولكنَّ أُذنَيه عاديتان تمامًا. وعظام الجبهة تنحدِر بغير انتظامٍ للخلف، والرأس — بقدْر ما أرى — مُسنَّم بوضوح.»

قال مانفريد دون أن يبتسِم: «مسكين جوبي! والآن يا ليون، سنُكرِّس أنا وأنت انتباهَنا للطقس؛ فثمة إعصارٌ مضاد قادم من خليج بسكاي، وآثاره الملموسة يشعرون بها بالفعل في إيستبورن. وإذا امتدَّ شمالًا إلى لندن في الأيام الثلاثة القادمة، فسنَحمل أخبارًا جيدة للسيدة ستور.»

قال جونزاليس في أثناء عودتهم إلى شقتِهما في شارع جيرمين: «أظن أن الهجوم على هذا الرجل أمرٌ مُستبعَد.»

هز مانفريد رأسه.

وقال: «لا أريد أن أموت؛ ولكني بالتأكيد سأموت لأنَّ نواه ستيدلاند سريعٌ للأسف في إطلاق النار.»

تحققَت نبوءة مانفريد بعد يومَين عندما انتشر تأثيرُ الإعصار المضاد في لندن، وهبَّ ضباب أصفرُ على المدينة. انقشع الضباب بعد الظهيرة، ما سَرَّ مانفريد؛ ولكن لم يكن ثَمة دليلٌ على تبدُّده قبل الغروب.

كان مكتب السيد ستيدلاند في شارع ريجينت صغيرًا، ولكنه كان مفروشًا بأثاثٍ مريح. وأسفلَ اسمه المنقوش على الباب الزجاجي، نُقِشَت الكلمة السحرية؛ «الخبير المالي»، وهي حقيقة أن ستيدلاند كان مُسجَّلًا باعتبارِه مُقرِضَ أموال، وقد وجده عملًا مربحًا؛ لأن ما كان يكتشفه ستيدلاند مُقرِض الأموال، كان يستغلُّه ستيدلاند المُبتز؛ ولم يكن مُستغرَبًا على السيد ستيدلاند أن يُقرِض المال بفائدةٍ كبيرة سعيًا وراء تحقيق مكسبه الخاص. وقد تمكَّن بهذه الطريقة من إحكام قبضته على ضحيته.

في الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم، أعلن موظفُه عن وجود زائر.

«رجل أم امرأة؟»

قال الموظف: «رجل يا سيدي. أعتقد أنه من بنك مولبري.»

ردَّ ستيدلاند: «أتعرفُه؟»

«لا يا سيدي، ولكنه أتى بالأمس عندما كنتَ بالخارج، وسأل هل تلقيتَ كشف حساب البنك أم لا.» أخذ السيد ستيدلاند سيجارًا من العلبة على الطاولة وأشعله، ثم قال وهو لا يتوقع شيئًا أكثر إثارة من شيكٍ مهين من أحد عملائه: «أدخِلْه.»

بدا أن الرجل الذي دخل كان في حالةٍ من الاهتياج. أغلق الباب خلفه ووقف يُطقطق بأصابعه بعصبية على قُبعته.

قال ستيدلاند: «اجلس. خذ سيجارًا يا سيد …»

قال الآخر بصوت أجش: «كورتيس يا سيدي. شكرًا يا سيدي، أنا لا أُدخن.»

ستيدلاند: «حسنًا، ماذا تريد؟»

«أريد أن أتحدَّث معك بضعَ دقائق يا سيدي، ولكن على انفراد.» نظر بقلقٍ إلى الحاجز الزجاجي، الذي يفصل مكتب السيد ستيدلاند عن الحجرة الوضيعة التي يعمل فيها موظفُه.

ستيدلاند ملاطفًا: «لا تقلق؛ فأنا أُؤكِّد لك أن هذا الزجاج عازل للصوت. ما مُشكلتك؟»

شعر بإحراج مؤقت؛ ولكن قد يُصبح موظفُ البنك المُحرَج مؤقتًا أداةً شديدة النفع في المستقبل.

قال الرجل، وهو يجلس على حافة كرسيٍّ ووجهه يرتعش مُتعصبًا: «لا أكاد أعرف كيف أبدأ يا سيد ستيدلاند. إنها قصة مروعة، قصة مروعة.»

سمع ستيدلاند عن هذه القصص المروعة من قبل، التي أحيانًا لا تعني أكثرَ من أن الزائر مُهدَّد من موظَّفي المحكمة، وحريصٌ على إبعاد الأخبار عن آذان أصحاب العمل. وفي أحيانٍ أخرى تتمحور القصة حول فعلٍ أخطر، كخَسارة المال في القمار، وتَكرار محاولاتٍ يائسة حتى الساعة الأخيرة لتعويض عجزٍ مالي.

قال: «تكلَّم، لن تصدمَني.» ولكن هذا التباهيَ كان سابقًا لأوانه قليلًا.

إذ قال الرجل متوترًا: «الأمر لا يَخصُّني، ولكنه يخصُّ أخي جون كورتيس، الذي يعمل أمينَ صندوق منذ عشرين سنةً يا سيدي. لم تكن لديَّ أدنى فكرة بأنه يُواجه مشكلات، ولكنه كان يُضارب في البورصة، ولم يُخبرني بالأمر سوى اليوم. إنني في كربٍ شديد بسببه يا سيدي، وأخاف عليه من الانتحار؛ فهو محطَّم نفسيًّا.»

سأل ستيدلاند بتملمُل: «ماذا فعل؟»

قال الرجل بصوتٍ خفي: «سرق البنكَ يا سيدي. لم يكن الأمر ليُشكل خطرًا لو حدَث منذ عامَين، ولكن لمَّا ساءت الأمورُ كثيرًا الآن، اضطُرِرنا إلى ارتكاب أعمالٍ خاطئة كي نجعل كشف حسابنا منطقيًّا في ظاهرِه؛ إنني أرتجف عندما أُفكر فيما ستَئول إليه الأمور.»

سأل ستيدلاند بسرعة: «كم سرق من البنك؟»

ردَّ الرجل مُرتبكًا: «مائة وخمسين ألف جنيه.» قفز ستيدلاند واقفًا، وقال وهو لا يكاد يُصدق: «مائة وخمسين ألفًا؟»

«نعم يا سيدي. كنت أتساءل هل بإمكانك التحدُّثُ نيابةً عنه أم لا؛ إنك من أكثر العملاء الذين لهم شأنٌ لدى البنك!»

صاح ستيدلاند: «أتحدَّث نيابةً عنه!» ثم هدَأ فجأة؛ إذ أعاد عقلُه السريع النظر في الموقف، وراجع كل الاحتمالات المُمكنة. ثم نظر لأعلى إلى الساعة، وكانت الثالثةَ إلا الربع.

«هل يعرف أحدٌ من البنك بالأمر؟»

«ليس بعدُ يا سيدي، ولكني أشعر أنه من واجبي تجاه المدير العام أن أُخبره بالقصة المؤسِفة. بعد أن يُغلق البنك بعد ظهر اليوم، سأطلب منه أن أُقابله على انفراد و…»

سأل ستيدلاند: «هل سترجع إلى البنك الآن؟»

قال الرجل متفاجئًا: «أجل يا سيدي.»

بدا على وجه ستيدلاند الشاحِبِ الجمودُ والتوتر. أخذ حافظةً من جيبه، وفتحها وأخرج منها ورقتَين، وقال: «استمع إليَّ يا صديقي. هاتان ورقتان من فئة الخمسين جنيهًا. خذهما واذهب إلى المنزل.»

«ولكني يجب أن أذهب إلى البنك يا سيدي؛ لأنهم سيتساءلون …»

قال ستيدلاند: «لا تهتمَّ على الإطلاق بما سيقولون؛ فسيكون لديك تفسيرٌ جيد جدًّا عندما تُكتشَف الحقيقة. هل اتفقنا؟»

أخذ الرجل المال على مضَض.

«لا أعرف جيدًا ما أنت …»

قاطعه ستيدلاند قائلًا: «لا تهتمَّ إطلاقًا بما أُريد فعله. ذلك كي تُبقي فمَك مغلقًا وتذهب للمنزل. هل تفهم الإنجليزية البسيطة؟»

قال كورتيس المُرتعِش: «أجل يا سيدي.»

بعد ذلك بخمس دقائق، مرَّ السيد ستيدلاند عبر الأبواب الزجاجية لبنك مولبري، وسار مباشرةً إلى طاولة الصرَّاف. عمَّ جوٌّ من الهدوء في المُنشأة وفي قلب الصرَّاف، الذي كان يعرف ستيدلاند وأتى نحوه بابتسامة.

قال ستيدلاند في نفسه: «لا يُدركون مصيرهم المُروِّع، تلهو الضحايا الصغيرة.» كانت هذه إحدى مقولاته المُفضَّلة، وكان يتلفَّظ بها في عدة مناسبات مُماثلة.

مرَّر قُصاصةً من الورق عبر طاولة الصرَّاف، الذي نظر إليها ثم رفع حاجبَيه، قائلًا: «عجبًا! هذا تقريبًا كل حسابك يا سيد ستيدلاند.»

أومأ ستيدلاند.

وقال: «أجل، فأنا ذاهب للخارج على عجَلةٍ من أمري، ولن أرجع لمدة عامين، ولكني أترك فقط ما يُبقي على الحساب مفتوحًا.»

كان ممَّا يتباهَون به في بنك مولبري أنهم لا يُجادلون في مثل هذه الحالات.

قال الصرَّاف بأدب: «إذن، هل ستحتاج إلى صندوقك؟»

قال نواه ستيدلاند: «أجل أرجوك.» لو خضع البنك لحيازة جامع الأملاك، فإنه لن يرغب في أن يفتح الغرباءُ المُتطفلون الصندوقَ المعدني ويفحصوا مُحتوياته التي أودعَها لدى البنك، وكذلك المحتويات التي يُضيفها من وقتٍ لآخر.

بعد عشر دقائق خرج السيد ستيدلاند وفي حوزته ما يقرُب من مائة ألف جنيه في جيوبه، وصندوق معدني في إحدى يدَيه، والباقي في جيبه الخلفي — لأنه لا يترك شيئًا للصدفة — ثم ركب سيارة الأجرة المُنتظِرة. كان الضبابُ قد انقشع، وكانت الشمس مشرقةً في كلافام عندما وصل.

صعد مباشرةً إلى غرفة مكتبه، وأوصد الباب وفتح الخزينة الصغيرة، حيث دسَّ الصندوق الصغير وحزمتَين سميكتَين من الأوراق النقدية، وأغلق باب الخزينة عليها. بعد ذلك، رنَّ الجرسَ مُستدعيًا جوبي المُخلص. ولما فتح الباب كي يدخل، سأل: «هل لدَينا سريرُ سفر آخر في المنزل؟»

قال جوبي: «نعم يا سيدي.»

«جيد، أحضِره إلى أعلى هنا؛ فسأنام في غرفة مكتبي الليلة.»

«أثَمَّة خَطْب يا سيدي؟»

«لا تسأل أسئلةً غبية، وافعل ما تُؤمَر به!»

فكَّر في أن يبحث في الصباح عن خزينة بها أحدثُ وسائل الأمان كي يضعَ فيها أمواله؛ وقضى ذلك المساءَ في غرفة مكتبه واستلقى ليرتاح، ولكنه لم ينَم، وكان واضعًا مُسدَّسًا على كرسيٍّ بجوار سرير سفره. كان السيد ستيدلاند رجلًا حذِرًا؛ وعلى الرغم من نيته في الاستغناء عن النوم لليلةٍ واحدة، كان يجد نفسه وقد غلَبه النُّعاس عندما يوقظه صوتٌ بالخارج.

كان صوتًا مألوفًا — رنين أجراس إنذار الحريق — ومن الواضح أن ثمَّة سياراتِ إطفاء كانت في الشارع؛ لأنه سمع دويَّ مُحركاتٍ وأصواتًا. تشمَّم؛ إذ كانت هناك رائحةُ حريق، وعندما نظر رأى وميضَ ضوءٍ انعكس على السقف. قفز من السرير ليكتشف السبب، الذي اتضح على الفور؛ فلحُسن حظه كان مصنعُ المنصهرات يحترق، وألقى نظرة خاطفة على رجال الإطفاء أثناء عملهم ونظرةً أخرى سريعة على خرطوم المياه. ارتسمت ابتسامةٌ على شفتَي السيد ستيدلاند؛ فتلك النارُ قد تُساوي المال بالنسبة له، وليس ثَمَّة خطر يُواجهه.

ثم سمع صوتًا في الصالة بالأسفل؛ صوت دوي بعثَرَ ترتيب المنزل، وسمع ثرثرةَ جوبي، وفتح الباب. كان الضوء مُشتعلًا في الصالة وعلى السُّلَّم. وبالنظر إلى عمود الدرابزين، رأي جوبي المُرتجفَ وهو يرتدي معطفًا فوق منامته ويُجادل أحد رجال الإطفاء، الذي كان يرتدي خوذة.

سمع رجلَ الإطفاء يقول: «لا يُمكنني فعل شيء. يجب عليَّ أن أُحضر خرطوم الإطفاء عبر أحد هذه المنازل، ومنزلكم هو الأفضل.»

لم يكن السيد ستيدلاند يرغب في أن يمرَّ خرطوم إطفاء عبر منزله، وفكَّر في حيلةٍ قد تنقل هذا العناء إلى منزل جاره، فقال: «اصعد هنا لحظة؛ فأنا أريد التحدُّث إلى رجل الإطفاء هذا.»

أتى رجلُ الإطفاء صاعدًا السُّلَّم بحذائه الثقيل، وكان رجلًا حسَنَ المظهر في ملابسه الصفراء اللامعة، وقال: «عذرًا، ولكن يجب أن أُمرِّر خرطوم الإطفاء …»

قال السيد ستيدلاند مُبتسمًا: «انتظر لحظةً يا صديقي. أعتقد أنك ستفهمني بعد قليل. إن هناك العديد من المنازل في هذا الشارع، وإن عشرة جنيهات فعَّالة في هذا الأمر، أليس كذلك؟ ادخُل.»

رجع إلى غرفته، وتبِعَه رجلُ الإطفاء ووقف يُشاهده وهو يفتح الخزانة. ثم قال: «لا أعتقد أن الأمر سيكون بهذه السهولة.»

استدار ستيدلاند.

وقال رجلُ الإطفاء: «ارفع يدَيك ولا تتسبَّب في المتاعب، وإلا قتلتُك يا نواه؛ سأقتلك حالَما أتحدَّث معك.»

ثم رأى نواه ستيدلاند أنَّ وجه الرجل كان مُغطًّى بقناعٍ أسود أسفل ظُلة الخوذة؛ فسأل بصوت مبحوح: «مَن … مَن أنت؟»

«أنا أحد رجال العدالة الأربعة، الذين يحتقرهم الكثيرون ويأسَفون عليهم قبل أوانهم. والموت هو الدواء الناجع المُفضَّل لديَّ للشفاء من جميع الأسقام …»

في التاسعة صباحًا، كان السيد نواه ستيدلاند لا يزال جالسًا يقضم أظافره؛ وظلَّ الإفطارُ موضوعًا على الطاولة أمامه ولم يقرَبْه حتى برد.

أتى إليه السيد جوبي يُعوِل بأنباء الكارثة، ولكن قاطعه رئيس المُفتشين هولواي وأحدُ التابعَين الضَّخمي البِنية، اللذين تبعا الخادم إلى الغرفة.

وسأل المفتش المُبتهج: «هلا أتيتَ معي في نزهةٍ قصيرة يا ستيدلاند؟» نهض ستيدلاند متثاقلًا، وسأله متثاقلًا أيضًا: «بأي تهمة؟»

ردَّ الضابط: «الابتزاز. حصلنا على دليلٍ كافٍ لإيصالك إلى حبل المشنقة، أوصلَه لنا رسولٌ خاص. لقد ثبَّتَّ تلك القضية على ستور أيضًا أيها الألعوبان!»

لمَّا كان السيد ستيدلاند يرتدي معطفه، سأله المفتش: «مَن الذي سلَّمَك؟»

لم يردَّ السيد ستيدلاند. كانت كلمات مانفريد الأخيرة قبل أن يختفيَ في الشارع الضبابي حاسمة؛ حيث قال: «لو أراد المدعوُّ كورتيس قتْلَك، لقتَلَك بعد ظهيرة هذا اليوم عندما تلاعبْنا عليك؛ ولكنَّا قتَلناك بالسهولة نفسِها التي أشعَلنا بها النارَ في المصنع. وإذا تحدثتَ مع الشرطة عن رجال العدالة الأربعة، فسنقتلُك، حتى ولو كنتَ في سجن بينتونفيل ويُحيط بك فوجٌ من العساكر.»

عرَف السيد ستيدلاند بطريقةٍ ما أن عدوَّه نطق بالحقيقة؛ ومِن ثَم لم يقُل شيئًا، سواءٌ هناك أو في محكمة أولد بيلي، وحُكم عليه بالأشغال الشاقة من دون أن يتكلَّم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤