المذكرة الرابعة عشر
إني أستشهد بكم أيها القراء جميعًا بأني كنت دائمًا بعيدًا عن السياسة، وسأظل كذلك، مالي أنا ومال البحر الذي «دوخت» أمواجه «أحسن صبوة»؟
نعم، طالما سمعت من المعجب المطرب أولًا يوم كانت الأمة كتلة واحدة، أُعجب باتحادها العالم، ورددت صحف أوروبا أخبار الخيبة التي قوبلت بها لجنة ملنرو، كيف تصامت آذان هذه الأمة إزاء نداء الأعضاء العالي؟
وثانيًا يوم ابتدأنا نسمع اللهجة الجديدة، أوائل بشائر الخيبة، هذا سعدي، وذلك عدلي، وحضرته ثروتي، وتدفقت الأمواج السياسية من هذه الفتحات، فأصابت من مقاتلنا ما أصابت، ونلنا من أنفسنا أكثر مما نال الأعداء منا.
وثالثًا ورابعًا وخامسًا — أيها القارئ — «قلبي معبعب» وشرفك، وما سمعته يضيق به صدري، ولا ينطق به لساني خوفًا مما هددنا به أستاذنا فكري أنه ربما كانت التوصيلة إلى الواحات.
بالرغم من هذا كله، ومع أني عولت على الكتابة بعيدًا عن السياسة، لا زال هناك من يعاكسني على صفحات الكشكول، ومن هؤلاء الأديب ابن راشد، يكتب ويغمز ويلمز، وأخيرًا يختم مقالته قائلًا: «وما رأيك يا حنفي؟»
لا أنا مفتي ولا قاضي شرعي، مالك ومالي يا ابن راشد؟ ليه المعاكسة يا حبيبي؟ يا زبوني يا نور عنية؟ السياسة يا سيدي مسألة تلف أكبر «عترة» وكم شخملت «قرومة» ومحسوبك حنفي سترها ربك معه في الترعة اللي بيعوم فيها، فلو نزل بحرها قول الله يرحمه ويحسن إليه، أم تريد أن تسمع بأذنيك «ليحيا الأسطى حنفي، وليسقط الأسطى حنفي» أيسرك بهدلة أخيك المؤمن؟
سعد باشا سيدنا ورئيسنا، وعدلي باشا تاج رئيسنا، ولكن كل ما نطلبه أن تنتهي الحالة التي نحن فيها الآن، الحالة التي لا ترضي أحدًا و«زهق منها الجميع» على يد أحدهما أو كلاهما.
تريد أن أتكلم؟ فاسمع رأيي، رأي العربحي الذي لا يعرف «أونطة» السياسة وخوازيقها، إذا وجد في خط من الأخطاط «البغالة مثلًا» فتوتين يعاكس كل منهما الآخر، كان من السهل جدًّا على خط آخر «الحطابة مثلًا» التغلب عليهما متفرقين، وطالما كان الاتحاد ناشرًا رايته، والمركب بها رئيس واحد — ينصاع لرأي الأغلبية — فلا يمكن لأكبر «صبوة» مهما كانت «مشاديده» أن يتغلب عليها أبدًا …
هذا هو رأيي السياسي لا أقل ولا أكثر، أما من جهة مصائبنا الأخلاقية، وعللنا الاجتماعية فأنا محسوبك، تسألني عن أولئك الذين تراهم «يتشعبطون» في الترام وأين؟ أمام باب الحريم «كلوح اللطزان لا أقل ولا أكثر».
يبرم شنبه تارة، ويلعب حواجبه تارة أخرى، ويلف سلسلة ساعته الدوبليه على أصابعه ثم يتنهد ويعدل طربوشه، وبالاختصار ناقص يطبلوله يرقص.
ثم يجيء الكومساري فيسأله التذكرة، فإما أن يقول له أبونيه وهو كاذب، أو يشاور له برأسه أنه نازل في «القريب العاجل» كأن الترام — سبيل أم عباس أو ملجأ أبناء السبيل.
مثل هذا النوع يركب معي كثيرًا، ولكنه لا يكون منفردًا، فإن كان مع آخر فتأكد أنه راكب أونطة على حساب الغير؛ لأنه «جربوع» أما إذا كان مع سيدة يشتبه فيها فاعلم — وقاك الله شر «أزفت المهن» — أنه ذاهب بها إلى حيث يتناول أجرة على حق الاتفاق.
مسكين لم تفلح معه تربية أهله وذويه، ولا بهدلة الأيام فيه، وعلى ذكر المظاهرات وأيامها الحلوة وما ذكرت من سيرة أولئك الأجلاف الذين لا ينبحون أصواتهم إلا عندما تمر بهم عربات السيدات، فيا سيدي على دمه، وخلقته، وشكله البايخ حينما «يلقح» ظله الثقيل علي عربة بدون أن يعرف من فيها مناديًا بأنكر الأصوات «لتحيا الحرية» «لتعيش السيدة المصرية» ثم يردفها بصوته المسموع مهما اجتهد أن يخفيه قائلًا: «بنجور يا هانم!»
أتعلم ماذا يكون الجواب؟ لقد سمعته بأذني، وأقسم لك بحرمة رب كريم تواب، ومكانة رئيس الوزارة، وأسيادنا النواب بالبرلمان الذي ستسمع فيه مستغرب الحديث وغريب الكلام، بالاستقلال الذي سنصل إليه قبل اليقظة في المنام.
«يا باي جتك داهية» «دا جالنا منين كمان ده» هذا ما سمعته، وأنا على كرسي، وهو بجانبها متصامم، لا ينقصه إلا شلل اللسان ليكون معرضًا للعلل، تراه في الحال بعد قليل انسحب إلى عربة أخرى؛ لأنه علم أن المراس صعب، وأن السيدات ممن يحافظن على أنفسهن تلقاء سماجته.
أما إذا وافق الظل الظل، واتفقت الأرواح، وحل كلامه أرضًا سهلة، فتراه بعد «بنجور الأولى» يتقدم ببنجور ثانية، فإذا رأى في العيون ميلًا للرد، وفي اللسان لجلجة الخجل مد يده قائلًا: يا ستي بنجور.
– هئ هئ طيب بنجور.
التفتُّ إليه بنظرة بسيطة، وتتلاقى عيني وعينه، فيلتفت إليهن قائلًا بلهجة جدية: هكذا فليكن حب الوطن، هكذا نعشق الحرية، فلتحيا السيدة المصرية، وهو فيه معنى لمظاهرة إلا إذا كان فيها سيدات، وبالأخص أنتم.
– مرسي، كتر خيرك، إلا جنازة الشهداء النهارده أو بكرة؟
– لا بكرة، تحبوا تتفرجوا؟
فترد عليه الأخرى قائلة: أيوا بالطبع من العربية في ميدان الأوبرا، مش كده يا أبلة؟
فيجيبها حضرته بكل برود، وبدون أن يلاحظ وجودي «ويستذوق»: عربية إيه؟ ليه قلة الراحة؟ أنا عندي عيادة حكيم صاحبي، اتفضلوا هناك تتفرجوا على كيفكم، وتقدروا تشربوا كباية مية نضيفة على الأقل.
– طيب وهي الجنازة إمتى؟
– بكرة، وأنا أنتظركم في ميدان الأزهار الساعة … موافقين؟
– رأيك إيه يا أختي؟ فاضية بكرة ولا لأ هئ هئ؟
فتجيبها الأخرى: بتضحكي على إيه! أيوه فاضية.
وهكذا تسدل الستار على ميعاد يفتخر بالحصول عليه بين إخوانه، كأنما حل مشكلة علمية أو نال شهادة دراسية، أو اخترع ما يفيد العلم، هذه الجبلات التي تنادي ليحيا الاستقلال التام، وهي تستحق الموت الزؤام، لا يمكن الخلاص منها بسهولة، فهي في منزلة الجرب والسل والسرطان في الطب، وفي مكان إنكلترا في مسائل الاحتلال والحماية والاستعمار في الدول.
اللهم احفظنا وإياكم من كابوس الرذالة وقلة التربية والأدب، وامنح كل كاتب في هذه البلد قوة يدق بها على رءوس أولئك الخارقين لحرمة الشريعة والقانون ليرجعهم إلى حظيرة النظام. وفي الوقت نفسه أدعو الله أن يهدي الجنس اللطيف، ويمنحه الرزانة والثبات؛ لأن الفرد منا مهما كان مؤدبًا عاقلًا تزينه آداب الدين والدنيا، فإن لفتة من لفتاتكن تخرجه عن دائرة الحشمة والوقار.
منحكن الله مع الحياء زينة الأدب، وأتم نعمته علينا برعاية دين ينهى عن الخبيث، ويحبب الطيب، وأبقاكم جميعًا في خير يا زبائن.