المذكرة الأولى
لم يكن الأدب أو صنعة الكتابة قاصرة يومًا ما على طبقة دون غيرها، فلا تظن أيها القارئ أو يتسرب إلى ذهنك الشريف ساعة ترى إمضائي تحت هذه المقالة أن أديبًا تعدى الحد فتنكَّر تحت نمرة موهومة، ورخصة غير موجودة، فتبوأ مقعد سياسة البهائم، وابتدأ يروي للقراء ما مرَّ عليه وهو جالس على كرسيه مفتوح العين لما هو أمامه، منصتًا بأذنه إلى ما يدور داخل العربة، مشاهدًا في توصيلاته المختلفة غرائب الغرائز ومتباين الأخلاق.
صحيح أني نشأت في وسط كله عربات وخيول «بلدي ومسكوفي» وجو لا تسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح «الحداوي»، ولكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالًا إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القارئ، طالما فاتني في كثير من الأوقات زباين سقع لانشغالي بالسياسة والأدب في الموقف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع.
والأدهى من ذلك أنني كثيرًا ما كنت أهم بالمناقشة مع بعض الزبائن أيام الاضطرابات والإضرابات، تلك الأيام التي كنا — نحن العربجية — نسمع فيها كل ساعة رأيًا على اختلاف المبادئ والنزعات، لولا خوفي أولًا من عمال قلم المرور، ورذالة سحب الرخصة، والنتائج التي تجرها على رأس مسكين مثلي من «تفويت وغيره» وثانيًا اعتقالي ومحاكمتي وسجني ولا من شاف ولا من دري.
نهايته، كان حكم الوسط عليَّ قاسيًا، فقد أُجبرت لأسباب — لا لزوم لذكرها — أن أَخْلُف والدي — رحمه الله — في الانتفاع بعرباته العديدة وامتطاء إحداها، كان ذلك منذ عشر سنين، أي قبل الحرب أو «الحماية» على الأصح، وقد تمكنت من طريق مهنتي أن أطلع على أسرار كثيرة منها المضحك ومنها المبكي، بل لقد شاهدت من الروايات التي تمثل كل يوم أمامنا ما هو حقيقي، ليس للوهم أو الخيال أثر فيه، ومحادثات «تزانيق وخلافه» كنت مجبرًا على سماعها.
وكثيرًا ما كان يودي بي انتباهي لسماع ما يدور داخل العربة من حديث مسموع، وحديث صامت، وهذا الحديث الأخير ينتهي عادة «بطرقعة» بسيطة هي نتيجة تقابل العيون والأنف وما تحتهما، وأن هذه الحوادث مثَّلها في عربتي أشخاص كثيرون من الجنس الخشن والجنس اللطيف، وآه وألف آه — أيها القارئ — من هذا العنوان الذي يضم تحته «الملايات اللف والحبر والمناديل الإسطامبولي والمنتوهات والبرانيط» ووالله لقد شاهدت عيناي من فصول رواياته الممتعة ما كان ينسيني في بعض الأحايين نفسي، وتكون النتيجة مخالفة «وكُعّ يا حنفي».
وبما أن عربة الواحد منا «كبرج بابل» طالما امتطاها الآلاف، فقد تعودت بنظرة واحدة للزبون أن أعرف قيمته الأخلاقية، وبما أن حكمي هذا أصدرته عن تجربة واختبار، فاقرأه — أيها القارئ — بعين العظة واسمعه بأذن الاعتبار:
وإليك أيها القارئ العزيز أصناف الزبائن المختلفة، فقد يحدث في بعض الأحايين أن ألتفت فأرى زبوني جالسًا مستقيمًا، كأنه ينتظر حكم القاضي عليه مصوبًا نظره إلى آخر سترتي، فأحكم عليه أنه ركب عربة للمرة الأولى أو الثانية على الأكثر، وإذا رأيت سعادته جالسًا على يمين العربة فهو متكبر متعجرف، أما أسيادنا الذين إذا ركبوا معنا أرسلوا رجلًا في ظهورنا وعكفوا الأخرى عليها واستلقوا على ظهورهم، فهؤلاء مخنثون ينسى الواحد منهم أنه في طريق عمومي له آداب يجب أن يراعيها.
وكثيرًا ما تصادف عربة تسير وراكبها سارح يشخص بعينه إلى السماء، فهو أحد اثنين: إما حبيب «واقع طاظة» أو بخيل يحسب المسافة بالمتر والياردة ليحاسبني بالبارة والمليم، أما إذا رأيتنا — نحن العربجية — نتسابق إلى واحد من أسيادنا وقد أشرف علينا في الموقف، فاعلم أنه وارث يبعثر ماله ذات اليمين وذات اليسار.
هذا ما أمكنني نشره كمقدمة بسيطة لمذكرات، إذا وسعها صدر الكشكول، فستصدر كل أسبوع بإذن الله بدون انقطاع «سواقة جد»، أُمْهِرُها بإمضائي واسمي الصحيح «الأسطى حنفي».
وهكذا أصبحت في بعض الأوقات أجمع في عربتي بين زبائني وقرائي، وأكتب لهم بكل حرية بدون قيود المخالفات وأوامر «ولع فانوس ورا» و«إوعى الملف».
فإلى الملتقى، إلى الأسبوع المقبل يا حضرة الزبون الفاضل، ولا تنسَ أنك تقرأ حقيقة كتبها لك في ساعة فراغه العربجي الأديب.