مبغض أميليا جونز
وصلت رسالة إلى ليون جونزاليس، رُسِمَت صورةُ ألفونس الثالث عشر على طابَع البريد وكُتِب عليه اسمه. أُرسِلت الرسالة من رجل ذهنه صافٍ كتبَها في ساعة القيلولة؛ أي الوقت الذي يَقيلُ فيه أهل قرطبة. كتب الرسالة مُسترسلًا الأفكارَ التي أتت إلى رأسه وهو جالسٌ في تعريشةِ برتقال تُطلُّ على نهر الوادي الكبير العريق، الذي يَفيض الآن باللون الأصفر.
ليون: «إنها من بويكارت.»
ردَّ جورج مانفريد، وهو يَغفو على كرسيٍّ كبير أمام المدفأة: «حقًّا؟»
الغرفة يُضيئها مصباحُ القراءة الضاربُ إلى اللون الأخضر، إذ كان يُوفر الإضاءةَ لشقتِهما المريحة في شارع جيرمين في تلك اللحظة.
قال جورج مُتمددًا: «وماذا يقول صديقُنا الرائع بويكارت؟»
قال ليون بجِدية: «أصابت آفةٌ محصولَ البصل لديه.» حاول مانفريد إخفاء ضحكه ثم أصبح متزنًا فجأة.
في وقتٍ من الأوقات، كان اسمُ هؤلاء الثلاثة — ومعهم صديقهم الذي يرقد الآن في مقبرة بوردو — يُثير الرعبَ في قلوب الأشرار. في تلك الأيام، بات رجالُ العدالة الأربعة يَقُضُّون مضاجع العديد من الماكرين الذين أفلَتوا من يدِ القانون، ولكنهم لم يستطيعوا الهربَ من هذا التنظيم الواسع الانتشار، الذي كان يقتل بلا رحمةٍ باسم العدالة.
كان بويكارت يزرع البصل! تنهَّد وكرَّر الكلمات بصوتٍ عالٍ.
سأل ليون: «ولِمَ لا؟ هل قرأتَ عن الفرسان الثلاثة؟»
قال مانفريد، مُبتسمًا للنيران: «بالتأكيد.»
سأل ليون: «هل لي أن أسأل في أي كتاب؟»
ردَّ مانفريد متفاجئًا: «عجبًا، في رواية الفرسان الثلاثة بالطبع.»
قال ليون جونزاليس على الفور: «إذن قد أخطأت؛ فلكي تُحِب الفرسان الثلاثة، يجب أن تقرأ عنهم في رواية القناع الحديدي. في تلك الرواية، ترى أحدهم يكسب وزنًا ولا يهتمُّ إلا بأناقته، والآخر مجرَّد أحد رجال حاشية ملك فرنسا، والثالث عجوزٌ ويَفيض حزنًا على ابنه المُتيَّم به. حينذاك، يُصبحون بشرًا يا عزيزي مانفريد، تمامًا كما يُصبح بويكارت بشرًا عندما يزرع البصل. هل أقرأ لك أجزاءً صغيرة؟»
قال مانفريد على استحياءٍ شديد: «أرجو ذلك.»
قرأ جونزاليس: «همم، أخبرتُك عن البصل يا جورج. زُرِعت بعضُ الورود اليانعة. مانفريد سيُحبها … لا تهتم كثيرًا بفحص الدم الجديد الذي يُصرح الطبيب الأمريكي أنه يستطيع به اكتشافَ درجات القرابة … الخنازير الصغيرة الجديدة في حالٍ جيدة للغاية. وثَمَّة واحدٌ منها شديدُ الذكاء، ويَنزع إلى التفكير. أطلقت عليه اسم جورج.»
انطوى جورج مانفريد في كرسيه بجوار النار وضحك.
استكمل ليون القراءة: «قيل لي إن هذه السنة ستُوفر فيها النبيذ بكميات كبيرة، لكن البرتقال ليس وفيرًا كالعام الماضي … هل تعلم أن بصمات أصابع التوأم متطابقة؟ من الغريب أن بصمات توأم القرد الشبيه بالإنسان مختلفة. أتمنى أن تحصل على معلوماتٍ حول هذا الموضوع …»
تابع القراءةَ في قُصاصاتٍ صغيرة من الأخبار المحلية، وجولات عابرة في القضايا العِلمية الجانبية، وقُصاصات شديدة الصغر من القيل والقال، ملأَت عشر صفحاتٍ مكتوبة بإحكام.
طوى ليون الرسالةَ ووضعها في جيبه، قائلًا: «بالطبع هو ليس مُحِقًّا في أن بصمات أصابع التوأم متطابقة؛ فهذا أحدُ أوهام المذهل لومبروسو. على أي حال، فإن نظام بصمات الأصابع لا يكفي.»
قال جورج متفاجئًا: «لم أسمع قطُّ أنه موضعُ شك، لماذا هو غير كافٍ؟»
لفَّ ليون سيجارة بأصابعَ رشيقة، ولعق الورقة، وأشعَل طرَفَها الخشن قبل أن يردَّ:
«في سكوتلاند يارد، لنقُل إن لديهم مائةَ ألف بصمة. وعدد السكان في بريطانيا خمسون مليون نسمة. مائة ألف تُساوي بالضبط خمسة على ألفٍ من خمسين مليونًا. لنفترض أنك ضابطُ شرطة واستُدعيتَ إلى ألبرت هول، حيث جُمِع خَمسمائة شخص وقيل لك إن أحدهم بحَوزته مُمتلكات مسروقة وحصلتَ على إذنٍ بتفتيشهم، فهل ستكتفي بتفتيشِ واحدٍ فقط وتُطلق سراح البقية؟»
قال مانفريد: «بالطبع لا، ولكنني لا أعرف ماذا تعني.»
«أعني أنه حتى يُقِر جميعُ من في هذا البلد وفي أوروبا نظامًا يُسجل بموجبه كلُّ مواطن بصماتِ أصابعه وحتى تُتاح لجميع البلدان فرصةُ تَبادل تلك البصمات ومقارنتها بالبصمات التي لديها، فمن السُّخف القولُ إنه لا تُوجَد بصمتان متماثلتان.»
قال مانفريد همسًا: «إن ذلك يحسم أمرَ نظامِ بصمات الأصابع.»
قال ليون شاعرًا بالرِّضا عن نفسه: «النظامُ كافٍ من حيث المنطق، لكن الواقع يقول غير ذلك.»
ساد صمتٌ طويل بعد هذا، ثم وجد مانفريد خِزانةً بجانب المدفأة وأنزل منها كتابًا.
في الوقت الحاليِّ، سُمع صرير كرسي لمَّا قام جونزاليس، كما سمِع «صوتًا» منخفضًا لبابٍ يُغلَق. نظر مانفريد إلى الساعة وعلم أنها الثامنة والنصف.
عاد ليون بعدَ خمس دقائق، بعد أن غيَّر ملابسه. وكما قال مانفريد ذاتَ مرة، كان يتنكَّر باحترافية. لم يكن تنكرًا بالمعنى الشائع للكلمة؛ لأنه لم يمَسَّ وجهه بأي شكل من الأشكال، أو يُغير لون شعره.
بفضل براعتِه الفنية، أبدعَ في الظهور بالمظهر الذي يُريده؛ وهو مظهرُ رجلٍ يعيش في فقرٍ مدقِع. ارتدى ثوبًا ياقتُه نظيفة لكنها رثَّة، وحذاءً ملمعًا وجميلًا لكنه قديمٌ ومُرقَّع. ولم يترك خشونة الكعبَين تتآكل، بل ثبَّت كعبَين دائريَّين من المطاط بحجمٍ أكبرَ من أجل تغطية قاعدتَيهما.
قال مانفريد: «إنك موظَّف عجوز تُكافح الفقر، وتسعى جاهدًا حتى النهايةِ كي تبدوَ في طبقةٍ مرموقة.»
هز جونزاليس رأسه.
وقال: «أنا مُحامٍ شُطِب من جدول المحامين ودُمِّرَت مسيرته المهنية منذ عشرين سنة لأنني ساعدتُ رجلًا على الهروب من أيدي القانون. إنه دور يبعث على التعاطف كثيرًا يا جورج. علاوةً على ذلك، فإنه يجلب الناس إليَّ للحصول على المشورة. في إحدى هذه الليالي، لا بدَّ أن تأتيَ إلى الحانة العامة كاو آند كومباسيس، وتسمعني وأنا أتحدَّث عن قانون ممتلَكات المرأة المتزوِّجة.»
قال جورج: «لم أسأَلْك قطُّ عن عملك السابق. صيدٌ جيد يا ليون، وخالص تحياتي لأميليا جونز!»
كان جونزاليس يعَضُّ على شفَتيه مُفكرًا وينظر إلى النار، ثم أومأ برأسه.
وقال بصوتٍ منخفض: «هل تقصد المسكينة أميليا جونز؟»
ابتسم مانفريد قائلًا: «يا لك من رجلٍ رائع لو تمكَّنتَ من محاصرة خادمةٍ في منتصف العمر بسحر الرومانسية.»
كان ليون يعتمد على نفسه في ارتداء معطفٍ رث.
وقال: «قديمًا، كان هناك شاعرٌ إنجليزي في منصب البابا. على ما أعتقد، قال إن الشخص الرومانسي هو الذي يُحب شيئًا رائعًا أو يفعل شيئًا رائعًا. وأنا أعتقد أن أميليا جونز ينطبق عليها الأمران.»
كاو آند كومباسيس حانةٌ صغيرة في طريق تريت بديبتفورد. كان الطريق العامُّ المظلم خاليًا تقريبًا، فقد كانت ليلةً مُلبَّدة بالغيوم وباردةً عندما توجَّه ليون إلى الحانة. ربما كان الطقسُ غيرُ المشجع مسئولًا عن نُدرة العملاء في ذلك المساء؛ لأنه لم يكن هناك سِوى ستة أشخاص على الأرضية الرملية عندما شقَّ طريقه إلى البار وطلبَ خمرة الكلاريت مع الصودا.
ظلَّت امرأةٌ تُراقبه من فوق المقعد الخشبي الطويل الذي كانت تجلس عليه، ثم سكنَت مرة أخرى عندما سار نحوَها وهو يحمل كأسًا في يده.
حيَّاها قائلًا: «مرحبًا يا سيدة جونز، كيف حالكِ هذا المساء؟»
كانت امرأةً بَدينة ذاتَ وجهٍ أبيضَ مُرهَق ويدَين ترتجفان ارتجافًا متقطعًا.
قالت: «أنا سعيدة بقدومك يا سيدي.»
كانت تحمل كأسًا صغيرة من نبيذ البورت في يدها، لكنها لم تكن رشفَت منها شيئًا. إنها ليلة يئست فيها هذه المرأةُ بسبب مرورها بحالةٍ من الرُّعب والخوف، هرَبَت من منزلها الوحيد إلى ضوء وراحة الحانة حيث قابلها ليون. كان في ذلك الوقت يُلاحِق بأكبرِ قدرٍ من الحذَر رجلًا له جمجمة كبيرة وعريض المنكبين، وهو أحد عتَّالي حديقة كوفنت. سبق أن تعقَّب المالك إلى منزلِه ومكان استجمامِه، وبدأ في العمل على تحقيق هدفه، وهو معرفة تاريخ هذه الشجرة المُثمِرة وقياساتها التي لا يُمكن تصوُّرها، ولكن الخادمة البدينة انجرفَت في طريقه. من الواضح أنَّها كانت تُفكِّر في شيءٍ ما ذا أهمية غير عادية حتى الليل؛ لأنها كانت قد بدأت ثلاثَ بدايات واهية قبل أن تغوص في الأمر الذي يُقلقها.
«السيد لوكاس (هذا هو الاسم الذي عُرِف به جونزاليس لدى مُرتادي «كاو آند كومباسيس»)، أريد أن أطلب منك خدمةً كبيرة. لقد كنتَ لطيفًا جدًّا معي، فأعطيتَني نصيحة بشأن زوجي وغير ذلك. ولكن هذه خدمةٌ كبيرة كما أنك رجلٌ مشغول للغاية.»
نظرَت إليه بتضرُّع وكادت تتذلَّل.
قال جونزاليس: «لديَّ مُتسَع من الوقت الآن.»
فسألَته: «هل ستأتي معي إلى الريف غدًا؟ أريدك أن … أن … أن ترى شخصًا ما.»
قال جونزاليس: «بالتأكيد يا سيدة جونز.»
تابعَت بحماس: «هل ستكونُ في محطة بادينجتون في الساعة التاسعة صباحًا؟ سأدفع أجرتك. بالطبع ينبغي ألا أتركَك تدفع أي نفقات، لقد ادَّخرتُ بعض المال جانبًا.»
قال ليون: «فيما يتعلَّق بالأموال، فقد جنيتُ القليل من المال بنفسي اليوم، لذا لا تقلقي بشأن الأجرة. هل وصلك أيُّ خبرٍ من زوجك؟»
هزَّت رأسها قائلةً: «لم يَصِلني خبرٌ منه، بل من رجلٍ آخر خرج لتوِّه من السجن.»
ارتجفَت شفتاها والدموع في عينَيها.
وقالت بنبرةٍ مثيرة للاهتمام: «سيفعل ذلك. أنا أعلم أنه سيفعل ذلك، ولكنني لستُ مَن يُفكر في نفسها.»
فتح ليون عينَيه.
وكرَّر قولها: «لستِ من يُفكر في نفسه؟»
شكَّ في وجود عاملٍ ثالث، ولكنه لم يستطع قطُّ وضعه في خُطة هذه المرأة العادية.
قالت بائسةً: «لا يا سيدي، ليس أنا. أنت تعلم أنه يَكرهني وأنت تعلم أنه سيُؤذيني في اللحظة التي يخرج فيها، لكني لم أُخبرك عن السبب.»
سأل ليون: «أين هو الآن؟»
«سجن ديفايسز، انتقل إليه لأنه أوشك على قضاء مدة عقوبته، وسيَخرج بعد شهرَين.»
«ثم سيأتي إليك مباشرة، أتعتقدين ذلك؟»
هزَّت رأسها.
وقالت بمَرارة: «ليس هو؛ فهذه ليست طريقتَه. أنت لا تعرفه يا سيد لوكاس. لكن لا أحد يَعرفه مثلي. إذا أتى مباشرةً إليَّ فسيكون ذلك جيدًا، لكنه ليس مِن هذا النوع. أقول لك إنه سيَقتلني، ولا يُهِمني متى سيأتي ذلك. إنه لم يُدْعَ باش جونز من فراغ. سأتلقَّى الأمر راضية!» وأومأت وهي مُتجهِّمة الوجه، ثم استكملَت قائلةً: «سوف يَدخل ببساطة إلى الغرفة ويضربني بعنف دون أن ينبس ببنت شفة، وستكون تلك نهاية أميليا جونز.» وكرَّرَت قائلةً: «لكنني لا أُمانع، لا أمانع. إنه الرجل الثاني الذي يُحطم قلبي ولم تتركني المصاعب طوال الوقت.»
علم أنه لا جدوى من محاولةِ إقناعها بإخباره بمشكلاتها؛ ولما أغلقَت الحانة، غادراها معًا.
قالت: «أودُّ أن أطلب منك اصطحابي إلى المنزل، ولكن قد يَزيد الأمر سوءًا، ولا أريد أن أتسبَّب لك في أي نوع من المشكلات يا سيد لوكاس.»
مد يدَه، وكانت هذه هي المرةَ الأولى التي يفعل فيها ذلك، وأخذتها في راحةِ يدها اللينة الكبيرة وأحسَّ بضعفها لمَّا صافحها.
اعتقد جونزاليس أن قلةً قليلة من الناس قد صافَحوا أميليا جونز؛ وعاد إلى الشقة في شارع جيرمين ليجدَ مانفريد نائمًا أمام المدفأة.
كان ينتظر في محطة بادينجتون في صباح اليوم التالي مُرتديًا بذلة رثة بدرجةٍ أقل؛ وقد أدهَشه أن السيدة جونز أتَت بملابس ذاتِ ذوقٍ أفضلَ مما كان يتخيَّل. ارتدَت ملابسَ بسيطة لكنها تُخفي بكفاءةٍ الطبقةَ التي تنتمي إليها. أخذت التذكرتَين إلى سويندون ودارت محادثةٌ قصيرة بينهما في الرحلة. من الواضح أنها لم تكن تنوي أن تُزيح العبء من على كاهلها حتى الآن.
توقف القطار في نيوبيري لمَّا تحوَّل خطُّ قطارٍ بطيء كي يسمح بمرور قطارٍ خاصٍّ بطلَّاب مدرسة. كان مزدحمًا بالفتية والفتيات الذين يلوِّحون بتحيةٍ مُبهجة ومختلطة أثناء مرورهم.
أومأ ليون، وقال: «بالطبع! إنها بداية عيد الفصح. لقد نسيت.»
نزلوا في سويندون ثم ذكَرَت المرأة لأول مرة بعضَ التفسيرات عن الغرض من رحلتهما.
قالت بتوتُّر: «يجب أن نبقى على هذا الرصيف. أتوقع رؤية شخصٍ ما، وأودُّ أن تراه يا سيد لوكاس.»
حينذاك، جاء قطارٌ خاص آخرُ مُسرعًا إلى المحطة، وكان غالبية ركاب هذا القطار من الأطفال أيضًا. نزل العديد منهم عند التقاطع، لتغيير وجهتهم على ما يبدو إلى وجهةٍ أخرى غير لندن؛ وظلَّ ليون يتحدَّث إلى المرأة وهو يعلم أنها لا تستمع له، ورأى وجهَها مضيئًا وقتَئذٍ. تركته بعد تنهيدة بسيطة وسارت بسرعة على طول الرصيف لتحيةِ فتاة طويلة وجميلة، ترتدي قبعةً ذات وشاح باللونَين القرمزي والأبيض لمدرسة شهيرة في غرب إنجلترا.
ضحكت وقالت: «عجبًا يا سيدة جونز، إنه لَلُطف شديد منك أن تأتي لرؤيتي. أتمنى ألا تَكوني قد واجهتِ الكثير من المتاعب. سأكون في غاية السعادة للذَّهاب إلى لندن. هل هذا أحد أصدقائك؟»
صافحت ليون وعيناها تبتسمان في ود.
قالت السيدة جونز مضطربةً: «لا بأس يا آنسة جريس. لم أُفكر إلا في أن أزورك سريعًا وأطمئنَّ عليك. كيف حال المدرسة معك يا عزيزتي؟»
قالت الفتاة: «أوه، رائعة. لقد فُزتُ بمنحةٍ دراسية.»
قالت السيدة جونز بصوتٍ مذهول: «يا له من خبر جميل! أنت رائعة دائمًا يا عزيزتي.»
استدارَت الفتاة إلى ليون.
وقالت: «كانت السيدة جونز مُربِّيتي منذ سنواتٍ وسنوات، أليس كذلك يا سيدة جونز؟»
أومأت أميليا جونز.
وسألتها الفتاة: «كيف حالُ زوجكِ؟ هل ما زال بغيضًا؟»
قالت السيدة جونز بشجاعة: «أوه، إنه ليس سيئًا للغاية يا آنسة. إنه يُحاول قليلًا من حينٍ لآخر.»
«أتعلمين؟ أودُّ أن ألتقيَ به.»
لهثت أميليا قائلةً: «أوه لا، لا أنصحكِ يا عزيزتي. هذا فقط قلبكِ الطيب. أين تقضين عطلتكِ؟»
«مع صديقةٍ لي في كليفتون اسمها مولي ووكر، ابنة السير جورج ووكر.»
التهمَت عينا أميليا جونز الفتاةَ وعرَف ليون أنها تُغدِق كلَّ الحبِّ الذي حُرِمت منه في حياتها القاحلة على هذه الطفلة التي ربَّتها. ساروا على الرصيف معًا؛ وعندما جاء قطارها، وقفت السيدة جونز عند باب العربة حتى خرج القطار من المحطة، ثم انتظرَت بلا حَراك ناظرةً إلى القطار السريع حتى توارى عن الأنظار.
تمتمَت بانكسار: «لن أراها مرةً أخرى! لن أراها مرة أخرى! يا إلهي!»
ظهر التعب على وجهها وشحب شحوبًا مروعًا، وأخذ ليون بذراعها:
«يجب أن تأتي وتتناولي وجبةً خفيفة يا سيدة جونز. هل تُحبين هذه الشابة كثيرًا؟»
التفتَت إليه قائلةً: «مُغرَمة بها؟ مغرمة بها؟ إنها … إنها ابنتي!»
أخذا عربةً خاصة وهما عائدان إلى المدينة وحكَت السيدة جونز قصتها.
قالت: «كانت جريس تبلُغ من العمر ثلاث سنواتٍ عندما وقع والدها في مشكلة. كان دائمًا متوحشًا، وأعتقد أن الشرطة لم ترفع ناظرها عنه منذ أن كان طفلًا صغيرًا. لم أكن أعرف هذا عندما تزوَّجته. كنتُ مُربيةً في منزلٍ سطا عليه وأطلق سراحي؛ لأنني تركتُ باب المطبخ مفتوحًا له، وأنا لا أعلم أنه لص. قضى وقتًا طويلًا في السجن، وعندما خرج أقسم أنه لن يعود إليه مرة أخرى؛ وفي المرة التالية لو أحسَّ بأي خطرٍ يُهدِّده، فسيجعلها قضية قتل. تواصل هو ورجل آخر مع وكيل مراهنات ثري في بلاكهيث. اعتاد باش القيامَ بعمله القذِر نيابةً عنه، لكنهم تشاجروا ونهب باش وصديقُه المنزلَ وهربا ومعهما ما يقرُب من تسعة آلاف جنيه.
كان يومًا لأحد السباقات الكبيرة، وعلم باش أنه سيتوفَّر الكثير من الأوراق النقدية التي سُجِّلت في مضمار السباق ولا يُمكن تتبعُها. اعتقدت أنه قتل هذا الرجل في البداية. لم يكن خطأَه أنه لم يفعل ذلك. دخل إلى الغرفة وضربه بعنفٍ وهو مُستلقٍ في السرير — كانت هذه هي طريقة باش — واكتسب اسمه من طريقته تلك (الذي يعني الضرب العنيف). اعتقد أنه ستُجرى تحقيقات كثيفة ومن ثَم أعطاني المال لأعتنيَ به. اضطُرِرت إلى وضع المال في جَرَّة بيرة قديمة نصفُها مملوء بالرمل، وسدَدتُها بالفلين وغطَّيتُ الفلين والعنق بالشمع؛ حتى لا يمرَّ الماء، ثم وضعتها في صِهريج يستطيع باش أن يصل إليه من إحدى الغرف في الطابق العلوي في الجزء الخلفي من المنزل. كدتُ أُجَن من الخوف لأنني اعتقدت أن الرجل المحترم قد قُتل، لكنني فعلت ما قيل لي وأغرقتُ الجرة في الصِّهريج. في تلك الليلة، وفي أثناء هروب باش ورفيقه إلى شمال إنجلترا، أُلقِيَ القبضُ عليهما في محطة يوستون. قُتل صديق باش لأنه ركَض عبر الخط أمام أحد القطارات، ولكنهم أمسكوا باش وفتشوا المنزل ولم يتركوا فيه شبرًا من دون تفتيش. سُجِن لمدة خمسة عشر عامًا ولو تحلَّى بحُسن السير والسلوك في السجن، لَخرج منذ عامَين.
وهو في السجن، لزمني أن أجلس وأُفكر يا سيد لوكاس، وأول ما فكرت فيه هو طفلتي. رأيت الحياة التي كانت ستكبر فيها وبيئتها المحيطة والأحياء الفقيرة المروعة والخوف من الشرطة؛ لأنني علمتُ أن باش سيُنفق مليون جنيه إذا كان يملك هذا المبلغ في غضون أسابيعَ قليلة. كنت أعلم أنني تحرَّرتُ من باش لمدة اثنَي عشر عامًا على الأقل وما برحتُ التفكير حتى اتخذتُ قراري.
بعد مرور اثنَي عشر شهرًا على دخوله السجن، تجرَّأتُ وأخذت المال؛ لأن الشرطة ظلت تُراقبني، لأن الأموال لم يُعثَر عليها. لن أُخبرك كيف اشتريتُ ملابسَ فاخرة حتى لا يشكَّ أحد في أنني كنتُ امرأة عاملة أو في كيفية تغييري للأموال.
جمَّدتُ المبلغ بالكامل في أسهُم. لم أحصل على تعليمٍ جيد؛ لكني قرأتُ الصحفَ لأَشهُر، واطلعتُ على الأعمدة التي تتحدَّث عن المال. في البداية شعرتُ بالحيرة ولم أفهم الكثيرَ عن الأمر، لكني بعد فترة استوعبتُ واستثمرت الأموالَ في شركة أرجنتينية، وعهدت إلى مُحاميَةٍ في بيرموندسي لمتابعة الأمر. اعتادَت على تحصيل الأرباح كلَّ ثلاثة أشهر وتدفع فواتيرها بنفسها، لم أمَسَّ فلسًا واحدًا منها قط. كان الشيء التالي هو إخراج ابنتي الصغيرة من الحي، ومن ثَم أرسلتها بعيدًا إلى دار رعاية للأطفال الصِّغار — لقد حطَّم قلبي أن أفترق عنها — حتى كبرت وبلغت سنَّ الذَّهاب إلى المدرسة. اعتدتُ رؤيتها بانتظام. وبعد زيارتي الأولى، لمَّا وجدت أنها كادت أن تنساني، تظاهرتُ أنني كنتُ مُربيتَها — وتلك هي القصة.»
كان جونزاليس صامتًا.
ثم قال: «هل زوجكِ يعلم؟»
قالت المرأة مُحدقةً من النافذة وهي شاردةُ الذهن: «إنه يعلم أنني أنفقتُ المال. إنه يعلم أن الفتاة في مدرسة جيدة. سوف يكتشف ذلك.» ثم قالت هامسةً تقريبًا: «سوف يكتشف!»
هكذا كانت المأساة! صُدِم ليون بجمال تضحيةِ هذه المرأة. وعندما استعادَ القدرة على الحديث، سألها:
«لماذا تعتقدين أنه سيقتلكِ؟ هذا النوع من الناس لا يَقْوى إلا على التهديد.»
قاطعَته قائلةً: «باش ليس من عادته التهديد. إنها الأسئلة التي كان يَطرحها على الأشخاص الذين يعرفونني. أشخاص مِن ديبتفورد التقى بهم في السجن. يسألون عما أفعله في الليل، وفي أيِّ وقتٍ أذهب إلى النوم، وماذا أفعل في النهار. تلك هي طريقة باش.»
قال ليون: «فهمت.» ثم سأل: «هل أعطاه أحدٌ التفاصيلَ اللازمة؟»
هزَّت رأسها.
وقالت: «لقد بذَلوا قصارى جهدهم معي. إنهم شخصيات سيِّئة ويرتكبون الجرائم، ولكن ثَمَّة بعض القلوب الطيبة بينهم؛ فلم يُخبروه بشيء.»
«هل أنتِ متأكدة؟»
«أنا متأكدة؛ لأنهم لو أخبَروه، لما ظلَّ يسأل. عجبًا، جاء توبي براون من ديفايسز قبل شهرٍ وأخبرني أنَّ باش هناك ولا يزال يسأل عني. أخبر توبي أنه لن يُسجَن مرة أخرى، وأنه يعتقد أنه سيكون على قيد الحياة حتى عيدِ منتصف الصيف لو أمسكوا به.»
صعد ليون إلى شقته في تلك الليلة شاعرًا بالمجد.
سأل مانفريد: «ماذا كنت تفعل وحدك؟ أنا عن نفسي كنتُ أتناوَلُ الغداءَ مع السيد فير الرائع.»
هزَّ رأسه قائلًا: «كنت أتنقَّل بين جنبات قصةٍ عظيمة مَدْعاة للمجد! ليس مَجْدي، لا، ليس مجدي يا مانفريد. ولكن مجد أميليا جونز. إنها امرأة رائعة يا جورج. من أجلها، سآخُذ إجازةً لمدة شهر، وخلال هذه الفترة يُمكنك العودة إلى إسبانيا ورؤيةُ محبوبنا بويكارت والاستماعُ لكل شيءٍ عن البصل.»
قال مانفريد مفكرًا: «أودُّ أن أعود إلى مدريد لبضعة أيام. أجد في لندن جاذبيةً خاصة، ولكن إذا كنتَ ستأخذ إجازةً حقًّا، فأين ستَقضيها بالمناسبة؟»
أجاب جونزاليس مبتهجًا: «في سجن ديفايسز.» وكان مانفريد يُؤمن بصديقه، لدرجة أنه لم يُبدِ أي تعليق.
غادر ليون جونزاليس إلى ديفايسز بعد ظهر اليوم التالي. ووصل إلى البلدة عند الغسَق وترنَّح في تداعٍ وسار نحو السوق. في الساعة العاشرة من تلك الليلة، وجده شُرطيٌّ متكئًا على جدارٍ خلف فندق بير، يُغني أغانيَ حمقاء، وأمَرَه بالابتعاد. عندئذٍ خاطبَه ليون بلُغةٍ لا تليق بمقامه البتَّة في ذلك الوقت (حيث لم يكن ثملًا البتَّة). لذلك، مثل أمام هيئة القضاة في صباح اليوم التالي بتهمة السُّكر واستخدام لغةٍ مسيئة وعرقلةِ أداء الشرطة لواجبها.
قال رئيس المحكمة الرزين: «نادرًا ما يُحكَم في مثل هذه القضايا بفرض غرامة. غريبٌ من لندن يأتي إلى هذه المدينة ويتصرَّف بطريقةٍ مثيرة للاشمئزاز للغاية. هل ثَمَّة تصرُّفاتٌ معروفة تُدين هذا الرجل؟»
قال الحارس آسفًا: «لا شيء يا سيدي.»
«ستدفع غرامةً عِشرين شلنًا، أو تذهب إلى السجن لمدة واحد وعشرين يومًا.»
قال ليون بصراحة: «أُفضِّل الذَّهاب إلى السجن على أن أدفع الغرامة.»
لذلك أرسلوه إلى السجن المَحلي كما توقَّع. بعد واحدٍ وعشرين يومًا، اسمرَّت بشرته وأصبح جسمه مُتناسقًا. دخل إلى الشقة والتفَت إليه مانفريد بيدَين ممدودتَين.
قال ليون فرِحًا: «سمعتُ أنك عُدت. قضيت وقتًا رائعًا! ولكنهم أفسدوا حساباتي بإعطائي ثلاثةَ أسابيع بدلًا من شهر، وكنت أخشى أن أعود قبلك.»
قال جورج وعيناه شاردتان في الخوان: «عدت أمس.»
تُوجَد ستُّ بصلاتٍ إسبانية كبيرة مصفوفة، وانحنى ليون جونزاليس ضاحكًا. لم يكن الأمر كذلك، حتى ارتدى ملابسَ أكثر أناقة وحكى عن مغامرته.
قال: «لا شك أن باش جونز وضع خُططَ قتل. لم أرَ حالةَ تَشوُّهٍ للوجوه أغربَ من حالته. عملت معه في ورشة الحياكة. وسيخرج يوم الإثنين المقبل.»
قال مانفريد بجفاء: «أفترض أنه رحَّب بك عندما اكتشف أنك من ديبتفورد؟»
أومأ ليون.
وقال: «إنه ينوي قتل زوجته في اليوم الثالث من الشهر، وهو اليوم الذي يلي إطلاقَ سراحه.»
سأل مانفريد متفاجئًا: «لِمَ هذه الدقة؟»
«لأنها الليلة الوحيدة التي تَبيت فيها في المنزل بمفردها؛ فعادةً ما يَبيت في المنزل نَزيلان شابَّان من عُمَّال السكك الحديدية يعملان حتى الثالثة صباحًا في اليوم الثالث من كل شهر.»
سأل مانفريد: «أهذه الحقيقةُ أم أنها من تأليفك؟»
اعترف جونزاليس قائلًا: «إنها من تأليفي بالفعل، لكن هذه هي القصة التي أخبرتُه بها وتلهُّفه جعَلها تنطلي عليه. ليس مع الشابَّين مِفتاح، ومن ثَم يدخلون من باب المطبخ الذي يُترَك مفتوحًا. يُمكن الوصول إلى باب المطبخ من خلال ممرٍّ ضيق يمتدُّ على طول شارع ليتل ميل بمحاذاة المنازل. أوه نعم، إنه يَحرص حرصًا مُخيفًا على الحصول على المعلومات، وأخبرَني أنه لن يعود إلى السجن مرةً أخرى إلا في زيارةٍ قصيرة. إنه رجل مُثير للاهتمام. أعتقد أنه من الأفضل أن يموت.» واستكمل ليون ببعض الرَّزانة: «فكِّر في احتمالات البؤس يا جورج. رأيت هذه الفتاة البائسة وهي سعيدةٌ بين أصدقائها، كما أنها نشأَت تنشئة جيدة …»
ابتسم مانفريد قائلًا: «هل تقول ذلك عن باش باعتباره أبًا؟»
قال جونزاليس بحزم: «نشأت تنشئة جيدة، أُكرر. التنشئة الجيدة ما هي إلا صفةٌ تُكتسَب من خلال الارتباط مدى الحياة مع الأشخاص اللطفاء. ضع ابنَ الدوق في الأحياء الفقيرة وسوف يكبر ويتخلَّق بأخلاق أطفال الأحياء الفقيرة، ولكنه على كل حالٍ سيُصبح من أطفال الأحياء الفقيرة. فكر في النتائج الوخيمة لو عادت هذه الطفلة إلى مآوي ديبتفورد. هذا ما سيُسفر عنه الأمر، إن افترَضنا أن السيد باش جونز لن يقتل زوجته. وإذا قتلها، فستَظهر الحقيقة المُروِّعة. كلَّا، أعتقد أنه مِن الأفضل أن نُسوِّيَ أمر السيد باش جونز هذا.»
قال مانفريد، وهو ينفث دُخان سيجاره مُفكِّرًا: «أتفق معك.» جلس ليون جونزاليس على الطاولة وفتح قصائدَ براوننج أمامه يقرؤها، وكان يتوقَّف بين الحين والآخر للنظر مُتأمِّلًا في الفراغ وهو يشرح الطريقةَ التي يجب أن يموت بها باش.
بعد ظُهر اليوم الثالث، وصل تلغرافٌ إلى السيدة أميليا جونز من ليون جونزاليس يدعوها إلى مقابلته في محطة بادينجتون.
«هل أحضرتِ مِفتاحكِ معك يا سيدة جونز؟»
قالت المرأة في دهشة: «أجل يا سيدي.» ثم سألته: «هل تعرف أن زوجي خرج من السجن؟»
قال جونزاليس: «أعرف، أعرف. ولذلك أُريدكِ أن تذهبي بعيدًا بِضع ليالٍ. لدي بعض الأصدقاء في بليموث. من المُحتمل أن يُقابلوكِ في المحطة؛ وإن لم يُقابلوكِ، فعليكِ أن تذهبي إلى هذا العنوان.»
أعطاها عنوان نزلٍ كان قد حصل عليه من إحدى صُحف بليموث، وقال: «هذا بعض المال. أُصِر على أن تأخذيه. يَحرص أصدقائي حرصًا شديدًا على مساعدتك.»
كانت تبكي عندما تركها.
قال ليون عند الافتراق عنها: «هل أنتِ متأكدة من أنكِ أغلقتِ منزلَكِ؟»
«معي المفتاح هنا يا سيدي.»
فتحَت حقيبتَها ولاحظ أن يدَيها ترتجفان طوال الوقت.
قال ليون وهو يأخذ الحقيبة في يده وهو ينظر بداخلها دون تمعُّنٍ: «دعيني أرَ. أجل، ها هو.»
مدَّ يده وأخرجها فارغةً على ما يبدو وأغلَق الحقيبة مرَّةً أخرى، ثم قال: «وداعًا يا سيدة جونز، ولا تفقدي شجاعتكِ.»
عندما حلَّ الظلام، وصل ليون جونزاليس إلى شارع ليتل ميل حاملًا شيئًا ضخمًا في حقيبةٍ من القماش الأسود. دخل المنزل دون أن يُلاحظه أحد؛ لأن الليلة كانت مَطيرة وعاصفة وكان الناس في شارع ليتل ميل جاثِمين حول نيرانهم الضئيلة.
أغلق الباب خلفه ووجد طريقَه بمساعدة مِصباح جيبه إلى غرفة النوم الفقيرة الوحيدة في المنزل الصغير. أزال الغِطاء، وهو يُهمهِم لنفسِه، ثم أزال بعِنايةٍ محتوياتِ الحقيبة، التي كان أهمُّها كُرَةً زجاجية كبيرة.
إضافة إلى ذلك، وضع شعرًا مستعارًا أسودَ بعنايةٍ وبحث في الغرفة عن أشياءَ من الملابس التي يُمكن لفُّها في حُزمة. عندما أنهى عمله، تراجع ونظر إلى ما صنَعه بإعجاب، ثم نزل إلى الطابق السفلي، وفتح باب المطبخ؛ ولتمامِ التأكيد، عبَرَ الفناء الصغير وتحقَّق من إغلاق البوابة المؤدِّية إلى الممر. يبدو أن القُفل كان معطَّلًا تمامًا؛ ثم رجع راضيًا.
في أحد أركان الغرفة، وجد عَلَّاقَةَ ملابس محجوبةً عن الأنظار بقطعةٍ طويلة من قماش الكريتون الرخيص. أزال القماش من هذا الركن ليصنع به الصُّرة على السرير. ثم جلس على كرسيٍّ وانتظر بصبر، وهي الصفة المميزة للعالِم.
قُرِعت أجراس الكنيسة مرتَين عندما سمع صرير البوابة الخلفية؛ فالتزم الصمت وأخرج شيئًا من جيبه واختبأ خلف ستارة الكريتون. لم يكن منزلًا يُمكن للمرء أن يتحرَّك فيه دون أن يُصدِر صوتًا؛ لأن ألواح الأرضية كانت قديمة وتُصدِر صريرًا عندما يمشي عليها أحد. كان كلُّ درج يَصدُر عنه صرير. لكن الرجل الذي كان يزحف من درجٍ إلى آخر كان بارعًا، ولم يسمع ليون أي صوتٍ آخر حتى فُتِح الباب ببطء ودخَل شخصٌ ما.
تحرَّك هذا الشخصُ بخُطًى مُسْتَرَقة عبر الغرفة ووقف لبضع ثوانٍ بجوار الشيء الضخم على السرير. يبدو أنه استمع وكان راضيًا. ثم رأى ليون عصًا تعلو وتهبط.
لم يَنبِس باش جونز بكلمةٍ واحدة حتى سمع صوت تحطُّم الزجاج المكسور. ثم حلف يمينًا وسمعه ليون يتحسَّس جيبه بحثًا عن أعواد ثقابه. كان التأخير قاتلًا. تصاعد غاز الكلور — المضغوط تحت ضغط العديد من الأجواء — حوله. اختنق واستدار ليركض، ثم سقط وتكاثف الغاز الأصفر فوقه حتى كوَّن سحابةً كثيفة ومنتفخة.
خرج ليون جونزاليس من مكان اختبائه ورأى الرجل المُحتضَر الذي كان يُحدق ورأى عينَين زجاجيتَين ضخمتين وفوهةَ جهاز التنفس الصناعي التي تُشبه الخطام، وظلَّ مذهولًا حتى وفاته.
جمع ليون الزجاج المكسور ولفَّ القِطَع بعنايةٍ في حقيبته. واستبدل الملابس بأقصى قدرٍ من العناية، ووضع الباروكة بعيدًا ورتَّب الغرفة قبل أن يفتح النافذةَ والباب. ثم ذهب إلى مقدمة المنزل وفتح تلك النوافذ أيضًا. كانت تهبُّ من الجنوب الغربي رياحٌ، وبحلول الصباح سيكون المنزل خاليًا من الغاز.
لم يخلع قناع الغاز الذي كان يرتديه حتى وصل إلى الفناء الخلفي، ووضعه أيضًا في الحقيبة.
بعد ساعة، كان في سريره نائمًا نومًا عميقًا ومطمئنَّ البال.
نامت السيدة جونز جيدًا في تلك الليلة. وفي مهجعٍ أنيق في مكانٍ ما في غرب إنجلترا، كانت الفتاة النحيفة ترتدي مَنامتها مُستكينةً على وسادتها وتتنهَّد في سعادة.
ولكن باش جونز غطَّ في نومٍ أعمق من الكل.